الفصل الثامن: الوجودية في الميزان
ليست الوجودية أمراً نضعه أمام الناس للتصويت، هذا يصوت إلى جانبها وذاك يصوت ضدها. ومتى كان الناس يصوتون إلى جانب الريح أو ضده؟ فالريح تحمي الغلال وتنظف شوارع المدن، كما أنها تهدم عنابر الحبوب وتهدم المعامل والمصانع. كذلك الوجودية مجلبة للخير كما أنها سبب بلاء وغضب.
كذلك لا يستطيع الناقد تقويم الوجودية كفلسفة تقويماً هادئاً موضوعياً. نعم، قد يحاول، وبكل تجرد أن يظهر النواحي الصالحة فيها والنواحي الطالحة. ولكنه إذا حاول هذا فانه يقع في الفخ الذي نصبه لنفسه.لأنه إذا كان هناك من حقيقة في الوجودية فليس في قدرة أحد أن يدعي فضل الكشف عنها. لأن الناقد ذاته رجل فريسة الصراع الداخلي، فالهمّ ينتابه من كل صوب، والقلق يأخذ به من كل جانب، ناهيك عن أن للناقد أهدافاً بعيدة تستهويه، أهدافاً بعيدة كل البعد عن قدرته لبلوغها. وليس الناقد رجلاً يجلس على عرش من الجلال يرفع به عن الصراع. كلا، إنه في وسط حلبة الصراع، وأحكامها التي يصدرها عن الوجودية ليست سوى أحكام وجودية. له أن يلجأ إلى الحقائق وإلى المنطق، لا بل حري به أن يلجأ إليهما ويستعين بهما، غير أن تفكيره سيكون مشوباً بما ينطوي عليه من يأس ومن أمل، من إيمان ومن عدم إيمان.
ومع إدراكي لجميع هذه العقبات التي تعترض سبيل الناقد فإني سأحاول شخصياً أن أصدر بعض الأحكام عن الوجودية وعن قيمتها كفلسفة. وبعملي هذا أكون قد كررت الآراء ذاتها التي كان لها أثر ملحوظ في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب.
إن أعظم تقدمة قدمتها الوجودية هي إعادة الموقف الذي تتميز به معظم المدارس الفلسفية العظيمة والكتاب المقدس. عندما راح التاريخ يحوك مؤامراته الشيطانية ليحرم الإنسان هذا الموقف عندها حدث هذا الانفجار، وكان انفجاراً جرّ في أعقابه مجداً وعظمة، تطرفاً وخروجاً، نبلاً وحقارة. كانت الوجودية من المنجزات العظيمة الجليلة ولكنها كانت في الوقت ذاته حركة مخيفة. فإنها أعلنت لكل من يستطيع السمع أنه لا يمكن ان يتوافر للإنسان حياة شخصية، وحتماً لا يمكن توافر حياة مسيحية ما لم تكن الحياة الشخصية والمسيحية أمرين وجوديين. وبدون شجاعة، وبدون اهتمام وبدون تكريس تكون الحياة فراغاً وعدماً.
إن تعاليم الوجودية المعاصرة، على وجه الحصر، مختلفة متباينة إلى جانب كونها عرضة للجدل. بعض هذه التعاليم لها نفع عميم لنا في يومنا هذا. وكثيراً ما تبدو الوجودية فلسفة غير مستحبة لا تروق للناس. فإنها تكشط الطلاء البراق، والورق الشفاف الذي نغلف به حضارتنا العجيبة فتبدو على حقيقتها وتكشف عما تنطوي عليه من قسوة وجفاء.
تكشف الوجودية لنا عن المفارقات القاسية وعن التناقضات المؤلمة التي ينطوي عليها مجتمعنا. فجموعنا تمجد الحرية الشخصية وتتخذها مادة من مواد قانون إيمانها. ولكن الفقر والتعصب يحرمان بعضنا من هذه النعمة، ويروح الرخاء اللين يستهوي بعضنا الآخر فيضحي بالذات الإنسانية ويقتل المحبة في سباقه الأرعن لجمع الثروة. وتكثر وسائل الإعلان الوعود بالسعادة بواسطة الكماليات ووسائل الراحة، فيصدق التعساء الوعود، ويؤمنون بصحة الإعلان، فيحاولون الشراء ليدفعوا همومهم وأحزانهم. ولكنها هموم وأحزان تأبى أن تدفن. وتخدعنا الصناعة، وتغرينا حركة البناء، فيخيل إلينا أن مدننا ثابتة خالدة، ولكنها، إذا ما نشبت حرب، تصبح بين ليلة وضحاها خراباً يباباً. وتتكلم الكنيسة عن الله، ولكن دين العامة، الدين الشائع بين الناس، يعد الناس بالراحة والهناء عوضاً عن أن يكون نذيراً بأن هناك دينونة، وأن هناك رحمة وغفراناً.
عندما تكون الطمأنينة والاستقرار الداخلي سراباً خداعاً، وعندما تكون السعادة خداعاً ومراء، وعندما يعنى الدين بأمور وهمية خلابة، تبدو الوجودية وكأنها دعوة للناس ليجابهوا حقائق الحياة. أنها تطلب من الإنسان أن يكتشف ذاته، وأن يجابه عالمه، وأن يتقبل مصيره بهدوء. وعندما تطلب الوجودية من الناس أن يفعلوا هذا - وهذا ما يحاول الناس مجانبته- فإنها تكون قد هدتهم سواء السبيل.
ولكن للوجودية مخاطرها. بعض هذه المخاطر تنجم، إلى حد ما، عن الشجاعة والإقدام اللذين يبديهما الرجل المغامر المتحدي، وبعضها الآخر ينجم عن الحمق والتغفل. وليس من السهل الفصل بين الشجاعة والإقدام وبين الحمق والتغفل، لأن كل خطر قريب الصلة، شديد الارتباط بقوة نبديها أو شجاعة نمارسها.
أولاً، إن الوجودية، برفضها الأمر الوسط، وبرفضها القبول الأعمى لكل معتقد ولكل عرف، تستحيل بيسر إلى موقف اصطناعي. فإن تاريخها، ومصطلحها يجعلان منها زياً متبعاً، أو أمراً يسيراً يتقبله الناس ويقلدونها. والثائرون والخارجون على العقيدة والعرف يقعون فريسة سهلة للطقوس والمراسيم الجديدة. وقد ينقلب الهجوم الذي نشنه على كل زائف خداع إلى زيف وخداع. يقول ول هربرغ في بعض أنواع الوجودية "أن الفراغ الذي نشعر به في الوجود، والقنوط واليأس اللذين يلازمان الحياة، جميع هذه الأمور قد تستحيل - وهذا مما يدعو للعجب والدهشة- إلى نوع من تحدي الوجود، تحد يرافقه استخفاف، واكتفاء ذاتي، وشعور مريح هانئ". وكثيراً ما تكون حياة الرجل ذي المعتقد العميق والإيمان الصادق حياة بطولة في صراعه ضد المألوف من العرف، والمقبول من المعتقد، ولكن الرجل الذي يستهدف صراع المألوف والعرف نصيبه من البطولة نصيب مهرج يدعي البطولة.
ثانياً، إن تعطش المرء للحرية ولتحقيق الذات قد ينحط إلى درك من الخيلاء المسرحية وإلى نوع سخيف من توكيد الذات. تقول الوجودية: "كن على حقيقة ذاتك". ولكن أي ذات سأكونها؟ الذات التي لا تجد نفسها ألا في إخلاصها لولائها وتمسكها بها، أو الذات التي تسعى لتتحرر من هذا الولاء ومن التمسك به؟
هنا نجد أشد المفارقات وضوحاً بين الوجودية الملحدة وبين الوجودية المسيحية. فإن الملحد ينكر الله خوفاً من أن يكبت الله حريته ويقيدها. أما المسيحي فإنه يصلي بطريقته التقليدية المألوفة قائلاً: "أيها الرب الإله الذي خدمته وعبادته فوز بالحرية التامة ...." إن الملحد ينشد الحرية بالتعبير عن الذات أما المسيحي فبالموت للخطية ثم القيامة إلى حياة جديدة. يقول الملحد - وهو على صواب بما يقوله- إن الإكثار من الثرثرة حول الحرية المسيحية ليس سوى قناع يخفي وراءه حياة استعباد لمجموعة من القوانين المحجرة المفروضة على الإنسان فرضاً. أما المسيحي فيقول - وهو أيضاً على صواب فيما يقوله- أن الوجوديين الملحدين لم ينظروا بعد نظرة المتفحص في التعاليم العظيمة حول الحرية المسيحية.
ثالثاً، إن الوجودية بتشديدها على أهمية اتخاذ القرار أو اتخاذ موقف ما تقول فعلاً: "ليس عليك ألا أن تقرر وأن تجزم، ولا قيمة للشيء الذي تقرره، ولا للشيء الذي تجزم به، إنما الأمر هو أن يكون القرار قرارك أنت". والوجودية لا تحترم الشخص إذا سلم حقه للجزم والتقرير، لذلك لا تقدم الوجودية أي نصح أخلاقي.
والمشكلة هي أن لكل قرار نتخذه، مهما يكن قراراً شخصياً، إطاراً خلقياً، وإن وراء كل قرار هدفاً يتطلب ولاء وإخلاصاً. وعندما ترفض الوجودية إسداء هذا النصح أو تقديم هذه الخدمة فالفراغ الذي تتركه في نفس المرء يملأه فوراً ولاء آخر. لهذا، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، كان هيديجر ممن يعضد النازية بينما كان زميله سارتر يحارب النازية، وذلك ليس بالرغم من اعتناقهما الوجودية مذهباً .تماماً كما كان بعض المسيحيين يحتربون فيما بينهم بالرغم من إيمانهم) ولكن تعبيراً عن الوجودية التي يؤمنون بها.
كان عصر الوجودية الذهبي في فرنسا يقع في الفترة التي كانت فيها فرنسا تقاوم النازية. ذلك لأن في تلك الفترة كانت الحرية مطلباً، وكان هذا المطلب يوفر للناس هداية، ويبعث في نفوسهم الشجاعة والإقدام. ولكن في فترة ما بعد الحرب عندما راحت فرنسا تتخبط في مشاكلها متلمسة أهدافاً ورموزاً تربط بين أفراد الشعب لم يكن للوجودية نفع يرتجى في هذا السبيل، ولم تستطع أن تقدم عوناً للناس.
رابعاً، إن الوجودية بمحاولتها إظهار الصفة الفريدة التي تتميز بها الشخصية، الشخصية التي لا تقوى جماهير المجتمع أن تطمس معالمها، كثيراً ما كنت تعجز عن إدراك هذه الحقيقة وهي أن المرء لا يصبح شخصاً مميزاً إلا بواسطة الصلات والروابط البشرية. فإن المجتمع جزء من الذات بقدر ما هي الفردية جزء منها. وقد أدرك هذه النقطة كل من بوبر ومارسل وياسبرس ولكن كثيراً في الفلسفة الوجودية يبقى غير واقعي في تركيزه على الفردية.
وهكذا نجد أن الوجودية المسيحية يعوزها أحياناً "إنجيل اجتماعي." ولكن لديها أساس متين لإنجيل اجتماعي، وهو الاعتراف بان العقيدة المسيحية تختلف اختلافاً جذرياً عن معتقدات الفكر الشائعة بين الناس، والتي تقول أن الله سبحانه يرضى عن كل شيء يختص بنظام معين، ويبغض كل شيء يختص بنظام غيره. والوجودية بنظرتها النفاذة إلى ما للمجتمع من أثر في شخصية الإنسان تدلل على أنها تعمل على تنمية وتنشئة "إنجيل اجتماعي" أغنى من أي أنجيل اجتماعي آخر ظهر في السابق. ولكن العمل في هذا السبيل لم يتم بعد بل هناك الكثير من الجهد الذي يجب أن يبذل بعد.
وشبيه بهذا موقف الوجودية المسيحية من الكنيسة فإنها لا تدري ماذا تصنع في هذا السبيل. فإنها ترى داخل الكنيسة رياء ومداجاة وميلاً للتوفيق بين أمور يجب ألا يوفق بينها، فنقول للمرء أن يترك كنيسته وأن يقنع بالإيمان بالله وحيداً منفرداً عن جماعته. فالوجودية، مثل أنبياء التوراة، يرى أن الله يجب أن يظهر غضبه وسخطه على كثير مما يجري باسمه. ولكن الوجودية تعجز غالباً عن أن ترى أن العقيدة المسيحية تتطلب مجتمعاً مسيحياً. كذلك تنسى أن الكنيسة، وبالرغم من تقصيراتها، تنقل التوراة من جيل إلى جيل، وتحتفل بالأسرار الكنسية، وتدخل الجيل الناشئ في عداد المؤمنين جيلاً بعد جيل.
خامساً، كثيراً ما يعجز الرجل الوجودي العقيدة عن أن يفرق بين "أنا أشعر" و "أنا أؤمن" . إنما يدرك جيداً أن الحق المجرد تجريداً موضوعياً لا ينفع كثيراً، وإنما الحق الذي يراه المرء ضميرياً ويقتنع به داخلياً هو الذي يسبب القلق والاضطراب، وهو الذي يعود فيشفي. ولكن الوجودي بنقله اهتمامه من المعرفة إلى العارف يكاد ينسى أن وراء كل شخص تاريخاً كونياً مديداً، وتاريخاً بشرياً طويلاً مهدا السبل له لظروف الحياة.
إن الوجودي المسيحي يعرف جيداً الإيمان الذي يتعدى كل عقل وإدراك. وهو ينسى أحياناً أن العقل البشري، بالرغم من أنه عقل محدود يكتنفه شيء من الضباب، قريب الصلة بالكلمة الإلهية (Logos) - كلمة الله وعقل الله الذي يعدل عقولنا إذا زاغت، وينير بصيرتنا إذا أظلمت، ولكنه لا يعطل العقل. وبإصرار الوجودي المسيحي على ما سميناه "وثبة الإيمان" يميل أحياناً إلى أن يجعل من هذه الوثبة نوعاً من الطفرة إلى الظلام. ولكن الإيمان، كما يقول تلش، ليس أن يُمسِك المرء بل أن يُمسَك. بكلام آخر ليس الأمر الهام أن تجد الله بقدر ما هو أن يجدك الله. يمثل باسكال السيد المسيح قائلاً: "إنك لن تطلبني ما لم تكن قد حصلت علي". إن المسيحي يعبر الوهدة قفزاً نحو الله لأن الله سبحانه عبر الوهدة أولاً ليصل إلى الإنسان.
وهكذا فإن الوجودية - سواء أكانت وجودية ملحدة أو وجودية تؤمن بالله كما هي عند المسيحي أو كما هي عند غيرها من الأديان- مفعمة بالمشكلات. ولكنها تعالج هذه المشكلات بحزم وذكاء وقوة. وهي حركة فكرية، إذا نظرت إليها من جميع الجوانب، من أشد الحركات الفكرية إثارة وإقلاقاً وحيرة وإنارة، لم يظهر لها مثيل في الحركات الفكرية منذ زمن ليس بالقصير.
وبالرغم من هذا فإني لست أنصح أحداً أن ينقلب فكرياً إلى رجل وجودي العقيدة. فإن كير كغارد وهو رائد من رواد الوجودية، ما ظن يوماً أنه سيكون وجودياً في عقيدته. إنما حاول أن يكون رجلاً مخلصاً لذاته وفياً لنفسه. وهذه فكرة رائعة أتركها، في نهاية حديثي، لكل من قرأ هذا الكتاب.
- عدد الزيارات: 3898