هذا المكان، مقدّس!
يعتقد كثيرون ان هنالك اماكن مقدسة في العالم، كجبل سينا مثلا او مدينة ما مقدسة او ارض مقدسة او شجرة مقدسة او مبنى مقدس او اي مكان او شيء تحيطه هالة من القداسة... وهذه العقيدة هي جزء هام في كل طريقة عبادة او ديانة، وتمنح شعورا دينيا رائعا.... لكن يسوع قال انه هو الحق، وقد اتى الى العالم ليكشف الحقيقة التي، اذا قبلناها، تحررنا من الخرافات والشعوذات التي لها حكاية حكمة، لكنها لا تفيد البشرية بشيء..
والكتاب المقدس هو كتاب الحق الذي يعلن لنا الحقيقة عن الله، وعن الطريقة للاقتراب الى الله والقبول امامه... وعلينا ان نترك افكار البشر، حتى الجميلة منها، والرجوع الى كلمة الله لنعرف الحقيقة التي من دونها، نضل ونتيه وبالنهاية نهلك الى الابد....
في ايام يسوع على الارض، كان اليهود يعبدون جبل صهيون في مدينة اورشليم واعتبروه مقدّسا، اما السامريون فقد عبدوا جبلا اخر اعتبروه مقدّسا، وهو جبل جرزيم في مدينة السامرة.. كلٌ كان له جبله المقدس الخاص به.. وبينما يتصادم اليهود مع السامرين بخصوص جبلهم المقدس الخاص بهم، اذا بيسوع يصرّح امرا يصدم كليهما.. اعلن الرب يسوع في انجيل يوحنا 4 ان الله روح، اي ليس مادة او شيء ملموس او محدود، وعلى الانسان ان يعبد الله بالروح ايضا. ثم وضّح يسوع الحقيقة ان الانسان يمكنه ان يعبد الله القدير في اي مكان، وليس فقط في مكان محدد كجبل او سهل ما.. ما اعلنه يسوع كان حقا جديدا وكان وما زال صدمة لكثيرين... كان يعلن يسوع بكل بساطة انه لا يوجد مكان او جبل ما مقدس حيث يمكن الاقتراب الى الله، لان الانسان لديه روح والله روح، لذا يمكن للانسان ان يقترب الى الله ويعبده لا يهم المكان الذي هو فيه... بالنسبة لليهود المتدينين كانت تلك الحقيقة التي فجّرها يسوع، تجديفا.. لم يستطيعوا ان يفهموا او يدركوا كيف يجرؤ يسوع الانسان الشاب الفقير على الغاء فكرة وجوب وجود مكان مقدس للعبادة، وكان لسان حالهم صارخا، مَن كان يسوع حتى يجرؤ على اجراء هذا التعديل الاساسي!...
ومن البديهيات الروحية اليوم التي هي غير قابلة للتفسير او التعديل، هي وجود اماكن مقدسة في العالم.. وما زال صوت يسوع يدوي في كل مكان، متحدّيا التقليد البشري المسيطر... "لا يوجد مكان مقدس"... مع انه كانت في العهد القديم وفي ايام موسى وداود اماكن مقدسة كمدينة اورشليم مثلا والهيكل... اما رسالة العبرانيين وهي جزء من كلمة الله فتعلن ان كل امور العهد القديم كانت مجرد رموز لامور حقيقية وروحية تحققت في العهد الجديد (عبرانيين 7/ غلاطية 4/ رومية 15). فمثلا يقول الرسول ببولس، وكتاباته جزء من الوحي المقدس، ان الانسان الذي يقبل يسوع ربا على حياته ومخلّصا شخصيا له، يجعله الله هيكلا لروحه ليسكن فيه (1 كورنثوس 3)، لان الله لا يسكن في مسكن من حجارة مصنوع بيد بشر .. ان الله القدير لا يسكن في مبنى من اخشاب واحجار (اعمال 7)، لكنه يريد ان يسكن في داخل قلب الانسان، والله يريد شركة وعلاقة حية مع الانسان..
في سفر الخروج 3، قال الله لموسى النبي :" هنا مكان مقدس، اخلع نعليك من رجليك" .. كانت هناك صحراء مقفرة، حيث لم يكن شيء، مجرد برية قاحلة.... مكان صغير ومحدد، ولم يذكر الكتاب المقدس اين كان ذلك المكان، ولا يستطيع احد اليوم ان يعرف اين كان ذلك المكان بالتحديد.. لماذا كان ذلك المكان مقدّسا؟ فقط بسبب ان الله ظهر له هناك... ما دام الله كان يتكلم مع موسى، كان ايضا المكان مقدسا. وفي اللحظة التي انتهى الله من الظهور لموسى والحديث معه، لم يعد المكان مقدسا، بل اصبح مكانا عاديا جدا... حيث وحين يظهر الله، يكون هناك مكان مقدس... عند توقف ظهور الله، لا يكون المكان مقدسا بعد..ان الله القدوس يجعل اي مكان مقدس اذا لامسه واستخدمه...
لماذا لم يذكر الكتاب المقدس اين كان ذلك المكان المقدس الذي ظهر الله فيه لموسى النبي؟! أ لعل الوحي نسي؟ حاشا... بحكمة الهية لم يذكر ذلك... لو ذكر اين كان ذلك الموضع، لحوّله البشر الى مكان عبادة... ان الله يريد ان نعبده هو ولا نعبد اماكن او اشياء من خليقته.
كان موسى نبيا مهما جدا ويعتبر من اهم الانبياء، بواسطته اعطى الله ناموسه او شريعته للبشر.. وهو الذي حرر واعتق الشعب من العبودية واستخدمه الله بشكل معجزي.. ولما مات، دفنه الله بنفسه.... وقد اكرمه الله جدا، لكن الكتاب المقدس لم يذكر اين دفنه الله.. لا احد اليوم يعرف اين يقع قبر موسى النبي.. علم الله ان الشعب سيعبد قبر موسى وسيصنعون منه مزارا مقدسا.. لو كان مهما المكان حيث دفن موسى، لاخبرنا الله بذلك.. يحب الانسان ان يكون مرتبطا بأماكن ملموسة، لكن الله يبغض ذلك، لان الله لا يريد ان تتحول الاماكن والاشياء الى مقدسة يعبدها الانسان.. يكره الله ذلك، اما الانسان فيحب ذلك ولا يقدر ان يستمر من دون ذلك.. وأ ليس التاريخ يشهد ان ذلك بالتحديد كان سببا لهدر انهار من الدماء في اماكن كثيرة...
اخذ يسوع يوما ثلاثة من تلاميذه، وصعد بهم الى جبل عال (متى 17) وحدث التجلي حيث ظهر الرب يسوع بمجد مع النبي موسى والنبي ايليا... وبحكمة بالغة، لم يذكر الكتاب المقدس اين حدث ذلك، ولا نقرأ عن اسم ذلك الجبل...كثيرا ما يذكر الكتاب المقدس تفاصيلا دقيقة واسماء مدن واسماء جبال، لكن هنا صمت الوحي بقصد ولم يذكر اسم ذلك الجبل.. أ لعل الله نسي ان يذكر ذلك؟؟.. بالتأكيد لا يريدنا الله ان نعبد ذلك الجبل ونحوّله الى مكان مقدس..
هنالك امثلة كثيرة تؤكد الفكر الالهي الصحيح، لكن البشر لا يريدون ان يسمعوا ويقبلوا.. في سفر العدد 21 نجد مثلا اخر. أمر الله موسى ان يصنع حية نحاسية ويرفعها امام الجميع لتكون وسيلة للشفاء للذين لدغتهم الحيات.. لكن بعد سنوات طويلة (سفر الملوك الثاني 18: 4)، صنع الشعب حية نحاسية مشابهة للتي صنعها موسى النبي وعبدوها. اعلن الله في هذا المرة انها كانت صنما ويجب سحقها الى التمام. ما طلبه الله في احد الظروف، رفضه ايضا في ظرف اخر..
يقول الكتاب المقدس ان جسد المؤمن الحقيقي هو هيكل لسكنى الله بالروح. واورشليم هي رمز لكنيسة المسيح .. وعلينا ان نفهم كل امور العهد القديم روحيا ورمزيا وفي ضوء العهد الجديد وليس حرفيا(2 كورنثوس 3: 6).
وفي انجيل متى 18، حسم يسوع الامر اذ صرح انه حيث اجتمع اثنان او ثلاثة باسمه، هناك يكون في الوسط وهناك يكون مكان مقدس ما دام هو هناك.. كلمة "حيث" تعني انه لا تحديد للمكان، بل في اي مكان اجتمع اقل عدد، وهدفهم تمجيد الرب يسوع وعبادته، يكون الرب هناك في وسطهم... ويتحول ذلك المكان حتى ولو كان بيتا او حديقة او واديا، ما دام هدف اللقاء هو عبادة الرب..
ان الكتاب المقدس اي كلمة الله لواضح في هذا الامر. لا يوجد مكان مقدس في هذا العالم... اذن لماذا يتحدث الناس عن اماكن مقدسة؟! ببساطة لانه وجود مكان مقدس والدخول اليه والحديث عنه، تعطي شعورا دينيا رائعا، حتى ولو لم يطلبه الله من البشر!.. كثيرا ما نبحث عن شعور ديني خاص، وليس اطاعة الرب وصنع رضاه...ان الشعور الديني الجميل كثيرا ما لا يتعلق بالله بتاتا... ربما العبادة لدى البعض هي لارضاء الذات، وليس لارضاء الله... ان الاقتراب او الابتعاد عن الله ليس امرا عاطفيا او شعوريا او حسيّا او شكليا او خارجيا... يمكنك ان تشعر انك في السما، وفي ذات الوقت تكون بعيدا عن الله الحي. والسؤال الاهم هو، هل يبحث الانسان عن تجربة عاطفية او اختبار روحي ذي طابع ديني، ام يبحث عن عبادة الله الحقيقي وطلب الشركة الحية مع خالقه؟! .. كثيرا ما يهم الانسان مجرد حس ديني او اشباع للمشاعر الداخلية، ولا يهمه ارضاء الله ام لا.. والمشكلة ان كثيرين من القادة الدينيين يعرضون على الشعب الواثق بهم مناخا دينيا عاطفيا وليس طعاما روحيا حقيقيا.. يقدّمون ما يشبع المشاعر، وليس ما يغذي الروح... يقولون ما يعجب الناس وليس ما يغيّرهم ويخلّصهم ويقرّبهم الى الله الحقيقي.. ان استخدام الماء والزيت والبخور والالحان الدينية مثلا يمنح شعورا جميلا. بعض القادة يقولون كلاما يهزّ المشاعر مما تسبب ذرف الدموع بغزارة، دون ان تقرب احد الى الله الحقيقي ذرة واحدة...
ان الكتاب المقدس يعلّم اننا نقترب الى الله من خلال صليب يسوع فقط بالايمان بالنعمة بشفاعة الرب يسوع المسيح ( عبرانيين 10). اما بواسطة بالناموس او الاعمال او المشاعر، فلا احد يقدر ان يرضي الله، ولا يمكن ان يكون مقبولا لدى الله.. ان الايمان المسيحي ليس رموزا او مجرد حس ديني جميل... ان ايماننا هو نور ووضوح.. فقط يسوع ارضى الله على الصليب، وعلى هذا الاساس يقبلنا الله بالنعمة. اذا كانت الاماكن المقدسة هي التي تقربنا الى الله، فلماذا اذن مات المسيح على الصليب متألما ومهانا؟!.. لكن يسوع مات وانجز كل ما يحتاجه الانسان لكي يعبد الله ويكون مقبولا لديه. كثيرا ما يحذرنا الكتاب المقدس من اناس يحاولون ان يخدعوننا كالنبي بلعام الذي استخدم كلمة الله فقط لربح المال، مع ان اقواله تمّت وتحققت!.. في سفر الاعمال 20، قال بولس الرسول انه سيكون اشخاص يخرجون من بين اعضاء الكنيسة، سيعلّمون امورا خاطئة ومضللة لكي يجذبوا التلاميذ وراءهم، الذين يستخدمون كلمة الله لاجل مصلحة ذاتية باحثين عن مجد انفسهم. ليت الرب يزيل القشور عن العيون ويفتح القلوب، فتستنير وتتعرف على الحق الكتابي، فنتحرر من العبادة الوهمية والقداسة الحسية والتدين الشكلي، فيسوع هو الحق والحقيقة وهو الطريق الى الله الحقيقي وبه نصل الى الحياة الابدية..
- عدد الزيارات: 7788