الصليب، ضعف وجهالة أم حكمة وبسالة؟!
ليس خفياً ان رمز المسيحية هو الصليب، ومع ان الرسول بولس اعلن قراره الواضح قائلا:"حاشا لي ان افتخر الا بصليب المسيح"، الا انه في ذات الوقت صرّح ايضا:"ان الصليب ضعف وجهالة" في رسالته الاولى الى اهل مدينة كورنثوس....
هل كان هذا تناقضا ام بارادوكسا؟!، وكثيرون من غير المسيحيين يعجبون بالمسيحية، وتشدهم القراءة الممتعة في الانجيل. لكنهم يصطدمون بفكرة الصليب، ويغتاظون كيف لمسيح الله البار، ان يموت ميتة شنيعة كتلك ويُصلب بوحشية متناهية؟!... حتى بعض المسيحيين يفتخرون بتعاليم المسيح السامية ويتغنون بمبادئ الانجيل الرفيعة، لكن حماسهم يبرد عندما تراودهم فكرة تراودهم ان سيدهم مات مصلوبا ومهانا، وربما يخجل البعض بالصليب...
والان السؤال الهام هو، هل الصليب حكمة ام جهالة، ضعف ام بسالة، عظمة ام ضآلة، ظلم ام عدالة، هزيمة ام بطولة؟
كتب الرسول بولس مصرحاً:"ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وضعف" ثم اضاف قائلا:"ان ضعف الله اقوى من الناس وجهالة الله احكم من الناس".... هنا يقف القارئ مشدوها متعجبا، لا يعي شيئا مما قصده بولس... ماذا قصد رسول المسيحية؟ ألعل الله عنده جهالة وضعف؟! حاشا... لكن الله بحكمته اختار طريقة الصليب لخلاص الناس الخطاة، وهذه الطريقة في نظر البشر سخيفة ومحتقرة، ويعتبرها "حكماء" هذا الدهر ضعفا وجهالة. فيجيبهم الله ضاحكا:" ان ما تعتبرونه جهالة وضعف، هو ذات الحكمة وذات القوة".. وقد اختارها الله، لكي لا يأتي بشر امامه مفتخرا ومعتدا بنفسه..
نظرت الفتاة الى وجه امها، وحضنتها وقالت:"ماما، انا احب كل شيء فيك، احب عينيك وشعرك وابتسامتك ونظراتك، احب كل شيء.. ما عدا شيء واحد.... لا احب راحة يدك اليمنى لانها بشعة .. اريد ان اقبّل كل شيء فيك، ما عدا يدك.. لا اقدر ان انظر اليها ولا ان اقبّلها... سامحيني يا امي".... اغرورقت عينا الطفلة وعينا الام بالدموع وتعانقتا بحرارة..
نظرت الام الى وجه طفلتها وقالت:" طفلتي حبيبتي، عندما كنت اصغر سنا، قبل ان بدأت تسيرين على قدميك، كنت نائمة في السرير، وانا كنت جالسة في الحديقة، اقرأ كتابا. واذا فجأة هب حريق في غرفتك، فركضت كالمجنونة بسرعة فائقة وقفزت الى غرفتك بين السنة اللهيب، وخطفتك بقوة، وهرولت الى خارج البيت، فأنقذتك.. وعندما فعلت ذلك احترقت يدي، وها هي بشعة لم تشف بعد"!!...
ادمعت عيني الطفلة، وصرخت قائلة:"ماما، احبك واحب كل شيء بك، واريد ان اقبّلك، لكن الان احب اكثر شيء فيك يدك المحروقة، واريد ان اقبّلها كثيرا، لانها كانت سبب خلاصي، وستبقى علامة ودليلا على قوة محبتك لي"!!...
هكذا ايضا، نحن نحب كل شيء في يسوع، لانه فريد وكامل في ولادته وحياته وكلامه.. كل شيء فيه جميل، الا شيء واحد وهو الصليب. الصليب عار وهوان علنيان امام الجميع، مما يثير السخرية والازدراء.. ولا يعلّق على الصليب الا المجرمون... فأعتبر الناظرون يسوع مذنبا ومستحقا الموت.. لكن عندما نعرف ان هذه الطريقة المهينة، هي ذاتها السبيل الوحيد للخلاص والفداء والحياة الابدية... الصليب هو الدليل الواضح لمحبة الله للبشر... عندها نصرح اننا نحب يسوع، خاصة عمله على الصليب.. لانه وهو الكامل والبار لا يستحق الموت، لكنه مات فقط بسببنا ولاجلنا، اذ ونحن بعد خطاة مات البار لاجلنا...
في الصليب، يظهر واضحاً شر البشر وحقدهم وكراهيتهم وقساوتهم ووحشيتهم ومدى ابتعادهم عن الله وحاجتهم الى مخلّص.. ولكن في الصليب تظهر ايضا روعة محبة الله للخطاة وعظمة رحمته وسمو حنانه وعمق عطفه وقوة غفرانه وكمال بره...
كان الرومان اول مَن اخترع عادة الصلب كحكم اعدام للمجرمين، لم يستخدمه احد من قبل ذلك.. وقد اختارها يسوع، لانها اشنع نوع ميتة، وهي عذاب بطيء، ويتم امام الجميع، وفيه يحتاج المصلوب الى فتح ذراعيه على مصراعيهما.. وفيها تعبير بليغ عن اظهار يسوع الامه للجميع كدليل محبته لبشر يكمنون له الضغينة والحقد... وايضا فتح يسوع ذراعيه، مستعدا لحضن الجميع، مهما كان جنسهم وعرقهم وخلفيتهم وعلمهم..
مَن يريد ان يزيل فكرة الصليب من المسيحية، يلغي المسيحية من جذورها.. ومَن يَقبل الانجيل من دون الصليب، يعلن رفضه للانجيل. لان الصليب اساس ولب المسيحية وفخرها، وهو حكمة الله الكاملة وقوته غير المحدودة... صحيح انها غريبة، لكن الله لا يفعل امورا تتطابق مع عقولنا المحدودة... لهذا صرح بولس:" حاشا لي ان افتخر الا بصليب المسيح"...
لماذا لا يخلّص الله القدير البشر الخطاة بدون الصليب، من دون ان يموت اقدس واسمى انسان؟ ، أليس الصالحين يقبلهم الله بدون فكرة الصليب؟...
ان الله عادل وبار، لذا فلا يقدر ان يعفو عن مجرم بدون دفع ثمن.. لا يوجد قاض عادل وبار ومستقيم يقبل ان يصفح عن المذنبين والمجرمين، لمجرد انهم عملوا عملا صالحا او ساعدوا احد المحتاجين او تلوا احدى الصلوات الطويلة.. فالعدل يجب ان يأخذ مجراه.. والانسان، كل انسان بدون استثناء، هو خاطئ ومتعد وعاص وعدو لله.. فليس انسان الا وعمقه مشحون بالشر والخبث والحقد والانانية والكبرياء.. فلا يمكن لاله عادل ان يقبل انسانا اهانه واحتقره، واتى اليه وقلبه مليء بالشر.. فالجميع اخطأوا، والنتيجة انهم هالكون لا محالة.. لكن الله محب ورحوم، لا يريد ان يهلك الانسان الذي هو خلقه على صورته... فقرر بسبب عدله ومحبته ان يأتي كبشر، مثلهم في كل شيء، ما عدا الخطية.. ومن ثم يموت ويحمل عقاب خطايا وذنوب البشر اجمعين.. فكل مَن يقبله بديلا عنه، يقبله الله ايضا، ومَن لا يقبل المصلوب، لا يقبله الله العادل ايضا...
عندما يفتح الله ذهن البشر، يرون ان فكرة الصليب حكمة وليست جهالة، ليست ضعف بل بسالة.. لكن الصليب وهو طريق الله الخلاص، لكي تدخله، تحتاج ان تتواضع وتنكسر وتشعر بالاهانة... لان الله القدير العلي لا يقبل انسان متكبر ومتعجرف ومعتد بذاته...
لكن يسوع بعد ان اكمل عمل الفداء والتضحية، قام منتصرا وغالبا.. ومَن يقبله، يهتف منتصرا وغالبا ايضا. والمسيح ليس للمسيحيين فقط، بل طريقة الخلاص اعدها الله المحب لكل البشر...
- عدد الزيارات: 7223