Skip to main content

الأصحاح العاشر

"َلذُّبَابُ الْمَيِّتُ يُنَتِّنُ وَيُخَمِّرُ طِيبَ الْعَطَّارِ. جَهَالَةٌ قَلِيلَةٌ أَثْقَلُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَمِنَ الْكَرَامَةِ" (ع 1)

ما أروع تصوير الروح القدس للمؤمن بالعطار أي يبيع للناس العطور الكريمة التي هي خلاصة زهور ونباتات وأشجار عطرية، أوجدها الله في الخليقة لتشهد عن ذات كمالاته، وأنه هو وحده الذي حوى كل الاستقامات الأزلية العطرة، القداسة المطلقة، الطهارة المعصومة، الصدق والأمانة المنزهة، المحبة الفائضة الفائقة، العدل المطلق. وواضح أن أقنوم الكلمة المعلن عن الله هو الذي فيه الكفاءة الذاتية أن يعلن هذه العطور الكريمة الأزلية، وذلك في تجسده وظهوره وسط البشر "لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهن مهراق" (نش 1: 3) وفي كل مجال أظهرنا رائحتنا الكريهة بينما ظهرت رائحته العجيبة الفائقة حتى أنها من قوة فاعليتها، محت تماماً الرائحة الكريهة وغطتها مطلقاً، ولم يبق في المشهد إلا رائحة أدهانه العطرة الكريمة. وأمامنا ثلاث عيّنات، على سبيل المثال، الأولى (يو 4) في مشهد فسادنا ونجاسة شهواتنا، كانت المرأة السامرية تنشر شهوة النجاسة لكنها إذ تقابلت مع المخلص، غمرتها تماماً رائحة قداسته وطهارته العطرة، فأصبحت في الحال إناءً مقدساً للرب، واشتمّ أهل مدينتها فيها رائحة المسيح الذكية أي القداسة والطهر والتعفف.

الثانية (لو 19) في مشهد ظلمنا ومحبتنا للمال، كان زكا ينشر في كل مكان رائحة مال الظلم والأنانية، وفي لحظة غمرته تماماً رائحة سيده العظيم رائحة البذل والتضحية بكل شيء لأجل إسعاد الآخرين، وهكذا في الحال أصبح زكا عطاراً عظيماً ينشر رائحة أدهان سيده المحبوب.

علمني في قلبي حسابك العظيم            كيف أبذل نفسي لأجل الآخرين

فأنت الباذل وحدك ونحن الغانمين        وكلنا هتاف للدم الكرم

الثالثة (لو 23) كان ذلك اللص في كل حياته ينشر أعمال العنف، والسرقة والقتل، وكم هي رائحة مكدرة رهيبة، وفي مشهد الصليب ظهرت الرائحة العجيبة الفائقة الإدراك والوصف "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" عجباً يا سيدنا! فأنت ابن الآب المبارك الذي لك السماء والأرض، تقبل هذا الوضع لأجل الخطاة وأكثر من ذلك تطلب الغفران والمسامحة لصالبيك! ففي الحال غمرت هذا اللص التائب رائحة سيده وأصبحت طلبته الوحيدة "أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" (لو 23: 42)

بحق وبكل إجلال نهتف له أنت العطار الأعظم الذي في رائحة أدهانك الطيبة التي ظهرت في الصليب وقيمة ذبيحتك الفريدة، وجدنا التغطية الكاملة المطلقة لكل رائحتنا الكريهة، وها نحن لحظة بعد لحظة بعد أن ولدتنا الولادة الثانية نستمد كل عطورك الكريمة لنقدمها للناس (2 كو 3: 18). 

لا يكن في قلبي إلاك يا حبيبي                ولتكن في قلبي كزي وطيبي

وللبعيد عطراً يفيح وللقريب               ويسأل الجميع من هو حبيبي

ولا ننسى أيضاً أنه "الفخاري الأعظم" الذي يُدخل كل واحد منا إلى دولابه الإلهي العجيب ليخرج من كل واحد منا "إناءً لكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح" (2 تي 2: 24).

وهو أيضاً "البناّء الأعظم" الذي بروحه القدوس قطعنا من محجر هذا العالم، وجعل من كل واحد منا "حجراً حياً" في بيت روحي عظيم وجعلنا كهنوتاً مقدساً كريماً ذبائح روحية مقبولة عند الله في شخصه المحبوب (1 بط 2: 5).

نعود إلى تحذير الروح القدس "الذباب الميت ينتن ويخمر طيب العطار"- الذبابة حشرة قذرة جداً وموطنها وأماكن توالدها في الأماكن العفنة جداً، لكنها تطير وتدخل إلى المنازل وتستقر أقدامها على الأطعمة وهكذا تنشر الأمراض الخطيرة، وأيضاً تطير إلى محل العطور وتستقر في الأواني فتغوص وتموت هناك لكنها تنتن وتخمر الطيب العطر.

وهذا هو الدرس العظيم لنا، أقل فكر شرير أو ميل غير مقدس، نسمح له أن يستقر في أذهاننا أو عواطفنا، لا بد من الرائحة الكريهة بدلاً من رائحة أدهان سيدنا العطرة، ولا بد من الأمراض الروحية الفتاكة التي تفتك بحياتنا الروحية وشركتنا مع سيدنا "لا يقُل أحد إذا جُرّب إني أُجرب من قِبل الله لأن الله غير مجرّب بالشرور وهو لا يجرّب أحداً ولكن كل واحد يجرّب إذا انجذب وانخدع من شهوته لأن الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً" (يع 1: 12) وقد أدرك رجال الله هذا الحق فصرخ أحدهم "لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ صَخْرَتِي وَوَلِيِّي" (مز 19: 14).

نأتي إلى باقي الآية "جهالة قليلة أثقل من الحكمة ومن الكرامة" وهي تأتي بمعنى "هكذا تفعل جهالة قليلة بمن اشتهر بالحكمة والكرامة"، باستمرار يعطي الكتاب تحذيراً من الاستخفاف بالأمور الصغيرة أو القليلة: فالثعالب الصغار تفسد الكروم، والخميرة الصغيرة تخمر العجين كله، والنار القليلة تحرق وقوداً كثيراً، يأتي بالفقر والعوز، وهنا الجهالة القليلة تفسد الحكمة والكرامة (شواهد هذه الأمور الصغيرة تجدها بحسب الترتيب في نش 2، 1 كو 5، يع 3، أم 6، جا 10)، لذلك تحذير الروح القدس لنا "امتنعوا عن كل شبه شر" (1 تس 5: 22)

"قلْبُ الْحَكِيمِ عَنْ يَمِينِهِ وَقَلْبُ الْجَاهِلِ عَنْ يَسَارِهِ" (ع 2)

اليمين في الكتاب المقدس مكان الكرامة والإعزاز والقوة "اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ" (مز 110: 1) وقيل عنه له المجد "جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عب 1: 4). أي أن عواطف الحكيم مضبوطة تماماً "ْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً" (أم 16: 32) وأيضاً "إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجلٌ كامل قادر أن يُلجم كل الجسد أيضاً" (يع 2: 3). وهي أسمى حالة روحية يعيش فيها المؤمن وله سيطرة تامة بقوة الروح القدس، على كل ميوله وأفكاره وكلماته، لكي يكون في الاتزان والوقار والصحو الكامل لِما فيه مجد السيد فقط كما عبّر الرسول المغبوط "فِي طَهَارَةٍ فِي عِلْمٍ فِي أَنَاةٍ فِي لُطْفٍ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ فِي كَلاَمِ الْحَقِّ فِي قُوَّةِ اللهِ، بِسِلاَحِ الْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ" (2 كو 6: 6). أما قلب الجاهل عن يساره في مكان الضعف، فهو ضعيف أمام الانفعالات فيثور بعنف ومن الجهة الأخرى ضعيف أيضاً أمام الميول والشهوات والأفكار التي تلعب بذهنه.

"أَيْضاً إِذَا مَشَى الْجَاهِلُ فِي الطَّرِيقِ يَنْقُصُ فَهْمُهُ وَيَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ إِنَّهُ جَاهِلٌ" (ع 3).

الطريق بكل اختباراتها تكشف حقيقة الجاهل فيذيع جهالته على رؤوس الملا وكلماته وخطواته تعلن لكل واحد أنه خالٍ من الحكمة "الجاهل ينشر حمقاً" (أم 13: 16)، وليس ذلك فقط لكن العجيب أنه ينقص فهمه، بمعنى أنه يتقدم إلى أردأ، والنور الذي عنده يؤخذ منه (مر 4: 25).

"إِنْ صَعِدَتْ عَلَيْكَ رُوحُ الْمُتَسَلِّطِ فَلاَ تَتْرُكْ مَكَانَكَ لأَنَّ الْهُدُوءَ يُسَكِّنُ خَطَايَا عَظِيمَةً" (ع 4).

الخضوع للسلطات العليا المرتبة من الله (رو 13)، وليس التمرد عليها، هو طابع الحقيقة. وكم كانت غاشمة ظالمة السلطة العليا في أيام بولس الرسول، لكنه يوصي بالخضوع لها طالما لا تتعرض للشهادة لاسم ربنا يسوع المسيح والتعبد له وإلا فالاستشهاد هو طريق الحكمة حينئذ، وترك المكان تعبير يدل على التمرد، حيث نسمع عن الملائكة الذين تركوا أماكنهم "لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام" (يه 6)- أي أنهم انحدروا في هوة حماقة التمرد ضد العلي. فالقديس مُطالب حسب كلمة الله "بعدم ترك المكان" أي الخضوع الكامل للسلطات في كل المجالات، في قواعد المرور، في الضرائب، في التأمينات الإجبارية. وما أروع مشهد ربنا يسوع المسيح إذ كانت هناك مؤامرة لكي يوجدوه في وضع التمرد على السلطات فسألوه "أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ فَعَلِمَ يَسُوعُ بخُبْثَهُمْ وَقَالَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ.. أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ" (مت 22: 17- 22).

لكن هناك أيضاً معنى آخر في هذا العدد، وهو التنبير على الهدوء الكامل في حالة الاعتداء والظلم، وواضح مكان الحكيم الذي يوصي بعدم تركه، ليس إلا المثول القلبي العميق أمام الرب "جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني فلا أتزعزع" (مز 16: 7). وكم ظهر هذا في رأسنا المبارك في أقسى معاملات الإهانة والاعتداء على شخصه المحبوب المجيد. كم كان هادئا ًمتزناً بالوقار المذيب للقلب، ليتنا نتمثل به فيتم فينا القول "احرصوا أن تكونوا هادئين" (1 تس 4: 11) "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ" (أش 30: 15).

"يُوجَدُ شَرٌّ رَأَيْتُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ كَسَهْوٍ صَادِرٍ مِنْ قِبَلِ الْمُتَسَلِّطِ. الْجَهَالَةُ جُعِلَتْ فِي مَعَالِي كَثِيرَةٍ وَالأَغْنِيَاءُ يَجْلِسُونَ فِي السَّافِلِ. قَدْ رَأَيْتُ عَبِيداً عَلَى الْخَيْلِ وَرُؤَسَاءَ مَاشِينَ عَلَى الأَرْضِ كَالْعَبِيدِ" (ع 5- 7).

يشير الجامعة إلى المتسلط أو الحاكم نفسه في كثير من الأحيان ليس خلواً من الجهالة وهذا واضح من السهو أو الخطأ الذي طالما يصدر منه. فالأوامر التي يصدرها والمراكز التي يرتبها، ليست دائماً بحكمة نازلة من فوق، بل بحسب نظرته القاصرة وميوله وأهوائه. ونتيجة لذلك ع 6 إذ نرى الجهالة وقد جُعلت في معالي كثيرة بمعنى أنه يضع الجهلاء في المناصب العالية، بينما الأغنياء- في الحكمة والعقل- يوضعون في المناصب الدنيّا، وع 7 استمرار لذات الغباوة الصادرة من صاحب السلطة العليا فيرفع عبيداً ليجلسهم على الخيل بينما الشرفاء ماشون على الأرض كالعبيد.

لكن ع 6، 7 لهما المعنى العميق، إذ أن القديسين قد مسحوا ملوكاً وكهنة لله على حساب عمل المسيح على الصليب وجلوسه في المجد، نراهم الآن محتقرين من العالم "وكأنهم" هم العبيد بينما عبيد الخطية والشيطان لهم اليد العليا في هذا العالم ". كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْء" (2 كو 6: 10).

لكن هذا المنظر سوف يتغير إلى العكس تماماً، فالمفديون سوف يُظهرون مع ربنا يسوع المسيح متى جاء (على السحاب بقوة ومجد كثير) ليتمجد في قديسيه ويتعجب منه في جميع المؤمنين (2 تس 1: 10). وما أمجد كلمته هو "لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ" (لو 12: 32) لذلك مسئوليتنا العظيمة الآن "وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتاً لاَ يَتَزَعْزَعُ لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ بِهِ نَخْدِمُ اللهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً، بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى" (عب 12: 28).

"مَنْ يَحْفُرُ هُوَّةً يَقَعُ فِيهَا وَمَنْ يَنْقُضُ جِدَاراً تَلْدَغُهُ حَيَّةٌ. مَنْ يَقْلَعُ حِجَارَةً يُوجَعُ بِهَا مَنْ يُشَقِّقُ حَطَباً يَكُونُ فِي خَطَرٍ مِنْهُ" (ع 8، 9).

هذه الأعداد النبوية لها المعاني الحرفية والروحية والنبوية.

أولاً: الأعمال الزمنية تعرّض صاحبها لأخطار من ذات العمل نفسه، لأن هذا هو الوضع تحت الشمس، فالحفار في غفلة يسقط في حفرة هو نفسه قد حفرها كذلك من ينقص جداراً، قد تخرج عليه أفعى وتلدغه، كذلك من يقلع حجارة قد يسقط عليه حجر منها، كذلك من يشقق حطباً قد تصيبه الجروح.

أي أن كل عمل زمني له أخطاره طالما الأمر تحت الشمس، وكم من ملايين أصابتهم أضرار بالغة بسبب عملهم الزمني والانهماك فيه، والمفتاح لهذا كله مدرسة الإنسان تحت الشمس بالاستقلال هن حكمة الله. لا ننسى أن العمل الزمني بركة من الله للإنسان (جا 3)، لكن الوضع المرتب من الله هو أن يمارس العمل الزمني في جو الشركة مع الرب وتحت راية مخافة الرب وفي اعتماد كامل عليه، والغرض هو مجد اسمه العظيم في حياة الإنسان. كم تمجد الرب في ذات العمل الزمني المعطي لدانيال وللكثيرين من رجال الله في الكتاب، وأيضاً في التاريخ جورج واشنطون والملكة فيكتوريا واسحق ونيوتن.

ثانياً: المعنى الروحي، كل تخطيط لأجل ذات الإنسان ورفعتها على حساب سحق الآخرين غالباً ما يؤول إلى سحق الإنسان نفسه. تأمل قصة هامان وما دبره لمردخاي وشعب اليهود والمرازبة وما دبره لدانيال النبي (استير ص 3- 7 ودانيال ص 6).

ثالثاً: المعنى النبوي رباعي يصور لنا ما فعلته ايزابل الزانية العظيمة المذكورة في رؤ 17 التي هي الكنيسة الاسمية:

الأولى- ابتدعت تعليماً يقسم الشعب إلى فريقين، إكليروس هم وحدهم الذين لهم حق الاقتراب إلى الله ثم عامة الشعب الذين لا يقترب أحد منهم إلى الله إلا عن طريق الإكليروس، وهكذا صنعت هوة عظيمة بين الشعب وبين الرب المحبوب الفادي، الذي في كل نداءاته الكريمة يوجه النفوس إليه مباشرة، للالتصاق به هو شخصياً والثبات فيه بالإيمان القلبي بذبيحته وعمله الكفاري الكريم على الصليب.

وما هي نتيجة هذه الهوة الرهيبة التي حفرتها ايزابل؟ آلاف لا تحصى من هذا الشعب الذي يدعى عليه اسم المسيح، نراهم الآن يتركون الاسم الكريم لينتسبوا لديانات أخرى.

الثاني- من ينقص جداراً تلدغه حية، الجدار هنا يشير إلى السور الذي يحيط بالمدينة ليفصلها عما حولها، وهذا أيضاً ما فعلته روما فنقضت سور الانفصال الذي ينبغي أن يفصل الكنيسة عن العالم "أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ" (رؤ 2) إذ انهار السور تماماً ودخل العالم ورئيسه الشيطان إلى الكنيسة. كم ينبغي أن نفهم نحن المؤمنين، أن قصد الله باستمرار من جهة شعبه أن يكون جنة مغلقة عيناً مقفلة ينبوعاً مختوماً (نش 4: 12)، "هوذا الشعب يسكن وحده وبين الشعوب لا يُحسب" (العدد 23: 9).

الثالث- من يقلع حجارة يوجَع بها: الحجارة كانت تستخدم في القديم في تحديد التخوم في ملكية الحقول والأراضي. وهناك تحذير إلهي مستمر من عدم احترام هذه التخوم وخاصة حقول اليتامى والأرامل "لا تنقل تخم صاحبك الذي نصبه الأولون" (تث 19: 14، 27: 17) "ملعون كل من ينقل التخم القديم الذي وضعه آباؤك" (أم 22: 28) وناقل التخوم هو لص سارق يستوجب القضاء الإلهي "صارت رؤساء يهوذا كناقلي تخوم فأسكب عليهم غضبي كالماء" (هو 5: 10).

وإزالة أو نقل التخوم والمعالم في العهد الجديد هو التلاعب في تعاليم الكتاب التي هي ميراث شعب الرب في تدبير النعمة الحاضر. وبكل أسف من القرن الرابع المسيحي، تلاعبت ايزابل الزانية العظيمة في كل مجالات الحق الإلهي وأدخلت وسطاء وشفعاء كثيرين بجانب الوسيط الوحيد للخطاة, والشفيع الوحيد للمؤمنين.

الرابع- من يشقق حطباً يكون في خطر منه:

جاءت الإشارة إلى الحطب كثيراً في الكتاب، فهو أول نوع من الأصنام التي انحرفت إليها الأمم، وثانياً قطع الخشب مرتبط بالعبيد كما قال يشوع للجبعونيين إذ انكشفت حيلتهم "فَالآنَ مَلْعُونُونَ أَنْتُمْ فَلاَ يَنْقَطِعُ مِنْكُمُ الْعَبِيدُ وَمُحْتَطِبُو الْحَطَبِ وَمُسْتَقُو الْمَاءِ لِبَيْتِ إِلَهِي" (يش 9: 23)، وهو ذات المعنى الذي أشار إليه الرسول عندما وصف المسيحية بالبيت الكبير الذي يحتوي على آنية ذهب وفضة وحجارة كريمة وخزف، فالثلاثة الأولى تمثل المؤمنين أواني الكرامة أما الخشب والخزف تشير إلى المسيحيين بالاسم عبيد الخطية، وثالثاً الخشب يشير إلى مبدأ الأعمال كطريق للاقتراب إلى الله وإرضائه، كما أشار الرسول إلى احتراق الخشب والعشب والقش أمام كرسي المسيح لأنه لا يثبت إلا الذهب والفضة والحجارة الكريمة أي البر الإلهي المؤسس على فداء المسيح وكمالاته (1 كو 3: 14)، فالأصنام والعبودية والأعمال هي العناوين الكبيرة لكنيسة روما وأتباعها.

"إِنْ كَلَّ الْحَدِيدُ وَلَمْ يُسَنِّنْ هُوَ حَدَّهُ فَلْيَزِدِ الْقُوَّةَ. أَمَّا الْحِكْمَةُ فَنَافِعَةٌ لِلإِنْجَاحِ" (ع 10)

المقصود هنا الآلات الحديدية القاطعة كالسكين أو المخرطة أو المنشار وهي آلات نافعة جداً ولكن يجب أن تُسّن.

أولاً لكي تكون قاطعة وإلا فلا بد من استخدام مجهود عضلي مضاعف (فليزد القوة) وكثيراً ما يتشوه العمل باستخدام آلة غير مسنونة. وهذا له التطبيق العملي الجميل للمؤمنين الذين هم آلات في يد الرب يستخدمها له المجد بفاعلية وقوة الروح القدس. فإن لم يُسّن المؤمن أولاً بأول عند قدمي الرب بسكب القلب بحرارة، لكي يكون إناءً مملوءاً من الروح القدس تصل كلماته إلى الأعماق وتنخس القلوب، كما كان بطرس في أعمال 2 واستفانوس في أعمال 7 والرسول المغبوط بولس في أع 13. ولكن إن أهمل المسّن فحينئذ نستخدم قوتنا الذاتية وما أتعسها وما أكثرها فشلاً "ليس بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود" (زك 4: 6).

"إِنْ لَدَغَتِ الْحَيَّةُ بِلاَ رُقْيَةٍ (before enchantment) فَلاَ مَنْفَعَةَ لِلرَّاقِي" (ع 11)

الرقية نوع من السحر يكون فيه الإنسان آلو طيّعة في يد العدو. والرقية عبارة عن تعويذة الراقي فيسيطر بها بقوة الشيطان على الثعابين، فتأتمر بأمره. والشيطان يقوم بعمل هذه الأمور كأنها خدمة للإنسان، لكنها ليست إلا طعماً في مقابلة سيطرته على الإنسان وإبعاده تماماً عن الله. وكل نفس تلجأ لهذه الأمور تسقط في هذا الفخ، لذلك جاءت التحذيرات الحاسمة "لا تَتَعَلمْ أَنْ تَفْعَل مِثْل رِجْسِ أُولئِكَ الأُمَمِ.. وَلا مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً وَلا عَائِفٌ وَلا مُتَفَائِلٌ وَلا سَاحِرٌ وَلا مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً وَلا مَنْ يَسْأَلُ جَانّاً أَوْ تَابِعَةً وَلا مَنْ يَسْتَشِيرُ المَوْتَى لأَنَّ كُل مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الرَّبِّ" (تث 18: 9).

فما هو إذاً قصد الحكيم من قوله هنا، أنه لا قيمة ولا نفع من رقية الراقي بعد أن تكون الحية قد لدغت فريستها ونفثت سمها فيها؟ هو تصوير للسان لخبيث الذي يلدغ كما تلدغ الحية تماماً. والمؤمن الحكيم يمكنه بالشركة مع الرب بقوة الروح القدس أن يمنع هذه الألسنة السامة ويوقفها عند حدها، ويجعلها تصمت.

لكن هناك معنى أعمق، وهو أن الإنسان مولود بلدغة الحية القديمة (تك 3 مز 51، اش 48) ولا فائدة من كل المحاولات والجهود التي تبذل تحت الشمس لإيقاف سُم الخطية الذي تسرب إلى كل الجنس البشري "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رو 5: 12).

لذلك كل المحاولات هي في الحقيقة جهود شيطانية لإبعاد النظر عن العلاج الجذري الحقيقي الذي هو من فوق "َلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ.. واَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ . وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ" (يو 3: 31) وماذا كانت كلماته له المجد؟ "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو 3: 14).

"كَلِمَاتُ فَمِ الْحَكِيمِ نِعْمَةٌ وَشَفَتَا الْجَاهِلِ تَبْتَلِعَانِهِ" (ع 12)

كم من رجال أفاضل امتلأت قلوبهم من السيد نفسه الذي لما ظهر في الجسد أتى إلينا مملوءاً نعمة وحقاً (يو 1: 14).

على سبيل المثال كلمات داود لشاول بعد أن أبقى على حياته للمرة الثانية (1 صم 26) وكلمات أبيجايل الكرملية التي أوقفت غضب داود ومنعته من الانتقام لنفسه (1 صم 25).

لكن هناك العيّنة الأخرى المحزنة وهي شفتا الجاهل اللتان كثيراً ما كانتا السبب في القضاء عليه. كم كانت ملمات رحبعام ابن سليمان تحت هذه الراية المحزنة "نَّ خِنْصَرِي أَغْلَظُ مِنْ متني أَبِي.. أَبِي أَدَّبَكُمْ بِالسِّيَاطِ وَأَنَا أُؤَدِّبُكُمْ بِالْعَقَارِبِ" (1 مل 12: 10) فكانت هذه الكلمات هوة سحيقة ابتلعت المملكة وذهبت بعشرة أسباط لتكوّن المملكة الشمالية. ما أكثر تحذيرات الكتاب من خطايا اللسان غبي الشفتين يُصرع" (أم 10: 8) لذلك جميل بنا كمؤمنين أن نصلي باستمرار كما صلى داود "اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِساً لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ" (مز 141: 3).

"اِبْتِدَاءُ كَلاَمِ فَمِهِ جَهَالَةٌ وَآخِرُ فَمِهِ جُنُونٌ رَدِيءٌ" (ع 13).

أوضح مثل لهذه الحقيقة المُرّة هو كلام العدو عندما سقط فكانت أول كلماته جهالة "أصعد إلى السموات" ثم ازداد الجهل "أرفع كرسي فوق كواكب الله" وهكذا اقترب من الجنون "أجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال" لأن الملائكة ليس لهم كراسي يجلسون عليها ثم هم أرواح خادمة. وأخيراً وصل إلى الجنون الرديء "أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العلي" (أش 14). وهذا بالضبط ما حدث في سقوط أبوينا الأولين فكانت كلماته الأولى جهالة وهي التشكيك في أقوال الله "أحقاً قال الله"؟ ثم انتهت بالجنون الرديء في تكذيب أقوال العلي الخالق القدير المهوب، في قوله "لن تموتا".

وَالْجَاهِلُ يُكَثِّرُ الْكَلاَمَ لاَ يَعْلَمُ إِنْسَانٌ مَا يَكُونُ وماذا يصير بعده من يخبره (ع 14)

هنا نرى أمرين ظاهرين في حديث الجاهل، الأول هو كثرة الكلام وهذا ما يحذرنا منه الروح القدس كثيراً "كثرة الكلام لا تخلوا من معصية. أما الضابط شفتيه فعاقل" (أم 10: 19) "قول الجهل من كثرة الكلام" (جا 5: 3).

والأمر الثاني الحديث عن المستقبل وكثرة التكهنات بما سيحدث لأنه مملوء بغرور الذات وكل متكله ذراعه التي يتوهم أنها تستطيع أن تفعل كل ما يدور في ذهنه الباطل.

والوحي المقدس يقدم لنا عينات، فأحدهم يتكل على سلطانه وقدرة ملكوته فيتكلم وكأنه خالد إلى الأبد "أَلَيْسَتْ هَذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا.. بقوة اقْتِدَارِي وَلِجَلاَلِ مَجْدِي". لكن ما أروع تقرير الكتاب "وَالْكَلِمَةُ بَعْدُ بِفَمِ الْمَلِكِ وَقَعَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ.. أنَّ الْمُلْكَ قَدْ زَالَ عَنْكَ" (دا 4: 30).

وآخر يتكلم عن غناه (لو 12: 19) فيأتيه الصوت "هذه الليلة تُطلب نفسك منك"

"تَعَبُ الْجُهَلاَءِ يُعْيِيهِمْ لأَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ يَذْهَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ" (ع 15)

هنا التنبير على أمرين: الأول، التعب الباطل وهذا ما قرره الحكيم في بداءة هذا السفر، بينما التعب لأجل الرب يجدد القوة ويملأ القلب بهجة الرب نفسه علاوة على المكافآت الأبدية- "منتظروا الرب يجددون قوة.." (أش 40: 31)، "مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ" (1 كو 15: 58).

الأمر الثاني- التخبط في الخطوات لأن أمامه مدن كثيرة وكل رغبة قلبه المدينة التي تجلب الربح الأعظم "رجل ذو رأيين متقلقل في جميع طرقه" (يع 1: 8)، "عبنا الجاهل في أقصى الأرض" (أم 17: 24).

"وَيْلٌ لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ إِذَا كَانَ مَلِكُكِ وَلَداً وَرُؤَسَاؤُكِ يَأْكُلُونَ فِي الصَّبَاحِ" (ع 16).

الولد هنا تعبير عن الطيش وعدم الخبرة وعدم تقدير المسئوليات، وليس بالضرورة أن يكون ولداً في السن إذ ربما تقدمت به الأيام ولكن في عقله واختباراته وتصرفاته مملوء بالرعونة والجهل والحماقة والاندفاع. وقد يكون حدثاً في السن ولكنه متدرب عند قدمي الرب على الاتزان والوقار والهدوء والحكمة، كما قال الرب لإرميا الشاب الصغير "لا تقُل إني ولد.. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك" (إر 1: 7، 8).

لكن باستمرار الروح القدس يرفع قلوبنا إلى النموذج الكامل في كل شيء الذي إذ كان بعد في حداثة سنه (12 سنة) كان في الهيكل وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم وكل الذين سمعوه بُهتوا من فهمه وأجوبته، ثم كلمات الحكمة التي عالج بها أفكار العذراء المطوبة (لو 2: 46- 49). لذلك لما جاء إلى رسله بعد القيامة، عند بحر طبرية، وكانوا قد تركوا مكانهم وإرساليتهم ورجعوا لصيد السمك، نراه يوبخهم التوبيخ الرقيق "يا غلمان"  Little Children  يو 2: 5. ليتنا ننمو في النعمة وفي معرفة شخصه المحبوب فيتم فينا تحريض الرسول المغبوط "إسهروا اثبتوا في الإيمان كونوا رجالاً تقوا. لتصر كل أموركم في محبة" (1 كو 16: 13).

"رؤساؤك يأكلون في الصباح":

الصباح هو الوقت المخصص للقضاء والنظر في الدعاوي ورعاية شئون عامة الشعب ولا سيما المظلومين "اقضوا في الصباح عدلاً" (ار 21: 12) لذلك نرى العبد الفريد الرب يسوع يشير إليه الروح القدس أين كان يبدأ يومه- اش 50: 4- لذلك كان اليوم كله "يجول يصنع خيراً ويشفي جميع التسلط عليهم إبليس" وما أروع ما قيل عنه "ولم تتيسر لهم الفرصة للأكل" (مر 6: 31)

"طُوبَى لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ إِذَا كَانَ مَلِكُكِ ابْنَ شُرَفَاءَ وَرُؤَسَاؤُكِ يَأْكُلُونَ فِي الْوَقْتِ لِلْقُوَّةِ لاَ لِلسَُّكْرِ" (ع 17)

المباينة واضحة بين سيادة الشرير وسيادة البار، فهنا نرى ابن الشرفاء أي ابن الأفاضل، والشرفاء والأفاضل في مقاييس كلمة الله هم الذين لهم علاقة حقيقية بالله "القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم" (مز 16: 3) وحينئذ يكون التطويب والغبطة كلها، وقد تحقق هذا في التاريخ المقدس أيام مُلك داود وسليمان ويهوشافاط وحزقيا ويوشيا. لكن لكل منهم ضعفاته وصفحات يتمنى لو تُمحى، أما ذاك الذي سيملك على كل الأرض ويكون هو وحده واسمه وحده (زك 14: 9) فسوف يقضى وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل ولا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فيما بعد (أش 2).

"ورؤساؤك يأكلون في الوقت للقوة لا للسكر":

حيث يكون الرأس سليماً لا بد أن يأتي بالثمر المبارك في كل دوائر الحكم، لذلك نرى الرؤساء، أي الذين في مناصب رئيسية، ليسوا مستعبدين للشهوات ولهم الحكمة والتمييز، ولكل شيء عندهم وقتٌ وحكم، ولا علاقة لهم بالمسكر.

"بِالْكَسَلِ الْكَثِيرِ يَهْبِطُ السَّقْفُ وَبِتَدَلِّي الْيَدَيْنِ يَكِفُ الْبَيْتُ" (ع 18)

يشبّه الحكيم المملكة بالبيت المبني من الطوب، فإن لم يسهر صاحب البيت على سلامة الجدران والسقف وذلك بالترميم السريع، فلا بد أن يهبط السقف. والبيت يكِفُ أي يتساقط شيئا فشيئاً حتى ينهار نهائياً بسبب الكسل وعدم العناية. هكذا أيضاً بكسل المسئولين وتراخيهم في واجباتهم، لا بد أن يتطرق الانحلال إلى المملكة.

الوكف هو الماء السائل قليلاً قليلاً من السقف غير المحكم بعد انتهاء المطر ينتج عنه رشوحات بالسقف والجدران، وهذا يؤول إلى انهيار البيت. ولنا في هذا تعليم هام وهو حرصنا وسهرنا ضد تجمع أمطار العالم فوق سقف البيت كعائلة أو ككنيسة. والسقف هو الجزء الواقي من فوق، والجدران هي الواقية من الجوانب، فالأول يشير إلى التعليم الصحيح الواقي لنا من البدع التي يهاجم بها العدو الأذهان أما الجدران فتشير إلى تمكين المحبة الأخوية حتى لا نعطي إبليس مكاناً.

ولا ننسى تقرير الرسول أن الأساس الوحيد الذي يقوم عليه مل البناء هو صخر الدهور "فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (1 كو 3: 11) الذي بدونه لا بد من السقوط العظيم.

"لِلضِّحْكِ يَعْمَلُونَ وَلِيمَةً وَالْخَمْرُ تُفَرِّحُ الْعَيْشَ. أَمَّا الْفِضَّةُ فَتُحَصِّلُ الْكُلَّ" (ع 19)

يوضح الحكيم هنا سبب الانحلال الذي أشار إليه في الأعداد السابقة، فإن الحكام يستخدمون بركات الله في ملذاتهم الخاصة، ويصرفون وقتهم ونشاطهم في الانغماس في شهواتهم مستخدمين الخمر لاصطناع الأفراح. والفضة هي التي تمكنهم من صنع هذه الولائم الخمرية الضاحكة. ولكن على صفحات الوحي نرى كيف انقلب كثيرٌ من هذه الولائم إلى رعب وفزع والقضاء الإلهي وقع في الحال (راجع وليمة بيلشاصر لعظمائه الألف- داه، ووليمة هيرودس- مت 14) لكن ما أسمى وما أمجد وأثبت الوليمة التي ينشئها الروح القدس في القلب بدخول ابن الله كالمخلص والفادي "وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ" (1 بط 1: 8) فهي الوليمة الحقيقية والخمر الدائم والفضة الإلهية التي هي الفداء.

"لاَ تَسُبَّ الْمَلِكَ وَلاَ فِي فِكْرِكَ وَلاَ تَسُبَّ الْغَنِيَّ فِي مَضْجَعِكَ لأَنَّ طَيْرَ السَّمَاءِ يَنْقُلُ الصَّوْتَ وَذُو الْجَنَاحِ يُخْبِرُ بِالأَمْرِ" (ع 20).

أمام حياة المجون التي تظهر في بعض الحكام، قد يتفوه الإنسان بعبارات سب لهم، ويلعن تصرفاتهم. لكن هذا لا يتفق مع خوف الله الذي أقامهم (ص: 2، رو 13: 1). فضلاً عن أن ذلك ليس من الحكمة لأنه يعرّض صاحبه للعقاب، أما المؤمن فهو مدعو للشكر في كل الظروف مهما كان نوع الحاكم "افرحوا في كل حين. صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شيء لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم" (1 تس 5: 16، 17، 18). بينما طابع غير المولود من الله، هو التذمر والشكوى من كل شيء هؤلاء هم مدمدمون متشكون سالكون بحسب شهواتهم وفمهم يتكلم بعظائم" (يه 16).

"طير السماء ينقل الصوت": مَثلْ مألوف، وهو كلام مجازي مؤداه أن ما يقوله الإنسان مهما يكن في السر، سرعان ما ينتقل بطريقة لا يظنها ويعرّض صاحبه للانتقام هكذا الوصية الإلهية "لاَ تَسُبَّ اللهَ (إيلوهيم أي القضاة باعتبارهم ممثلين لله) وَلاَ تَلْعَنْ رَئِيساً فِي شَعْبِكَ" (خر 22: 28)، أيضاً "أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ أَحِبُّوا الإِخْوَةَ خَافُوا اللهَ أَكْرِمُوا الْمَلِكَ" (1 بط 2: 17).

  • عدد الزيارات: 1963