الدرس السابع عشر: العناية الإلهية
يُعلمنا كتاب الله المقدس أن الله تعالى يعتني بجميع مخلوقاته ويسوس أمورها بصورة دائمة ومستمرة. وهذا التعليم أو هذه العقيدة تُعرف باسم العناية الإلهية. ولذلك لا يجوز مطلقا لأي إنسان أن يظن بأن الله الخالق ترك أمور الكون والعالم لتسير حسب رغبتها الخاصة بعد أن جاء بها إلى الوجود. لا يزال الخالق تعالى اسمه يُسيطر على جميع أمور العالم وكل شيء يوجد نظرا لإرادته السَنية ليس هناك أي طلاق بين عقيدة الخليقة وعقيدة العناية الإلهية ولا يمكن للإنسان أن يعتقد بالواحدة بدون أن يدين بالأخرى.
وهذه بعض الآيات الكتابية التي تُشير إلى عناية الله غير المنقطعة والدائمة في شؤون هذا العالم:
نقرأ من سفر أيوب: " لأجل ذلك اسمعوا لي يا ذوي الألباب: حاشا لله من الشر وللقدير من الظلم. لأنه يُجازي الإنسان على فعله وينيل الرجل كطريقة. فحقا أن الله لا يفعل سواء والقدير لا يُعَوّج القضاء. من وكَّله بالأرض ومن صنع المسكونة كلِّها؟ إن جعل عليه قلبه، إن جمع إلى نفسه روحه ونسمته، يُسلم الروح كل بشر جميعا، ويعود الإنسان إلى التراب" (34: 10- 15).
وبعد طوفان نوح قال الرب: " لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ أيام الأرض زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل لا تزال" (التكوين 8: 21و 22).
وعندما وفد بولس الرسول إلى برنابا إلى مدينة لسترة في آسيا الصغرى وقاما بمعجزة شفاء رجل عاجز الرجلين مُقْعد من بطن أمه جاء أهل المدينة الوثنيون وأرادوا أن يعبدوا خادمي المسيح فما كان منها إلا أن مزقا ثيابهما واندفعا إلى الجمع صارخين وقائلين: " أيها الرجال لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضا بشر تحت آلام مثلكم، نُبشركم أن تَرجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طُرفهم مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيرا: يعطينا من السماء أمطارا وأزمنة مثمرة ويملأ قلوبنا طعاما وسرورا" (أعمال الرسل 14: 15- 17).
وعندما جاء الرسول بولس إلى أثينا عاصمة اليونان ورأى انغماس الناس فيها في عبادة الأوثان وبخهم على ظلامهم الديني وأظهر لهم أن الله أن الله الخالق هو الذي يُدير دفة التاريخ وذلك بهذه الكلمات الشهيرة:
" أيها الرجال الأثينيون، أرى أنكم من كل وجه متدينون كثيرا. فإني بينما كنت أمر وأشاهد معبوداتكم وجدتُ أيضا مذبحا مكتوبا عليه: للإله المجهول. فذاك الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه، به أبشركم أنا. إن الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، إذ هو رب السماء والأرض، لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي. ولا تخدمه أيدي البشر، كأنه محتاج إلى شيء إذ أنه هو الذي يُعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء. وقد صنع من واحد كل أمة من البشر ليسكنوا على وجه الأرض كلها.
وقد حتم بالأوقات المعينة وبحدود أماكن سكناهم. لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدونه. مع أنه غير بعيد من كل واحد منا. لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد.
" كما قال أيضا بعض شعرائكم:
فإننا نحن ذريته-،
فإن نحن ذرية الله فلا ينبغي أن تظن اللاهوت شبيها بالذهب أو الفضة أو الحجر، مما يُنقش بصناعة الإنسان واختراعه. ولقد أغْضَى الله عن أزمنة الجهل، أما الآن فإنه يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا، لأنه قد حدد يوما سيدين فيه المسكونة بالعدل بإنسان قد عينه مقدما للجميع برهانا إذ أقامه من بين الأموات" (أعمال الرسل 17: 22- 31).
العناية الإلهية عقيدة كتابية ومن يقرأ الكتاب لا بد من أن يجدها في جميع أسفار كلمة الله. وهنا لابد لنا من التساؤل: هل تشمل سلطة الله المطلقة والكلية جميع ما في الوجود؟ أم هل هناك حالات أو ظروف لا يقدر الله تعالى أن يضع فيها سلطته وسيطرته موضع التنفيذ؟ نعود إلى الكتاب المصدر الوحيد للعقائد ونقول: إن الله لا يعرف أية موانع ولا يقف مكتوف اليدين لأي أية ظروف أو حالات. إنه قادر على كل شيء ويعتني ويسوس كل شيء، وإن حددنا سلطته أي إن وضعنا لها حدودا فإننا نكون بذلك منكرين الإله الحقيقي صانع السماء والأرض ومعتقدين بكائن هو أقل من الله.
ولكننا نثابر على التساؤل ونقول: ما هو موقف الله من الرجال الأشرار والملحدين؟ ما هو موقف الله تجاه إبليس وأعوانه الشياطين؟ هل يمكن لنا أن نقول إن الله يُظهر سلطته في حياة هؤلاء العاصين على إرادته والثائرين على جلاله؟ الجواب الذي نستقيه من الكتاب هو أن سلطة الله ظاهرة وواقعية حتى في حياة أولئك الذين يُنكرونه، حتى في حياة الشياطين. طبعا لا نعني أن الذين يستمرون على إنكار الله ووجوده والذين لا يقبلون الخلاص المجاني المُنادى به في الإنجيل إنهم سينجحون أو إنهم يفعلون ما يُرضي الله. ولا نقول بأن الشياطين تسرُّ بعمل مشيئة الله وخِدمته كما تقوم بذلك ملائكة السماء. ما نجزم به هو أن جميع الثائرين على الله من بشر وشياطين لا يمكنهم أن يخرجوا خارج النطاق المعين الذي رسمه الله لوجوده وأنهم في كثير من الأحيان يقومون بعمل مشيئة الله وذلك بالرغم من ثورتهم عليه تعالى.
لنأخذ مثلا أيوب الصديق. سمح الله للشيطان بأن يُؤذي أيوب الصديق في أمواله وعياله وفي صحته الجسدية ولكنه قال للشيطان كانت في إيذاء أيوب ماديا وروحيا ولكنه لم ينجح في ذلك. وفي النهاية خرج أيوب من محنته الشديدة وهو أكثر إيمانا بالله وأكثر التصاقا بربه وباريه. وكذلك يمكن الإشارة إلى كورش الفارسي الذي كان وثنيا ولكنه قام بتنفيذ إرادة الله في معاقبة الأمم الوثنية الأخرى في أيام ما قبل المسيح والتي كانت آثامها الكثيرة قد وصلت إلى حدها الأعلى. لا شيء هو خارج نطاق العناية الإلهية ولكن المؤمن يعلم أن هذه العقيدة يُحاربها عندما يسمع بها ولكنه مع كل ذلك يبقى تحت سلطة وسيطرة الله خالق السماء والأرض والمعتني بكل ما في الوجود.
- عدد الزيارات: 8152