الأصحاح الثامن
"مَنْ كَالْحَكِيمِ وَمَنْ يَفْهَمُ تَفْسِيرَ أَمْرٍ؟ حِكْمَةُ الإِنْسَانِ تُنِيرُ وَجْهَهُ وَصَلاَبَةُ وَجْهِهِ تَتَغَيَّر" (ع 1)
تتميز كتابات سليمان بإبراز الحق في صورة أسئلة مباركة تجذب انتباه القارئ والسامع, فمثلاً في نشيد 3, 6, 8 يشد انتباهنا بثلاثة أسئلة إلى ثلاثة مناظر للعروس لكي ترى انعكاس عمل المسيح على الصليب عليها وانطباع كمالاته فيها. وهنا يشد انتباهنا إلى الإنسان الذي بنعمة الله انتقل إلى فريق الحكماء أمام الله, أي امتلك الحكمة السماوية التي هي شخص المسيح نفسه تبارك اسمه إلى الأبد. وقد وضح سليمان بإملاء الروح القدس في أم 4: 7 "الْحِكْمَةُ هِيَ الرَّأْسُ فَاقْتَنِ الْحِكْمَةَ وَبِكُلِّ مُقْتَنَاكَ اقْتَنِ الْفَهْمَ"- وهذا هو قصد الروح القدس أن الإنسان بدون المسيح الحكمة الرأس هو بلا عقل "أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ" (أي 11: 12).
وهنا يظهر سؤال سليمان على حقيقته: مَنْ بين البشر كالحكيم الذي امتلك المسيح الحكمة الأزلي؟ وهذا هو امتياز العذارى الحكيمات على الجاهلات (مت 25). ومن يفهم تفسير أمر, هذه أول بركة يتميع بها الحكيم أنه يفهم أمور الله, يفهم مقاصد الله الأزلية من جهتنا في ربنا يسوع المسيح, يفهم معاملات الله معه, وما أروع ما يطلبه الرسول المغبوط للمؤمنين "لكل غني يقين الفهم" (كو 2: 2) أي غني في الفهم مع يقين راسخ, مثلاً قضية الخلاص التي تتخبط فيها الرياسات الدينية في المسيحية الأسمية, نراها واضحة تماماً لكل من احتمى في دم الحمل وله اليقين أنه خلاص أبدي وكامل لأن حمل الله سدد للعدل الإلهي كل مطاليبه.
البركة الثانية حكمة الإنسان تنير وجهه, ووجه الإنسان المعبر عن شخصيته أي أن شخصية المؤمن أصبحت منيرة في كل مجال يتحرك فيه "كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في الرب" (أف 5: 8)
البركة الثالثة صلابة وجهه تتغير "أنزع قلب الحجر وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 26) أي الطبيعة الجديدة التي لها أحشاء المسيح وأيضاً الاستعداد القلبي للصفح.
"أَنَا أَقُولُ احْفَظْ أَمْرَ الْمَلِكِ وَذَاكَ بِسَبَبِ يَمِينِ اللَّهِ" (ع 2).
"تَعْجَلْ إِلَى الذَّهَابِ مِنْ وَجْهِهِ لاَ تَقِفْ فِي أَمْرٍ شَاقٍّ لأَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا شَاءَ. حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَان وَمَنْ يَقُولُ لَهُ مَاذَا تَفْعَلُ؟"
يوصي الجامعة بصفته الشخصية كحكيم مختبر, أن يخضع الإنسان في ولاء كامل وأمانة صادقة للملك
"لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ" (رو 13: 1, 2).
- "ولا تعجل على الذهاب من وجهه"- أي لا تفكر في عصيانه أو التمرد عليه أو تدبير الشر له, ولا تقف في أمر شاق- أي احذر من أن تكون على صلة بمؤامرة ضده, لأن هذا أمر صعب عليك في نتائجه الوخيمة.
- لأنه يفعل كل ما شاء, وكلمته مقترنة بالسلطان, وله القدرة على الانتقام ولا يستطيع أحد أن يعارضه لأنه: مَنْ يقول له ماذا تفعل؟
بقيت كلمة تحتاج إلى توضيح "أحفظ أمر الملك وذلك بسبب يمين الله". قد يفهم البعض أنه ذلك القسم الذي يؤديه الملك أمام ممثلي الأمة في لحظة تتويجه وهذا حق وجميل ولكن عندما نرجع إلى الأصل نجد أن القسم هنا يعود على الله ذاته تبارك اسمه المعبود. هل الله أقسم؟ نعم! هناك في مزمور المسيا كالملك والكاهن "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ.... أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ" (مز 110: 1, 4) يا لها إذاً كلمة عجيبة, أحفظ أمر الملك الذي أقسم له الله, فكل مقاصد الله تدور حول تمجيد ذاته الكريمة بالارتباط ببركة الإنسان, وأقنوم الابن هو الذي استطاع بتجسده وعمله الكفاري أن يحقق هذه المقاصد. وهذا مؤسس على بعد وقسم بين أقنوم الآب وأقنوم الابن وهنا يأتي السؤال: ما هو أمر هذا الملك المجيد الذي أقسم له الله؟ هذا الأمر يتجه إلى دائرتين, الأولى للخطاة "توبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر 1: 15)- "كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصا هذا مقداره، قد ابتدأ الرب بالتكلم به" (عب 2: 3), والثانية للمؤمنين "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف" (مت 11: 29).
"حَافِظُ الْوَصِيَّةِ لاَ يَشْعُرُ بِأَمْرٍ شَاقٍّ وَقَلْبُ الْحَكِيمِ يَعْرِفُ الْوَقْتَ وَالْحُكْمَ" (ع 5).
حالتنا الروحية عملياً تحدد موقفنا من الكلمة, إن سلكنا بالاستقامة فإننا نفرح بالكلمة ونرى فيها الطريق الوحيد المأمون في هذا العالم ونراها مملوءة بالمواعيد المباركة لنا, ولا نرى أية صعوبة في تنفيذ كل ما يأمر به الملك المعبود "ليست أقوالي صالحة نحو من يسلك بالاستقامة" (مي 2: 7), "نصيب الرب قات لحفظ كلامك" (مز 119: 57) ولأهمية هذا الأمر بالنسبة لحالة أولاد الله في هذا العالم نرى الرسول يوحنا يربط محبة الله بحفظ وصاياه ويجعلهما أمراً واحداً "فإن هذه هي محبة الله: أن نحفظ وصاياه. ووصاياه ليست ثقيلة" (1 يو 5: 3). لكن إذا كان السلوك معوجاً فالكلمة لا تُحتمل لأن الإنسان سيرى فيها ضربات موجعة ونخسات منبهة لضميره. على سبيل المثال عندما طلب يهوشافاط نبياً للرب يتكلم بكلمة الرب كانت إجابة آخاب الشرير "بعدُ رجل واحد لسؤال الرب به ولكنني أبغضه لأنه لا يتنبأ علىّ خيراً بل شراً كل أيامه وهو ميخا بن يمله" (2 أي 18: 7).
"وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم": قلب المؤمن السالك باستقامة يستطيع أن يميز ما هو الوقت المناسب المعّين من إلهه لأي أمر في تفصيلات حياته, لأن الحكمة عملياً هي وضع كل شيء في مكانه الصحيح. والوقت له أهميته في حياة المؤمن الأمين كما قال رجل الله داود "في يدك آجالي" أي أوقاتي, أي إنني أخاف على هذا الوقت المعطى لي من محبتك, لذلك أسلمه لك لكي تحفظه أنت وترتبه لي بحسب حكمتك (مز 31: 5) وهو ذات تحريض الرسول "مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة" (أف 5) أي الحرص عليه بكل اجتهاد, وهو الوقت لطلب الرب (هو 10: 12) أي نطلب وجهه باستمرار لكي يحكّمنا ويعلمنا.
ووقت عمل للرب (مز 119: 126) أي وقت ليُعمل فيه للرب, ووقت استيقاظ وسهر وصحو ولبس أسلحة النور (رو 13, 1 تس 5: 8).
"لأَنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ وَقْتاً وَحُكْماً" (ع 6)
لقد رسم الرب في كامل صلاحه ومحبته وحكمته المخطط المبارك لحياة كل واحد من أولاد الله. فكان هناك وقت للآلام في حياة يوسف, لكن كان هناك وقت للرفعة والمجد, وكان هناك وقت لأليصابات لكي تظل عاقراً, لكن جاء الوقت لاستجابة الطلبة. ليتنا ننتظر الرب في ثقة وتواضع.
"لأَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ عَظِيمٌ عَلَيْهِ for the misery of man لأَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ. لأَنَّهُ مَنْ يُخْبِرُهُ كَيْفَ يَكُونُ" (ع 6, 7)
لأن تعاسة الإنسان كامنة في أن يرسم لنفسه ويرتب ويخطط وهو لا يعلم كيف تصير الأمور في المستقبل, وكيف تكون الأوضاع. سر تعاسة هامان أنه رسم وخطط انتقاماً عظيماً يتناسب مع غروره بعظمة مركزه, وما أعجب الكلمة "لأنه لا يعلم ما سيكون لأنه من يخبره كيف يكون". كيف تغيّرت الأوضاع إلى تعظيم مردخاي, ويُلغي المرسوم ويُصلب هامان على ذات الخشبة التي أعدها لمردخاي. ليت كل إنسان يتعقل أمام هذه الكلمة "لأنه لا يعلم ما سيكون لأنه من يخبره كيف يكون", "لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا يلده يوم" (أم 27: 1) "أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد" (يع 4: 14).
"لَيْسَ لإِنْسَانٍ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ لِيُمْسِكَ الرُّوحَ وَلاَ سُلْطَانٌ عَلَى يَوْمِ الْمَوْتِ وَلاَ تَخْلِيَةٌ فِي الْحَرْبِ وَلاَ يُنَجِّي الشَّرُّ أَصْحَابَهُ" (ع 8).
1- ليس لأي إنسان سلطان أن يتحكم في طريقة خروج روحه منه لأن هذا أمر محدد من الخالق جابل روح الإنسان في داخله. واحدٌ فقط رسم لنفسه الكريمة طريقة خروجه من هذا العالم:
أولاً له المجد رسم لنفسه طريقة خروج روحه من جسده القدوس (يو 3: 14, يو 12: 32, يو 8: 28, مر 22: 16) هو النازل من فوق في محبة مضحية ليعترض الإنسان اندفاعه الجنوني وراء أمور العالم, هو النازل من فوق ليصلب إرادة الطبيعة الساقطة (غل 2: 20, 5: 24, 6: 14), هو النازل من فوق ليموت وبالموت يُبطل الخطية وكل نتائجها (2 تي 1: 10) (عب 9: 26)
رسم لنفسه طريقة خروج جسده وروحه معاً بالصعود من جبل السلام.
2- ليس لأي إنسان سلطان لكي يعرف متى يموت (يو 12: 27, 13: 1, 17: 1)
3- ليس لأي إنسان قدرة على الخروج من النزاع الذي في العالم إلا بالركض السريع إلى رئيس السلام (مز 34: 14, 1 بط 3: 11).
4- ليس لأي إنسان القدرة على الخروج من مآزق وضيقات هذا العالم إلا بالركض السريع إلى صخر الدهور (أم 18: 10, أي 36: 16, 5: 18, 1 بط 5: 9, 10)
"كُلُّ هَذَا رَأَيْتُهُ إِذْ وَجَّهْتُ قَلْبِي لِكُلِّ عَمَلٍ عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ وَقْتَمَا يَتَسَلَّطُ إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ لِضَرَرِ نَفْسِهِ. وَهَكَذَا رَأَيْتُ أَشْرَاراً يُدْفَنُونَ وَضُمُّوا وَالَّذِينَ عَمِلُوا بِالْحَقِّ ذَهَبُوا مِنْ مَكَانِ الْقُدْسِ وَنُسُوا فِي الْمَدِينَةِ. هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ" (ع 9, 10).
يتابع الحكيم التأمل في مناظر الذات البشرية الساقطة والمملوءة بالأنانية وهي مدرسة للعدو وقد غرسها في جنسنا الآدمي في لحظة السقوط في عدن, وهي ضد مدرسة الله وطبيعته تماماً التي عنوانها المحبة الباذلة المضحية بكل شيء وأغلى شيء سبيل غبطة وراحة الآخرين "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو 3: 16).
لقد تأمل الحكيم في ص 3: 16 في الظلم الغارق فيه العالم وهو نابع من الأنانية الساقطة كما سبقت الإشارة, وخرج بالنتيجة أن الله لا بد أن يقضي وينصف الصدّيق كما أنه يدين الشر. وتأمل بعد ذلك ص 4: 1 في النتيجة الظاهرة في العالم نتيجة الظلم وهي دموع لا حصر لها في كل مكان. لكن هنا يصف نتيجة أخرى عجيبة للظلم وهي أن الظالم أولاً يضر نفسه. لقد ظُلم يوسف بقسوة من إخوته وكانت النتيجة تلك المواقف المفزعة التي تعرّضوا لها. لقد ظُلم دانيال من عظماء مملكة فارس وأدى ذلك إلى أكبر كارثة لهم إذ أكلتهم الأسود هم وزوجاتهم وأولادهم. ما أرهب التقرير "يتسلط إنسان على إنسان لضرر نفسه".
لكن النتيجة الثانية التي يصل إليها في ع 10 وهي أن الموت وضع يده على الفريقين, الأشرار الظالمين والأبرار المظلومين, وهكذا ضمهم النسيان في هذا العالم وهذا أيضاً باطل والمفتاح في ع 9 "تحت الشمس". ولكن عندما نرفع عيوننا إلى ذاك الذي فوق الشمس, النموذج الكامل دائماً, نراه وقد عومل في أرضنا بأقسى أنواع الظلم مع أن كل خطوة منه كان فيها الإحسان للآلاف في كل نتائج الخطية من عمل وشلل وبرص وحمى وموت, وهو وحده الذي عمل بالحق بل جاء مملوءاً نعمة وحقاً وذهب من مكان القدس أي المحاكمة أما حنّان وقيافا, الممثلين للقدس في ذلك الوقت, إلى الجلجثة خارج أورشليم. لكن هل حقاً نسي في المدينة؟ هذا ما قصده قواد الأمة, لكن ها هي لمحة من مجد قيامته جعلت الجنود الرومان حرّاس قبره كأموات, فتأتيهم فضة الرشوة مع التقرير الكاذب "قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام" (مت 28: 4, 12).
هل نجح إذاً قصدهم ونُسى في المدينة؟ شكراً لله لأجل انتصاره المجيد "دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ... إذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مت 28: 18, مر 16: 15).
وحتى الذين ارتبطوا به واحتموا في دمه الكريم وعملوا بالحق في حياتهم وحوكموا أمام المحاكم الدينية اليهودية (مكان القدس) وعاملهم العالم بذات الظلم وقبلوا أن تُبذل حياتهم لأجل اسمه, هل نسوا في المدينة؟
ها هو الانجيل في كل مكان في العالم يعلن رسائل بولس وبطرس ويوحنا وباقي كتبة الوحي في العهد الجديد والإذاعات المقدسة التي تنادي على مدى 24 ساعة تردد أسماءهم جميعاً تحت راية الاسم المجيد المعبود.
"لأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْعَمَلِ الرَّدِيءِ لاَ يُجْرَى سَرِيعاً فَلِذَلِكَ قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُ بَنِي الْبَشَرِ فِيهِمْ لِفَعْلِ الشَّرِّ" (ع 11)
لماذا يتأنى الرب كثيراً على الأعمال الرديئة التي تصدر من الأشرار, وهذا يملأهم بالتصلف والتمادي في فعل الشر؟ قد نجد الإجابة في بعض إعلانات الوحي المقدس:
أولاً- الدينونة والقضاء على الإنسان أمر غريب على قلب الله لأن طبيعته محبة. والأمر الطبيعي جريان هذه المحبة بفيض غامر نحو الإنسان الكائن العاقل المفكر الذي يستطيع أن يميز هذه المحبة ويفرح بها "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً" (1 يو 4: 19).
لكن لأن الشر هو تطاول على حق الله وكرامته, لذلك لا بد من إدانته, وهذا هو الأمر الغريب على طبيعة الله "يقوم الرب.. يسخط ليفعل فعله فعلة الغريب وليعمل عمله عملة الغريب" (أش 28: 21) لذلك نرى مشاهد تأني الله في القضاء (لو 13: 8, رو 2: 4, أي 33: 14).
ثانياً- طول أناة الله في توقيع القضاء كانت سبباً في خلاص كثيرين وتحولهم إلى أوان عظيمة خدمت مقاصد الله كما يقرر الرسول المغبوط "لَكِنَّنِي لِهَذَا رُحِمْتُ لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ" (1 تي 1: 16).
ثالثاً- طول أناة الله على الأشرار تخدم مقاصده في جعل أولاده يلتصقون به أكثر فيزداد إيمانهم وتتعمق شركتهم وتتنقى حياتهم, لأن عرش النعمة هو الملاذ الوحيد لهم من الأشرار.
رابعاً- طول أناة الله على الأشرار ليغرس في قلب أولاده احتمالاً أكثر وصبراً أكمل بل يدربهم على الصلاة بلجاجة لأجل الأشرار والتأني عليهم في رجاء توبتهم وخلاصهم.
مثلاً في وليمة أستير الأولى كان في إمكانها القضاء على عدوها لكن ما أروع انتظارها لليوم التالي. كذلك كان بولس وسيلا جاءت الفرصة للقضاء على السجان عدوهم بذات سيفه بعيداً عنهم, لكن أحشاء مخلصهم التي ملأت قلوبهم "لا تفعل بنفسك شيئاً رديئاً" (أع 16: 28).
"اَلْخَاطِئُ وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً مِئَةَ مَرَّةٍ وَطَالَتْ أَيَّامُهُ إِلاَّ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ اللَّهَ الَّذِينَ يَخَافُونَ قُدَّامَه" (ع 12)
يفترض الحكيم أن حاكماً شريراً يجري ظلماً مئة مرة, وبناء على أناة الله المقررة في ع 11 هكذا طالت أيام شره وطغيانه, فلا يجب أن نخور ونفشل, لأن الخير في الله مضمون للذين يتقونه ويسلكون بالأمانة قدامه. وما أروع لغة اليقين "إني أعلم" التي تملأ كل أواني الوحي "إني أعلم بمن آمنت" (2 تي 1: 12), "أما أنا فقد علمت أن وليي حي" (أي 19: 15) وآخر أواني الوحي يقرر 7 مرات "نحن نعلم" (راجع رسالة يوحنا الأولى).
"وَلاَ يَكُونُ خَيْرٌ لِلشِّرِّيرِ وَكَالظِّلِّ لاَ يُطِيلُ أَيَّامَهُ لأَنَّهُ لاَ يَخْشَى قُدَّامَ اللَّهِ" (ع 13).
كما هو موقن بالخير لمتقي الله, هو أيضاً موقن أن الشرير لا يحصد إلا الشر الذي زرعه, لأنه هكذا أعلنت وأنذرت كلمة الله "الزارع إثماً يحصد بلية" (أم 22: 8) "لا تضلوا الله لا يُشمخ عليه فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً" (غل 6: 7).
- "وكالظل لا يطيل أيامه" قرر في ع 12 أن الشرير قد تطول أيامه, لكن أحياناً كثيرة أخرى يتهور الشرير, ويكون هذا الشر ذاته سبباً في القضاء عليه "الشِّرِّيرُ تَأْخُذُهُ آثَامُهُ وَبِحِبَالِ خَطِيَّتِهِ يُمْسَكُ. إِنَّهُ يَمُوتُ مِنْ عَدَمِ الأَدَبِ وَبِفَرْطِ حُمْقِهِ يَتَهَوَّر" (أم 5: 22), "لاَ تَكُنْ شِرِّيراً كَثِيراً وَلاَ تَكُنْ جَاهِلاً. لِمَاذَا تَمُوتُ فِي غَيْرِ وَقْتِك" (جا 7: 17).
والخلاصة التي يريد أن يقررها في ع 12, 13 أنه لا يوجد خير حقيقي للإنسان إلا في مخافة الرب أي التقوى التي لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة (1 تي 4: 8).
"يُوجَدُ بَاطِلٌ يُجْرَى عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُوجَدَ صِدِّيقُونَ يُصِيبُهُمْ مِثْلُ عَمَلِ الأَشْرَارِ وَيُوجَدُ أَشْرَارٌ يُصِيبُهُمْ مِثْلُ عَمَلِ الصِّدِّيقِينَ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ" (ع 14).
هذه ملاحظة متعبة وقد أتعبت أولاد الله في كل العصور وهي المعاملات الإلهية التي تبدو ظاهرياً بأنها متساوية, وكأنها تحدث خبط عشواء فالصديقون تنهال عليهم البلايا التي هي من نصيب الأشرار. ومن الناحية الأخرى تتهاطل العطايا على الأشرار ويكون النجاح رفيقهم. وهذا ما أتعب رجل الله آساف في بادئ الأمر- مز 73: 1- 10, ولم يكن هناك ملاذ يهرب إليه إلا مقادس الله، حينئذ انكشفت الحقيقة "حقاً في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار" ع 17، إلى أن وصل إلى الخلاصة "كحلم عند التيقظ" وكأنه يقول لكل الأجيال الأمور المتطورة كلها حلم، ومسكين وبائس من بيني حياته على الأحلام.
أما بعد أن كشفت له الحقيقة في معية الرب وفيها كل الحكمة في القيادة "برأيك تهديني" وأيضاً اليقين الكامل في وصوله للمجد "وبعد إلى مجد تأخذني"- ع 24، لهذا هتف في ع 25 "من لي في السماء (إلا أنت) ومعك لا أريد شيئاً في الأرض".
"فَمَدَحْتُ الْفَرَحَ لأَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ خَيْرٌ تَحْتَ الشَّمْسِ إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَفْرَحَ وَهَذَا يَبْقَى لَهُ فِي تَعَبِهِ مُدَّةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ الَّتِي يُعْطِيهِ اللَّهُ إِيَّاهَا تَحْتَ الشَّمْسِ" (ع 15).
ما أروع كلمة الله في قيادتها للقلب الراغب في الاستقامة، أمام هذا المنظر المتعب ظاهرياً وفيه كأن الأوضاع مقلوبة، إذ المصائب من نصيب القديس والنجاح والتوفيق في جانب الأشرار.
لذلك نرى الحكيم يأخذ منطق العقل البشري والتفكير الإنساني بدلاً من الدخول بهذه المشكلة إلى الأقداس كما عمل آساف، وهو ليس بالضرورة ما عمله سليمان نفسه كما كتب الرسول بولس اختبار رو 7. فنرى في كلام الحكيم، طالما الأوضاع مقلوبة والأحداث بلا ضابط، فالتفكير البشري هو انتهاز كل فرصة للفرح والأكل والشرب طالما الكوارث في طريقها إلى القديس مهما دقق في سلوكه! فماذا كانت النتيجة؟ نراه يقرر أمرين محزنين جداً:
أولاً:- "لَمَّا وَجَّهْتُ قَلْبِي لأَعْرِفَ الْحِكْمَةَ وَأَنْظُرَ الْعَمَلَ الَّذِي عُمِلَ عَلَى الأَرْضِ وَأَنَّهُ نَهَاراً وَلَيْلاً لاَ يَرَى النَّوْمَ بِعَيْنَيْهِ" (ع 16).
أي أنه فقد كل سلام، ونهاراً وليلاً لا يرى النوم بعينيه، يا لها من حالة مُرّة للمولود المقرر له السلام من رب السلام نفسه الذي يعطي أحباءه دائماً السلام من كل وجه (2 تس 3: 16). وأما هذا الوضع فهو لأعداء الرب "لا سلام قال إلهي للأشرار" (أش 48: 22).
ثانياً:- "رَأَيْتُ كُلَّ عَمَلِ اللَّهِ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجِدَ الْعَمَلَ الَّذِي عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْس مَهْمَا تَعِبَ الإِنْسَانُ فِي الطَّلَبِ فَلاَ يَجِدُهُ وَالْحَكِيمُ أَيْضاً وَإِنْ قَالَ بِمَعْرِفَتِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَجِدَهُ" (ع 17).
أي أنه لن يجد الحل للمشكلة مهما طلب بحسب الحكمة الإنسانية فتظل قائمة قاتمة تخيم على تفكيره تحجب عنه شمس محبة سيده ونور الشركة معه. ما أروع هتاف آساف إذ طرح المشكلة أمام الرب، وما أروع هتاف الرسول المغبوط بولس "وفي هذه كلها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37).
- عدد الزيارات: 1949