Skip to main content

الفرق بين الغفران العام والغفران الخاص

يظن بعض المؤمنين [أنه نظراً لأن الله غفر لهم كل خطاياهم بناء على كفاية كفارة المسيح، وذلك عندما آمنوا به إيماناً حقيقياً (أعمال 10: 43، 26: 28)، فليس هناك داعٍ للاعتراف لله بالخطايا التي يأتونها بعد الإيمان، لكي ينالوا غفراناً آخر]، ولكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب ؛ فقد قال الرسول للمؤمنين الحقيقيين "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا، ويطهّرنا كم كل إثم" (1يوحنا 1: 29). ولإيضاح الخطأ الكامن في الظن الذي نحن بصدده نقول:

1- حقاً إن كفارة المسيح وفت كل مطالب العدل الإلهي من جهة المؤمنين الحقيقيين إلى الأبد، أو بالحري كفرت عن نفوس هؤلاء المؤمنين تكفيراً كاملاً. ولما كانت النفس لا تتجزّأ، يكون المسيح قد كفّر عما عملته أو تعمله أو سوف تعمله نفوسهم من خطايا ([1]) ذلك لأن نفس المسيح التي قدّمها كفارةً على الصليب. هي أغلى من نفوس البشر جميعاً، حتى لو تضاعفت عددهم ملايين المرات، إذ بالإضافة إلى كمالها المطلق فهي متّحدة باللاهوت. واللاّهوت (إن جاز تقدير قيمته) هو أغلى بما لا يقاس من كل ما في الكون بأسره من كائنات. ومن ثم قال الوحي عن المسيح إنه دخل بدم نفسه إلى الأقداس السماوية فوجد فداء، ليس لفترة خاصة من الزمن، بل إلى الأبد الذي لا نهاية له (عبرانيين 9: 12). وبناءً على هذا الفداء لا تغفر لهؤلاء المؤمنين كل خطاياهم فحسب (عبرانيين 8: 12)، بل يحسبون أيضاً أطهاراً (1يوحنا 1: 7) وأبراراً (رومية 5: 1)، وأولاداً لله (1يوحنا 3: 1)، ومسكناً للروح القدس (1كورنثوس 6: 19)، كما تكون لهم الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16)، ولا يأتون إلى دينونة على الإطلاق (يوحنا 5: 24).

2- أما الغفران الذي منحه الله لهؤلاء المؤمنين عندما يعترفون بخطية يأتونها بعد الإيمان، فهو عن هذه الخطية وحدها. والغرض منه ليس إعادة صيرورتهم أولاداً لله [لأن ولادتهم منه لا تحدث إلاّ مرة واحدة]، ولا إعادة لإعطائهم الروح القدس [لأن هذا الروح وإن كان يحرزن بسبب سوء تصرّفهم (أفسس 4: 30)، لكن لا ينـزع منهم (رومية 11: 29)] لأنه هبة من الله لهم. ولا إعادة تطهيرهم أو تبريرهم بالدم الكريم [ لأن التطهير والتبرير المذكورين يمنحان لهم مرة واحدة عند الإيمان الحقيقي بالمسيح (أعمال 15: 9، رومية 8: 30) ]. ولا إعادة منحهم الحياة الأبدية [لأن هذه الحياة مضمونة لهم إلى الأبد (يوحنا 3: 16) ]. ولا لكي لا يتعرّضوا للدينونة [لأنهم بمجرّد إيمانهم إيماناً حقيقياً قد انتقلوا من الموت إلى الحياة (يوحنا 5: 24)] ـ وكل ذلك بفضل كفارة المسيح الدائمة الأثر، لأن هذه الكفارة مرتبطة بالمسيح الدائم إلى الأبد بكامل مجده وجلاله. بل الغرض من الغفران المذكور هو رفع ثقل الخطية التي فعلوها عن ضمائرهم (2كورنثوس 2: 5 ـ 11)، حتى يستطيعوا العودة إلى التمتّع بالشركة الروحية مع الله، والقيام بعبادته وخدمته في الوقت الحاضر كما كانوا يفعلون من قبل.

فنحن وإن كان لنا بفضل كفارة المسيح غفران كامل إلى الأبد، لكن إن سقطنا في خطية ما بعد الإيمان، لا نكون مهيّئين للتمتّع بالعبادة والخدمة كما كنا نتمتّع بهما، قبل السقوط في هذه الخطية. ونظل على هذه الحال من العجز، مع ما يلازمها من تعاسة، حتى ندنو من الله بتذلل وانسحاق معترفين بهذه الخطية أمامه، وعازمين من كل قلوبنا على عدم العودة إليها. فيردّ الربّ نفوسنا إليه، ويعود بنا إلى العلاقة الطيبة التي كانت لنا معه فيما سلف كما ذكرنا (مزمور 23: 3).

3- ومما تجدر ملاحظته أن الاعتراف بالخطية ليس هو مجرّد طلب الغفران عنها، بل إنه كشفها كما هي أمام الله. فيقول المعترف في حضرته تعالى وهو في حالة الوعي الروحي، إنه بكل أسف (مثلاً) أهمل التغذي بأقواله، والانقياد في الحياة بروحه، أو أنه أحبّ العالم وسار وراءه، أو أنه لم يكن مدققاً في أفكاره وأقواله، ومن ثم ارتكب خطية الكذب أو الرياء أو الغش، أو النجاسة أو السرقة أو … أو … ذلك لأن الله وإن كان لا يحتاج إلى نكشف له عن خطايانا، لأنه يرى الظاهرة والباطنة منها، لكنه يريد أن نقرّ نحن أمامه بكل خطأ نقع فيه، كشيء نمقته ونعزم من كل قلوبنا على الإقلاع عنه، حتى يكون رجوعنا للتوافق معه تعالى هو بمحض رغبتنا وإرادتنا، إذ أنه لا يريد أن نعترف بخطايانا لكي نحصل فقط على الصفح عنها، بل لكي نهذّب نفوسنا ونصلح إعوجاجها ـ والحق ما أحوجنا جميعاً أن نتعلّم كيف نقرّ بالخطايا التي نقع فيها إقراراً يرى الربّ فيه حزننا العميق على صدورها منا، كما يرى فيه شوقنا الحارّ للسير بكل قداسة أمامه. وإن الدموع التي تنهمر من عيوننا ونحن نقرّ بهذه الخطايا، ليقدّرها الرب تقديراً عظيماً، إذ أنها تحرّك عواطفه وهو جالس على عرشه شفيعاً لنا، لكي ينهضنا من عثارنا ويردّ لنا حياة الشركة الطيبة معه.

4- لكن يجب أن لا يغيب عنا أن الاعتراف وإن كان مذلاً للنفس، غير أنه ليس الثمن الذي عينه الله لغفران الخطية التي نقع فيها، بل هو فقط السبيل الذي يهيء نفوسنا للتمتّع به. لأن الثمن الوحيد للغفران في كل زمان ومكان، هو كفارة المسيح. وهذه الكفارة لا تزال محتفظة بقيمتها وستظلّ محتفظةً بها إلى الأبد أيضاً. وإذا كان الأمر كذلك، فإذا سقطنا في خطية بعد الإيمان، لا يستدعي الأمر أن نقدّم ذبيحةً ما، أو نطلب من أحد أن يقدّم هذه الذبيحة لأجلنا، بل أن نعترف فقط بخطيتنا أمام الله ونحن في حالة الإدراك الصادق بشناعتها، والرغبة الأكيدة في عدم العودة إلى مثلها، فنحظى للتو بالصفح والغفران، ونعود للتمتّع بالشركة الطيبة مع الله على أساس الكفارة المذكور.

فمثل المؤمنين الحقيقيين في حالة السقوط في الخطية، مثل أبناء بررة لأب محبّ رؤوف، فإنهم إذا أخطأوا، لا ينكر بنوّتهم له أو يطردهم من بيته، أو يحرمهم من الميراث الذي أعدّه لهم، بل يظهر فقط حزنه الشديد لسوء تصرّفهم، ويحرمهم من بعض الامتيازات التي كان يمتّعهم بها من قبل (مثل الترحيب بهم في حضرته، والتحدّث باللطف معهم) ـ وهذا ما يحزّ في نفوسهم ويؤلمهم كثيراً، لكن عندما يأتون إليه معترفين بقلوبهم بما صدر منهم من خطأ، ومتعهّدين بعدم العودة إليه مستقبلاً، يصفح عنهم ويقبلهم في حضرته، وبذلك يعودون للتمتّع به، كما كانوا يتمتّعون من قبل.

5- أخيراً نقول: نظراً لكفاية كفارة المسيح وإيفائها لمطالب عدالة الله وقداسته إلى الأبد من جهتنا نحن المؤمنين، فإن الغفران الذي نناله بواسطة الاعتراف، لا يكون نابعاً من عطف الله ورحمته فحسب، بل ونابعاً أيضاً من عدالته وأمانته. فقد قال الوحي في الآية التي نحن بصددها إن "الله أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا". فهو أمين من جهة ذاك الذي مات على الصليب حاملاً دينونة خطايانا، وهو أيضاً عادل لأنه لا يطلب توقيع هذه الدينونة مرة أخرى علينا نحن المؤمنين ـ وهذا ما يؤكّد لنفوسنا بدليل قاطع أنه بمجرّد الاعتراف القلبي لله بخطايانا، يغفرها تعالى لنا ويعود بنا إلى حياة الشركة الروحية التي كانت لنا معه، وذلك بواسطة تظهيره إيانا بكلمته من كل إثم يكون في نفوسنا، لأنه ليس سبيل لهذه الشركة، إذا كانت هناك خطية واحدة في نفوسنا هذه.

مما تقدّم يتّضح لنا: (أولاً) أن المؤمن الحقيقي الذي يطلب من الله من يوم لآخر أن يغفر له خطية خاصة، يتجاهل هذه الآية الكريمة أو لا يعرف معناها. وهكذا الحال من جهة من يعترف بخطيته أمام رجال الدين، عوضاً عن الاعتراف أمام الله. ولذلك لا يمكن أن يحظى أحدهما بالسلام الإلهي الكامل.

(ثانياً) إن المؤمن الحقيقي باعترافه بالخطية أمام الله، لا يبغي خلاصاً من عقابها الأبدي (لأن المسيح حمل هذا العقاب نيابةً عنه على الصليب)، بل خلاصاً من الشعور بالإساءة التي وجهها إلى الله، ومن البؤس الذي حلّ بنفسه بسببها. وذلك حتى يستطيع أن يتعبّد الله ويقوم بخدمته كما كان يفعل من قبل. ومن ثم فإنه لا يستعيد باعترافه مركزه بالنسبة إلى الله كأحد أولاده، بل يستعيد فقط التمتّع بمركزه هذا ـ لأنه (أي المركز) ثابت كل الثبات، بفضل فعالية شفاعة المسيح المؤسسة على كفاية كفارته إلى الأبد. وذلك عندما تاب داود عن خطيته لم يقل للرب: ردّ لي خلاصك، بل قال له فقط "ردّ لي بهجة خلاصك" (مزمور 51: 12).

(ثالثاً) إن المؤمن بالاسم ([2]) الذي ليست له نية التوبة، وإن اعترف بخطاياه وبكى لسقوطه فيها، لا غفران له على الإطلاق، لأن اعترافه في هذه الحالة يكون مثله مثل اعتراف فرعون أمام موسى وهرون (خروج 6: 27) واعتراف عخان أمام يشوع (يشوع 7: 20)، واعتراف شاول أمام صموئيل (1صموئيل 15: 30)، واعتراف يهوذا الإسخريوطي أمام رؤساء الكهنة (متى 27: 4)، فإنه لم يجد على أحدهم خيراً ما.


[1] - أما الدعوى (بأن هذا القربان يشجّع المؤمنين الحقيقيين على عمل الخطية) فلا مجال لها على الإطلاق، لأن هؤلاء المؤمنين، كما ذكرنا فيما سلف، ولدوا ثانيةً من الله وأصبحوا شركاء في طبيعته الأدبية (2بطرس 1:و 3)، ومن ثم فإنهم يكرهون الخطية ويهربون منها. وإن حدث وسقطوا فيها مرة لا يطيقون البقاء فيها لحظة، بل يسرعون بالاعتراف بها أمام الله بقلب منكسر ندماً عليها، وبروح منسحقة تائبة عنها، وبتضرّع حار لكي يعود بهم إلى حياة القداسة التي كانوا عليها من قبل.

[2] - المؤمن بالاسم فقط لا يكون دائماً شخصاً شريراً، بل قد يكون متديناً يقوم بكل الفرائض الدينية، ولكن مع ذلك لا يكون مولوداً من الله، ومن ثم لا يستطيع أن يحيا حياةً القداسة معه. لأن التدين شيء والولادة من الله شيء آخر.

  • عدد الزيارات: 3307