الرجل الذي بحسب قلب الله
انه لغريب ورائع حقا ان نلاحظ ان الله القدير بحكمته خصص الكثير من الصفحات وسرد حتى تفاصيل حياة داود. نقرأ عنه في سفري صموئيل الاول والثاني. لم يذكر عن احد سواه في الكتاب المقدس والكتب العالمية انه "حسب قلب الله"(1 صم 13: 14/ اعمال 13: 22). مع ان داود عاش في ازمنة العهد القديم وفي عهد الناموس والانبياء، الا انه ادرك اله النعمة، واكتشف قلب الله حتى قبل تجسده في يسوع المسيح بمئات السنين.
ورغم ذكر سقطات داود وفشلاته الفظيعة، زنى، قتل وكبرياء، لكنه وجد المفتاح ليصل مباشرة الى اكتشاف اعماق الله القدير، فعلم ان الله القدوس الحي العلي يحب الخاطي المنسحق ومتواضع القلب.
كثيرون حتى من المسيحيين وبعد الاف السنين من داود، لم يكتشفوا حتى الان اله النعمة بشكل عملي وواقعي. كم يعوزنا اليوم ان نكتشف قلب الله المعلن لنا في حياة الرب يسوع المسيح. لنحذر لئلا نحيا ونتعامل بروح الناموس، لئلا نتعامل مع منسحقي القلوب والمنكسرين بروح ناموسية خالية من توجه مشحون بالنعمة الالهية... الموقف المتواضع لداود جعله يكون محبوبا ومحسودا من كل مَن كان حوله، وفوق الكل محبوبا من الله. ان اسم داود باللغة الاصلية للكتاب المقدس اي العبرية يعني محبوب، لان الله احبه بشكل خاص اذ وجد نعمة عظيمة في عيني القدير (1 صم 13: 14)، شاول الملك احبه ايضا (1 صم 16: 21)، ميكال ابنة الملك احبته ايضا (18: 28)، يوناثان ابن الملك ايضا احب داود (18: 1)، اسرائيل ويهوذا احباه ايضا (18: 16)، وحيرام احبه ايضا (1 مل 5: 1)... مع ان كثيرين حسدوا نجاحه وانتصاره، الا انهم اعجِبوا بشخصيته.. مثلا الملك شاول كان مغتاظا منه بسبب انتصاره، لكنه استغرب كثيرا عندما واجه داود جليات ببسالة مع انه كان صغير السن ومجهول من الجميع. في البداية رفض الشعب (اسرائيل ويهوذا) ان يخضع لداود بسبب نيّاتهم السلبية ، لكنهم في النهاية اعترفوا به كملكهم المتميز الوحيد، وصار المركز الوحيد الذي يجمع حوله كل الاقطاب.
حافظ داود على خط مفتوح مع الله حيثما توجه. حتى وهو يرعى الغنمات في البرية، كان يفكر دائما بالله الحي واختبر الرب قوته وحلاوته. وعندما اقبل اسد ودب لافتراس الغنم، جازف وقتل كليهما بقوة الرب، فكان فرح الرب يغمره في كل الظروف. كان دائما مشبعا بالثقه بالهه الحي. اختبر داود الرب في الخفاء، لذلك لم يجد صعوبة ان يثق بالرب ايضا علنا وامام الجميع. لم يكن ايمان داود مجرد خيال او عقيدة، كان حقيقة وواقعا يمارسه كل يوم. تعلم ان الله هو الوحيد الذي يمكن ان يعتمد عليه او يلتجئ اليه في الاوقات العصيبة، والله من جهته درّب داود واجازه الاختبارات المتنوعة، حتى تعلّم الاكتفاء بالله وحده، اما داود من جانبه فقد تجاوب مع معاملات الله بثقة كاملة ان ما يحدث هو بسماح من القدير وله قصد مبارك لاجل بركة عبده..
بالاضافة الى ذلك، ان جمال شخصية داود هو في كونه مثالا للمسيح قبل تجسده بقرون. كان داود صورة جميلة للمسيح اي لله ظاهر في الجسد حتى قبل التجسد.. ففي حياة داود ، نرى فضائل الرب يسوع، من صبر ومغفرة واحتمال وحب التضحية لاجل الغير، صفات علينا ان نتبناها ونظهرها في حياتنا. ويلمع داود في شبهه للمسيح خاصة كمسيح الله اي كمَن مسحه الله، وفي نفس الوقت مرفوض من الناس... ما يختاره الله، يرفضه الناس، وما يستحسنه الله يحتقره البشر... لا يمكن ان يكون داود كالمسيح تماما، لكن الله استحسن الفكرة وجود انسان مشابه في كثير من الامور لابنه المحبوب.. اظهر داود خصائل وميزات يسوع قبل ولادة الاخير بمئات السنين.. كان مشابها للمسيح في اتكاله واعتماده الكاملين على لله غير المنظور، وبينما كان مع الغنمات لوحده، اظهر يسوع في محبته واهتمامه بشعبه.. كان جلّ اهتمامه وتفكيره في شعبه، وليس في نفسه.. كانت مواجهته لجليات وانتصاره عليه، صورة جميلة للمسيح يسوع وهو يواجه الشيطان على الصليب بالضعف، وقد احرز انتصارا كاملا لاجل خير شعبه..كان داود مقبولا ومحبوبا من الله، لكنه مرفوضا ومحتقرا من شعبه، وقد تملّك الحسد قلب الملك شاول ضده.... انتظر داود خمسة عشرة سنة بعد مسحه ملكا، الى ان اتى التوقيت الالهي ليجلس هو على العرش وقد واجه الاشاعات ضده لسنين طويلة... وفي هذا ايضا تشابه عجيب بينه وبين المسيح الحقيقي.. كان يرى الله داود من اعلى مجده، ويشعر شعورا عجيبا اذ يرى نفسه في هذا الانسان... كانت المشاعر مشتركة، مما وجد نعمة خاصة جدا في عينيه، ما لم يراه في اي انسان اخر.. مع ان الله مسح داود ملكا، الا انه كان مرفوضا ولم يجد لنفسه مكانا غير الكهف المتواضع، كذلك يسوع لم يجد اين يتكئ راسه ما عدا الصليب... تبع داود فقط اولئك الذين كانوا في ضيق او دين واجتمعوا اليه في مغارة عدلام (1 صم 22: 2).. كان رمزا دقيقا للمسيح في رفضه..كانت هذه الحال مع الرب يسوع الذي اختاره الله ومسحه رئيسا وربا على الجميع، الا انه حتى الان ما زال مرفوضا وليس له مكان في هذا العالم، ما عدا المكان المتواضع والبسيط عند اجتماع الكنيسة التي وعد ان يكون في وسطها. كل المحتاجين والمتضايقين والمرفوضين يقبلون اليه، ليجدوا الراحة لانفسهم والتعزية والقبول(متى 11: 28). ولكي نتمكن من فهم معاملات الله، علينا ان نتابع مراحل حياة داود، وامامنا ايضا حياة يسوع على الارض، ونتأمل فيما هو مشترك بينهما. والفارق الوحيد هو ان داود اجتاز معاملات اليمة لكي يعدّه الرب للمُلك ولابقاء الجسد فيه تحت حكم الموت ليصبح اكثر نافعا لقيادة شعب الله، بينما يسوع مرفوضا ليُظهر مدى صبره واحتماله وليكون امتحان الايمان فعّالا لكل مَن يقبله وهو مرفوض فيزداد ايمانه لمعانا وجمالا.
بالاضافة الى كل ما سبق، كان داود صورة ليسوع المتالم من الخطاة. لاحقه الملك شاول واعوانه وهاجموه بشتى الطرق والاساليب، وكثيرا ما نجحوا باقناع الكثيرين ان داود كان مخطئا، كما يبدو ان كثيرين نجحوا ان يعطوا بديلا ليسوع...ويسوع ايضا مرفوض اليوم من الاكثرية.. شاول طارده، نابال احتقره (1 صم 25)، شمعي سبّه (2 صم 16) واحتى ابنه ابشالوم ابو السلام قاومه!.. لكن الله استخدم الجميع لكي يصبح داود كفؤا للخدمة التي ارادها الله له، ولكي يعطي داود فرصة ليُظهر لجميع مَن حوله المواقف الروحية المملوءة نعمة..
كذلك اجتاز يسوع وما زال يجتاز مسارا من الالام والرفض والاحتقار، كفرصة ليُظهر فضائله وخصائله المجيدة وليعترف الجميع انه لا مثيل ليسوع... نرى الروح الغافرة التي للمسيح في داود، عندما رفض ان ينتقم لنفسه، لما آتته الفرصة ليقتل شاول، ولم يقبل المس به..لم يردّ داود، عندما سبّه شمعي.. وعندما ملكَ داود، عيّن اخاه الياب على الجيش، مع انه هاجمه وانتقده عندما تقدم لمواجهة جليات...
وفي سفر صموئيل الثاني الاصحاح التاسع، نقرأ عن كيف عامل داود الملك، مفيبوشت المتبقي من بيت شاول عدوه. مع ان شاول اظهر لداود عداءا ومقاومة واذى، لكن داود اظهر كل محبة ومغفرة لنسله...حتى انه اجلسه على مائدته الخاصة.. في هذا، عكَس داود قلب الله الذي يُظهر نعمة ورحمة للاعداء، للضعفاء والساقطين.. انه لامر يشدّنا الى معرفة كيف شعر الله عندما فعل داود ذلك.. كان بالتأكيد راضيا ومعجبا، لانه وجد احدا يفهمه، ويعمل مثله كالاله المحب. كان مفيبوشت رمزا للانسان البعيد عن الله في ارض جدباء مبيع للخطية..كان من بقايا بيت شاول المقاوم والمعادي لداود. لكن نعمة الله الغنية احضرته لتباركه وليكون له شركة مع الملك اي مع رب السماء...
يمكننا ان نتعلم الكثير من الدروس من حياة داود لحياتنا الروحية كمسيحيين.. يمكننا ان نتعلم امورا عن قلب الله. نحتاج كثيرا كمسيحيين ان نحيا ما نعرفه وزما نعلّم به، وان نتعامل مع الاخرين كما عاملنا المسيح، بالمحبة والرحمة والمغفرة، واثقين بالله في كل الظروف. واخيرا، كتب داود كنبي، الكثير من النبوات عن المسيح، الف سنة قبل ولادة يسوع. ففي المزامير 22، 69، 109، 88 مثلا، تحدث داود باسهاب عن الام المسيح وكل ما اجتازه بدقة متناهية. عرف داود كيف كانت مشاعر وعواطف واحاسيس المسيح المتألم والمرفوض من الجميع، عرف داود ذلك حتى قبل ولادة المسيح.. والغريب اننا نحيا سنين طويلة بعد المسيح، ومع ذلك، كثيرا ما نفشل في فهم ذلك...كتب داود عن ولادة ومسح يسوع المسيح من الله كالملك على الجميع وعن رفض الجميع له واحتقارهم له. وكتب ايضا عن الله الذي ترك يسوع على الصليب (مز 22)، وعنه كذبيحة الله لاجل الانسان (مز40)، وعن خيانة يهوذا له (مز 109)، ونبوات كثيرة اخرى متعلقة بالرب يسوع.... فعرف داود ما يريده الله حقا، وتصرّف بما يطابق ذلك.. لا نتجاهل اخطاء وسقطات داود، لكن ذلك بالنسبة لله القدوس والكامل، ليس بالامر الاهم... للاسف بالنسبة للبشر الاشرار والساقطين، يرون ان هذا هو اهم موضوع... فنحن نحب ان نسأل دائما :"مَن اخطأ هذا ام ابواه" لكي نتظاهر بالصلاح مع ان الله يعرف فساد جميعنا وخراب قلوبنا وافكارنا.
والان هل نجتهد نحن محاولين ان نفهم ما يريده الله حقا، ولندرك كيف يفكر هو، وما هي مقاصده واحكامه ووجهات نظره؟!... كثيرا ما يكون الله، ليس كما نظن. ونظنه ليس كما هو بالحقيقة، ولا يهمنا كثيرا ان نستبدل افكارنا الساقطة، بافكار الهية نقية وطاهرة وسامية ... مع ان الله قدير ومتعال، الا انه ينظر الى المتواضع والمنكسر القلب والتائب والمنسحق الروح الذي يضع ثقته في نعمة الله ورحمة القدير، ويتجاهل الله الابرار في اعين انفسهم (مز 51). لانه امام الله، ليس بار وليس صالح ليس ولا واحد (رومية 3).. لكن حكمة الله، جهالة في عيون عظماء هذا الدهر، وايضا حكمة الفلاسفة وحكماء هذا العالم، غباوة وجهالة في عيني الله.. الكل يمضي ويزول، يبقى الله وكلمته التي لا تزول..
- عدد الزيارات: 14774