تمهيد
اتضح لنا من كتاب "كهنوت المسيح"، أن كفارته له المجد قد وفت كلّ مطالب العدل الإلهي إلى الأبد عن خطايا البشر جميعاً، إذ دخل بدم نفسه إلى الأقداس السماوية فداءً أبدياً (عبرانيين 9: 12). ومن ثم لم يعد هناك مجال لأية ذبيحة كفارية بعد كفارته (عبرانيين 10: 18). وبالتالي لم يعد هناك مجال لوجود كاهن خاص من بين المؤمنين، يتولّى تقديم مثل هذه الذبيحة عنهم أو عن غيرهم فيما بعد. كما اتّضح لنا أن المسيح وحده، على أساس كفاية كفارته إلى الأبد، هو وحده الكاهن ورئيس الكهنة معاً طوال العهد الجديد الذي نعيش فيه الآن (عبرانيين 7: 11).
واتضح لنا من كتاب "كهنوت المؤمنين" أن جميع المؤمنين الحقيقيين هم كهنة الله بالمعنى الروحي (رؤيا 1: 6). وأن كل ما يختصّ بكهنة العهد القديم ينطبق على هؤلاء المؤمنين بحالة روحية. كما اتضح لنا في الكتاب أن جميع الحجج القائلة بوجود كهنة بالمعنى الحرفي أو الطقسي في العصر المسيحي، بعيدة عن الصواب كل البعد.
وسندرس الآن الاعتقاد السائد عند بعض المسيحيين بأنه يوجد في هذا العصر خلفاء للرسل، هم بحكم مركزهم كهنة بالمعنى المذكور. وأنهم يقومون ببعض مهام الرسل، ومهام كهنة العهد القديم على نحو ما.
ونظراً لخطورة هذا الاعتقاد نوجه نظر القراء بادئ ذي بدء إلى أن الحقيقة هي بنت البحث. وأن من يرفض دراسة الآراء المخالفة لرأيه، أو يدرس هذه الآراء بروح تختلف عن تلك التي يدرس بها الآراء الموافقة له، لا يتيسر له إدراك الحقيقة إطلاقاً. ولذلك قال الرسول: "امتحنوا كل شيء. تمسّكوا بالحسن" (1تسالونيكي 5: 21). كما وصف قوماً بأنهم أشرف من غيرهم لأنهم قبلوا رسالة الإنجيل بكل نشاط، فاحصين كل يوم الكتب المقدسة التي كانت بين أيديهم، لكي يروا إذا كانت هذه الرسالة تتوافق مع الكتب المذكورة أم لا تتوافق. ولما تحققوا من توافقها معها، آمن كثيرون منهم بالمسيح وحصلوا على خلاصه الثمين (أعمال الرسل 17: 11-12). لذلك فمن الشرف والنبل أن لا يرفض أحد آراء الآخرين دون بحث. وإذا بحثها، يجب أن لا يكون ذلك بروح التهاون الذي يحتقر الآراء المخالفة له، بل بروح النشاط، الذي يسعى بإخلاص إلى معرفة الحق. ومقياس الحق ليس هو آراؤنا مهما كانت طيبة في أعيننا، أو آراء غيرنا من البشر مهما كان شأنهم، بل إنه كلمة الله دون سواها (يوحنا 17: 17) فإذا تبين للمرء بعد البحث صدق الآراء التي يتمسك بها (أو بالحري، مطابقتها لهذه الكلمة) أعلنها بكل تدقيق شأن العلماء الراسخين. وإذا تبين له خطأها يجب أن لا تثور ثائرته ويقف موقف المعاندة، بل أن يخضع للحق بكل رضى. فالحق يعلو، ولا يعلى عليه.
وقد فعل ذلك جميع الأتقياء ؛ فقد قال القديس ديونسيوس الذي عاش في القرن الثاني: إن الله أعلن له أن يقرأ كل ما يمكن أن يصل إليه من كتب، لأنه يستطيع أن يمتحن كل شيء ويصححه، وإن هذا هو السبب في إيمانه من البداءة (تاريخ يوسابيوس ص316). وحديثاً قال أحد كبار الأرثوذكس: "إن انقياد الإنسان وراء الغير يفقده شخصيته، ويجعله عاجزاً عن التصرّف في شيء من تلقاء ذاته. ولما كان الله يتطلّب من المؤمنين أن يكونوا أقوياء الشخصية، وجب عليهم أن لا يلقوا بقيادتهم إلى إنسان ما، بل أن يسمعوا لكثيرين وأن يقرأوا لكثيرين، حتى تنطلق أرواحهم حرة من كل قيد، تبحث عن الحق أينما كان غير خاضعة أو مقدسة لفريق خاص من الناس" (انطلاق الروح ص29، 30). لأن بهذه الوسيلة، وبها وحدها، يمكن إدراك الحق بكل وضوح وجلاء. وفي إدراكه يتمجّد الله، كما نحصل نحن على البركة التي نحتاج إليها.
المؤلف
- عدد الزيارات: 2708