Skip to main content

الحجج الخاصة بالحل والربط، والردّ عليها

الباب السادس: الحجج الخاصة بالحل والربط والأسرار والتعليم

يجدر بنا ونحن في فاتحة هذا الفصل أن نوجّه نظر القرّاء إلى أن هناك فرقاً بين أمرين: (الأول) سلطان الرسل بإعلان غفران الخطايا أو إمساكها من الناحية الأبدية. و(الثاني) سلطانهم المعجزي بإمساك الخطايا من الناحية الزمنية، بتوقيع عقوبة بدنية بواسطة أمر يصدر منهم، أو بغفران هذه الخطايا لكي ترفع العقوبة المذكورة، بواسطة أمر غيره.

فإعلان الغفران في الحالة الأولى هو النتيجة الملازمة لتوبة الخاطئ، وإيمانه بالمسيح إيماناً حقيقياً. والإمساك في هذه الحالة هو النتيجة الملازمة لرفضه القيام بهذين العملين الهامين ـ وهذا الإعلان بالغفران والإمساك لا يحتاج بعد الرسل إلى خلفاء لكي يقوموا به، لأن الرسل سجلوا الإعلان المذكور بالوحي الإلهي في الإنجيل بكل وضوح وجلاء. فقد قالوا إن كل من يتوب ويؤمن بالمسيح إيماناً حقيقياً (عن طريق قراءة الكتاب المقدّس أو نبذة دينية، أو عن طريق سماع عظة من أي كارز أو واعظ) يتمتّع في الحال بالخلاص الأبدي، والعكس بالعكس (مرقس 1: 15).

أما الغرض من الإمساك في الحالة الثانية، فهو تأديب المؤمن الذي يرتكب في العالم الحاضر خطية، رأى الرسل أنه يستحق بسببها التأديب بمرض أو غيره، وذلك حتى يتوب عنها ويعود إلى الرب. والغرض من الغفران في هذه الحالة، هو رفع التأديب عن المؤمن المذكور عند توبته، وإعادته إلى العلاقة التي كانت له من قبل مع المؤمنين. وإجراء هذا التأديب بطريقة معجزية كان وقفاً على الرسل، لأن الله أعطاهم عمل المعجزات للدلالة على أنه هو الذي أرسلهم لإذاعة الإنجيل، والحقائق المتعلّقة به. لكن الإمساك والغفران المذكورين لا يسندان في الوقت الحاضر، حتى مع خلوهما من القوة المعجزية، إلى شخص بمفرده، بل إلى الكنيسة (أو بالحري إلى جماعة المؤمنين الحقيقيين مجتمعين معاً)، فهي وحدها التي تقرر عزل المخطئ من بينها، وهي التي تقرر أيضاً إعادته إلى الشركة معها، إذا تاب عن خطيته. وفيما يلي حجج المعارضين لهذا الحق، مصحوبة بالردّ عليها:

1- [إن المسيح قال لبطرس: "أعطيك مفاتيح([1]) ملكوت السموات" (متى 16: 19). وهذا دليل على أن المسيح أعطاه السلطة ليفتح السماء أو يغلقها أمام الناس. ومن ثم يجب أن يكون له خلفاء لكي يقوموا بهذه المهمة الخطيرة في كل العصور].

الرد: فضلاً عن أنه ليس هناك دليل كتابي على أن المسيح أوصى رسله بانتخاب خلفاء لهم كما ذكرنا، وفضلاً عن أن المسيح أعطى بطرس أن يفتح ملكوت السموات، لا أن يفتحه ويغلقه، كما جاء في التعليق الذي أورده صاحب الحجة التي أمامنا، الأمر الذي يدلّ على عدم تدقيقه في الاقتباس من أقوال الله، وبالتالي على عدم جواز الأخذ بحجته، نقول:

(أ) إن المراد بهذه الآية ليس أن المسيح أعطى بطرس امتياز فتح([2]) السماء أمام الناس كما يقال، لأن ملكوت السموات ليس هو السماء، بل هو دائرة الإيمان بالمسيح بصفة عامة على الأرض. والدليل على ذلك أن هذا الملكوت كما يتَضح (متى 13: 24-50، 25: 1-13)، يوجد به مؤمنون حقيقيون لهم حياة أبدية، كما يوجد به مؤمنون بالاسم فقط مصيرهم العذاب الأبدي، بينما السماء ليس بها إلاّ المؤمنون الحقيقيون الذين لهم حياة أبدية، وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الغرض من فتح ملكوت السموات، هو فتح باب الإيمان بالمسيح على الأرض أمام جميع الناس دون استثناء.

(ب) ولذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدّس، نرى أن بطرس هو الرسول الذي استخدمه الروح القدس للقيام بهذا العمل في أول الأمر، ففي يوم الخمسين خاطب اليهود الذين صلبوا المسيح، عن قيامته من بين الأموات، وصعوده بعد ذلك إلى السماء. فنخسوا في قلوبهم وقالوا له لوسائر الرسل: "ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة ؟ "فقال لهم بطرس "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس". فقبلوا كلامه بفرح، وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف شخص (أعمال 20: 37-46).

(ج) وبناءً على رؤيا خاصة من الله، ذهب بطرس أيضاً بعد ذلك إلى كرنيليوس وأنسبائه ـ وكانوا جميعاً من الأمم الذين لم يكن لواحد من اليهود أن يتّصل بهم وقتئذٍ، خشية أن يعتبر نجساً، وذلك بسبب انحراف الأمم عن الله وعبادتهم للأوثان وقتئذٍ ـ وبينما كان بطرس يكرز لهم بالإنجيل، حلّ الروح القدس عليهم، للدلالة على أنهم آمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً ونالوا الحياة الأبدية (أعمال 10: 24-42)، وذلك على النقيض مما كان اليهود يتوقعون أو يعتقدون. وقد أشار هذا الرسول مرة لليهود إلى أحقية قيامه بفتح باب الإيمان للأمم، كما فتحه لهم (أي لليهود) من قبل، فقال لهم "أيها الرجال الإخوة، أنتم تعلمون أنه منذ أيام اختار الله بيننا أنه بفمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون" (أعمال 15: 7). ومذ فتح بطرس باب الخلاص أمام اليهود والأمم (أو بالحري أمام جميع الناس دون استثناء) بإرشاد الله كما ذكرنا، لا يزال هذا الباب مفتوحاً. وما على الذين يريدون التمتّع بالخلاص من أي جنس من الأجناس، إلاّ أن يؤمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً.

وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال للقول بأن حق الدخول إلى السماء، هو في يد بطرس وخلفائه، إن كان له خلفاء.

2- [إن المسيح أعطى الرسل سلطاناً لمغفرة الخطايا وإمساكها. فقد قال لهم "اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه، تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه، أمسكت" (يوحنا 20: 22). ومن ثم يجب أن يكون هناك خلفاء لهم طوال وجودنا على الأرض، حتى نحصل منهم على الصفح والغفران ].

الرد: (أ) فضلاً عن أنه ليس هناك مجال للخلافة الرسولية كما ذكرنا، نقول: إن الغفران الذي يؤدي إلى خلاص النفس إلى الأبد، وعدم الغفران الذي يؤدي إلى هلاكها إلى الأبد، هما من حق الله دون سواه. فمن جهة هذا الغفران، مكتوب عن الله أنه "يغفر الإثم ولا يهلك" (مزمور 78: 38). وأنه "يغفر لنا خطايانا" (1يوحنا 1: 9). ومن جهة عدم الغفران المذكور، مكتوب عن الله: أنه لم يغفر ذبوب الذين تركوه وعبدوا الأوثان، والذين سفكوا الدماء البريئة (يشوع 24: 19، 2ملوك 24: 4). ومن ثم فالآية الواردة في الحجة التي أمامنا، لا يقصد بها أن المسيح أعطى الرسل سلطانه الشخصي من جهة مغفرة الخطايا للخلاص الأبدي، أو عدم مغفرتها للهلاك الأبدي.

ومما يثبت ذلك أيضاً أننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدّس. لا نرى واحداً من الرسل قال مرةً لإنسان ما: "مغفورة لك خطاياك "، كما كان المسيح يقول من قبل (مرقس 2: 5). بل كانوا جميعاً يوجهون أنظار الخطاة إلى الله، لكي يحصلوا منه مباشرةً على الغفران الذي يحتاجون إليه. فبطرس الرسول (مثلاً) عندما اكتشف خطية سيمون الساحر قال له: "فتب عن شرك هذا، واطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك" (أعمال 8: 22). وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن المسيح بإعطائه هذا السلطان للرسل، لم يتنازل لهم عن حقه الشخصي في مغفرة الخطايا للخلاص الأبدي، أو إمساكها للهلاك الأبدي، حتى يصبحوا هم الواسطة التي يلجأ إليها الناس للحصول على الغفران، بل خوّلهم فقط حقّ إرشاد الناس إلى وجوب التوبة القلبية والإيمان بشخصه إيماناً حقيقياً، حتى يغفر الله لهم خطاياهم. فإذا لم يقوموا بهذين العملين الهامين، أنذروهم بأنه تعالى لا يغفر لهم خطاياهم، أو بالحري يمسكها ويبقيها عليهم.

(ب) أما السبب في إعطاء المسيح لرسله سلطان غفران الخطايا وإمساكها بالمعنى الذي ذكرناه، فيرجع إلى أمرين (الأول) إن الإنجيل الذي يعلن السبيل إلى غفران الخطايا أو إمساكها، لم يكن قد كتب بعد. (الثاني) إن الروح القدس العامل في نفوس الرسل (والذي كان المسيح قد طلب منهم أن يقبلوه قبيل إعطائهم التفويض الخاص بإعلان غفران الخطايا وإمساكها) هو الذي كان يحلّ محل الإنجيل وقتئذٍ. ومن ثم كان الرسل وقتئذٍ هم الواسطة الإلهية الوحيدة، التي يعرف الناس عن طريقها السبيل إلى غفران الله للخطايا أو إمساكها.

وكان من الواجب على جميع الناس أن يصغوا إلى تعليمهم وينفّذوه بكل دقة وإخلاص، بوصفه وحي الله نفسه. لكن الآن، وقد كتب الإنجيل ووصل إلى أيدينا كاملاً (2تيموثاوس 3: 16و17)، فلسنا في حاجة بعد (ما دمنا نستطيع أن نقرأ أو نسمع) إلى إنسان ما مهما كان مركزه الديني، لكي يعلن لنا أن خطايانا قد غفرت أو أمسكت. إذ يمكننا أن نعرف كل شيء عن هذا الموضوع من الإنجيل مباشرةً. فإذا تاب أحدنا وآمن بالمسيح إيماناً حقيقياً تغفر له خطاياه، وإلاّ فلن تغفر له، حتى إذا أكّد له رجال الدين جميعاً لسبب ما، إنها تغفر.

(ج) فالرسل كانوا يستعملون سلطانهم في إعلان غفران الخطايا أو إمساكها، ليس حسب آرائهم الشخصية (كما يفعل الذين يسندون إلى أنفسهم هذا السلطان في الوقت الحاضر)، بل حسب مشيئة الله وحدها. فبولس مثلاً، كرسول ونبي، على بوحي الروح القدس أن الله يمكن أن يغفر لمن أساؤوا إليه (أي إلى بولس) شخصياً، ولكن لا يمكن أن يغفر لمن قاوموا الإنجيل. ولذلك طلب من الله أن لا يحسب للذين تركوه عند محاكمته، خطية عدم تعاونهم معه. أما الذين قاوموا الإنجيل فطلب من الله أن يجازيهم حسب أعمالهم (2تيموثاوس 4: 14-16، 1 تيموثاوس 1: 20([3]))، وذلك لأنهم كانوا يحرمون الكثيرين من خلال الله، وبالتالي كانوا يعملون على إهلاكهم إلى الأبد.

3- [ إن المسيح قال للرسل: "الحق أقول لكم "كل ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطاً في السماء. وكل ما تحلونه على الأرض، يكون محلولاً في السماء" (متى 18: 18). ومن ثم يجب أن يكون لهم خلفاء للقيام بهذه المهمة الخطيرة إلى نهاية الدهر ].

الرد: فضلاً عن أنه ليس هناك مجال للخلافة الرسولية كما ذكرنا، نقول: إن هذه الآية لا يراد بها أيضاً أن المسيح أعطى الرسل سلطانه الشخصي من جهة غفران الخطايا للخلاص الأبدي أو عدم غفرانها للهلاك الأبدي كما يقال، لأن هذا السلطان في يده دون سواه كما ذكرنا. بل يراد بها (وبالآية التي وجهها المسيح إلى بطرس الرسول في (متى 16: 19) ]، أنه إذا ربط بطرس أو غيره من الرسل خطية إنسان على الأرض بتوقيع عقوبة بدنية عليه بطريقة معجزية لتأديبه، أو حلوه من خطيته بعد ذلك برفع هذه العقوبة عنه لتوبته، يصادق الله على تصرّفهم هذا في السماء.

ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم يتصرّفون في كل كبيرة وصغيرة من أعمالهم، ليس حسب آرائهم الشخصية، بل حسب وحي الروح القدس الساكن فيهم والمالك عليهم. ومن ثم "فربط الخطية "الوارد ذكره في (متى 18:18)، لا يُراد به حرمان فاعلها من السماء (كما يقال)، بل حرمانه من الاتّصال بالمؤمنين والاشتراك معهم في العبادة، مع توقيع التأديب اللازم عليه، وذلك حتى يستفيق من غفلته ويعود إلى صوابه. و "الحل "يُراد به رفع هذا التأديب عنه إذا ندم على خطيته وتاب عنها، وإعادته بعد ذلك إلى مكانته بين المؤمنين التي كان يشغلها من قبل.

فمثلاً عندما سقط أحد المؤمنين في خطية شنيعة بسبب إهماله في الشركة مع الله، أسلمه بولس الرسول للشيطان لكي يهلك جسده بالأمراض تأديباً له (1كورنثوس 5: 3) ـ وهذا هو الربط الرسولي المعجزي للتأديب. ولم يكتفِ الرسول بذلك، بل أمر المؤمنين أن لا يُخالطوه على الإطلاق (1كورنثوس 5: 11) ـ وهذا هو الربط الكنسي العادي للتأديب الأدبي. لكن عندما حزن هذا الشخص حزناً مفرطاً بسبب خطيته، رفع الرسول التأديب عنه، كما أوصى المؤمنين أن يقبلوه في الشركة معهم (2كورنثوس 5: 5-11) ـ وهذا هو المراد بالحل.

(ب) و "سلطان الحل والربط "للتأديب الأدبي، لم يعطه الرب للرسل بصفتهم الشخصية، حتى كان من الجائز أن يُقال بوجوب وجود خلفاء لهم للقيام به، بل أعطاه لهم بصفتهم أوائل المؤمنين الحقيقيين وقتئذٍ. فقد قال الرب لكل واحد من هؤلاء المؤمنين "وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه ([4]) بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك، فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع، فخذ معك واحداً أو اثنين، لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة (أو بالحري من هؤلاء المؤمنين، فليكن عندك كالوثني والعشار (أي عليك أن تتجنّبه تماماً).. الحقّ أقول لكم إن كل ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطاً في السماء. وكل ما تحلّونه على الأرض، يكون محلولاً في السماء ([5])" (متى 18: 5-18).

فضلاً عن ذلك فإن الرسل لم يقوموا أحياناً باستعمال سلطان الحلّ والربط، حتى من الناحية المعجزية، بمعزل عن المؤمنين، بل بحضورهم، فمثلاً عندما سقط الشخص السابق ذكره في خطيته الشنيعة، قال بولس الرسول لأهل كورنثوس "قد حكمت … باسم ربنا يسوع، إذ أنتم رورحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح: أن يسلّم مثل هذا الشخص للشيطان لهلاك الجسد، لكي تخلص الروح في يوم الربّ يسوع ([6])" (1كورنثوس 5: 3-5). ثم قال عن التأديب الأدبي الذي يجب عليهم القيام به "اعزلوا الخبيث من بينكم" ([7]) (ع13) ـ وهذا هو ما كان يفعله كهنة اليهود قديماً (الذين كانوا رمزاً إلى المؤمنين الحقيقيين في العهد الجديد)، مع المصابين بالأمراض الخطيرة (التي كانت رمزاً إلى الخطية في شناعتها)، إذ كانوا يعزلون من تظهر عليهم أعراض البرص، ولا يسمحون لهم بالدخول إلى المحلّة إلاّ بعد زوال هذه الأعراض عنهم (لاويين 13-14).

(ج) وفي العهد الجديد أمثلة متعددة للتأديب المعجزي، بواسطة كلمة نافذة تخرج من فم الرسل. فعندما قاوم أحد السحرة إنجيل الله، قال له بولس الرسول: "لأن هوذا يد الربّ عليك، فتكون أعمى لا تبصر الشمس إلى حين". وفي الحال سقط عليه ضباب وظلمة، وجعل يدور ملتمساً من يقوده (أعمال 13: 11). وعندما جدّف هيمينايس والاسكندر أسلمهما هذا الرسول للشيطان لكي يؤدّبا (1تيموثاوس 1: 20). وعندما قدم حنانيا وسفيرة لبطرس جزءاً من ثمن حقل باعاه، وادّعيا أنه الثمن كله، مختلسين لنفسيهما الجزء الآخر، ماتا في الحال أحدهما وراء الآخر (أعمال 5: 1-11).

والآن: بما أن الذين يسندون إلى أنفسهم في الوقت الحاضر، سلطان الرسل الشخصي من جهة الحل الربط، لا يستطيعون أن يبرهنوا على أحقيتهم فيه بأعمال معجزية كما كان يفعل الرسل، يكون إسنادهم هذا السلطان إلى أنفسهم، منقوضاً من أساسه.

4- [إن سلطان الحل والربط بمعنى غفران الخطايا أو عدم غفرانها إلى الأبد، كان موجوداً في أيدي الأساقفة منذ القرن الثاني، ومن ثم يكونون قد تسلموه من الرسل أنفسهم.

الرد: هذه الحجة ليست بصواب، لأنه بالرجوع إلى التاريخ نرى ([8]):

(أ) إن سلطان الحل والربط، بمعنى رفع التأديب وتوقيعه، كان من الناحية المعجزية في يد الرسل وحدهم حتى نهاية حياتهم الأرضية، ومن الناحية الأدبية في يد الكنيسة (أو بالحري جماعة المؤمنين الحقيقيين مجتمعين معاً) لغاية القرن الثالث. فكانوا هم الذين يحرمون المخطئ من الاشتراك في العشاء الرباني وولائم المحبة، وكانوا هم الذين يسمحون له بعد ذلك بالاشتراك معهم فيها، إذ تاب عن خطيته.

(ب) غير أن بعض الأساقفة أخذوا ابتداءً من القرن الرابع، في احتكار هذا السلطان لأنفسهم شيئاً فشيئاً، حتى تمّ لهم ذلك نهائياً في أوائل القرن السادس، بواسطة مجمع رومية سنة 5.2م.

(ج) وبعد ذلك أخذ هؤلاء الأساقفة في توسيع دائرة هذا السلطان، حتى ادّعوا أن لهم حق القضاء باللعنة ([9]) على المخطئين، وطردهم من الكنيسة والنطق بحرمانهم (كما يقال) من السماء أيضاً، فثار ضدهم كثير من المؤمنين الحقيقيين ووجهوا نظرهم إلى أن الحرمان من السماء، ليس في يد أحد من البشر، بل في يد المسيح وحده. لكن الأساقفة المذكورين لم يصغوا لأقوالهم.

(د) ولما أصبح لكنيسة روما سلطة مدنية بجانب السلطة الدينية في القرن التاسع، قرّرت أن تأمر بحرمانه، لا يعين في وظائف حكومية، ولا تقبل شهادته أمام المحاكم، ولا تعتمد وصيته الأخيرة. كما قررت أنه عندما يموت، يجب أن يدفن كما يدفن الحمار، أي دون القيام بمراسيم دينية له.

(هـ) ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أخذ الأساقفة يستعملون سلطان الحرم، ليس ضدّ الذين لا ينفّذون الوصايا الكنسية فحسب، بل وضدّ الذين لا يقضون لهم حاجاتهم الشخصية أيضاً، الأمر الذي يدل على انحرافهم عن كلمة الله، وركضهم وراء مصالحهم الخاصة.


[1] - مما تجدر الإشارة إليه أن رؤساء اليهود كانوا يعطون الناموسيين مفتاحاً من المعدن عند تعيينهم في مراكزهم الدينية، يطلق عليه "مفتاح المعرفة "، ليكون رمزاً إلى أنه أصبح لهم حق التعليم أو الإرشاد (لوقا 11: 11). أما المفاتيح المذكورة أعلاه، فليست مادية بل معنوية.

[2] - إن المسيح لم يعطِ بطرس هذا الامتياز، لأنه كان أفضل من غيره من الرسل، بل لأنه (عن طريق الإعلان الشخصي الذي تلقاه من الآب) كان أول من اعترف ملهماً بالإيمان الحقيقي من جهة لاهوت المسيح. ومن ثم أعطاه المسيح امتيازاً أن يكون ه

و أول من يعلن للناس هذا الإيمان (متى 16: 16). لكن بطرس في ذاته كان شخصاً ضعيفاً إذ أخطأ خطيئةً شنيعة بسبب اعتداده بذاته (متى 26: 21-24).

[3] - وطبعاً لم يكن هؤلاء مؤمنين حقيقيين.

[4] - من هنا يتّضح لنا أنه ليس المسيء هو الذي يذهب إلى المساء إليه (كما يظنّ بعض الناس)، بل أن المساء إليه هو الذي يذهب إلى المسيء. ويرجع السبب في ذلك إلى أن المسيء يكون دائماً شخصاً ضعيفاً في حياته الروحية، وشخص مثله لا تكون له القدرة الأدبية على الذهاب إلى المساء إليه =
= وطلب الصفح عنه. كما أن المطلوب من المساء إليه أن لا يوبّخ المسيء بل أن يعاتبه، وذلك بروح المحبة، لأن العتاب بهذه الروح، هو وحده الذي يقود المسيء للندم على إساءته والتوبة عنها.

[5] - مما تجدر الإشارة إليه أنه جاء في صحيفة 525 من كتاب "حياة المسيح" (تعريب الدكتور عقداوي الأرثوذكسي المشهور) أن سلطان الحل والربط يُراد به تخويل التلاميذ حق إصدار الأوامر والنواهي للمؤمنين ـ لكن وإن كان هذا الرأي يدحض الاعتقاد الأرثوذكسي (بأن الرسل كان لهم سلطان فتح باب السماء أمام بعض الناس، وإغلاقه أمام البعض الآخر) الوارد في الحجة التي نحن بصددها، غير أننا لا نقرّ مؤلف الكتاب المذكور على رأيه هذا. لأن المسيح كما أعطى سلطان الحل والربط للرسل (متى 16: 19) أعطاه أيضاً للكنيسة، ـ أو بالحري لجماعة المؤمنين الحقيقيين (متى 18: 15-18) ـ وهؤلاء المؤمنون، مهما كان مقامهم، ليست لهم سلطة التشريع (أي سلطة إصدار الأوامر والنواهي الدينية)، إذ أنهم جميعاً يجب عليهم التقيّد بما أعطاه الله لهم في الكتاب المقدس عن هذه وتلك، دون أن يزيدوا عليها أو يحذفوا منها (رؤيا 22: 18-19). أما سلطة التشريع، فكانت من اختصاص الرسل والأنبياء وحدهم، بسبب المواهب الخاصة التي أعطاها الله لهم. وقد قاموا بالتشريع اللازم إلى التمام، قبل أن ينتقلوا من العالم، ليس بواسطة سلطان الحل والربط، بل بواسطة وحي الروح القدس لهم. ثم سجلوه بعد ذلك كما هو في البشائر، فصار هو الكتاب المقدس الذي بين أيدينا (2تيموثاوس 3: 17).

[6] - ولا غرابة في ذلك، فإن هذا الشخص على الرغم من الخطية الشنيعة التي سقط فيها، كان مثل داود النبي، مؤمناً حقيقياً. والمؤمن الحقيقي لا يُدان في اليوم الأخير (يوحنا 5: 24) لأن الدينونة التي يستحقها قد قبلها المسيح في نفسه على الصليب نيابةً عنه، ولما كان العدل الإلهي لا يطالب بحقه مرتين، لذلك لا يعود يطالب به المؤمن الحقيقي. وطبعاً لا يُراد بذلك فتح المجال أمام أي مؤمن حقيقي لعمل الخطية، لأن هذا المؤمن يجب ألاّ يُخطئ على الإطلاق (1يوحنا 2: 1)، إذ فضلاً عن أن لديه المؤهلات الكافية للنصرة على الخطية (2بطرس 1: 3)، فإنه بالسقوط فيها يُسيء إلى الله، كما يحرم نفسه من التمتّع به. فضلاً عن لك يعرض نفسه للتأديب الإلهي، وخيف هو الوقوع في يدي الله (عبرانيين 10: 31) لأنه في تأديبه مثل نار آكلة (عبرانيين 12: 29).

[7] - وقبل قيام المؤمنين بهذا العمل، يجب أن يُحاولوا إصلاح المخطئ بروح الوداعة (غلاطية 6: 1) مرة ومرتين (تيطس 3: 10). فإن أصرّ بعد ذلك على الاستمرار في خطيته، اجتمعوا باسم الرب لينظروا في أمره بدون محاباة (يعقوب 2: 10) ـ واجتماع مثل هذا له خطورته، إذ أنه يتطلّب منهم أن يكونوا تحت تأثير الربّ دون سواه. كما يجب أن يضعوا أمام عيونهم وقتئذٍ (أولاً) أنهم أنفسهم معرّضون للخطأ مثل هذا الشخص (غلاطية 6: 1)، حتى لا يكونوا مغالين في حكمهم عليه (ثانياً) أن لا يكون بناء على إشاعة بلغتهم بل بناءً على شهود عيان يوثق بشهادتهم (ثالثاً) أن يصدروا الحكم ليس بروح الانتقام الصارمة بل بروح الأخوة التي تفيض بالحسرة والأسى على المخطئ، وبالرغبة الصادقة في إصلاحه. ومن أنواع التأديب (أولاً) توجيه الإنذار لمن يسلك بدون ترتيب، أو بالحري لمن يرفض العمل لكسب العيش، اعتماداً على ما يتلقاه من معونة من المؤمنين (1تسالونيكي5: 14) ثم تجنبه بعد ذلك إذا لم يرتدع (2تسالونيكي 3: 6). و(ثانياً) تجنّب من يسبب الشقاق بين =
= المؤمنين لاجتذاب فريق منهم وراءه (رومية 16: 17)، (ثالثاً) رفض من يعود إلى الابتداع بعد إنذاره مرة ومرتين (تيطس 3: 10). (رابعاً) عزل الزاني والطماع والشتام والسكير عن الشركة مع الكنيسة (1كورنثوس 5: 11-13).

[8] - عن ريحانة النفوس، ومختصر تاريخ الكنيسة لاندروملر، وتاريخ الكنيسة لموسهيم.

[9] - كما كان يفعل اللاويون إزاء الذين كانوا يعصون وصايا الله (تثنية 27 و 28).

  • عدد الزيارات: 4442