Skip to main content

الإصحاح السادس والثلاثون: معاملات الله مع الناس

إننا نستطيع أن نقدم مخططاً عن الإصحاح السادس والثلاثون الذي نرى فيه طرق الله مع الناس بتقسيمه إلى الأجزاء الآتية:

(ع 1- 4) تمهيد

(ع 5- 7) عناية الله بالأبرار.

(ع 8- 15) هدف الضيق.

(ع 16- 18) التطبيق على أيوب.

(ع 19- 21) تحريضات.

(ع 22- 25) عظمة الله في أعماله برهان على استقامته.

(ع 26- 29) كما تتجلى في السحب وفي الأمطار.

(ع 30- 33) آيات حضوره تعالى.


(ع 1- 4) تمهيد.

في ختام الجزء السابق من الخطاب لم توجه الدعوة إلى أيوب لكي يتكلم، غير أن أليهو يستطرد حتى النهاية. ويرجو من أيوب أن يدعه يتكلم نيابة عن الله، فهو حينئذ يحمل المعرفة من ذاك الذي يسكن بعيداً. إن كل غايته، كل هدفه المستمر، هو أن يبرره تعالى. وإذ يفعل هذا فإنه سيتكلم بمعرفة "صحيحة" ونحن لا نحس نفخة متكبرة مردها إلى مؤهلات شخصية، بل نتبين إدراكاً خطيراً بأنه – أي أليهو – يتكلم نيابة عن الله.

أخبر أليهو أيوب في العدد الأخير من الإصحاح السابق بأنه فتح فمه بالباطل وكثرة كلامه بلا معرفة. وبذلك فسر لأيوب لماذا لم يجب الله وليس هناك إجابة من أيوب لذا يستمر أليهو "أنسب براً لصانعي".

ويخبر أيوب "صحيح المعرفة عندك" كيف استطاع أن يقول هذا؟ لأن أليهو عرف في التعليم عن الرب بروحه، يتكلم فيه لأيوب وكل ما قاله أيوب كان باطلاً. مع كون الله قديراً فهو لا يرذل أحداً.


(ع 5- 7) عناية الله بالأبرار.

إن أليهو – في عبارة واحدة – يكتسح الشكوك الغير المقدسة التي كان أيوب يحتضنها "هوذا الله عزيز ولكنه لا يرذل أحداً" فمع أنه تعالى غير محدود القوة، لكنه ينظر بعطف إلى أضعف خلائقه. هناك ناحيتان مطلقتان، طرفان متناقضان، يتجلى فيهما الله: العظمة اللانهائية، والصغر اللانهائي. فكم يعزينا الفكر بأنه تعالى "لا يرذل أحداً" لأن عظمته لم تكن على الإطلاق فرصة للتحقير أو السخرية. وحكمته قوية بلا حدود ولا قياس. لكنه لا يستخدمها ضد المساكين الضعفاء. لا يتجاهل الخطيئة، بل هو أخيراً لا يستبقي حياة الأشرار، بيد أننا نثق أنه بالعدالة الكاملة يتعامل في جميع الضيقات التي يسمح بها. فإن الأبرار موضوع عنايته، لا يحول عينيه عنهم. هم آمنون كما لو كانوا ملوكاً، أبداً يرتفعون. وهنا جواب مجادلات أيوب كلها. فبوصفه إنساناً باراً. ليس ما يحمله على الخوف. هو في أمان، وفي الوقت المعين سوف تثبت ويرتفع. ولقد كان إيمانه يبصر هذه الحقيقة من خلال الظلمة التي اكتنفته، وهنا تتقرر مرة وإلى الأبد.

"هوذا الله عزيز (أي قوي) ولكنه لا يرذّل أحداً". يا له من قول عجيب قد يظن الناس، وأكثرهم يظنون فعلاً أنه بمقدار ما يعظم جلال الله بمقدار ما يقل اهتمامه بأصغر شيء على الأرض. ولكن العكس هو الصحيح. فالله يظهر قوته وعظمته وجلال اقتداره باستطاعته السيطرة على كل شيء واهتمامه وإظهار عنايته بأصغر حشرة في الوجود.


(ع 8- 15) هدف الضيق.

إذاً فلماذا الضيق؟ هؤلاء الأبرار الذين هم أهداف عناية الله، كم ذا "يوثقون بالقيود ويؤخذون في حبالة الذل؟" فهل هذا مناقض لما قاله أليهو؟ هو كذلك بالنسبة لأيوب إذ لم يستطع أن يتبين في قلبه إمكانيات الشر، تلك الكبرياء التي هي معصية حقيقية مثل المساوئ والشرور البارزة التي حاول الأصحاب أن ينسبوها إلى أيوب ظلماً. على أن مقصد الله من الذل والتأديب هو يطّلع الإنسان على مجفوء قلبه الشرير، ويفتح أذنيه لإنذاراته ويحوله عن الكبرياء. فإن قبلوا واتضعوا فإن آلامهم – إن آجلاً أو عاجلاً لابد أن تنتهي، حتى في هذه الحياة. وإلا فالتأديب يلازمهم إلى النهاية، فيضربون كما بحربة يده.

طبيعي أن أليهو لا يستطيع أن يتجاوز الحياة الحاضرة. لأن الحجاب لم يرفع بعد. ذاك الذي يفصل الحاضر عن المستقبل، أما نحن فنستطيع بالنور الذي لنا أن نتحدث عن "خفة ضيقتنا الوقتية" ولو ظلت طيلة العمر. إن الآلام التي من أجل البر، التي من أجل المسيح، عوض أن تكون سحاباً وظلاماً، فإنها "روح المجد والله" (1 بطرس 4: 14). إن أليهو – بالضرورة – لم يكن في مقدوره أن يتكلم عن هذا. إنما هو يشير إلى المبادئ العظيمة التي تحكم البؤس الحاضر: أي رفض المرائي الذي يغذي غضبه بدلاً من أن يصرخ إلى الله باتضاع في طلب الرحمة، هو إنما يضاعف الغضب والمحتقر سوف يلاقي قضاءه مع كل الدنسين، لكن الله يخلص المتألم المتضع. ينجيه في ذله، والذل "ينشئ" له بركة، "إنه لا يحي الشرير" فالإنسان هو موضوع عنايته الكبرى، ولكنه يهتم بكل شيء آخر. "بل يجري قضاء البائسين. لا يحول عينيه عن البار". وهذه العبارة الأخيرة هي محور هذا الإصحاح.

ففي (ص 33) كان الموضوع "الإنسان" بصفة عامة أما هنا فالموضوع هو الإنسان "البار" بصفة خاصة. فالتدريب الذي يجريه الله مع الإنسان يحيطه به لكي يريحه ويقربه إلى نفسه يتجه بصفة خاصة نحو الإنسان البار لكي يحفظه مستقيماً حتى يثبت أنه إن كان الله قد برره فلا يكون ذلك لإهانته وجلب العار على مجده، لأنه في الواقع شيء مريع أن يضل قديسي الله. "لا يحول عينيه عن البار بل مع الملوك يجلسهم على الكراسي (أو العرش). فيرتفعون "إن أوثقوا بالقيود، إن أخذوا في حبالة الذل فيظهر لهم أفعالهم. ومعاصيهم لأنهم تجبروا" وأحياناً يقع الملوك فعلاً في مثل هذه الأحوال المذلة "ويفتح آذانهم للإنذار" والكلام هنا يدور حول الملوك بصفة خاصة. فيقول: "أما فجار القلب فيذخرون غضباً، لا يستغيثون إذا هو قيدهم، تموت أنفسهم في الصبا، وحياتهم بين المأبونين".


(ع 16- 18) التطبيق على أيوب.

أليهو يطبق هذا المبدأ على أيوب. فإن الله يريد أن يعامله هكذا، فيرده إلى البركة والهناء الأمر الذي سينفذه سريعاً. غير أن أيوب وقف في سبيل إتمامه بما نطق به من اتهامات دنسة ضد الله هذه هي "حجة الشرير". مسلكهم في اتهام الله، فلا غرابة أن يمسكه القضاء، "الحجة والقضاء يمسكانه" أي أن إدانة الإنسان لله (وهذه هي حجة الشرير كما قلنا) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقضاء الذي يقع عليه. إن العدد (18) ترجم على هيئات متعددة. فهو ذا الترجمة الإنكليزية المألوفة تقول: "لأنه يوجد غضب فاحذر لئلا يأخذك بضربة، وحينئذ لا تخلصك الفدية العظيمة". وترجمة أخرى تقول: "لا يقودنّك الغضب إلى الهزء، وغضب الفدية لا تخدعنّك". وأصحاب هذه الترجمة تعتبر "الفدية" التواضع. أي أنه ثمن الخلاص. غير أن الفكرة ملتوية. كما أن القول بأن عظمة الفدية لا يجب أن تغلق عيني أيوب عن حقيقة صلاح الله، فكرة بعيدة عن الواقع. وبالإجماع نرى أن التحذير الخطير الذي تسوقه الترجمة الإنكليزية المألوفة يلاءم المناسبة. فإن أليهو يحذر أيوب من إصراره المتكبر على اتهام الله – الأمر الذي لابد أن ينتهي إلى نتيجة واحدة – إلى الموت فالأمر متعلق بالحياة الحاضرة. ولذلك فليحذر أيوب من "الخطيئة التي للموت" ولو بغير نور العهد الجديد. فمن الواضح أن هناك تأديباً لشعب الله قد يصل إلى مشارف الموت، بل إلى الموت، إن هم فشلوا في الحكم على أنفسهم "من أجل هذا فيكم... كثيرون يرقدون" فالعناد من جانب أيوب، عناده في رفض التذلل والاتضاع، سينتهي إلى هذه النتيجة.


(ع 19- 21) تحريضات.

إن ترجمة العدد (19) طالما كانت موضع نقاش. فالترجمة الإنكليزية المألوفة، مع بعض التراجم الأخرى، تربطه بالموضوع السابق أي ثمن الفدية العظيمة. وواحد من علماء الكتاب المقدس يربطه بالأقوال التالية. فيقول "هل صراخك يبعدك عن الضيق، وكل جهود القوة؟" وأرى أن في هذا الموضوع معنى متطابقاً لأن أيوب كان يصرخ إلى أقصى حدود قوته ولكن دون عون. كان يشتاق أن يوافيه ليل الموت كما يوافي جميع شعوب الأرض. إذاً فليحذر وبالحري ليخضع للتأديب والذل بدلاً من أن يختار طريق الكبرياء.


(ع 22- 25) عظمة الله في أعماله، برهان على استقامته.

بديع جداً هذا الانتقال من الأعداد السابقة إلى اللاحقة. وأنت تلاحظ أن كل فقرة من الثلاث فقرات الأولى (ع 22، 26، 30) تبدأ بكلمة "هوذا". أي إله عظيم مثل الله؟ من مثله معلماً: سواء في ذهن الإنسان أو في الطبيعة؟ أو بمثله تلصق تهمة الشر؟ هلم بالحري نعظم عمله – الذي حوله تدور أغاني الناس. ومع أن الناس يبصرون المشهد من بعيد، وبالكاد يفهمون دلالاته، فإن جميع الأمم، من العمالقة ثقافة أو الأقزام جهلاً وبدائية، يحملقون في المشهد في دهشة وإعجاب.


(ع 26- 29) كما تتجلى في السحب وفي الأمطار.

ومرة أخرى يعلن أليهو، أو يعترف بعظمته تعالى وسرمديته. كما نسمعها في تكرار الضباب والسحاب والمطر والعاصفة. فمن خزان المياه العظيم. سواء أعلى الجلد أم تحته. يجعل المطر يسح في قطرات لطيفة تقطر على الناس بوفرة "لأنه يجذب قطرات الماء، تسح مطراً من البخار الذي يصنعه، الذي تصببه السحب وتقطره على الإنسان بوفرة". وهنا نتساءل أيها الأخ القارئ: أيستطيع العلم الحديث أن يقرر بدقة أكثر من هذه، ما هو مصدر المطر؟ وهل يتساوى جمال الوصف الإلهي مع الشاعر الذي يقول في وصف المطر "أنا ابنة الجلد والماء"؟

غير أن العلم والشعر معاً يهملان الله: إن كان الناس لا يرونه فما هي قيمة الباقي؟ أي نفع نجتنيه في الحديث عن الجاذبية والتمدد والتكثيف إذا كنا لا نبصر بسط أو نشر الغيوم (أي شقها كما في الترجمة العربية). أو قصف الرعد في مظلته؟ وكم هو صالح، تبارك اسمه! فلو أنه فتح طاقات السماء دفعة واحدة، فلابد من طوفان يكتسح كل حياة. فعوض ذلك، يجعل المطر قطرات قطرات، تسح على ما تحتها إنعاشاً لها. هكذا الأمر فيما يتعلق بتأديباته، فما الألم وما الحزن إلا بركات مقنعة للإيمان.

"إن السحائب التي تخشونها كثيراً"

"زاخرة بالوفير من الرحمة. ولسوف تقطر"

"بركات هامية على رؤوسكم"


 (ع 30- 33) آيات حضوره تعالى.

وهج النور ليس إلا رداء يتشح به تعالى (مزمور 104: 2). ورجع ليس هو إلا صوت الجالس فوق المياه الكثيرة (مزمور 29: 3-10) من بين يديه طعام المعوز. وقضاء المتكبر، النور من محضره تعالى يضرب إلى ذات أعماق البحر، يداه، يدا القوة. ترسلان النبال كأنها سهام تعرف الهدف "يغطي كفيه (أو يديه) بالبرق (أو النور) ويوجهه إلى حيث ينبغي أن يضرب" (ع 32). رعدة هو الصوت الجبار العاتي الذي يخبر ويعلن حضوره، والماشية الجافلة تنبئ أنه قريب!" من البهاء الذي قدامه تعبر سحبه الكثيفة.. أرعد الرب في السموات والعلي أعطى صوته.. أرسل سهامه فشتتهم.. فظهرت أعماق المياه. وانكشفت أسس المسكونة" (مزمور 18: 10-15).


معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح السادس والثلاثون

ص    ع          الكلمة                      معناها

36: 3            نكر        :     أمر قبيح - مصيبة.

36: 7            أبداً        :     (ص 14: 20).

36: 8           حبالة       :     (ص 18: 10).

36: 12         الحربة       :    آلة حديدية قصيرة محددة الرأس.

36: 14         المأبونين     :    الشواذ جنسياً (خطيئة سدوم).

36: 16         رحب      :     وسع.

36: 16         حصر       :    الضيق والإحاطة.

36: 18         صفقه       :    ضرب اليد على اليد في البيع.

36: 27         قطّار        :    المطر قطرة قطرة.

36: 27         تسّح        :    تسيل من فوق، تصب صباً غزيراً.

36: 29         يعلل        :     علل الشيء بين علته وأثبته بالدليل.

36: 29         قصيف     :    قصيف الرعد، اشتداد صوته.

36: 30         اليم        :    البحر.

  • عدد الزيارات: 19004