Skip to main content

الإصحاح الثاني والأربعون: أيوب يتّضع تماماً - جواب أيوب

الصفحة 2 من 2: جواب أيوب

(ع 1- 6) جواب أيوب.

"فأجاب أيوب الرب فقال: قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر. فمن ذا الذي يخفي القضاء بكلام بلا معرفة!".

إنه أيوب نفسه، إنه هو الذي كان يحاول أن يخفي القضاء دون أن يكون عنده المعرفة الكافية ببواطن الأمور. إنه يعترف الآن بهذا، وهذا هو اعترافه العظيم.

"ولكني قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها". إلى أن يقول: "بسمع الأذن قد سمعت عنك".

أي أني سمعت عنك مجرد سمع، عرفتك معرفة موضوعية وليس معرفة شخصية. أما الآن فقد جعلت هذه المعرفة ملكي الخاص وقد طبقتها على نفسي وظروفي وحالتي فلا يسعني إلا أن أقول: "والآن رأتك عيني، لذلك أرفض (أي أكره نفسي) وأندم في التراب والرماد". والحق أننا نرى في هذا كله تلك النصرة الأدبية العظيمة التي أحرزها الرب في مواجهة الشيطان، ومواجهة أصحاب أيوب الثلاثة ومواجهة أيوب نفسه، فمن غير الرب كان يحتمل كل هذا الذي قاله أيوب؟ إن ما نطق به أيوب كفيل بأن يستفز أي واحد غير الله تبارك اسمه. وهكذا نرى بوضوح صلاح الله في وسط المعركة كلها.

رأينا كلام الرب الإضافي في الكلام الثاني وهو ليضع أيوب نفسه تماماً في التراب ويخرج من شفتيه الاعتراف الذي هو وحده يُرضي الرب ويكون بركة لنفسه، فأولاً يعرف قوة الرب الرفيعة فهو كلي القدرة ويستطيع أن يفعل كل شيء ثم يقتبس كلمات الرب (ص 38: 23، 40: 2) "اسألني من ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة" هنا الرب يوبخ أيوب لاستذنابه القاسي والمتهور ضد الرب والآن يعرف أيوب أن توبيخ الرب صحيحي والكل حق فيقول: نطقت بأمور عجيبة جداً، وراء إدراكي استمع لي الآن يا رب وأنا أتكلم مرة أخرى يقتبس كلام الرب وقال (ص 40: 2) "أسألك فأجبني" هنا إذاً جوابي. فهو يجيب – سمعت عنك بسمع الأذن أما الآن قد رأتك عيني. أرفض وأندم في التراب والرماد.

وجهاً لوجه مع قوة الرب وقداسته أذلت أيوب في التراب والرماد ولا يتفاخر أي مخلوق في محضره فقد ولّت دعوى براءته من البر والإحسان وكل التفاخر عن عظمته السابقة يرى نفسه وقد تجرد من الكل يقف في محضر الرب في عُري وخجل لا يقول أنه يرفض الآن ما تكلم به فمه بل نفسه وشر كبرياء قلبه. يأتي إلى الرب الآن فيرفعه ويقيمه للبركة والمجد. هذا المشهد العظيم يتوافق مع رؤيا أشعياء عندما رأى الرب وصرخ "ويل لي إن هلكت لأني إنسان نجس الشفتين" (أشعياء 6: 5).

لقد انحلّت أحجية أيوب، سمح الله بالكرب أن يحل على عبده أيوب ليس فقط ليستعلن قوته بل لخير أيوب، ليجذبه إلى داخل مكان القرب والبركة وذلك المكان هو التراب "في التراب والرماد" هذا المكان الذي يخص كل قديسي الله.

هذا الجزء هو بمثابة حلقة الوصل بين القسم الذي أمامنا والقسم الرئيسي الأخير للسفر كله. ومن حيث أنه يعرض علينا أثر أقوال الرب على أيوب فهو لذلك تابع للقسم الرابع ولكن من حيث أنه مقدمة تمهيدية لخاتمة السفر فهو تابع للقسم الخامس الموجز. وإننا لندرس استجابة أيوب هذه بوصفها تعبيراً عن الأثر الغامر الذي تركته في نفسه أقوال الرب.

مرة أخرى يتجاوب أيوب مع أقوال الرب الجارحة المذللة، ومرة أخرى يردد اعترافه بطريقة كاملة، وهو يقر بقدرة الله الكلية، وهو يقرّ بأنه تعالى لا يمكن أن تتعطل مقاصده التي تعلن قوته وحكمته وصلاحه كما تعلنها أفعاله تماماً بتمام، أجل، فهناك تسليم كامل، في اختلاف كلي عن جميع ما قاله من قبل عن الله.

إذ يقتبس من أقوال الرب، يساءل نفسه: "من ذا الذي يظلم المشورة؟ من يجرؤ أن يلقي ظلاً على القدير؟ في طرقه تعالى أسرار كما في كل الخليقة والعناية، لكن التمرد على هذه الأسرار، أسرار المشورة الإلهية، لا يكسب شيئاً، وهو كإنسان بلا معرفة عن حقائق الطبيعة الأولية بمعناها الدقيق، قد نطق بما يجاوز أفق الإدراك المحدود، فهو إذاً قد تكلم بغباء، وكم هو يختلف بذلك عن المرنم التقي "عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها" (مزمور 136: 6). ذلك بأن أيوب اقتحم أمور الله وتجاسر أن يتكلم شراً عن الصلاح الإلهي والقدرة الكلية.

يستمر أيوب في تخصيص أقوال الرب لنفسه فيعود يتساءل مع نفسه: "من ذا؟" "استمع" "وأنا أتكلم" كأنه يبدي استعداده لأن ينحني أمام هذه الأسئلة محتقراً ذاته، وذلك عن طريق تكرارها. ثم يجيب على سيده الإلهي الذي يسأله: وياله جواباً! هو الجواب الوحيد الذي يمكن أن تقدمه الكبرياء البشرية لله. "بسمع الأذن قد سمعت عنك" إن أيوب كان بوجه عام قد حصل على تعليم سليم، غير أنه إنما كان قد تعلم عن الله "والآن رأتك عيني". لقد واجه الله، إن لم يكن عياناً (ولو أنه كانت في الفلك مظاهر مجده المرعبة التي أحسها أيوب) فعن طريق الإدراك النفسي لله بعقله المستنير وخاصة بالضمير، فقد اقترب الله من أيوب، وهذا من جهته أحس بتلك القداسة التي لا توصف وبالقوة الإلهية، مرة احتواه مجلس الناي وقد احتفظ فيه بمركزه أكثر من أصحابه. وفي حضرة الله لا يمكن لمخلوق أن يفتخر، وقد وجد نفسه أخيراً في تلك الحضرة المجيدة المقدسة. وعندئذ تعرى من كل "ثوب عدة" بره الذاتي، ووقف هناك في كل عري الكبرياء والتمرد على الله "لذلك أرفض" – يرفض ماذا؟ الماضي كله، كل ريبة ظالمة، كل اتهام مرير كل يأس، كل ندبة حائرة؟ بلى وأكثر – إنه يرفض مصدر هذه جميعاً "أرفض نفسي"! إذ من يشك أن توبة أيوب قد تجاوزت مجرد الحكم على أقواله، وإنه حكم على ذاته؟ ومن هنا، فإن عدم تحديد ما يقع تحت الرفض، يؤكد فكرته. وكأن لسان حال أيوب يقول للرب! سوف أبدو أمام جميع الناس، وعلى هامتي الوصف الذي ارتضيته لنفسي "أرفض".

وهكذا أخذ المكان الذي يليق به – المكان الذي كان بالحق قد أخذه ظاهرياً عند البداية. أي افتراش التراب والرماد. هو النادب الحق، هو النادم الحقيقي، يندب نفسه، يندم عن نفسه، حزن وندامة أعمق بكثير من مجرد الاعتراف بالأعمال والأقوال.

أجل وهي أقوال نستطيع أن نقرر أن الرب طالما اشتاق أن يسمعها فلم يكن قد سمعها في أيام رخاء أيوب ونجاحه، ولو أن تقواه لم تكن أمراً مشكوكاً فيه. وإن لنا أن نقول: مهما تكن أهداف الشيطان في هذه الآلام جميعاً التي وقعت على أيوب، فإن غاية الله أن يسحب من فم أيوب وعواطفه هذا الاعتراف. ولماذا؟ هل لإذلاله؟ كلا بل لكي يعطيه سبباً للافتخار الصحيح. لكي يمنحه الامتياز بأن يشاهد مجد الرب، وألا تعود السحب لتغيّم على نفسه! فهل كان الاختبار جديراً بالاهتمام وله قيمته؟ هوذا جواب واحد ليتنا جميعاً ننطق به.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 9254