الأصحاح السابع
"اَلصِّيتُ خَيْرٌ مِنَ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ وَيَوْمُ الْمَمَاتِ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ الْوِلاَدَةِ" (ع 1)
بين هذا الفصل والفصول السابقة مسافة كبيرة وكأنها وقفة طويلة هادئة في تفكير الحكيم. في هذه المرة يبحث عن الخير في الحياة عن طريق السلوك بحسب الحكمة, متحولاً عن الولائم وحياة التنعم إلى ما هو عكس ذلك, ومع أنه لم يكن لسليمان نور العهد الجديد المبارك غير أن هناك في ذهنه كانت سبع مفارقات, استطاع بنور إلهي سطع في ذهنه أن يميز الأفضل بينها:
1- الصيت خير من الدهن الطيب (ع 1)
2- يوم الممات خيرٌ من يوم الولادة (ع 1)
3- الذهاب إلى بيت النوح خيرٌ من الذهاب إلى بيت الوليمة (ع 2)
4- الحزن خيرٌ من الضحك (ع 3)
5- سماع الانتهار من الحكيم خيرٌ من سماع غناء الجهال (ع 5)
6- نهاية أمر خيرٌ من بدايته (ع 8)
7- طول الروح خيرٌ من تكبر الروح (ع 8)
"الصيت الطيب خير من الدهن الطيّب": الدهن الطيّب نوع من التنعمات عند الأغنياء كما نسمع في تقرير عاموس "الشَّارِبُونَ مِنْ كُؤُوسِ الْخَمْرِ وَالَّذِينَ يَدَّهِنُونَ بِأَفْضَلِ الأطياب" (عا 6: 6). والجامعة يقرر هنا أن الصيت أو الاسم الحسن أو الذكرى العطرة في حياة الإنسان أفضل من أعلى تنعمات الغنى, كما يقرر أيضاً في أمثاله "الصيت أفضل من الغنى العظيم" (أم 22: 1).
وعندما نرجع للكتاب نجد أن واحداً فقط هو الذي يقف فريداً في كل الوحي هو الذي كل حياته في كل تفصيلاتها تم فيه القول "لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى" (نش 1: 3) لذلك لا توجد حياة حقيقية عطرة إلا بالارتباط العميق به.
إن كان التعلق بداود والتكريس له كمسيح الرب هو الذي جعل لأبطاله أمثال أبيشاي وبناياهو اسماً عظيماً, فبالأولى كثيراً التكريس للمسيح الحقيقي ابن داود ورب داود. ما الذي جعل صيتاً حسناً وذكراً أبدياً للكثيرين, ممن كان يمكن أن يطويهم النسيان إلى الأبد؟.
فهل كنا نسمع شيئاً عن الإنثي عشر رسولاً لولا أنهم تركوا كل شيء وتبعوا يسوع؟ وأي فخر أو مجد كان يمكن أن يتصل باسم شاول المضطهد اليهودي الطرسوسي بالقياس إلى اسم بولس رسول ربنا يسوع المسيح إلى الأمم. والمؤمن حصل في شخص المسيح على كتابة اسمه في سفر حياة الخروف قبل تأسيس العالم, لكنه أيضاً قد وجد في المسيح, الحياة الجديدة العطرة, الصيت الحقيقي الحسن. وعلى قدر ما تزداد شركتنا معه يزداد تمتعنا بهذه الحياة العطرة عملياً "نحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ" (2 كو 3: 18). وواضح المباينة بين المدرستين, الصيت الحسن حياة المسيح في البذل والتضحية في تواضع ووداعة وإنكار ذات لإسعاد الآخرين, ومدرسة الدهن الطيّب- مدرسة التنعم والتمتع وتعظيم الذات.
"يوم الممات خير من يوم الولادة"
ما أروع كتاب الله. لو جاء هذا التقرير بمفرده كأنه عام لكل البشر لكان لغزاً غامضاً, لكن شكراً لله لأجل دقة الوحي وكماله المطلق وروعة ترتيب أفكاره وإذ قبل هذا النص الخاص بيوم الممات, يأتي الإعلان عن المدرستين, مدرسة البذل والتضحية بكل شيء لأجل إسعاد الآخرين. ومدرسة الأنانية والتمتع بكل شيء ولا حساب للآخرين. طوبى للنفس التي انتقلت بالإيمان بدم المسيح إلى مدرسة الصيت الحسن- مدرسة حياة المسيح بالحصول على فداء المسيح وطبيعته أي الخليقة الجديدة وهكذا يأتي يوم الممات يكون التقرير الصادق "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً" (في 1: 23)
"اَلذِّهَابُ إِلَى بَيْتِ النَّوْحِ خَيْرٌ مِنَ الذِّهَابِ إِلَى بَيْتِ الْوَلِيمَةِ لأَنَّ ذَاكَ نِهَايَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ وَالْحَيُّ يَضَعُهُ فِي قَلْبِهِ" (ع 2).
المعنى الحرفي قائم إذ أن الولائم والأفراح التي من إنشاء العالم وبحسب مبادئه, تعمل في القلب البشري عمل الخمر- حتى وإن كانت خالية من الخمر , فيزداد غرور الإنسان بمباهج العالم ويتعمق أكثر في حلم هذا الزمان القصير, وينسى ويتجاهل أكثر نهايته وأنه ضيف على الأرض. وحياته على الأرض ظل وبخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. وهذا هو قصد العدو وقد فطن رجل الله المبارك أيوب إلى هذه الحقيقة وأدرك أن ولائم أولاده السبعة ربما تكون فعلت فعلها الشرير في إبعاد قلوبهم عن الله وعن الأبدية لذلك كان يبكر في الصباح ويقدم محرقة لأجل كل واحد منهم لتقديسهم لذلك يقرر سليمان هنا أن الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة لأن بيت النوح سيذكّر الإنسان بنهايته المباغتة والحي هو الذي يستفيق ويضع هذه الحقيقة في قلبه لذلك ما أروع طلبة موسى "إحصاء أيامنا هكذا علمنا فنؤتي قلب حكمة" (مز 90: 12) وما أروع طلبة داود "عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَاراً وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِل" (مز 39: 4). لكن هناك المعنى الروحي العميق.
بيت الوليمة هو العالم في أغانيه وطربه وملذاته وتمتعاته كما ابتدأه قايين, أما بيت النوح هو ما يبدو ظاهرياً في حياة أولاد الله "كحزانى ونحن دائماً فرحون" (2 كو 6: 10) ففي انفصال القديسين عن ملاهي هذا العالم من سينما وأغانٍ..... الخ، كأن بيتهم بيت النوح لكن في الحقيقة لهم في القلب الفرح الذي لا يُنطق به ومجيد (1 بط 1: 8)
"اَلْحُزْنُ خَيْرٌ مِنَ الضَّحِكِ لأَنَّهُ بِكَآبَةِ الْوَجْهِ يُصْلَحُ الْقَلْبُ" (ع 3)
أي أنه لا علاج للقلب إن لم يكن هناك حزن حقيقي على حالتي كإنسان تجاهلت خالقي واحتقرت محبته, إذ أتذكر ذلك وأندم عليه من القلب, حينئذ تبدأ التوبة تدخل إلى فلبي وهذه هو معنى تطويب الرب للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات, وتطويبه للحزانى لأنهم يتعزون, وفي كل مشهد توبة نجد حزناً عميقاً (راجع مشهد الابن الضال- لو 15, والمرأة الخاطئة- لو 7, وإخوة يوسف- تك 42- 44).
وما أجمل التعبير "يُصلح القلب" أي يطيب القلب ويذهب عنه الهم. قد محا عند الصليب دم ربي إثمي وعن القلب الكئيب زال كل الهم إذ تتبدد الشكوك والمخاوف من المستقبل القريب والمستقبل الأبدي, إذ تتيقن النفس أنها بالتصاقها بيسوع الرب المخلص تصبح في صحبة يسوع عمانوئيل- الله معنا. فهو معي كل الطريق نعم وأعطاني سلام ينقذني من كل ضيق مخلصاً إلى التمام.
"قَلْبُ الْحُكَمَاءِ فِي بَيْتِ النَّوْحِ وَقَلْبُ الْجُهَّالِ فِي بَيْتِ الْفَرَحِ" (ع 4)
هنا نرى نتيجة مباركة أخرى للتوبة إذ بها ينتقل الإنسان إلى فريق الحكماء "وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (1 كو 1: 30) ولهذا نرى خمس عذارى حكيمات يمثلن دائرة التائبين المؤمنين الحقيقيين, وخمس عذارى جاهلات يمثلن الارتباط الأسمى بالمسيح بدون توبة. أما التعبير بأن قلب الحكماء أي المؤمنين في بيت النوح أي في دائرة البكاء المقدس على حالة غير التائبين المحيطين بهم الذين في جهل يندفعون إلى ملذات العالم (بيت الفرح)
"سَمْعُ الاِنْتِهَارِ مِنَ الْحَكِيمِ خَيْرٌ لِلإِنْسَانِ مِنْ سَمْعِ غِنَاءِ الْجُهَّالِ" (ع 5)
وهذه نتيجة مباركة ثالثة, إذ أن النفس التي حصلت على التوبة تُسرع على ما ينقي القلب والفكر لكي تستقيم الخطوات وتسير في ذات خطوات الرب المجيدة (1 بط 2: 21). ولن تجد النفس من ينتهر الاعوجاج فيها بإخلاص واستقامة إلا الكتاب المقدس هذا هو الحكيم الحقيقي لأنه كتاب الله- الحكمة الأزلي. صحيح أنه كتاب مكتوب على ورق لمن ما أبعد الفارق بينه وبين كل كتب العالم. ما أروع تسجيل الروح القدس عن الكتاب كما لو كان شخصاً يقول ويرى ويغلق. أولاً: الكتاب يقول أو "ماذا يقول الكتاب" فهو كتاب يُقرأ لكن ما أروع صوته (عب 4: 12, ارميا 23: 23, أش 55: 8) هل يوجد كتاب له هذا الصوت عبر آلاف السنين والآن مترجم إلى 1800 لغة.
وهذا التعبير يأتي 14 مرة في العهد الجديد وبهذا الخصوص ما أعجب القول "يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: «إِنِّي لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي" (رو 9: 17, خر 9: 16). هذا قبل كتابة الكتاب المقدس وقد دين لأنه لم ينتبه, فكم بالحري بعد كتابة الكتاب, هل يوجد كتاب يتكلم قبل أن يُكتب؟ نعم لأن الروح القدس أي الله الأزلي هو الكاتب الحقيقي للكتاب وهو الذي أوحى بكل كلمة لكتبة الوحي.
ثانياً: الكتاب يرى عجباً! "وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ" (غلا 3: 8).
ثالثاً: الكتاب يغلق "لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ" 0غلا 3: 22) ليعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون, كذلك لا ننسى المعنى الحرفي وهو بركة قبول التوبيخ من شخص حكيم "لِيَضْرِبْنِي الصِّدِّيقُ فَرَحْمَةٌ وَلْيُوَبِّخْنِي فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ. لاَ يَأْبَى رَأْسِي" (مزمور 141: 5).
- خير للإنسان من سمع غناء الجهال:
أولاً. من هو نبع هذه الأغاني؟ أليس هو عدو الله وعدو النفوس.
ثانياً. ما هو غرضه إلا أن يثير الشهوات الكامنة في الطبيعة الساقطة المولود بها الإنسان.
ثالثاً. ما هي النتيجة.. أليس لكي يخدع النفوس بأن يقدم لها فرحاً زائفاً وهكذا تتجاهل وتَعمى تماماً عن الأبدية التعيسة المؤكدة.
"لأَنَّهُ كَصَوْتِ الشَّوْكِ تَحْتَ الْقِدْرِ هَكَذَا ضِحْكُ الْجُهَّالِ. هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ" (ع 6).
الشوك تحت القدر يُحدث أولاً ناراً سريعاً ما تخمد ولا تنجح في مهمتها. أي أن هذه الأغاني لن تنجح في إشباع النفوس وتظل الشهوات كامنة.
ثانياً, يُحدث صوت قرقعة عالية ويتحول في النهاية إلى رماد- وهذا ما يحدث في ضحك وليمة الأشرار وأغانيهم (راجع وليمة بيلشاصر في سفر دانيال ص 5, ووليمة هيرودس في أع 12).
"لأَنَّ الظُّلْمَ يُحَمِّقُ الْحَكِيمَ وَالْعَطِيَّةَ تُفْسِدُ الْقَلْبَ" (ع 7).
تحذير لأولاد الله من عناوين كبيرين موجودين في العالم: الظلم هو ناتج من أنانية الإنسان ومحبته لذاته لذلك ينبغي أن تخلو حياة القديس من الظلم للآخرين في أية صورة.
وإذ يقع عليه ظلم ينبغي أن يتشبه بسيده الذي إذ ظُلم لم فتح فاه وكان يسلم لمن يقضى بعدل, لذلك إذا خرج المؤمن عن هذا المثال الكامل- ربنا يسوع المسيح- الموضوع أمام كل المفديين, وهو احتمال الظلم بشكر وصبر, فحينئذ لا بد أن تظهر حماقة في رد المؤمن على أي ظلم يقع عليه.
أما الأمر الثاني وهو العطية أي الرشوة التي تفسد القلب, فينبغي أن يمتلئ قلب المؤمن بالتعفف الذي عاش فيه السيد المعبود كل لحظة من حياته الكريمة, وهكذا يتحاشى المؤمن الرشوة المقدمة له, ولا يقدم رشوة, فلا ينزل مستوى سلوك المؤمن إلى مستوى أهل العالم المملوء بالفساد.
"نِهَايَةُ أَمْرٍ خَيْرٌ مِنْ بَدَايَتِهِ. طُولُ الرُّوحِ خَيْرٌ مِنْ تَكَبُّرِ الرُّوحِ" (ع 8).
هنا درس بالغ الأهمية للقديسين, درس في الاحتمال والانتظار والصبر, فقد يبدو أمر في بدايته مؤلماً موجعاً ولكن في النهاية تظهر نتائجه المباركة المفرحة والحكمة الإلهية التي قصدها الله منه. وواضح أن هذا دائماً صحيح لأولاد الله لأنهم من لحظة التوبة أُخرجوا كم تحت سلطان الشيطان والعالم والخطية. وعلى صفحات الوحي الدروس الجميلة التي توضح هذه الحقيقة بالنسبة لأولاد الله, ففي قصة يوسف أو استير أو الثلاثة فتية أو دانيال, كل منهم يهتف "نهاية أمر خير من بدايته" وهكذا يهتف الرسول "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28) لكن فوق الكل ذاك الذي أتى إلى المذود ثم عاش حياة الاحتقار والمقاومة ثم تقدم إلى الصليب, لكن في النهاية قمة المجد عن يمين العظمة في الأعالي.
- "طول الروح خير من تكبر الروح"
طول الروح هو بطء الغضب أي الروح الوديع وهو أحد الكمالات الإلهية, لذلك يقرر الروح القدس عنه أنه كثير الثمن (1 بط 3: 4) وله بركات كثيرة:
أولاً- "بطئ الغضب كثير الفهم وقصير الروح معلّى الحمق" (أم 14: 29).
ثانياً- صانع سلام إذ له نعمة خاصة وحكمة وتروٍ وبذلك يستطيع أن يضع بلساناً على الجروح وهكذا يقود كل الأطراف إلى السلام "الرجل الغضوب يهيج الخصومة وبطئ الغضب يسكن الخصام" (أم 15: 18).
ثالثاً- الهدوء والثبات في العواصف "البطيء الغضب خير من الجبار ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة" (أم 16: 33).
"لاَ تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى الْغَضَبِ لأَنَّ الْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ الْجُهَّالِ." (ع 9).
أي أن نتائج الغضب من خصام وأمور مُرّة وكلمات جارحة تستقر في حضن السريع الغضب. ولا ننسى أن الوداعة وبطء الغضب مرتبطان تماماً بالتواضع بل هما توأم ولا نجده إلا في ذاك الذي قال تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب.
"لاَ تَقُلْ لِمَاذَا كَانَتِ الأَيَّامُ الأُولَى خَيْراً مِنْ هَذِهِ لأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ حِكْمَةٍ تَسْأَلُ عَنْ هَذَا" (ع 10)
هذا اعتراض في شكل تساؤل مبعثه التذمر على أعمال العناية الإلهية التي ترتب وتدبر كل شيء بحكمة فائقة, ومعنى هذا التساؤل أن هناك ظلماً في التوزيع الإلهي إذ أوجدنا في أيام أقسى وأشد من أيام أجدادنا, وهذا لا يدل إلا على الجهل لأن العالم منذ القديم له هذه الصفة "العالم الحاضر الشرير" (غلا 1: 5) وأنه "موضوع في الشرير" (1 يو 5: 20).
بكل تأكيد العالم ينحدر اقتصادياً واجتماعياً وأدبياً. وقد أُعلن في الصحف العالمية أن عام 1985 هو أردأ عام بالنسبة لكل التاريخ الحديث فيما سبقه من أعوام من جهة حوادث خطف الطائرات والسفن وحوادث السطو والقتل المرعبة, لكن لا ننسى أبداً الوجه المنير الذي لا يراه إلا أول الله في اجتماعاتهم باسم الرب والنهضات الانتعاشية في كثير من بلاد العالم.
"اَلْحِكْمَةُ صَالِحَةٌ مِثْلُ الْمِيرَاثِ بَلْ أَفْضَلُ لِنَاظِرِي الشَّمْسِ. لأَنَّ الَّذِي فِي ظِلِّ الْحِكْمَةِ هُوَ فِي ظِلِّ الْفِضَّةِ وَفَضْلُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُحْيِي أَصْحَابَهَا" (ع 11, 12)
مباينة بين الحكمة والثروة كظل للأحياء الذين يعيشون تحت الشمس, فكما أن الميراث أو الفضة ظل وقاء تحمي أصحابها من الفقر المادي والاحتياج إلى ضرورات الزمن, هكذا الحكمة والمعرفة لكنهما ظل ووقاء أسمى وأعظم, والمفتاح لهذه الأفضلية في كلمة حلوة وهي "تحيي أصحابها". فالفضة قد تحمي أصحابها من الفقر المادي لكنها تترك من تحت ظلها فقراء روحياً بل أمواتاً منفصلين عن الله أدبياً وينتظرهم الموت الثاني في النار الأبدية بلا رجاء. ما أروعها مباينة وما أروعه تحليلاً لأفضلية الحكمة كظل مجيد محيٍ, لذلك نسمع الحكمة الأزلي له المجد يقول "أَنَا الْحِكْمَةُ أَنَا الْفَهْمُ... مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ. كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ" (أم 8: 12- 36)
"اُنْظُرْ عَمَلَ اللَّهِ لأَنَّهُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَقْوِيمِ مَا قَدْ عَوَّجَهُ فِي يَوْمِ الْخَيْرِ كُنْ بِخَيْرٍ وَفِي يَوْمِ الشَّرِّ اعْتَبِرْ. إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذَا مَعَ ذَاكَ لِكَيْلاَ يَجِدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً بَعْدَهُ" (ع 13, 14)
تأمل بفكر متواضع وتسليم كامل لحكمة الله المنزهة. هناك أمور كثيرة في الطبيعة لا نستطيع كشف غوامضها. قد نرى ربوعاً جميلة تحدثنا محاسنها ومنافعها عن محبة الله, وإذا بعاصفة من عنده تهب على تلك الربوع فتكتسحها, ولا تخلف وراءها سوى الخراب. وهنا يحار العقل ويتوقف, لمن اليقين الكامل في محبة الله وحكمته يُسرع إلى التسليم والانتظار لفهم حكمته السامية ولا يمر وقت طويل حتى نشاهد هذه البقعة التي صارت خراباً, يتسلمها أحد رجال الأعمال ويقيم عليها مبنى عظيماً يشمل مدرسة وملجأ للأطفال!.
يا لعمق غنى الله وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء.
ويصل الحكيم إلى الخلاصة في ع 14, في يوم الخير اشكر الرب بالتسبيح له وفي يوم الشر اعتبر أي استحضر نفسك أمام الرب لكي يعطيك حكمة لتفهم قصده المبارك وهو ذات ما يقصده يعقوب "أعلى أحد بينكم مشقات فليصل. أمسرور أحد فليرتل" (يع 5: 13). ويختم تأمله بالحكمة: إن جعل الله هذه مع ذاك, أي أنه في حكمته العالية جعل حياة الإنسان مزيجاً من الأمور الحلوة والمُرّة, والقصد من ذلك لكي لا يجد الإنسان شيئاً بعده, بمعنى أنه لا يضع رجاءه في الأيام القادمة وما تحتويه من خير ونجاح. فطالما الأمور تحت الشمس لا بد أن الأيام تحتوي الأثنين معاً- الحلو والمُرّ, ما يفرح وما يجعل الدموع تسيل ولهذا نسمع التحذير "الرجاء المماطل يمرض القلب" (أم 13: 12). لكن هناك رجاء أفضل بما لا يقاس, جعل بولس وهو يجتاز أقسى الأيام يهتف "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو8: 37) ويقرر الرسول يوحنا "وكل من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر" (1 يو 3: 3).
"قَدْ رَأَيْتُ الْكُلَّ فِي أَيَّامِ بُطْلِي. قَدْ يَكُونُ بَارٌّ يَبِيدُ فِي بِرِّهِ وَقَدْ يَكُونُ شِرِّيرٌ يَطُولُ فِي شَرِّهِ" (15)
طالما هناك التأمل فيما تحت الشمس فهي أيام باطلة, وقد توضح في فصول سابقة المباينة الشاسعة بين أيام سليمان وبين أيام الرسول بولس العظيمة الثمر لمجد سيده, والسبب أن نظر بولس وقلبه وحواسه, الكل يهتف لذاك الذي فوق الشمس.
في هذه الأعداد من ع 10 يتعرض الحكيم للأمور العويصة التي واجهها تحت الشمس. ففي ع 10 تعرّض لتدهور حالة العالم وموقف أول الله وهو التسليم لحكمة ومحبة السيد والتأمل في الوجه المنير, ثم في 13, 14 تعرّض لمشكلة أصعب وهي سياسة الله العميقة التي تبدو للجاهل كأنها معوجة. أما هنا في ع 15 يتعرّض لمشكلة صعب تفسيرها بحسب الذهن الطبيعي. فالبار الذي له الوعد بطول الأيام على الأرض والغنى والراحة (راجع مز 128) قد يسمح الرب بإنهاء حياته في ريعان شبابه. كما حدث لهابيل ونابوت وأوريا ويوشيا, وكانت لإلهنا حكمة سامية في كل واحد منهم في أخذه مبكراً. ففي هابيل ليظهر من بداءة التاريخ البشري على الأرض ما هو الطابع للمدرستين والعائلتين الموجودتين على الأرض بعد السقوط. ففي هابيل مدرسة الإيمان والاحتماء في دم الحمل وتظهر في من احتموا في دم الحمل استعدادهم لاحتمال الألم حتى الموت لأن لهم إكليل الحياة. أما المدرسة الأخرى- مدرسة قايين, وهي مدرسة الأعمال واحتقار الذبيحة كالطريق الوحيد للاقتراب إلى الله وفيهم تظهر شراسة الشيطان وقسوته لدرجة سفك دم البريء.
أما في نابوت فهناك درس آخر وهو أن مدرسة الإيمان والاحتماء في دم الحمل ليس فقط طابعها الوداعة واحتمال الألم حتى الموت كما ظهر في هابيل, لكن في نابوت يظهر عنصر آخر مجيد, وهو التمسك بالحق وعدم التفريط فيه ولو أدى هذا إلى إنهاء الحياة لأجل الحق. وقد كان أمام نابوت إغراء بثمن غال لقطعة الحقل وكان أمامه التهديد بوحشية إيزابيل الشريرة المفترسة لكنه وضع نفسه في كفة لأجل حق كتابي خاص بميراث آبائه المعين له من الله.
أما في أوريا الحثي فهناك الدرس الثالث وهو أن مدرسة الإيمان والاحتماء في الدم تدوس الرغبات الجسدية وترى أن نجد الله في المعركة مع العدو ينبغي أن يكون له الاعتبار الأول. وسر قتل أوريا أنه رفض أن يدخل إلى بيته لأن قلبه مرتبط بالمعركة القائمة بين الرايتين, راية مجد الله وراية العدو, ولم يحتمل أن يكون لجسده أي تمتع طالما هذه المعركة لم تنته بعد.
كلمة عن هذا القديس العظيم الذي من أصل أممي (بنى حث) لكنه ارتبط بشعب الرب وأصبح ضابطاً من القواد الثلاثين في جيش داود, وواضح من رده على داود أنه يقدّر جلال تابوت الرب واسم الرب العظيم ورأى في موازين تكريسه للرب أنه لا يليق به أن يتمتع بلذاته الجسدية العادية طالما لم يتحقق الانتصار بعد في المعركة. هل نقدّر نحن التابوت الحقيقي وهل نقدّر المعركة الحقيقية بين الاسم الكريم وبين رئيس هذا العالم.
أما في يوشيا فهناك الدرس الرابع وهو أن الرب سمح بإنهاء حياة هذا القديس العظيم لأن وقت القضاء على الأمة كان قد جاء وبعد وفاته بثلاثة أشهر بدأ القضاء بصعود ملك مصر ثم بعد ذلك وقع القضاء الكامل بواسطة نبوخذنصر البابلي أي أن الرب ضم حبيبه يوشيا من وجه الشر.
"لاَ تَكُنْ بَارّاً كَثِيراً وَلاَ تَكُنْ حَكِيماً بِزِيَادَةٍ. لِمَاذَا تَخْرِبُ نَفْسَكَ. لاَ تَكُنْ شِرِّيراً كَثِيراً وَلاَ تَكُنْ جَاهِلاً لِمَاذَا تَمُوتُ فِي غَيْرِ وَقْتِكَ؟. حَسَنٌ أَنْ تَتَمَسَّكَ بِهَذَا وَأَيْضاً أَنْ لاَ تَرْخِيَ يَدَكَ عَنْ ذَاكَ لأَنَّ مُتَّقِيَ اللَّهِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا" (ع 16- 18)
واضح من أسفار كثيرة من الكتاب أن هناك براً عملياً في العهد القديم بحسب النور المعطى لهم من الله وكثيرون ساروا فيه باستقامة قلب لإرضاء الله إلههم ومحبوبهم أمثال نوح وإبراهيم وأيوب, ولكن الحقيقة تنكشف في العهد الجديد أن هناك براً إلهياً مُعطى من الله على أساس دم المسيح "وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ" (رو 3: 21- 23).
أي أن الأتقياء في العهد القديم, أعطاهم الله في نعمته الولادة من فوق أي أصبحوا أولاد الله, وهكذا أعطاهم بره أي أصبحوا أبراراً أمام الله, وكل هذا على حساب دم المسيح الذي كان في حكم المستقبل بالنسبة لهم, لكن أمام الله من الأزل وإلى الأبد, وهذا واضح في رو 3: 25, 26 حيث تتكرر كلمة "لإظهار بره" أي أن ذبيحة المسيح هي التي تُظهر استقامة الله, وحساب الله لهم أنهم أبرار هو ذات حسابه لنا, فهم ونحن على ذات القاعدة التي هي ذبيحة ربنا يسوع المسيح, وهذا يوضح لنا أن البر الإلهي لا يمكن التلاعب فيه لا زيادة ولا نقصاناً "الغني لا يكثر والفقير لا يقلل" (خر 30: 15)- "إيماناً مساوياً لنا" (2 بط 1: 1) لأن أساسه موت وقيامة ربنا يسوع المسيح, وذبيحته لها كمالها المطلق أمام الله.
وهنا يتضح قصد سليمان عن البر الكثير- أي مظاهر البر الذاتي الكاذب مثل التظاهر بالصوم أمام الناس دون ولادة من الله وشركة حقيقية مع الله في الصلاة مع الصوم ودراسة كلمة الله والشركة مع القديسين في السجود والعبادة, وهذا كله يؤدي إلى حياة القداسة والبر العملي.
أما المظاهر فتخرب نفس الإنسان ويظن أنه "أقدس من الآخرين" وأنه "حكيم بزيادة" في عيني نفسه, وهذا ما غرق فيه الفريسيون إذ حسبوا أنفسهم أصحاب الحكمة وحدهم عن طريق الصيامات والتدقيق في العشور (لو 18).
- "لا تكن شريراً كثيراً ولا تكن جاهلاً لماذا تموت في غير وقتك؟"
لا يقصد الاعتدال في الشر والجهل, لكن إلى أن يتجاوب قلبك مع نعمة الله التي تنتشلك من سلطان الظلمة, احذر من التوّرط في الحماقات التي تقضي على حياتك فتموت في غير وقتك. وهذا طبعاً كلام يوجه إلى الإنسان الخاطئ قبل الإيمان.
- "حسن أن تتمسك بهذا وأيضاً أن لا ترخي يدك لأن متقي الله يخرج منهما كليهما"
لنتذكر أن هذا ما رآه سليمان في أيام بطله (ع 15) ألاّ تكون باراً كثيراً ولا شريراً كثيراً.
لكن ما أروع مقياس العهد الجديد للمولودين من الله "امتنعوا عن كل شبه شر" (1 تس 5: 22), "من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية" (يع 4: 17), "كل ما ليس من الإيمان فهو خطية" (رو 14: 23)
"اَلْحِكْمَةُ تُقَوِّي الْحَكِيمَ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ مُسَلَّطِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَدِينَةِ" (ع 19)
في ع 11, 12 ذكر فصل الحكمة على الفضة, وهنا يذكر فضلاً آخر ونعمة أخرى للحكمة وهي القوة التي لا يعرف سرها العالم وينحني أمامها متعجباً. وفي التاريخ المقدس عينات لا تحصى, وعلى سبيل المثال في أيام مظلمة جداً كانت تتسلط في إسرائيل قوة غاشمة وهي آخاب ومعه كل الجبابرة أعوان ايزابل, وفي هذا المشهد الغاشم "قَالَ إِيلِيَّا التِّشْبِيُّ.. لأَخْآبَ حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ إِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هَذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي" (1 مل 17: 1, 2).
كان من الممكن لايليا أن يوّصل هذه الرسالة لأي واحد من وكلاء آخاب, لكن يُظهر الرب مدى القوة التي يمنحها لمن يقف أمامه, وأيضاً لكي يصل الصوت إلى قلب آخاب شخصياً, لأن الله قبل أن يكون دياناً, هو الله المحب الذي يريد أن ترجع النفس إليه. وهناك الثلاث فتيان أمام نبوخذنصر, ومردخاي أمام هامان. ولكن فوق الكل باستمرار, الإنسان الثاني الرب من السماء. ما أروع القوة, ما أروع الهدوء, ما أروع الاتزان والوقار أمام الفريسيين المناقضين, ما أروع شهادة المعمدان عنه "يأتي بعدي من هو أقوى مني" (مت 3: 11), وشهادة بطرس أمام كرنيليوس قائلاً: "يَسُوعُ المسيح هذا هو رب الكلِ. كَيْفَ مَسَحَهُ الهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ" (أع 10). وكم كانت قوته مذهلة أمام حنان وقيافا وبيلاطس, لذلك شبع به رسله. ما أروع موقفهم "وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِم" (أع 4: 33).
ما أروع الترتيب, فالحكمة اولاً تعطي حياة لمن هو تحتها, وإذ تصل الحياة إلى النفس, تحتاج طول الطريق إلى القوة من ذات الحكمة التي أوجدت فيها ينبوع الحياة وواضح أن الحكمة هو أقنوم الآب الأزلي له المجد الذي قال "أنا الحكمة لِي الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ أَنَا الْفَهْمُ لِي الْقُدْرَةُ.. مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ" (أم 8: 12- 36) وهذه هي مدرسة المسيح, الحياة أولاً لمن هم أموات, ثم يأتي دور القوة "وَعْدِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. فَتَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (2 تي 1: 1, 2: 1), " أحيانا مع المسيح وأقامنا... أخيرا يا إخوتي تقووا في الرب وفي شدة قوته" (أف 2: 5, 6: 10)
"لأَنَّهُ لاَ إِنْسَانٌ صِدِّيقٌ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحاً وَلاَ يُخْطِئُ" (ع 20).
ما أروع دقة الكتاب المقدس:
أولاً- لم يقُل لا إنسان صدّيق في الأرض فقط, لأن الله أمين لذاته واستحالة أن يترك نفسه بلا شاهد, بل له شهود كثيرون هنا على الأرض ليشهد من خلال ضعفهم عن ذاته المجيدة. ظن ايليا في غفلة أن الجميع تركوا عبادة الرب وأنه هو وحده الأمين للرب "وبقيت أنا وحدي" فجاءته الكلمة "قد أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل" (1 مل 19, رو 11: 4). ما أروع الاجابة "أبقيت لنفسي) كما يقول أيضاً "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي" (أش 43: 25) أي ان الغفران والفداء الإلهي وإن كانا بركة عظيمة لنا لكن هما أولاً لأجل ذات الله ليشهدا لكمال صفات الله.
ثانياً- لم يقُل "لا إنسان في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ" لأن عمل الصلاح استحالة مطلقة بالنسبة للإنسان ابن آدم, وتقرير الكتاب "ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" (مز 14, 53؛ رو 3: 23) وهذا التقرير يبدأ بهذا الوصف "الرب من السماء أشرف لينظر بني البشر هل من فاهم طالب الله" فهو إذاً خاص ببني البشر أولاد آدم أما أولاد الله فهم خليقة جديدة, ومن هنا تأتي الإمكانية لعمل الصلاح "بالنعمة أنتم مخلصون، بالإيمان.. لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2: 8, 10)
ثالثاً- ما يقرره الروح القدس إن هذا الصدّيق الذي صارت له النعمة أن يعمل الصلاح, هو غير معصوم, وإن لم يكن في حالة اليقظة فلا بد من الزلل. لكن من الجهة الأخرى مع وجود هذه الزلات في حياة المولود لكن استحالة أن يعيش في الخطية "نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها" (رو 6)
"أَيْضاً لاَ تَضَعْ قَلْبَكَ عَلَى كُلِّ الْكَلاَمِ الَّذِي يُقَالُ لِئَلاَّ تَسْمَعَ عَبْدَكَ يَسِبُّكَ. لأَنَّ قَلْبَكَ أَيْضاً يَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ كَذَلِكَ مِرَاراً كَثِيرَةً سَبَبْتَ آخَرِينَ." (ع 21, 22).
هنا وجه آخر من وجوه القوة التي تمنحها الحكمة لمن تحتها, وهي الرفعة فوق كلام الناس وحكمهم حتى إن وصل إلى السبب, لكن النظر مثبّت على حكم الرب وإرضاء الرب "الآب لم يتركني وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (يو 8: 29) قال هذا له المجد في وسط الكلمات القاسية الموجهة إليه.
ع 22 وجه آخر لهذه القوة التي تمنحها الحكمة, وهو الاحتمال والصفح وإن كان عن طريق درس مُذِل لكنه لأزم فهو يذكرني بزلات لساني في حق الآخرين فأتضع ولكن لنا في نور العهد الجديد درس أسمى من هذا, وهو حتمية الصفح: أولاً لأن هذه طبيعة إلهي الذي صيّرني ابناً له (مت 5: 45), ثانياً لقد سومحت بالكثير جداً أفلا أصفح عن القليل؟ "مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً انْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى احَدٍ شَكْوَى كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هَكَذَا انْتُمْ ايْضاً" (كو 3: 13)
"كُلُّ هَذَا امْتَحَنْتُهُ بِالْحِكْمَةِ قُلْتُ أَكُونُ حَكِيماً أَمَّا هِيَ فَبَعِيدَةٌ عَنِّي. بَعِيدٌ مَا كَانَ بَعِيداً وَالْعَمِيقُ الْعَمِيقُ مَنْ يَجِدُهُ. دُرْتُ أَنَا وَقَلْبِي لأَعْلَمَ وَلأَبْحَثَ وَلأَطْلُبَ حِكْمَةً وَعَقْلاً وَلأَعْرِفَ الشَّرَّ أَنَّهُ جَهَالَةٌ وَالْحَمَاقَةَ أَنَّهَا جُنُونٌ" (ع 23- 25).
أولاً: لقد حصل سليمان على الكثير من الحكمة حتى أنه كتب 3000 مثل وكانت نشائده ألفاً وخمساً, وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط, وتكلم عن البهائم والدبيب والسمك, وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا كلام حكمته لأنه كان أحكم من جميع حكماء عصره- إيثان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني ماحول. ولكنه أمام ذات الله وصفاته ومخططه العظيم وأعماله التي يتعامل بها مع الخليقة, ها هو يعترف أنه كطفل ساذج, والله في حكمته بعيدٌ جداً وعميق عميق جداً. وهو ذات إقرار صوفر قبل سليمان بألف سنة "أإلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي هو أعلى من السماوات فماذا عساك أن تفعل" (أي 11: 7) وهو ذات هتاف أشعياء بعد سليمان بـ 300 عام "مَنْ كَالَ بِكَفِّهِ الْمِيَاهَ وَقَاسَ السَّمَاوَاتِ بِالشِّبْرِ وَكَالَ بِالْكَيْلِ تُرَابَ الأَرْضِ وَوَزَنَ الْجِبَالَ بِالْقَبَّانِ وَالآكَامَ بِالْمِيزَانِ.. هُوَذَا الأُمَمُ كَنُقْطَةٍ مِنْ دَلْوٍ وَكَغُبَارِ الْمِيزَانِ تُحْسَبُ. كُلُّ الأُمَمِ كَلاَ شَيْءٍ قُدَّامَهُ. مِنَ الْعَدَمِ وَالْبَاطِلِ تُحْسَبُ عِنْدَهُ" (أش 40: 12, 13).
لكن الله لم يترك هذه الفجوة في الإعلان عن ذاته. وها هو له المجد متجسداً وواقفاً وسط الناس يخاطب الآب "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (مت 11: 25- 28) فليس هناك حل لهذه الفجوة إلا في الإقبال إليه والارتماء عند قدميه.
ع 25 بقيت نقطة هامة في إقرار سليمان وهي بما أن الإنسان تافه جداً أمام الله في ذاته وحكمته وأمام عجلة أحكامه التي تدور بكل حكمة لتنفذ كل قصد من مقاصده الكريمة هنا على الأرض, إذاً ماذا يكون الشر والحماقة التي يعيش فيها الإنسان, هذا ليس إلا جهالة وجنون. تصوّر إنساناً يضع نفسه في طريق قطار سريع لكي يوقفه, هذا قمة الغباء الجنون, لكن العاقل يسأل أين المحطة التي يقف فيها القطار ليأخذ مكانه فيه في اطمئنان وهدوء, ويبتهج بكل وسائل الراحة فيه. هكذا قطار مقاصد الله وحكمته الأزلية يسحق ويدوس كل من يعترض هذه المقاصد ويريد أن يوقفها. ولكن العاقل يأتي إلى المكان الوحيد حيث يأخذ نصيبه المفرح في هذه المقاصد الإلهية.
إن صليب ربنا يسوع المسيح هو المكان الوحيد الذي يتلاقى فيه الله القدوس مع الإنسان الخاطئ لأننا فيه وجدنا المُصالح الذي يضع يده على الله ويده الأخرى على الإنسان (أي 9: 33) ووجدنا فيه الوسيط الوحيد بين الله والناس الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع (1 تي 2: 5).
"فَوَجَدْتُ أَمَرَّ مِنَ الْمَوْتِ الْمَرْأَةَ الَّتِي هِيَ شِبَاكٌ وَقَلْبُهَا أَشْرَاكٌ وَيَدَاهَا قُيُودٌ. الصَّالِحُ قُدَّامَ اللَّهِ يَنْجُو مِنْهَا أَمَّا الْخَاطِئُ فَيُؤْخَذُ بِهَا" )ع 26).
بعد أن وصف الخطية بأنها جهالة وجنون, ها هو يصفها بامرأة منحرفة (وهو ما أفاض فيه في أمثال 7) وهنا ثلاثي رهيب: شباك وأشراك وقيود. فالشبكة ظاهرة لكن بها طُعم يجذب السمك, وهذا يشير إلى المغريات الظاهرة وكل فنون الأزياء لإظهار مفاتن الجسد التي تحرك الشهوات الكامنة في القلب, لكن الشرك تدبير مخفي لكي يسقط فيه الرجل غير المحصن أي غير الحكيم, أما الأمر الثالث المّر هو اليد تقبض من حديد على الفريسة.
وكم نشكر الله لأجل التقرير: أن الصالح قدام الله ينجو منها, هذا هو المولود من الله المحصن بعرش النعمة باستمرار والمتسلح بالكلمة باستمرار "لأَنَّهُ بَاطِلاً تُنْصَبُ الشَّبَكَةُ فِي عَيْنَيْ كُلِّ ذِي جَنَاحٍ" (أم 1: 17) وأجنحة المؤمن هي الشركة العميقة مع الرب في الصلاة وكلمة الله, والشركة مع القديسين وحضور الاجتماعات.
لكن من الناحية النبوية, المرأة الشريرة في الكتاب تشير إلى المسيحية الأسمية, والتي وصفها الرب بفمه الكريم في رؤ 3: 20 بإيزابل التي تقول أنها نبية حتى تعلّم وتغوي عبيدي أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان. كما يصورها أيضاً في رؤ 17: 1 بالزانية العظيمة الجالسة على مياه (شعوب) كثيرة, كما يصورها أيضاً في رؤ 18: 2 ببابل العظيمة التي هي مسكن للشياطين ومحرس لكل روح نجس.
وعجيب انطباق الثلاث صفات المُرّة عليها, فهي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود. فكم من اختراعات تقليدية طقسية مزيج من اليهودية والوثنية تملأ هذه الكنيسة الأسمية وهي بها تغوي النفوس للانحراف عن الرب يسوع المسيح إلى عبادة الملائكة والقديسين. أما القيود فهي واضحة في سلطان التقليد على ملايين النفوس وهنا يأتي التقرير: الصالح قدام الله ينجو منها أي الذي اغتسل بدم الحمل وأصبح فيه خليقة جديدة (رؤ 1: 5, 2 كو 5: 17)
"أنظُرْ. هذا وَجَدْتُهُ قَالَ الْجَامِعَةُ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً لأَجِدَ النَّتِيجَةَ. الَّتِي لَمْ تَزَلْ نَفْسِي تَطْلُبُهَا فَلَمْ أَجِدْهَا. رَجُلاً وَاحِداً بَيْنَ أَلْفٍ وَجَدْتُ. أَمَّا امْرَأَةً فَبَيْنَ كُلِّ أُولَئِكَ لَمْ أَجِدْ" (ع 27, 28).
كان المخرج الوحيد من شبك وأشراك وقيود المرأة الشريرة هو الرجل الصالح قدام الله, ولهذا اجتهد الحكيم وذهب يفتش في كل وادي عن هذا الرجل الصالح الذي يريح فؤاده, فوجد فقط واحداً من ألف وهذا التعبير في العرى يُقصد به شخص لا مثيل له ولا يدانه أحد. ويرِد في الوحي المقدس ثلاث مرات, مرتين في سفر أيوب وهنا الثالثة .
في أيوب 33: 23, 24 "إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ أطلقه عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً" فهو الوسيط الوحيد الفريد الذي يمكن أن يقف في الثغرة بين الله والناس, في اللاهوت هو الابن الأزلي المعادل للآب, في الناسوت الإنسان الكامل يسوع المسيح, لذلك يقرر الآب المبارك أنه قد وجد الفدية الي تتناسب مع كل كمالات الله لذلك يمكنه أن يطلق الإنسان المذنب فلا يهبطه إلى الحفرة. ثم في أي 9: 2 "فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ" أي استحالة مطلقة أن يبرر الإنسان نفسه أمام الله " لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ" (رو 3: 19).
فأين المخرج إذاً؟ يأتي الهتاف "وأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رو 3: 21, 22). ففي الأولى ص 33 استحالة الوساطة والفداء إلا به وفيه, وفي ص 9 استحالة التبرير إلا به- وفيه في موته وقيامته المجيدة.
أما هنا في تقرير سليمان فقد وجد الرجل الصالح الواحد من ألف, الذي هو المخرَج الوحيد من المرأة الشريرة أي من الخطية. أليس هذا هو تقرير الكتاب كله "اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم ", "وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ .. قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع 4: 12) اما إنه لم يجد إمرأة بين ألف, يقصد لم يجد في البشر لأن هذا هو تقرير الكتاب "أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3: 11)
وقد ورد في العهد القديم مرات كثيرة عن الأمة اليهودية أنها مشبهة بزوجة مرتبطة بالرب يهوه الله العظيم إله آبائهم, أي أن سليمان بمنظار النبوة وجد في الرجال رجلاً واحداً بين ألف الذي هو ربنا يسوع المسيح, ولكنه عندما نظر إلى الأمة كلها المرتبطة بالله كرجلها, لم يجد أي صلاح, وهو ما يشير إليه أنه لم يجد إمرأة بين ألف. وما يُقال عن كل البشر.
"اُنْظُرْ. هَذَا وَجَدْتُ فَقَطْ أَنَّ اللَّهَ صَنَعَ الإِنْسَانَ مُسْتَقِيماً أَمَّا هُمْ فَطَلَبُوا اخْتِرَاعَاتٍ كَثِيرَةً" (ع 29)
يرجع بنا الحكيم بإملاء الوحي إلى الجذور العميقة لكل ما نراه في العالم من أمور محزنة, فهو يرجع بنا أولاً إلى المنظر الجميل الرائع "وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً" (تك 1: 31) "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ.. عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعاً وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ" (أي 38: 4- 6). والإنسان نفسه هو تاج الخليقة, المخلوق العاقل المفكر الواعي الناطق "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26).
ونرى في تك 2 المنظر الجميل حيث وقف آدم وعبرت أمامه كل البهائم والزحافات والطيور على أجناسها, وهو بعقله الكبير يعطيها الأسماء بحكمة من فوق وبالارتباط مع الخالق. حقاً ما أروع التقرير "الله صنع الإنسان مستقيماً" فمن أين إذاً جاءت تلك الطبيعة الساقطة الرهيبة؟ واضح أنها من الشيطان نفسه, لأن أبوينا الأولين بمعصية كلمة الله سقطا في يد إبليس كسيد لهما فغرس فيهما ذات طبيعته, وبالتالي في كل الجنس البشري "ها أنا ذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي" (مز 51: 5).
ليت الفلسفات المملوءة بالجهل تتعقل وترجع إلى المكتوب وتتراجع عن هذه الخرافات وهي أن الإنسان به كل بذار النبل والشرف والاستقامة, لكن البيئة والمجتمع هما العلة في ظهور كل هذه المفاسد والشرور. ما أدق تقرير الخالق إذ تجسد ووقف في وسط الناس وأعلن أنه "من الدخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل" (مر 7: 21) والخلاصة أن قلب الإنسان الفاسج هو الذي خرّب المجتمع وليس المجتمع هو الجاني على الإنسان لذلك ما أبعد الفارق في اتجاه العلاج, فالاتجاه الأعوج كله لعلاج المجتمع- جمعيات منع المسكرات ومكافحة المخدرات ومنع انحراف الأحداث, بينما العلاج الإلهي الصحيح هو استجابة الإنسان لجهاد الروح القدس للتوبة والإيمان بفداء ربنا يسوع المسيح فيصبح في المسيح خليقة جديدة 2 كو 5: 17.
أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة: وهي كل ما ينتج من الطبيعة الساقطة.
أولاً في السلوك العملي في الكلام والتصرف كلها تنطق بالانحراف عن الله: خبث ومكر وكذب ورياء.
ثانياً في العبادة باختراع طرق أرضية شيطانية, بها يوهم الإنسان نفسه أنه يرضي الله "يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس" (مت 15), ".. تابعين أرواحاً مضلة وتعاليم شياطين" (1 تي 4).
ثالثاً اختراعات الملذات والشهوات النجسة "يحسبون تنعم يوم لذة", "يحملون الدف والعود.. ويقولون لله أبعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسرّ" (أي 21) لكن شكراً لله لأجل عمل النعمة في المفديين فصارت طلبة قلوبنا:
أولاً: الرب نفسه "اطلبوا الرب ما دام يوجد" (أش 55: 6), "اطلبوا الرب فتحيوا" (ع 5: 6) وكانت هذه أول طلبة لنا إذ أنار هو قلوبنا.
ثانياً: نطلب "أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لنا" (مت 6: 33)
ثالثاً: نطلب وجه الرب أي رضاه ويقين حضوره وعنايته وملء القلب بسلامه (مز 27: 8)
رابعاً: عندما نشعر بأن السلام من أي وجه سوف يتكدر نطلب السلام ونجّد في أثره (1 بط 3).
خامساً: منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب (2 بط 3: 12).
- عدد الزيارات: 2673