الحجج العقلية والرد عليها
1- [ إن الذين يسيئون إلى الله بعمل الخطيئة، لا يكون في وسعهم الاعتراف بها أمامه مباشرةً، ومن ثم لا مفرّ من أن يعترفوا بها أمام رجال الدين، بوصفهم نوابه على الأرض، لكي ينالوا غفراناً عنها ].
الرد: فضلاً عن أنه ليس هناك في العهد الجديد أشخاص غير الرسل والأنبياء، لهم الامتياز أن يكونوا نواباً على الأرض من جهة إعلان مشيئته، نقول: إن كان الاعتراف لا يكون قانونياً أو مجدياً، إلاّ إذا كان مقدماً للشخص المساء إليه. وبما أن الخطايا التي نأتيها أحياناً هي قبل كل شيء إساءة إلى الله، لأنها تتعارض مع الوصايا التي أعطاها لنا، وفي الوقت نفسه ليست هناك آية تدل على أن الله يأمرنا بالاعتراف بخطايانا لشخص سواه، إذن يجب أن نعترف بها له وحده.
ولذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أنه حتى المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم (والذين كان الله قد عيّن لهم كهنة يتوسّطون بينهم وبينه، ويرفعون الذبائح إليه نيابةً عنهم) كانوا يعترفون بخطاياهم له وحده. فقد قال داود النبي "اعترف للرب بخطيتي" (مزمور 32: 5). كما قال "إليك وحدك أخطأت والشرّ قدامك صنعت" (مزمور 51: 4). وكان نحميا يعترف بخطايا بني إسرائيل التي أخطأوا بها إلى الله قائلاً "فأنا وبيت أبي قد أخطأنا" (نحميا 1: 6). وهكذا فعل دانيال النبي فقال صليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت: أيها الرب الإله العظيم المهوب حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه، أخطأنا وأثمنا وعملنا الشر وتمرّدنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك([1]) ". كما قال "وبينما أنا أتكلم وأعترف بخطيتي وخطية شعبي إسرائيل، وأطرح تضرّعي أمام الرب إلهي عن جبل قدس إلهي …" (دانيال 9: 5-20).
وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال للقول بوجوب الاعتراف بالخطيئة أمام رجال الدين، لنحصل على الصفح والغفران.
2- [ إن الاعتراف بالخطيئة أمام رجال الدين، يزيل ثقلها عن ضمائرنا ومن ثم فهو علاج لنفوسنا وتحرير لها من الكبت الذي ينشأ بسبب كتمان الخطية. كما أن الاعتراف بها أمامهم، يجعلنا ندقق في سلوكنا، حتى لا نقف موقف المذنبين أمامهم مرة أخرى ].
الرد: (أ) حقاً إن الخطية التي نسقط فيها تعذّبنا عذاباً أليماً. وإن الاعتراف بها يريح نفوسنا منها، كما يحررنا من كل كبت يمكن أن ينشأ بسببها. لكن الاعتراف لا يكون قانونياً أو مجدياً إلاّ إذا كان لله نفسه للأسباب السابق ذكرها. ولأنه أيضاً هو الذي يستطيع أن يبعث الراحة إلى نفوسنا. فقد قال لنا "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متى 11: 28-30)، ولم يقل: اذهبوا إلى (فلان) لكي يريحكم.
وقد عرف رجال الله هذه الحقيقة كل المعرفة، فمثلاً قال داود النبي "لما سكت (على خطيتي ولم أعترف بها)، بليت عظامي من زفيري اليوم كله، لأن يدك (يا الله) ثقلت علي نهاراً وليلاً. تحوّلت رطوبتي إلى يبوسة القيظ". وكان لابدّ أن يظل داود على هذه الحال من البؤس والشقاء، لولا أنه اعترف بخطاياه لله. فقال له "أعترف لك بخطيتي. ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للرب بذنبي، وأنت رفعت عني آثام خطيتي" (مزمور 32: 5).
(ب) أما من جهة الشطر الثاني من الحجة المعروضة أمامنا فنقول: إن المؤمن الحقيقي يخجل من ذكر خطاياه أمام الله أكثر من ذكرها أمام الناس، ليس فقط لأن الناس خطاة مثله، بل وأيضاً لأنه يشعر شعوراً صادقاً بقداسة الله التي لا حدّ لها، وحقّه المطلق عليه في كل صغيرة وكبيرة، كما يشعر شعوراً صادقاً بأن عينه تعالى تراقبه وتعرف كل حركاته وسكناته، وكل أفكاره وأقواله (مزمور 139: 1-4). ولذلك فإنه يخشى الله أكثر مما يخشى الناس، والملائكة أيضاً.
3- [ إننا لا نستطيع الاقتراب من الله حتى يمكن أن نسمع منه التصريح بغفران خطايانا. ولذلك فالاعتراف بها أمام رجال الدين ضروري لنا، لأننا نستطيع أن نسمع منهم التصريح بغفرانها، فتطمئن قلوبنا وتستريح ].
الرد: وإن كنا لا نستطيع أن نسمع بآذاننا المادية صوت الله معلناً لنا غفران الخطايا التي نعترف بها أمامه، غير أنه من الميسور لنا أن نسمعه بالإيمان في كتابه المقدس عندما نتوب عنها توبةً حقيقية، وذلك بوضوح لا نحتاج معه إلى إعلان من أي رجل من رجال الدين. فقد قال الوحي "فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم" (أعمال3: 19) ومن ثم ليس هناك مجال للحجة التي نحن بصددها على الإطلاق.
وقد عرف الأرثوذكس القدامى أيضاً، أن الاعتراف يكون للمسيح وحده، فقالوا: "ادعُ يسوع المسيح ابن الله من القلب بدون انقطاع، مع كل نسمة من أنفاسك، معترفاً له بخطاياك واثقاً من غفرانها، لأن النفس التي تداوم على الدعاء بذلك الاسم العظيم، سرعان ما تصل إلى صاحب الاسم ذاته". وقالوا أيضاً "لا تقل لي إني خاطئ، وليست لي الشجاعة أن أقف للصلاة … إن كل من يعتبر نفسه مرذولاً، يستمع الله إليه كما استمع للعشار … لنا ثقة مثل هذه لدى الله من جهة الصفح عن الخطايا السالفة".
وأيضاً "اعلم أنه ليس باستحقاقك تنال (إجابة) سؤالك بل بإيمانك". وأيضاً "خالقكَ يحب كلامك وحديثك أفضل من السرافيم ([2])". وأيضاً "إنه يكلّمنا بذاته، وبصوته الذي نحبّه ونتوق إليه، دون وسيط أياً كان". وأيضاً "إذا سألت شيئاً من الآب السماوي في إيمان باسم يسوع المسيح، فإنه من أجل محبته لابن مسرّته، يُعطيك دون أن ينظر إلى استحقاقك أو إلى خطاياك. بشرط أن يكون لك معه ثبوت وحب" (حياة الصلاة الأرثوذكسية 431، 342، 405، 101، 107).
4- [إن الاعتراف بالخطية أمام الكهنة للحصول على الغفران، كان يمارس في الكنيسة منذ نشأتها، الأمر الذي يدل على أنه من تعليم الرسل أنفسهم ].
الرد: فضلاً عن أنه لم تكن هناك فئة خاصة من المؤمنين تدعى كهنة بالمعنى الحرفي في العصر الرسولي، إذ أن الكهنة بهذا المعنى لم يظهروا في المسيحية إلاّ في القرن الثالث (كما ذكرنا في كتاب العشاء الرباني)، وفضلاً عن أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لا يطلب منا الاعتراف بالخطية أمام أي فريق من الناس، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة، نقول: بالرجوع إلى التاريخ([3]) نرى ما يأتي:
(أ) إن القديسين الذين عاشوا في القرون الأربعة الأولى، مثل باسيليوس الكبير ويوحنا ذهبي الفم، أعلنوا بكل صراحة أن الاعتراف يجب أن يكون لله وحده.
(ب) ولكن ظهر في أيام هؤلاء القديسين أساقفة كانوا يطلبون من المخطئ الاعتراف بخطيته علناً أمام الكنيسة (أو بالحري أمام جماعة المؤمنين الحقيقيين)، لكي يطلبوا من الله أن يغفرها له، ويساعده على السلوك بالتقوى والقداسة. ولكي يفرضوا (أي هؤلاء المؤمنون) أيضاً عليه ما يرونه مناسباً من التأديب، حتى يشعر بشناعة خطيته، ولا يعود إليها مرة أخرى. ومن أنواع التأديب التي كانوا يفرضونها: ارتداء المسوح (أو بالحري الخيش المصبوغ باللون الأسود)، والامتناع عن الزينة والروائح العطرية، ومراعاة التقشّف التام في الطعام، والمواظبة على التنهد والبكاء، أو الصوم لبضعة أيام مع دفع مبلغ من المال للأرامل والأيتام. أو الحرمان من الاشتراك في عشاء الرب، ومن الصلاة مع المؤمنين، بل ومن التعامل معهم أيضاً. ولم يكن الغرض من هذا التأديب وقتئذٍ جلب الغفران من الله إلى المخطئ، بل تهيئته للعودة إلى الصلة الروحية مع الله في السماء، ومع الكنيسة على الأرض.
(ج) وبعد ذلك، احتكر بعض الأساقفة لأنفسهم أمر الحكم بالتأديب، كما تطرفوا فيه كثيراً، فإذا كان المخطئ أعزب، كانوا يأمرونه بالامتناع عن الزواج. وإذا كان متزوجاً، كانوا يأمرونه بعدم المعاشرة الزوجية أو بالانـزواء في دير، حتى يأذنوا له بالعودة إلى بيته. ولذلك كان كثيرون من الذين يُخطئون، يؤجّلون الاعتراف بخطاياهم حتى ساعة الانتقال إلى العالم الآخر، ولما علم أوغسطينوس بذلك، نصح المؤمنين بوجوب الاعتراف بخطاياهم على الأقل مرة كل عام، حتى يكون لهم نصيب في الحياة الأبدية.
وعلى الرغم من هذا النصح، كان كثيرون يحجمون عن الاعتراف بخطاياهم خشية الفضيحة والعار؛ ولذلك صدرت قرارات باباوية في القرن الخامس بأن الاعتراف يجب أن يكون سرياً أمام الأساقفة والقسوس وحدهم. كما صدرت قرارات باباوية أخرى لهؤلاء وأولئك تحرّم عليهم إفشاء سرّ المعترفين. ومن ثم دعي الاعتراف "سراً" بمعنى أمر يجب عدم ذكره أمام الغير … وكان أول من دعاه بهذا الاسم هو البابا "ليو الأول" سنة 459م. وبعد ذلك أمر هذا البابا أن يعطي الأساقفةُ للمعترفين وثيقةً تدلّ على حصولهم على الغفران من الله، حتى تطمئن قلوبهم ولا تقوم دعوى من أحد ضدّهم بسبب الخطايا التي فعلوها، فكانت هذه الوثيقة نواة صكوك الغفران، التي ظهرت فيما بعد.
(د) ولكن نظراً لأن الأساقفة لم يكونوا قد أعلنوا بعد أن لهم سلطاناً لغفران الخطايا، كان معظم المسيحيين لغاية القرن الخامس يكتفون بالاعتراف بخطاياهم أمام الله دون سواه، وكان كل ما يفعله الأساقفة وقتئذٍ، هو وعظ المعترف وفرض التأديب المناسب عليه، وذلك لأجل إصلاحه وإبعاده عن الخطية كما كانوا يعتقدون. وإذا نفّذ التأديب المذكور، كانوا يعلنون له أن الله غفر له وصفح عنه. إذ كانوا يقولون للمعترف "الله الضابط الكل يرحمك ويغفر خطاياك".
(هـ) وفي القرن السادس حدثت ثلاث مباحثات خطيرة بين الأساقفة من جهة الموضوعات الآتية: (الأول) هل الاعتراف يكون لله أم لهم ؟ فاستقرّ الرأي على أنه يكون لهم، لأنهم هم الذين يقدّمون العشاء الرباني للمعترفين. (الثاني) وهل الغرض من التأديب الذي يفرضونه، هو الإصلاح أم التكفير؟ فاستقرّ الرأي على أنه للتكفير، وأنه بدون تنفيذ المخطئ للتأديب لا تغفر له خطيته([4]). (الثالث) وهل تقصر سلطتهم على غفران الصغائر من الخطايا، أم تشمل الكبائر أيضاً، مثل الارتداد والزنا والقتل؟ فاستقرّ الرأي على أن لهم السلطة على غفران الصغائر والكبائر أيضاً، إذا نفّذ الذين ارتكبوها التأديب الذي يفرض عليهم. ولذلك كان كل واحد منهم يقول للمعترف
"إني أحلّك من خطاياك" أو "كن محلولاً منها من فم الله ومن فمي([5])". فثار بعض المؤمنين الحقيقيين وقتئذٍ ضدّ الأساقفة المذكورين وأنكروا عليهم هذا السلطان، لكن البعض الآخر من المؤمنين أذعن لهم وانقاد لآرائهم، خوفاً من غضبهم أو سخطهم، كما يقال.
(و) واستمرّت الحال على هذا المنوال حتى جاء أينوسنت بابا روما في القرن الثالث عشر، فقرّر أن الاعتراف يجب أن يكون إجبارياً لا اختيارياً، كما قرر أن الأساقفة هم نواب الله على الأرض (ليس بمعنى وجوب سلوكهم بالكمال وعمل الخير نحو جميع الناس، كما يتّضح من الكتاب المقدّس، بل بمعنى حصولهم على مقام الله وسلطانه)، ومن ثم أعلن أن لهم في منح الغفران للذين يعترفون بخطاياهم، فوجد قراره هذا أنصاراً كثيرين، وذلك بسبب تفشّي الجهل بكلمة الله بينهم. وفي سنة 1550م التأم المجمع التريدينتي فقرّر، فيما قرره من أمور، أن الاعتراف سرّ من الأسرار الإلهية، بمعنى عمل منظور ينال القائم به بركة غير منظورة ـ وهذا التعريف هو المعروف لدى الأرثوذكس والكاثوليك لغاية الوقت الحاضر.
أخيراً نقول: "وإن كان الاعتراف بالخطية أمام الأساقفة والقسوس، لكي يحلّوا المعترفين لهم من خطاياهم" دخيل على المسيحية كما رأينا، لكن من الجائز، بل ومن النافع أيضاً، أن نذكر لبعض أخوتنا المتقدّمين في حياة التقوى والإيمان ما نحسّ به من ضعف روحي، وما يصدر منا من أخطاء بسببه، لكي نفيد من اختباراتهم ونصائحهم. ولكي يصلّوا أيضاً معنا ولأجلنا حتى ننال قوة من الله تنصرنا على ضعفنا وخطايانا. غير أن هذا العمل لا يدعى اعترافاً بالخطية لهم، وليس الغرض منه الحصول على غفران منهم أو بواسطتهم على الإطلاق.
ومع كل أرى من الأمانة للحق أن أشير في خاتمة هذا الفصل إلى قسيس مشهور في الكنيسة الأرثوذكسية. كنت عندما أذهب للاعتراف أمامه في المدة من سنة 1925- سنة 1932 (وهي المدة التي كنت متأثّراً فيها بالتقاليد كل التأثّر)، كان يأبى أن يسمع شيئاً عن خطاياي، إذ كان يبادرني بالقول "دعنا نصلّي"، فنركع معاً ويصلّي من أجلي … وبذلك كنت أقضي معه فرصة طيبة، أقوم بعدها حاصلاً على بركة ليست بالقليلة.
[1] - نرى في هذه الآيات عملاً من أعمال الكهنوت الروحي الجليلة، التي يمكن لكل المؤمنين الحقيقيين أن يمارسوها. فنحميا ودانيال مع أنهما لم يشتركا في خطايا الشعب، لكن حملاها على نفسيهما، كما لو كانت خطاياهما الشخصية، وطلبا من الله الصفح عنها، كما ذكرنا في (الجزء الخاص بكهنوت المؤمنين). وهما من هذه الناحية صورة مصغرة للمسيح، فهو على الرغم من قداسته المطلقة، رضي أن يحمل في نفسه خطايانا، كما لو كان هو الذي فعلها (مزمور 69: 15) حتى يرفع عنا القصاص الذي نستحقه بسببها.
[2] - هم أقرب الملائكة إلى الله، ومعنى السرافيم: النورانيون أو اللاّمعون.
[3] - عن ريحانة النفوس، وتاريخ الكنيسة لموسهيم (للإنجيليين). والأسرار السبعة واللاّلئ النفيسة ومختصر المقالات اللاّهوتية (للأرثوذكس والكاثوليك).
[4] - وقد أغنانا عن الردّ على هذا الاعتقاد الخاطئ الأرثوذكسي المشهور حبيب جرجس. فقد قال "من الذي يقدر أن يخلّصنا ويفي بالعدل الإلهي حقوقه، هل دم يسوع المسيح أم التأديب؟ لا لعمري. فإنه لو سفك جميع البشر دماءهم، لما أمكنهم وفاء جزء من حقوق الله"، كما قال "إن التوبة والبكاء والصوم والصدقة هي من علامات الإيمان الحقيقي بالله والانسحاق القلبي أمامه، والابتعاد عن الخطية أيضاً، لكنها لا تفي حقوق عدالة الله غير المحدودة" (أسرار الكنيسة السبعة ص 146-148).
[5] - مما تجدر الإشارة إليه أن الكهنة الطقسيين مع قولهم في القداس الغريغوري أن الله أعطاهم سلطان الحل والربط، يصلّون في هذا القداس وفي غيره من القداسات قائلين لله "أنعم لنا (أي نحن والشعب معاً) بغفران خطايانا، طهّرنا، حاللنا وحالل سائر شعبك"، الأمر الذي يدل على أنهم يعتقدون بينهم وبين أنفسهم أن سلطان مغفرة الخطايا ليس في أيديهم، بل في يد الله دون سواه.
- عدد الزيارات: 3260