Skip to main content

الأصحاح التاسع

"لأَنَّ هَذَا كُلَّهُ جَعَلْتُهُ فِي قَلْبِي وَامْتَحَنْتُ هَذَا كُلَّهُ: أَنَّ الصِّدِّيقِينَ وَالْحُكَمَاءَ وَأَعْمَالَهُمْ فِي يَدِ اللَّهِ. الإِنْسَانُ لاَ يَعْلَمُ حُبّاً وَلاَ بُغْضاً. الْكُلُّ أَمَامَهُمُ" (ع 1).

يستمر الحكيم في بحث المشكلة بكل فكره وبلا هوادة ليلاً ونهاراً، وكيف تكون الأوضاع كأنها مقلوبة، فالصديق يتألم والشرير ينجح. ويخرج من بحثه بنتيجة أكثر ظلاماً، وهي أنه لا يمكن معرفة من يحبه الله ومن يبغضه! وكل هذا ثمر البحث الذاتي بدون طرح المشكلة أمام الرب في الأقداس. وتأمل هادئ في نور كلمة الله كان أنهى المشكلة في الحال " حَبِيبُ الرَّبِّ يَسْكُنُ لدَيْهِ آمِناً. يَسْتُرُهُ طُول النَّهَارِ وَبَيْنَ مَنْكِبَيْهِ يبيت" (تث 33: 12)، "اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ" (مز 91: 1)، "مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الْخَائِفُ الرَّبَّ. يُعَلِّمُهُ طَرِيقاً يَخْتَارُهُ. نَفْسُهُ فِي الْخَيْرِ تَبِيتُ وَنَسْلُهُ يَرِثُ الأَرْضَ" (مز 25: 12، 13)، "مَا أَعْظَمَ جُودَكَ الَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ تُجَاهَ بَنِي الْبَشَرِ" (مز 31: 19).

لكن ما أروع الإعلان من فم ذاك الذي من عند الآب خرج وأتى إلينا فداء لنا وبراً وخلاصاً وحياة أبدية لا يسود عليها الموت. اسمعه وهو يقول "كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي" (يو 15: 9)، ونسمعه في صلاته العجيبة على مسمع من تلاميذه في ليلة آلامه "كانوا لك وأعطيتهم لي.. وأحببتهم كما أحببتني" (يو17: 6, 23).

لهذا يكشف الرسول المغبوط أن كل ما يتعرض له أولاد الله من ضيق وآلام ينبغي أن نتأمل ذاك القدوس الذي في محبته احتمل ما لا يوصف سواء من البشر أو من العدل الإلهي, وفي الحال نهتف من أعماق القلب "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ" (رو 8: 28).

"الْكُلُّ عَلَى مَا لِلْكُلِّ. حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصِّدِّيقِ وَلِلشِّرِّيرِ لِلصَّالِحِ وَلِلطَّاهِرِ وَلِلنَّجِسِ. لِلذَّابِحِ وَلِلَّذِي لاَ يَذْبَحُ. كَالصَّالِحِ الْخَاطِئُ. الْحَالِفُ كَالَّذِي يَخَافُ الْحَلْفَ" (ع 2).

بداءة هذا العدد تُقرأ هكذا "كل الأشياء تأتي متشابهة على الكل" كان البحث في العدد السابق صعوبة معرفة من هم محبوبو الله أمام الأحداث الجارية تحت الشمس. وقد توضح لنا أن محبة الله هي الوسادة المريحة لهم والمنعشة لنفوسهم وخاصة بعد ظهور ابن محبة الآب وإعلانه عن هذه المحبة يبذل حياته كفارة لأجلنا.

لكن في هذا العدد ينتقل الحكيم إلى نقطة أخرى وهي أنه أما الأحداث الجارية للبشر تحت الشمس لا يمكن إدراك ما هي بركة التعبد للرب والسجود له وتوقير اسمه. فالبلايا تأتي للصديق الصالح الطاهر الذي يقدم ذبائح للرب بكل مواظبة، كما يوقر الاسم الكريم فيخشى الحلف. كما أنها تأتي للشرير النجس الذي لا يعرف معنى الذبائح ويستهين باسم الرب ويحلف به باطلاً! لكن كأي مشكلة لا حل لها إلا عند قدمي الرب في الكلمة:

أولاً: هل مقاصد العدو التي تريد أن تبتلع القديس الأمين للرب وتمحوه عن الأرض، هل يستطيع أن يُنزل بلاياه عليه بلا ضابط؟ هل هذا القديس ألعوبة في يد الفخاخ التي يخططها العدو؟ هل الظروف تلعب بالقديس، تجذبه هنا وتطرحه هناك؟:

هلم بنا إلى نور محضر الرب في كلمته المنيرة "فتح كلامك ينير يعقّل الجهال" (مز 119: 130). فنجد في أقدم سفر في الكتاب المقدس في الأصحاح الأول من سفر أيوب، نرى القديس الأمين للرب الرجل الكامل.. وبكل مواظبة كان يقدم المحرقات والذبائح يومياً، وإذا بالعدو يضع نظره عليه، ويتحرّق تلهفاً لكي يمحوه عن الأرض. فيأتي إلى الرب، والرب يرى ما في قلبه "هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟"- فتأتي الشهادة من فم العدو "أليس أنك سيّجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من ناحية؟ باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض؟" (أي 1: 8، 10) فجاءت الساعة التي فكر الرب ليتزكى فيها إيمان هذا القديس، ويكون مثلاً للصبر في كل الكتاب المقدس (يع 5: 11) فيخرج الأمر من فم الرب بالحساب الدقيق "هوذا كل ما له في يدك وإنما إليه لا تمد يدك" (أي 1: 12).

ثانياً: هل في مشهد فوضى العالم وتشويشه والسهام الطائشة الناتجة من تهور الإنسان هل هناك ضبط وحماية كافية للقديس من هذا التهور والجنون؟ نعود إلى المرجع الأمين في 2 أخ 18: 28- حادثة عجيبة، القديس يهوشافاط ملك يهوذا في غفلة يوجد في ارتباط مع آخاب الشرير ملك إسرائيل. وف خبث ومكر يدخل آخاب متنكراً إلى المعركة ضد آرام في الوقت الذي يطلب من يهوشافاط أن يدخل المعركة لابساً الثياب الملكية. وتصدر الأوامر من ملك أرام إلى ضباطه وجنوده أن تكون غايتهم الوحيدة قتل ملك إسرائيل. وما كان في ذهن آخاب تم فعلاً، إذ التفوا حول يهوشافاط ظانين أنه هو ملك إسرائيل، لكن ما أروع اليد القديرة  الحافظة التي يستحيل أن يفلت الزمام منها، إذ مكتوب أنه صرخ والرب ساعده وحوّلهم الله عنه.  

لكن القصد الإلهي لا يقف عند هذا الحد، فإذا بسهم طائش غير متعمد يقذفه أحد جنود أرام! فمن يتحكم في هذا السهم الطائش؟ هنا أيضاً يد القدير تتحكم ويُحمل إلى ما بين أوصال درع آخاب في عمق تنكره. وذلك لكي تتم نبوة إيليا وهي أن الكلاب التي لحست دم نابوت القديس شهيد الحق، هي ذاتها التي تلحس دم آخاب مهما تنكر زتحفظ لنفسه. حتى وإن جعل يهوشافاط هو الظاهر في الصورة.

ما أمجد إلهنا "هو حكيم القلب وشديد القوة من تصلّب عليه فسلم" (أي 9: 4) لذلك يقرر المرنم "لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار ولا من وبأ يسلك في الدجى ولا من هلاك يفسد في الظهيرة يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب" (مز 91: 5- 8) إذاً لا مخططات العدو الموجهة حتماً ولا طيش الإنسان وجنونه وتهوره، يمكن أن يفلت من يد الرب. إذاً ليس العابد الملتصق بالرب كذاك المتجاهل إلهه، ليس الذي يوقر الاسم الكريم، كمن يستهزئ به "يذخر معونة للمستقيمين. هو مجن للسالكين بالكمال" (أم 2: 7)

 "هَذَا أَشَرُّ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ: أَنَّ حَادِثَةً وَاحِدَةً لِلْجَمِيعِ. وَأَيْضاً قَلْبُ بَنِي الْبَشَرِ مَلآنُ مِنَ الشَّرِّ وَالْحَمَاقَةُ فِي قَلْبِهِمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَذْهَبُونَ إِلَى الأَمْوَاتِ" (ع 3).

ينتقل الحكيم إلى أمر آخر مشترك لكل البشر وهو الموت. في ع 1، 2 كان تأمله في البلايا والخسائر التي تصيب الكل قديسين وأشراراً وجعلته يتحير: أين هم محبوبو الله وما هي بركة مخافة الرب وعبادته؟، لكن هنا يتأمل في ذلك الحادث الذي ينهي حياة الكل وهو أمر مقرر لا محالة "وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12) "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عب 9: 27)

ومع أنه أمر مقرر ويعترف به الكل، لكن ما أشر الجامعة أن البشر بالإجماع يتجاهلونه، وبكل وسيلة  يبعدونه عن أذهانهم "الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ثَرْوَتِهِمْ وَبِكَثْرَةِ غِنَاهُمْ يَفْتَخِرُونَ بَاطِنُهُمْ أَنَّ بُيُوتَهُمْ إِلَى الأَبَدِ مَسَاكِنَهُمْ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ" (مز 49: 11). وكما قال الغني ".. أقول لنفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة" فجاءه الصوت ".. يا غبي هذه الليلة تُطلب نفسك منك" (لو 12: 16). وهنا يأتي السؤال لماذا يتجاهل البشر هذه الحقيقة المقررة وتملأ المشهد بلا توقف ليلاً ونهاراً؟:

أولاً: لأن الموت له شوكة التي هي الخطية (1 كو 15: 56) وبدون الفداء الإلهي والغفران تظل هذه الشوكة مزعجة مقلقة للإنسان، ولكن بتمتع النفس بالغفران على أساس الفداء يتغير الموقف ويصبح الموت خادماً  للمؤمن "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (في 1: 21- قارن 18: 14، أش 48: 22 مع 44: 22؛ لو 2: 29؛ 1 كو 3: 22).

ثانياً: لأن الموت سيُنهي كل آماله ومخططاته وسعيه ورجاءه وأنشطته هنا على الأرض التي هي كل شيء له لأنه من الأرض ويسعى للأرض وكل رجائه في الأرض.

ثالثاً: لأن الموت سيفقده كنزه العظيم الذي تعب فيه هنا على الأرض، وهو الكنز الوحيد له لأنه لا يعرف شيئاً عن كنوز السماء. فهو لا يتصور أنه في لحظة يفقد كل ما تعب فيه هنا، كل ما جاهد لأجله، كل ما عصر فيه ذهنه. لذلك تحذير الرب لأحبائه "لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ... لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً" (مت 6: 19). "

"لأَنَّهُ مَنْ يُسْتَثْنَى؟ لِكُلِّ الأَحْيَاءِ يُوجَدُ رَجَاءٌ فَإِنَّ الْكَلْبَ الْحَيَّ خَيْرٌ مِنَ الأَسَدِ الْمَيِّتِ" (ع 4).

هنا ينّبر الحكيم على السبب الآخر الدافع للناس لكي يتجاهلوا حقيقة الموت وهو الرجاء الذي وضعه العدو أمام البشر في الحياة هنا على الأرض، فيعيش الإنسان بعيداً عن المسيح وكل آماله منحصرة في الأرض فيشبه الكلب الحي (الحيوان المكتوب عنه إنه يعود إلى قيئه- 2 بط 2: 22) وهو في نظر هؤلاء الناس خيرٌ من الأسد الميت. ما أتعس هذا الرجاء، فالكلب مهما عاش سيظل كما هو، لن يتحول في يوم من الأيام إلى حمل طاهر يشق الظلف ويجتر (لا 11)، لكن إذ يظهر في المشهد رئيس الحياة ورأس الخليقة الجديدة فإنه يهب للإنسان الميت بالذنوب والخطايا المنفصل عن الله، حياة أبدية، ويعطيه طبيعة جديدة طاهرة مقدسة "خليقة جديدة في المسيح يسوع" (2 كو 5: 17). وهكذا يتحول القلب إلى الرجاء الحي، الرجاء الصالح، الرجاء المبارك.

"لأَنَّ الأَحْيَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ أَمَّا الْمَوْتَى فَلاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ بَعْدُ لأَنَّ ذِكْرَهُمْ نُسِيَ. وَمَحَبَّتُهُمْ وَبُغْضَتُهُمْ وَحَسَدُهُمْ هَلَكَتْ مُنْذُ زَمَانٍ وَلاَ نَصِيبَ لَهُمْ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ فِي كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ" (ع 5، 6).

في هذين العددين تتوضح دائرة الجهل تحت الشمس، وهو ماذا بعد الموت. وفي إعلان العهد القديم كان النور محدوداً بخصوص هذا الأمر:

أولاً: كانت أفكارهم أن الحمد والتسبيح للرب يتوقف بانتهاء حياة الصديق " لأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْتِ ذِكْرُكَ (ذكر الرب) فِي الْهَاوِيَةِ في القبر مَنْ يَحْمَدُكَ" (مز 6: 5)، "لَيْسَ الأَمْوَاتُ يُسَبِّحُونَ الرَّبَّ وَلاَ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى أَرْضِ السُّكُوتِ" (مز 115: 17)

ثانياً: يتوقف رجاؤهم في أمانة الله "لأَنَّ الْهَاوِيَةَ لاَ تَحْمَدُكَ، الْمَوْتُ لاَ يُسَبِّحُكَ لاَ يَرْجُو الْهَابِطُونَ إِلَى الْجُبِّ أَمَانَتَكَ" (أش 38: 18)

ثالثاً: يتوقف تفكيرهم (جا 9: 5)

رابعاً:تموت عواطفهم (جا 9: 6)  

لكن بظهور الله في الجسد جاء النور الكامل بأن الموت أو الرقاد خاص بالجسد وليس بالروح والنفس وهذا يعني الوجود الواعي وعياً كاملاً بعد الموت لنفوس الأبرار في الفردوس ولنفوس الأشرار في العذاب في هاوية الجحيم. وهذه الحقيقة توضحت تماماً بفم الرب نفسه في قصة الغني ولعازر- لو 16:

أولاً: الملائكة حملت روح لعازر إلى حضن إبراهيم.

ثانياً: تقرير إبراهيم أن لعازر يتعزى في الوقت الذي فيه يتعذب الغني.

ثالثاً: إبراهيم الذي قد رقد من آلاف السنين يتكلم بوعي كامل وفهم حقيقي لذات فكر الرب ومخططه الكريم معلناً:

  • أنه لا علاج ولا تخفيف مطلقاً لحالة المرار التي يذهب إليها كل غير مولود من الله بعد الموت.
  • كما أنه لا يمكن تكدير نفس القديس بعد رقاده بإرساله إلى الجحيم ليرى ويسمع الأمور المرعبة هناك.
  • كما أنه لا يمكن تكدير نفس المؤمن بإرساله إلى العالم مرة أخرى.
  • وأن أعظم المعجزات، قيامة ميت من الأموات ثم ذهابه للناس ليكرز لهم لن يخلّص واحداً بكرازته طالما الكتاب المقدس مرفوض.

ما أروع الكلمة "عندهم موسى والأنبياء"، "من ازدرى بالكلمة يخرب نفسه" (أم 13: 13)- أي أنه لا وسيلة لخلاص الإنسان الأبدي قبل موته إلا بقبوله كلمة الله في القلب "إذاً الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله" (رو 10: 17).

رابعاً: تصريح الرب في لو 20: 14 أن إبراهيم وإسحق ويعقوب أحياء عند الله أي أنهم بأرواحهم ونفوسهم في وعي كامل أمام الله في الفردوس.

خامساً: تصريح الرب بفمه الكريم للّص التائب أنه في ذات اليوم سيكون معه في الفردوس، أي سيتمتع بوعي كامل بالمسيح في الفردوس (لو 23: 43).

سادساً: تصريح الرسول "أننا نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب" (2 كو 5: 6) وأيضاً لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح" (في 1: 21).

سابعاً: تصريح الرسول عن أرواح المؤمنين الذين رقدوا "أرواح أبرار مكملين" (عب 12: 23) أي في كمال الإدراك والوعي والتمتع.

"اِذْهَبْ كُلْ خُبْزَكَ بِفَرَحٍ وَاشْرَبْ خَمْرَكَ بِقَلْبٍ طَيِّبٍ لأَنَّ اللَّهَ مُنْذُ زَمَانٍ قَدْ رَضِيَ عَمَلَكَ" (ع 7)

لكل تعليم قاعدة يرتكز عليها، فتعليم الكتاب أن ترجع النفس للرب فيحررها من الغرق في الشهوات وهكذا تحيا لإرضائه هو، "ناموس الرب كامل يرد النفس (أي يحولها رجوعاً للرب)" (مز 19: 7) "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب صخرتي ووليىّ" (مز 19: 14)- هذه هي قاعدة تعليم الوحي المقدس، لكن هناك المدرسة الأخرى الرهيبة، وهي ما أشار إليها الحكيم ع 4، 5، 6 التي تنادي بأن كل الرجاء فقط في هذه الحياة. إذ أن الموتى يفقدون الوعي والإدراك، وهو كما توضح جهل عميق. فمن هذا المنطلق وبناء على هذا التعليم الخبيث يسجل الحكيم بإملاء الروح القدس، ما ينبع من هذه المدرسة، وهو السعي وراء الملذات في هذه الحياة، وواضح فيها هذه العناصر الرهيبة:

أولاً- كل خبزك بفرح، التمتع بالأطعمة والفرح بها، بينما تعليم الكتاب أنن نتقبل الأطعمة من معطيها لنا- إلهنا المحب- بالشكر له "وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً" (أع 14: 17)، "ولَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْباً بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ" (رو 14: 17).

ثانياً- اشرب خمرك بقلب طيب، لا غرابة في هذا التحريض، طالما المدرسة هي التمتع بأكبر قسط من الملذات في هذه الحياة، لأنها هي كل شيء للإنسان ولا تفكير في الأبدية، والروح والنفس ذاهبتان إلى انعدام الوعي والإدراك!! لكن لنسمع تعليم الكتاب من جهة الخمر:

(1) " لَيْسَ لِلْمُلُوكِ.. أَنْ يَشْرَبُوا خَمْراً وَلاَ لِلْعُظَمَاءِ الْمُسْكِرُ لِئَلاَّ يَشْرَبُوا وَيَنْسُوُا الْمَفْرُوضَ وَيُغَيِّرُوا حُجَّةَ كُلِّ بَنِي الْمَذَلَّةِ" (أم 31: 4). إذاً الكتاب المقدس يعلم بأن الخمر تفقد الإنسان الوعي الصحيح بما تفرضه مبادئ كلمة الحق المستقيمة بل تجعله ينساها تماماً وهكذا تكون الأحكام معوّجة.

(2) "لِمَنِ الْوَيْلُ لِمَنِ الشَّقَاوَةُ لِمَنِ الْمُخَاصَمَاتُ لِمَنِ الْكَرْبُ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ لِمَنِ إزْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْرَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ الشَّرَابِ الْمَمْزُوجِ" (أم 23: 29).     

وهنا نرى تحذير الكتاب من 12 نتيجة مدمرة، نفسية جسدية عقلية اجتماعية وأول دائرة هي البيت نفسه، وكل هذا تحت راية عبودية مُرّة.

(3) "لْمُخْتَرِعُونَ لأَنْفُسِهِمْ آلاَتِ الْغِنَاءِ... الشَّارِبُونَ مِنْ كُؤُوسِ الْخَمْرِ وَالَّذِينَ يَدَّهِنُونَ بِأَفْضَلِ الأطياب... لِذَلِكَ الْآنَ يُسْبَوْنَ فِي أَوَّلِ الْمَسْبِيِّينَ" (عا 6: 5، 6)

(4) في شريعة النذير- سفر العدد ص 6- النهي القطعي لكل عنب مخمر من البذرة إلى القشرة، وواضح أن كل مؤمن حقيقي في العهد الجديد هو نذير لله بربنا يسوع المسيح "بذل نفسه لأجلنا ليطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة" (تي 2: 13).

(5) "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح" (أف 5: 19).

ثالثاً- لأن الله منذ زمان قد رضي عملك

هذا هو كمال الضلال، وأول مخترع لمدرسة إرضاء الله بعمل يعمله الإنسان، وهو أول قاتل أي قايين الذي رفض الاحتماء في دم الذبيحة، مع أنه كان واضحاً أن الذبيحة هي الطريق الوحيد المرسوم من الله لكي يُقبل الإنسان أمام الله- "إن أحسنت أفلا رفع وإن لم تحسن فعند الباب خطية (ذبيحة خطية) رابضة.." (تك 4: 7).

وواضح من سفر اللاويين أن مقدم الذبيحة ليس أمامه إلا تلك الكلمة الحلوة "للرضى عنه"، وما أجمل تكرار الكلمة "رائحة سرور للرب" 17 مرة في السبعة أصحاحات الأولى  من السفر. وأول عمل لنوح بعد خروجه من الفلك "قدم محرقات... فتنسم الرب رائحة الرضى" (تك 8: 21).

ثم النور الواضح في العهد الجديد "ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد" (أف 2: 9) "لا بأعمال بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا" (تي 3: 7).

"لِتَكُنْ ثِيَابُكَ فِي كُلِّ حِينٍ بَيْضَاءَ وَلاَ يُعْوِزْ رَأْسَكَ الدُّهْنُ" (ع 8).

واضح الارتباط: فالثياب البيضاء تعبر عن الفرح والدهن هو أطايب العالم ومعها التلذذ بالرغبات الجسدية. لكن ما أروع المعنى للمؤمن الروحي الذي ينظر إلى رئيس الإيمان، فهو يحرص باستمرار على نقاوة السلوك وطهارة الخطوات والكلمات المعبر عنها بالثياب البيضاء وكل هذا نابع من الامتلاء بالروح القدس، ولا يعوز رأسك الدهن.

"اِلْتَذَّ عَيْشاً مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَحْبَبْتَهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاةِ بَاطِلِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ إِيَّاهَا تَحْتَ الشَّمْسِ كُلَّ أَيَّامِ بَاطِلِكَ لأَنَّ ذَلِكَ نَصِيبُكَ فِي الْحَيَاةِ وَفِي تَعَبِكَ الَّذِي تَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ" (ع 9).

لا زالت القاعدة الموضحة في ع 4، 5، 6 هي التي تملأ المشهد، فلا وعي ولا إدراك ولا تمتع إلا في هذه الحياة. لكن شكراً للرب لأجل توضيح الكتاب والّرد على هذه الجهالات "برأيك تهديني وبعد على مجد تأخذني" أي أن رجاءه هو التمتع بالمجد في السماء مع إلهه "من لي في السماء ومعك لا أريد شيئاً في الأرض" لذلك يحتقر ويدوس كل تمتعات الأرض (مز 73: 24، 25).

"لأن ذلك نصيبك في الحياة"- ما أعمق الجهل، لكن ما أسمى تقرير أولاد الله "نصيبي هو الرب قالت نفسي من أجل ذلك أرجوه" (مرا 3: 24)، "نصيبي الرب قلت لحفظ كلامك" (مز 119: 57)، "اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها" (لو 10: 42).

"كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ وَلاَ اخْتِرَاعٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ وَلاَ حِكْمَةٍ فِي الْهَاوِيَةِ الَّتِي أَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَيْهَا" (ع 10).

يا له من تهور ناتج من ظلام الرؤيا بل انعدامها، فالأبدية عند قدمي صاحبها (أش 9: 7، ار 10: 10) هي الرؤيا الوحيدة الصادقة المنيرة لذلك نقرأ في أم 29: 8 "بلا رؤيا يجمع الشعب" أي أن سر التعقل هو الرؤيا الحقيقية الني من الله، التي تضع القلب أمام الأبدية وأمام صاحبها الذي بيده نسمة حياة كل إنسان "قد جمح إسرائيل كبقرة جامحة" وما هو السبب؟ "هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو 4: 6، 16) لذلك نرى هنا الاندفاع "كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك"- أين التعقل وانتظار الرب "من قِبل الرب تتثبت خطوات الإنسان وفي طريقه يُسرّ" (مز 37: 23) "تفكرت ف طرقي ورددت قدمي إلى شهاداتك" (مز 119: 59)

مقدمة لنهاية الأصحاح التاسع ع 11- 18

هل يُترك المنظر القاتم والظلام يغشي الأذهان بهذه الكيفية الرهيبة؟ حاشا، ها هي الأعداد التالية تضع البشر: أولاً أمام الحقيقة لا الخيال، ثانياً أمام الأبدية لا الزمان. ثالثاً أمام الله ويده الكريمة المستقيمة بدلاً من الإنسان ويده الملتوية، لذلك نرى في هذه الأعداد هذه اليد الكريمة القديرة في ثلاثة مناظر.

"فَعُدْتُ وَرَأَيْتُ تَحْتَ الشَّمْسِ أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ لِلْخَفِيفِ وَلاَ الْحَرْبَ لِلأَقْوِيَاءِ وَلاَ الْخُبْزَ لِلْحُكَمَاءِ وَلاَ الْغِنَى لِلْفُهَمَاءِ وَلاَ النِّعْمَةَ لِذَوِي الْمَعْرِفَةِ لأَنَّهُ الْوَقْتُ وَالْعَرَضُ يُلاَقِيَانِهِمْ كَافَّة" (ع 11).

هذا هو المنظر الأول، اليد الكريمة القديرة وحدها لها السلطان على كل شيء وهي المحركة- دون أن تُرى- وهي الضابطة وتتدخل في الوقت المعيّن بطريقة مذهلة لتحقيق المقاصد العالية المجيدة.

أولاً: السعي ليس للخفيف. من المعروف أن الذي يفوز في السباق صاحب القدرة على الجري أي أن له قدمان خفيفتان، لكن عجباً في مواقف معينة لقصد وحكمة وخطة إلهية نرى الموقف يتغير، على سبيل المثال، كان هناك سباق في اختيار ملكة بدلاً من الملكة المعزولة وشتى (أس 1) ووقع الاختيار على سبعة فتيات عذارى جميلات من أعلى عائلات فارس، فقط واحدة منهن يتيمة الأبوين من شعب يهود المسبي في مملكة فارس. وهنا يأتي السؤال: كيف تدخل هذه في مثل هذه المجال؟ ليس إلا اليد القديرة فمن يا ترى يفوز في هذه الجولة العالية التي تتجه إليها كل أنظار مملكة فارس التي كانت تحكم العالم في ذلك الوقت؟ عجباً! هي تلك اليتيمة الفقيرة أستير التي ليس لها أي مؤهل كالباقيات سوى جمال أُعطى لها من الخالق مُبدع الكون، شكراً لك يا رب. إذاً السعي ليس للخفيف.

قِس على ذلك فوز يعقوب بالبكورية مع أنه الثاني الضعيف وليس الأول الأقوى عيسو.

ثانياً:- "ولا الحرب للأقوياء"، هنا أيضاً مبدأ مقرر، الأقوى هو الذي يفوز في الحرب، لكن عجباً ما أكثر مشاهد الكتاب كان الانتصار فيها من نصيب الضعيف بل مَنْ لا قوة له. ففي مشهد تحدي جليات الفلسطينين القائد المحنك رجل الحرب من صباه والمسلح من أسفل قدميه إلى رأسه، لكن ما أروع دخول داود الغلام بمقلاعه ويرمي الحجر فيستقر في جبهة جليات الجبار، وإذ يسقط على الأرض يركض داود وسيف جليات يقطع رأس ذلك المجدف على اسم الله الحي. قِس على ذلك انتصار يشوع على جبابرة عماليق، وانتصارات جدعون ويفتاح وصموئيل ويهوشافاط لكن دائماً القمة والمقياس الكامل في رب داود، ربنا يسوع المسيح إذ دخل إلى معركة الصليب أمام رئيس هذا العالم وكل رياساته وسلاطينه فجرّد الرياسات والسلاطين وأشهرهم جهاراً ظافراً بهم في الصليب، وأباد بالموت رئيسهم الذي له سلطان الموت. شكراً لك يا رب من كل القلب.

ثالثاً- "ولا الخبز للحكماء ولا الغنى للفهماء ولا النعمة لذوي المعرفة". هنا يأخذنا الروح القدس إلى قلب الكتاب المقدس فنرى قصد الله أن يسعد الإنسان بالخبز الحقيقي والغنى الحقيقي والنعمة الحقيقية، وهنا تبطل الحكمة البشرية والفهم والمعرفة الإنسانية، ولا يحصل على هذا الثلاثي العظيم الأبدي إلا من يجيء متضعاً منكسراً كطفل أمام الله عند قدمي صانع الفداء وصانع الخلاص ربنا يسوع المسيح- هنا فقط يحصل الإنسان الخاطئ على الخبز الحقيقي، خبز الله النازل من السماء الواهب حياة للعالم. وأيضاً يحصل على الغنى الحقيقي الدائم "عندي الغنى والكرامة قنية فاخرة وحظ" (أم 8: 17)، "لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى" (أف 3: 8).

"لا النعمة لذوي المعرفة" "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" (1 يو 1: 14).

"لأنه الوقت والعَرَضُ (but time and chance) يلاقينهم كافة" أي أن الفريق الذي يحصل على تأييد اليد القديرة يفوز في السباق وفي الحرب، والفريق الآخر له ذات الفرصة للحصول على بركة يد القدير!

إذاً ما الذي ميّز فريقاً على فريق؟ هنا يجيب الوحي "يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (1 بط 5: 5، يع 4: 6)

هلم بنا على المنظر الثاني لليد الكريمة القديرة في ع 12:

"لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضاً لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ وَكَالْعَصَافِيرِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالشَّرَكِ كَذَلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرٍّ إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً" (ع 12).

الإنسان مع كل ما أُعطىَ له من الله، من فهم وإدراك لكن أُخفى عنه هذا الثلاثي الخطير وهو: متى، وكيف، وأين تنتهي حياته؟ وذلك لحكمة إلهية، لكي يتعقل الإنسان ويعلم أنه غريب وضيف على هذه الأرض ويستعد للقاء إلهه (عا 4: 12). وما أكثر النداءات الإلهية في مل الكتاب التي تدعو الإنسان لكي يتصالح مع الله الآن لأنه "لا يعرف وقته" كما يقول الجامعة هنا في ع 12 "ولا يعلم أمر الغد" (أم 27: 1، يع 4: 14) وحياته ليست إلا بخاراً وغباراً وأشباراً (مز 39، 90).

لكن ما أروع التصوير: فالأسماك تسبح في المياه وفجأة تؤخذ بالشبكة المباغتة والإنسان أيضاً في تيار مشغوليات هذه العالم ومباهجه وملذاته يسبح، وفجأة يؤخذ بشبكة الموت. ولكي نكمل الصورة نراه كالعصافير التي ترتفع عالياً وفجأة تؤخذ بالشرك، هكذا الإنسان في مل تصوّرات قلبه يرتفع متشامخاً وفجأة يُقطع.

ليت كل نفس تتعقل أمام الأبدية التي لا نهاية لها وترجع للرب الآن فتحصل على الخلاص من المخلّص الوحيد الذي ليس بأحد غيره الخلاص- ربنا يسوع المسيح (أع 4: 12).

"هَذِهِ الْحِكْمَةُ رَأَيْتُهَا أَيْضاً تَحْتَ الشَّمْسِ وَهِيَ عَظِيمَةٌ عِنْدِي. مَدِينَةٌ صَغِيرَةٌ فِيهَا أُنَاسٌ قَلِيلُونَ فَجَاءَ عَلَيْهَا مَلِكٌ عَظِيمٌ وَحَاصَرَهَا وَبَنَى عَلَيْهَا أَبْرَاجاً عَظِيمَةً. وَوُجِدَ فِيهَا رَجُلٌ مِسْكِينٌ حَكِيمٌ فَنَجَّى هُوَ الْمَدِينَةَ بِحِكْمَتِهِ وَمَا أَحَدٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمِسْكِينَ" (ع 13- 15)

هنا نرى اليد الكريمة القديرة في المنظر الثالث وهي تدبر العلاج الحقيقي لمشكلة الإنسان، أي الفداء. لذلك في هذه المرة يقرر الحكيم هذه الكلمة الهامة "وهي عظيمة عندي" نعم. وهل هناك عظمة نظير ذاك الذي ليس لعظمته استقصاء، يأتي إلينا لكي يصنع بنفسه تطهيراً لخطايانا.

وهذه المدينة ليست إلا كوكبنا أي الكرة الأرضية التي هي فعلاً أمام الكواكب الأخرى ليست إلا شيئاً صغيراً لا يُذكر. ما أروع كلمة الله وما أعجبها! فالطائرات تطير فوق الكرة الأرضية ساعات بل أيام لتعلن عظمة هذا الكوكب ومدى أبعاده، لكن الأبحاث الفلكية أثبتت أن الكرة الأرضية لا شيء أمام المجرّات الفلكية الأخرى.

ما أروع تقرير الكلمة "مدينة صغيرة" ثم "فيها أناس قليلون"، وهذه هي قصة أبوينا الأولين حيث لم يكن على كوكبنا إلا هما فقط.

وهنا يظهر في المشهد ذلك المخرِّب الأكبر- إبليس، الذي في تاريخه كان ملاكاً عظيماً، لذلك يقول عنه "ملك عظيم" وبغوايته لحواء وسقوطها جذبت رأسها ورجلها وراءها. وهكذا وضع ذلك العدو يده على كل العائلة البشرية ممثلة في رأسها الأول آدم. لذلك يأتي هذا التقرير من فم السيد نفسه له كل المجد "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44)

"وحاصرها وبنى عليها أبراجاً عظيمة":

هناك برج المكاسب والاندفاع في الجري وراء المال مع استحالة الشبع "مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ" (جاه 5: 10). وكم من أناس أفنوا حياتهم وخسروا أبديتهم في هذا البرج الرهيب ولفظوا أنفاسهم الأخيرة وأعناقهم مسحوقة تحته- راجع قصة عاخان وكيف رُجم وبلعام وكيف قتلوه بالسيف وجيحزي وكيف مات بالبرص ويهوذا كيف خنق نفسه.

وهناك برج الكرامة وتعظيم الذات وكم من ملايين تحطمت حياتهم تحت هذا البرج (راجع قصة هامان، سفر أستير ص 3- 6)، وهناك برج الشهوات الجسدية الفاسدة وكم من كثيرين انتهت حياتهم تحت هذا البرج (راجع قصة أمنون المحزونة- 2 صم 13)

وهناك برج التدين عن طريق الأعمال الصالحة وعن طريق الصيامات والتقشف، وكم من ملايين خدعوا أنفسهم وخسروا بل دمروا أبديتهم تخت هذا البرج. وهناك برج الزينة وكم من نساء العالم يعبدون هذا الصنم، وهناك أبراج أخرى كثيرة أقامها هذا العدو لهلاك هذا الجنس البشري يعوزنا الوقت أن نخوض في تفاصيلها، لمن شكراً لله لأجل تقرير الروح القدس في ع 15 "ووجد فيها رجل مسكين حكيم فنجّى هو المدينة بحكمته"- ما أروع هذا الرجل وما أروع صفاته وما أروع خلاصه:

أولاً: هو الرجل الحقيقي أمام الله لأن الإنسان بالسقوط صار هذا التقرير عنه "أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ" (أي 11: 12) لذلك كان لا بد من إنسان "شريف الجنس" لو 19: 12- "الإنسان الأول من الأرض ترابي الإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15: 47)، هو الإنسان الوحيد الذي يوصف بهذا الوصف "رجل رفقة الله" (زك 13: 7) الذي يستطيع أن يفهم كل مشورات الله ومقاصده، وليس ذلك فقط بل الذي استطاع أن يتممها "أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني قد أكملته" (يو 17: 3)

ثانياً: مسكين! هنا تذوب قلوبنا "الذي له السموات والأرض" ما أعجب المنظر والصورة! "أَخْلَى نَفْسَهُ آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (في 2: 6) لذلك نسمعه في صلاته بروح النبوة قبل تجسده "صلاة لمسكين إذا أعيا وسكب شكواه قدام الله" عنوان مزمور 102، ونسمعه في مزمور الصليب " ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ" (مز 22: 16، 18) وإذ لم يترنم عن القيامة "أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي وفِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.. لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يَرْذُلْ مَسْكَنَةَ الْمَِسْكِينِ وَلَمْ يَحْجِبْ وَجْهَهُ عَنْهُ" (مز 22: 22، 24).

ثالثاً: حكيم، فهو الحكمة الأزلي متجسداً "أنا الحكمة أنا الفهم" (أم 8: 12).

وما أروع التقرير "فنجى هو المدينة بحكمته" لأنه بذاته يهوه الأزلي لذلك لا تُقال هذه الكلمة "هو" إلا عنه تبارك اسمه إلى الأبد- "لتَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ. قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلَهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ" (أش 43: 10) ومن غيره كان يستطيع أن ينجي وينقذ ويحرر؟ وما أجمل الكلمة "بحكمته" لأن الحكمة تضع كل شيء في مكانه الصحيح. ومن غيره استطاع أن يعطي للعدل الإلهي مكانه ووضعه اللائق به واعتباره الصحيح كباقي صفات الله؟ ومن غيره استطاع أن يجمع بين محبة الله وقداسته في مشهد تعدينا على الله؟ "وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (1 كو 1: 30).

لكن ماذا كان موقف المدينة (العالم) من هذا المخلّص؟ "وما أحد ذكَر ذلك الرجل المسكين"! عجباً، فكم من دول يُدعى عليها اسمه، ولكنها تتنكر له وتتجاهله لكن شكراً لله لأنه لا يترك نفسه بلا شاهد، فهناك نفوس لا تحصى متفرقة في هذا العالم تجتمع إلى اسمه لتتعبد له إلى أن يأتي وينهي هذا المشهد المظلم.

"فَقُلْتُ الْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنَ الْقُوَّةِ أَمَّا حِكْمَةُ الْمِسْكِينِ فَمُحْتَقَرَةٌ وَكَلاَمُهُ لاَ يُسْمَعُ" (ع 16).

هنا يسترجع الروح القدس تاريخ العالم، فهناك مراكز القوى العظيمة التي ظهرت في التاريخ، وكم كانت جبارة الدولة البابلية ثم الفارسية ثم اليونانية وأخيراً أقواها الدولة الرومانية، لكن فيها كلها تم قول الكتاب أنهم جميعاً عبيد الخطية والشيطان. ويكتب الرسول بولس في رو 1: 16 "لست أستحي بإنجيل المسيح لأته قوة الله للخلاص لكل من يؤمن" نعم، لقد خلص بإنجيل نعمة المسيح كل من آمن به، لكن عموماً على مستوى دول العالم يصح هذا القول: "أما حكمة المسكين فمحتقره وكلامه لا يسمع" أي لا يسمعون صوت صاحب الإنجيل.

"كَلِمَاتُ الْحُكَمَاءِ تُسْمَعُ فِي الْهُدُوءِ أَكْثَرَ مِنْ صُرَاخِ الْمُتَسَلِّطِ بَيْنَ الْجُهَّالِ" (ع 17).

حتى ع 16 نسمع عن حكيم واحد نجي هذه المدينة بحكمته تبارك اسمه إلى الأبد، لكن هنا ع 17 نسمع حكماء يتكلمون في هدوء وكلامهم يُسمع أكثر من صراخ المتسلط بين الجهال. من أين أتى هؤلاء الحكماء؟ ليس إلا من ذلك الحكيم الوحيد، وهذا يأخذنا إلى سفر أعمال الرسل فنرى رسل ريبنا يسوع المسيح يتكلمون في ذات هدوئه واتزانه وقوة كلامه وحكمته "فلما رأوا- رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة- مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا، فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع" (أع 4: 13، 14).

"اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْراً جَزِيلاً" (ع 18).

هنا يتقدم بنا الروح القدس إلى ذلك الغزو المقدس في ذهاب الرسل إلى العالم أجمع ليكرزوا الإنجيل للخليقة كلها، كما قال لهم سيدهم. والنصف الثاني لسفر أعمال الرسل يوضح كيف استطاع الإناء المغبوط بولس هو وسيلا معه أن يفتتحا كل أوروبا بحكمة حق الإنجيل، وانهارت كل الأعمدة الوثنية أمام هذين الرسولين، ولم يكن لديهما علاقة إطلاقاً بأدوات الحرب بل كان لديهما الاستعداد لتحمل كل أنواع الإهانات من ضربات وسجون واضطرابات والأخطار من كل نوع وهما يذيعان حكمة حق الإنجيل، إنجيل مجد الله المبارك، إنجيل المسيح الذي هو قوة الله للخلاص، حقاً الحكمة- حكمة الله في الإنجيل- خيرٌ من أدوات الحرب. ما أجمل النتائج "وكان اسم الرب يتعظم" أين؟ في أفسس مقر ومعقل الوثنية في كل أوروبا حيث الهيكل العريق لأرطاميس معبود كل آسيا الصغرى وأجزاء كثيرة من أوروبا "وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ السِّحْرَ يَجْمَعُونَ الْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ الْجَمِيعِ وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ الْفِضَّةِ هَكَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ تَنْمُو وَتَقْوَى بِشِدَّةٍ" (أع 19: 17- 20).

أما خاطئ واحد فيفسد خيراً جزيلاً: باستمرار نرى تحذير الروح القدس لكل نفس رافضة حكمة الإنجيل في الخلاص فهي تفسد الخير الجزيل المقدم لها من غفران وتبرير وبنوية وتحرير.

إلى آخر لحظة، كان الرب يسوع يقدم المحبة والنعمة لخاطئ واحد وسط تلاميذه ألاثني عشر، ألم يغسل رجلي يهوذا، ألم يجعله شريكاً في ذات الصفحة بل بيده الغالية يقدم له اللقمة، وحاشا له لم يتركه بدون الإنذار الشديد "إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه ولكن ويلٌ لذلك الرجل الذي يُسلِّم ابن الإنسان كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد" (مر 14: 21)كم من الخير الجزيل أفسده لنفسه ذلك الخائن وكل خاطئ رافض اليد الكريمة المقدِمة له الخلاص مجاناً على حساب دم حمل الله.

  • عدد الزيارات: 1880