Skip to main content

الإصحاح الثلاثون: هوان الحاضر - المستهزئون به التاعسون

الصفحة 2 من 9: المستهزئون به التاعسون

(ع1-8) المستهزئون به التاعسون.

إذ نتقدم إلى هذا الإصحاح نجد قصة مختلفة كل الاختلاف هنا يقول أيوب "وأما الآن فقد ضحك عليّ أصاغري"، ويمكننا أن نتصور كم كان ذلك مؤلماً لرجل كان يعيش إلى حد كبير على شهادة الغير عن أعماله العظيمة وما يظنه الناس فيه من أفكار سامية.

"الذين كنت أستنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي". آه، يا أيوب كم أنت لاذع في أقوالك. وكم تستطيع أن تضرب بعمق إذا أحسست بأنك مهان! لقد كان يستنكف أن يجعل آباءهم مع كلاب غنمه! فقط لنتأمل في هذا. وهو يعطينا السبب فيقول "قوة أيديهم ما هي أيضاً لي؟" أي ما فائدة قوتهم لي. إن أيوب كان رجلاً عاقلاً وإذا كان عنده عبيد فإنهم كانوا من العبيد الذين يستطيعون أن يؤدوا واجبهم على الوجه الأكمل. ولكن كما يحدث عادةً فإن تعساء العالم وفقراءه المعدمين تجدهم دائماً من الضعف البدني بحيث لا يستطيعون بسهولة أن يؤدوا عملهم اليومي حسناً وكل ما يؤدونه إنما يؤدونه بكيفية تثير كل من ينظر إليهم ولذلك فهو يقول "في العوز والمحل (الجدب) مهزولون عارقون اليابسة (البرية) التي هي منذ أمس خراب وخربة الذين يقطعون الملاح (نبات حامضي يأكله الفقراء) عند الشيح وأصول الرتم خبزهم (أي يصنعون خبزهم من جذور نبات الرتم وهو أمر يلجأ إليه الفقراء في أيام القحط والمجاعات) من الوسط (وسط الناس) يطردون يصيحون عليهم كما على لص".

كانوا في منتهى العار والشنار وما كان أيوب ليقبل بحال من الأحوال أن يستخدم واحداً منهم بين عبيده. كان يسّره جداً أن يعطيهم طعاماً إذا كانوا جياعاً. وإذا كانوا في حاجة إلى كساء كان يمنّ عليهم بذلك أيضاً. ولكنه كان يستفظع جداً أن يضحك عليه أمثال هؤلاء الناس أو أن يسخروا من آلامه ولم يكن الأمر قاصراً على ما يفعله أولئك الناس بصفة عامة بل إن الصغار أيضاً كانوا يحاولون أن يعرقلوا خطواته المتداعية المترنّحة لأن باطن قدميه كانت مضروبة بالقروح- من هامة الرأس إلى باطن القدم، ليس فقط كل عصب مضروباً متألماً بل إن الدود ذاته بدأ يأكل فيه وهو لا يزال حياً، من خلال جروحه وأحباطه الكثيرة. إنها كانت حالة مريعة حقاً. ولكن ما هذا بالمقارنة مع الآلام النفسية؟ أيظن أحد أن الرسول بولس لم تكن له آلام نفسية أكثر جداً من آلامه البدنية؟ لقد تألم كثيراً هذا الرسول المغبوط من إخوة كذبة، ولا شك أنه تألم كثيراً من إخوة حقيقيين- وربما كانت آلامه من هذه الناحية أكثر من آلامه من ناحية الأخوة الكذبة وإن اختلفت في نوعها.

"للسكن في أودية مرعبة وثقب التراب والصخور بين الشيح (الشجيرات العليق) ينهقون" إنه يأبى أن يقول أنهم يتكلمون بل ينهقون كالحمير (تحت العوسج شجرة الشوك) ينكبّون. "أبناء الحماقة بل أبناء أناس بلا اسم" أي أنهم منحدرون من آباء محتقرين مثلهم. "سيطوا من الأرض (أي طردوا من الأرض ضرباً بالسياط".

لقد كانت أقوال أيوب عن عظمته الغابرة، وصفاً على إشفاقه الإحساني من أجل الطريد من البؤساء الذين كان يؤدي لهم حق العزاء والتشجيع وإذ يتجاوز الماضي إلى الحاضر يبدو أنه بادلهم المواقف. وبدوره يتحدث عنهم بأسلوب الرثاء ولكن في سخرية عميقة. الكبرياء إذاً هي التي تتحدث عنهم "الذين كنت أستنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي" لقد كان أشياخهم تحت احتقاره، والآن يضحك عليه الأحداث، من يصغرونه أياماً. والأعداد التالية تصف هؤلاء الأشخاص البؤساء الذين يتعاظمون عليه. فهم ضعاف، عاجزون، لا نفع منهم- كالشيخوخة العاجزة. إذ هم مهزولون من الجوع فإنهم يقضمون جذوع الغاب ("أصول الرتم") الذي يطلع في البادية التي هي منذ أمس خراب وخرب وقد كفت عن أن تعطي الإنسان طعاماً حقيقياً، وقد صار الملاّح والشيح طعامهم. هؤلاء البؤساء الحقراء هم يسخرون اليوم من ذاك الذي كان يوماً ما عظيماً. وإذ هم مطرودون من بين الناس كلصوص، يتخذون مساكنهم في أودية وخفر (ثقب التراب) ينهقون كالبهائم والوحوش. يسكبون عليه تحقيرهم! إنها لصورة مرعبة، تذكرنا بذاك الذي قال مرة بروح مغايرة لروح أيوب "أغانيّ شرابي المسكر" (مزمور 69: 12). أما أيوب فلسنا نرى فيه تحولاً إلى الله إزاء مثل هذه المعاملة الظالمة. واضح أن الطعنة التي أصابت كبرياءه. حين سخر منه السوقة الغوغاء، هي أعمق قطعة من آلامه الذهنية. لقد وصف من قبل (ص24) أشخاصاً مثل هؤلاء كمثل على النصيب الغير المتعادل الذي يهبط على الناس، ومثّل أيضاً على ظلم الأشرار الناجحين. لكنه في إصحاحنا لا يدافع عن هؤلاء الناس المدوسين، إن نفسه تتلوى تحت تحقيرهم. هي صورة للكبرياء محزنة، الكبرياء التي تزداد مرارة وهي تناقش وتتأمل في أخطائها.

هو أغنيتهم وأضحوكتهم
الصفحة
  • عدد الزيارات: 17006