الفنون البصرية والموسيقى
يقول نيتشه أن الفنانين هم وحدهم "الذين يجرؤون على إظهار البشر على حقيقتهم". ذلك أن الفنان يفتش عن الذات الفريدة التي يحاول الناس إخفاءها عن أنظار الآخرين.
انظر، مثلاً، إلى الصور التي يصورها المصورون المحترفون التقليديون، فإنك تجد أن المصور قد أعاد الكرة في معالجة الصورة فحذف التجاعيد والبقع هنا وهناك حتى يجعل من كل وجه يصوره وجهاً غير طبيعي. كأنه قرص حلوى سبك في قالب. هذا المصور لا يحاول أن يظهر الذات على حقيقتها بل يستهدف خلق قناع يخفي، وكلما كان هذا القناع صورة طبق الأصل للقناع الذي قبله، كان الشيء المرغوب فيه. وعندما يتوافر لديه عدد كبير من الأقنعة المتشابهة إلى درجة الملل والسأم فانه يلجأ إلى حيلة من حيل آلة التصوير، علّه يظهر الذات الحقيقية على علاّتها، ولكن النتيجة تكون أنه يخلق صورة فيها تكلّف وتصنّع فتبدو وكأنها خالية من الروح. وكل امرئ يصر على أن يأخذ المصور له صورة لا يعالجها بل صورة على طبيعتها يبدو لنا أنه امرؤ على شيء من التغفل والحمق. فإن صورته إذا وجدت طريقها إلى أن تنشر في صحيفة فإنه يبدو وكأنه سفاح معتوه. ذلك أن الناس قد اعتادوا التصنع والتكلف بحيث أصبح الشيء الطبيعي يبدو كأنه كذب وخداع.
على نقيد هذا نجد الفنان (ليس الفنان التجاري الذي همه الربح) الذي يحاول أن يظهر الشخص على حقيقته. فإن صورة من صور رامبرانت، مثلاً، تعكس للرائي ذاتاً حقيقية خالصة، وليس هناك من مجال أن يخطئ المرء فيحشرها في زمرة الأقنعة المصطنعة التي تغطي الصفحة الأولى من المجلات التي تتداولها المجتمعات التي تدعو نفسها مجتمعات راقية. فمن هذه الناحية، ناحية السعي لإيجاد الذات الحقيقية، نجد أن كل فن حقيقي يتصف بصفة الوجودية.
ولكن بدت، في الآونة الأخيرة، ظاهرة جديدة، ظاهرة هي مبعث بهجة ومسرة للبعض ومبعث سخط وغضب للبعض الآخر. وبالرغم من أن هذه الظاهرة لها تاريخ مديد فإن الفن المعاصر قد استغلها بصورة خاصة على أنها حديثة العهد. وهذه الظاهرة التي أشير إليها هي تعمّد الفنان تشويه الشيء أو الموضوع الذي يريد رسمه. وقد تبدو هذه الظاهرة على شيء من التعسف ولكن لها أسبابها. يقول الرسام الشهير بول كلي (Klee) موضحاً الأمر: "إن الفن لا يعكس المرئي، بل يكشف عن حقيقة المرئي". ويتساءل الواحد منا: لماذا يزعج الفنان نفسه في إظهار ما يمكن لكل امرئ أن يراه بدون مساعدته؟ إن الفنان يحاول أن ينفذ إلى ما وراء الظاهر، لكي يري الأعماق الخفية التي في الأشياء. وتعبيره عنها يجري بصورة غير مباشرة. فإنك إذا أخذت صورته على أنها صورة أو رسم مباشر فإنها تبدو لك غير حقيقية. ولكن اعتبرها على علاتها الخاصة بها فإنها توحي إليك معاني، أو أنها توقظ فيك لذة الكشف.
إذا نظرت في بعض الرسوم التي رسمها فان كوه (Van Gogh) عن الطبيعة ومناظرها لا تستشعر في نفسك أنك رأيت قط مثل هذه المناظر بألوانها الزاهية، وببقع الدهان الكثيفة التي تركتها ريشة الرسام، وبضربات فرشاته الشديدة الانحناء والاستدارة. والسبب في أنك لم ترى مثل هذا في الطبيعة هو أن الفنان فان كوه لم يكن يستهدف إعطاؤك صورة موضوعية عن الطبيعة. العالم أو المصور يستطيع أن ينقل إليك مثل هذه الصورة الموضوعية. إنما هو كان يحاول أن يخلق صورة وجودية للطبيعة (رغم أنه لم يسمع بهذه اللفظة). كان يحاول أن يري في صورة ما للطبيعة من انطباع في ذاته، أو ما كانت تعنيه الطبيعة بالنسبة إليه. كان يكشف في صوره ما خفي في الطبيعة من حيوية وفيض من القوة - وهذا يعني أنه كان يكشف أيضاً عما في نفسه هو من حيوية وفيض من قوة.
إنك لا تزال ترى في رسوم فان كوه معالم المناظر الطبيعية ومعالم الأشخاص، أي أنك لا تزال ترى رابطة ما بين رسوم الفنان وما حاول أن يرسمه. لكن في الفن الحديث قد لا ترى رابطة ما بين رسوم الفنان وما حاول أن يرسمه. لكن في الفن الحديث قد لا ترى شبهاً بين الرسم وبين المرسوم إطلاقا - أو أنك قد تستطيع بالخيال أن ترى صلة ما أو رابطة ما. فإن بيكاسو (Picasso) مثلاً يحاول أن يظهر الجمال الخفي بواسطة القبح، والقبح الخفي بواسطة الجمال. إنه يهمل الظاهر ليبلغ حيوية الأشياء الداخلية الخفية. فإنه لا يقنع بأن يوفر للناظر في رسمه مجرد النظر والملاحظة، بل أنه يريد أن يخرج به من إطار المرئي، وأن يثير فيه رغبة ومقدرة يستطيع بهما أن يرى ما وراء الظاهر.
ولا يتبادرن إلى ذهن القارئ إني أريد أن أدلل أن الفن المعاصر فن حسن. لا شك في أن بعضه رائع وبعض الآخر يتظاهر بالروعة، ولا شك في أن بعضه يوحي وبعض الآخر يذهل الرائي ويوقعه في حيرة وارتباك. إنما أريد أن أقول أن بعض هذا الفن المعاصر هو فن وجودي.
إن أقوى رسام مسيحي مستحدث كان جورج روولت (Rouault) ولا يستطيع أحد أن يقول أن رسومه جميلة مستحبة. إنه لا يبهج الناظر إلى صوره بقدر ما يسبب له صدمة. في إحدى صوره للسيد المسيح يظهر من جلال الألم ما لا يتوافر لغيره مثله في مدى عشر سنوات من فن الرسم الديني. تقول لنا الوجودية المسيحية أن الكنيسة ظلت زمناً يخدعها الفن المدعو الفن الديني ذلك لأن هذا الفن كان يصور المسيح، أو المجوس الثلاثة ولكن في الحقيقة لم يكن هذا الفن فناً دينياً بقدر ما كان كفراً بسبب ميوعته وترهله.
ولي أن أضيف ملاحظة أخرى عن الموسيقى. أن الموسيقى، من ناحية، أقرب الفنون إلى روح الوجودية، ذلك لأن لا الكلمة ولا الصورة تحددان معناها ومحتواها. إن معنى الموسيقى ومحتواها هو المعنى والمحتوى الذي يقرره السامع لذاته بالنسبة لتجاوبه معها. وللسبب ذاته فإن الموسيقى لا تعبر عن وجودية خاصة.
ولكن بالرغم من هذا فإن هناك نوعاً من الموسيقى الوجودية المعاصرة. وهذا النوع من الموسيقى يجده الناقد وليم بارت (Barrett) في القطع الموسيقية الرباعية التي ألفها بيتهوفن (Beethoven) حيث نجد "تفكك الأشكال الموسيقية المألوفة المقبولة وانحلالها" يمثل تفككاً وانحلالاً لعالم ألفنا وضعه وقبلنا أشكاله. وبعض النقاد يرى هذه الموسيقى الوجودية المعاصرة في إيقاع "الجاز" وألحانه المرتجلة. وبعضهم يراها في السلم الموسيقي الجديد وفي تنافر الأصوات وعدم انسجامها في موسيقى الذين يحاولون تجربة جديدة في الموسيقى أو تجديداً فيها. ولا تختلف الموسيقى هنا عن الفنون البصرية الأخرى إذ نجد فيها روعة وجلالاً كما أننا نجد فيها قبحاً وابتذالاً. وليس عندي ما يدفع بي لإغداق المديح والثناء على ما نسمعه من هذه الصناديق الموسيقية الجوالة، إنما أحاول أن أشير إلى بعض القلق النفسي الذي يخامرنا في أمر الموسيقى، وإلى الثورة ضد الأشكال الكلاسيكية في الموسيقى، كما أنني أشير، ربما إلى هذه الكآبة وهذا القلق النفسي البادي في الموسيقى العصرية، وإلى ما فيها من جمال وقبح. إن الرجل الذي يهوى الموسيقى الجاز لا يقول: "هذه قطعة موسيقية جميلة" إنما يقول: "هذه قطعة تحركني وتهزني" وهذا مرادف لقولنا: "هذه قطعة وجودية".
- عدد الزيارات: 2662