Skip to main content

الأصحاح الثاني

"قُلْتُ أَنَا فِي قَلْبِي: هَلُمَّ أَمْتَحِنُكَ بِالْفَرَحِ فَتَرَى خَيْراً. وَإِذَا هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ. لِلضَّحْكِ قُلْتُ: مَجْنُونٌ وَلِلْفَرَحِ: مَاذَا يَفْعَلُ؟ (ع 1، 2).

انتهى اختبار الحكيم في نهاية الأصحاح الأول بأن الحكمة جلبت عليه غماًً عظيماً, لأنه كما توضح رأى عجزه الكامل في السلوك في مبادئها, فبدلاً من الاتجاه السليم المقرر في نهاية رو 7 إلى القوة في ذاك الذي هو الحكيم الأزلي, نراه هنا يتحول إلى الجانب الآخر, إلى تلك المباهج والملذات التي قد يجد فيها الجسد متعة "قلت أنا في قلبي هلم أمتحنك بالفرح "أي أرى ما إذا كنت أستطيع أن أشبعك بالملذات وإذا هذا أيضاً باطل.

اختبر أيضا ًالضحك وهو المرح في أقصى حدوده, فإذا هو جنون لأنه يسلب الحكيم وقاره واتزانه. ثم يقرر ماذا يستطيع أن يفعله المرح بكل ما تحمله الكلمة من معاني الطرب والانغماس في الملذات, إنها لا تستطيع أن تجلب سعادة حقيقية أو شبعاً أو كفاية, بل هي في الحقيقة تقود الناس إلى البعد عن طريق الله "يحملون الدف والعود ويطربون بصوت المزمار.. ويقولون لله أبعد عنا وبمعرفة طرقك لا نُسّر من هو القدير حتى نعبده وماذا ننتفع إن التمسناه" (أى 21: 12).

"اِفْتَكَرْتُ فِي قَلْبِي أَنْ أُعَلِّلَ جَسَدِي بِالْخَمْرِ وَقَلْبِي يَلْهَجُ بِالْحِكْمَةِ وَأَنْ آخُذَ بِالْحَمَاقَةِ حَتَّى أَرَى مَا هُوَ الْخَيْرُ لِبَنِي الْبَشَرِ حَتَّى يَفْعَلُوهُ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ مُدَّةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ" (ع 3).

إذ لم يجد سليمان سعادته في الطرب, تحول إلى الخمر ليختبر حظه منه, رغم أنه حذر منها بشدة  في أمثاله (أم 20: 1, 23: 20). "قلبي يلهج بالحكمة"- هذه جملة معترضة قصد بها الحكيم أنه في حالة شربه الخمر لم يتخل عن حكمته, حتى لا تفقده الخمر اتزانه ووقاره وتقديره, بل كان في تصميمه أن يضبط شهواته. لكن الحقيقة أثبتت خلاف ذلك, ما أبعد الفرق بين تصميم سليمان الفاشل وبين تصميم دانيال "وأما دانيال فجعل في قلبه أن لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه" (دا 1: 7).

كانت حكمة دانيال أسمى بكثير من حكمة سليمان, لأنها كانت مقترنة بالشركة العميقة مع رب الحكمة, وهكذا أغلق الباب تماماً أمام كل المنافذ التي تعطل شركته لحظة واحدة.

لا فائدة من أي تصميم إن لم يكن مقترناً بالفهم الصحيح لحقيقة عجز المؤمن تماماً وأنه بدون الرب يسوع المسيح لا نستطيع أن نفعل شيئاً (يو 15: 59).

ليتنا نتبع مدرسة وبولس في التصميم النابع من سكب القلب والاتضاع عند قدمي ربنا يسوع المسيح مصدر القوة الوحيد. هنا فقط استطاع بولس أن يقرر عن اختبار مكلل بالنجاح "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13).

"فَعَظَّمْتُ عَمَلِي بَنَيْتُ لِنَفْسِي بُيُوتاً غَرَسْتُ لِنَفْسِي كُرُوماً. عَمِلْتُ لِنَفْسِي جَنَّاتٍ وَفَرَادِيسَ وَغَرَسْتُ فِيهَا أَشْجَاراً مِنْ كُلِّ نَوْعِ ثَمَرٍ. عَمِلْتُ لِنَفْسِي بِرَكَ مِيَاهٍ لِتُسْقَى بِهَا الْمَغَارِسُ الْمُنْبِتَةُ الشَّجَرَ. قَنِيتُ عَبِيداً وَجَوَارِيَ وَكَانَ لِي وُلْدَانُ الْبَيْتِ وَكَانَتْ لِي أَيْضاً قِنْيَةُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُورُشَلِيمَ قَبْلِي. جَمَعْتُ لِنَفْسِي أَيْضاً فِضَّةً وَذَهَباً وَخُصُوصِيَّاتِ الْمُلُوكِ وَالْبُلْدَانِ. اتَّخَذْتُ لِنَفْسِي مُغَنِّينَ وَمُغَنِّيَاتٍ وَتَنَعُّمَاتِ بَنِي الْبَشَرِ سَيِّدَةً وَسَيِّدَاتٍ. فَعَظُمْتُ وَازْدَدْتُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي فِي أُورُشَلِيمَ وَبَقِيَتْ أَيْضاً حِكْمَتِي مَعِي. وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي وَهَذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي. ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ" (ع 4- 11).

إذ أدرك سليمان أنه من الحماقة أن يُسعد نفسه بالخمر عزم على أن يجرب مسرات الملوك والأمراء والعظماء, فبنى البيوت وغرس الكروم, وعمل الجنات والفراديس, وعمل برك المياه, ويملؤها جميعاً كل ما تستطيع نفس أن تتمتع به وقد كانت الموارد التي تحت إمرته لا تفرغ. وتصور أنه في وقت قريب سيلقي نظره على كل العمل الذي عمله, فيستريح مستمتعاً بجهده الذي بذله. على انه ما إن وصل إلى نهاية المطاف, بعد أن امتحن كل لذة, إذا بفمه يمتلئ شكوى ومرارة وأنات الأسى.

إيه يا ذا الجامعة العظيم, يا من كانت الدنيا بأسرها تحت أمرك يوم ذاك, هل مكنتك تلك المشتهيات المنطلقة التي لا تقف عند حد من الراحة والسعادة المنشودة. بعدما ألقيت بالكل في تلك الهاوية الجائعة إذا بها لا تزال خاوية. ليتنا أمام هذا الاختبار المر نسرع إلى ذاك الذي وحده يستطيع أن يروي النفس ارتواء كاملاً وإلى الأبد.

«إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو 7: 37)- ما أروعك يا راعي نفوسنا وأسقفها! فليس فقط تنكسر حدة العطش, بل فيض من المياه ينساب إلى الآخرين العطش. ليس فقط أن الفراغ يمتلئ بل هناك فيض من البركة يجري سلسبيلاً.

مفارقة عجيبة حقاً, صفحة قاتمة يرسمها أعظم وأغنى ملك, لكن هناك صفحة ناصعة الجمال يرسمها إناء فقير بلا دار تأويه, إذ امتلأ قلبه بالينبوع الحي, استطاع أن يقرر "كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ"(2 كو 6: 10).

إذاً ما هو الاستنتاج الأمين الصادق الذي نستخلصه من هاتين الصورتين؟ هو أن الرب يسوع المسيح الإنسان السماوي الفريد صاحب الكمالات المطلقة, وفيه يحل كل ملئ اللاهوت, يسمو بما لا يقاس على العالم بأسره في إشباع قلب الإنسان الجائع. فالمسيح هو الكل في الكل للنفس التي ترجو السعادة في الحياة سواء في الاختبارات الزمنية كما هو الحال مع سليمان أو في العبادة وإرضاء الله كما هو اختبار رو 7.

"ثُمَّ الْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الْحِكْمَةَ وَالْحَمَاقَةَ وَالْجَهْلَ. فَمَا الإِنْسَانُ الَّذِي يَأْتِي وَرَاءَ الْمَلِكِ الَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ مُنْذُ زَمَانٍ" (ع 12).

لقد سجل سليمان اختباره المر في نهاية الأصحاح الأول عن تعمقه في دراسة الحكمة في مبادئها وخرج من هذه الدراسة بكثرة الغم, لأنه اكتشف عجزه الكامل في ذاته عن السلوك فيها. ثم تحول إلى الحماقة والجهل فوجد فيهما انقباض روحه.

فهو هنا يقول لنا إن كان هذا هو تقريره كالملك سليمان, فلا داعي إذاً لأي إنسان بعده أن يغرّق نفسه فيما غرق هو أولاً فيه, وذلك بكل إمكانياته الفائقة.

"فَرَأَيْتُ أَنَّ لِلْحِكْمَةِ مَنْفَعَةً أَكْثَرَ مِنَ الْجَهْلِ كَمَا أَنَّ لِلنُّورِ مَنْفَعَةً أَكْثَرَ مِنَ الظُّلْمَةِ" (ع 13).

إن الحكمة للنفس,  مثل النور للجسد, تكشف الطريق وتُنير السبيل, أما الجهل فهو كالظلام الذي يسدل ستائره على الذهن فيظلمه. ولا ننسى أننا نحن المؤمنين كنا قبلاً في دائرة الجهل والظلمة, ولكن "شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ الذي أنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا إلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا" (كو 1: 12).

"اَلْحَكِيمُ عَيْنَاهُ فِي رَأْسِهِ. أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَسْلُكُ فِي الظَّلاَمِ. وَعَرَفْتُ أَنَا أَيْضاً أَنَّ حَادِثَةً وَاحِدَةً تَحْدُثُ لِكِلَيْهِمَا" (ع 14).

نرى هنا انطباع الحكمة في الحياة العملية للحكيم, كما الجهل أيضاً في حياة الجاهل. والتعبير "عيناه في رأسه" بمعنى التعقل ليرى موضعاً لقدميه قبل كل خطوة ومغبوط هو المؤمن- المُشار إليه بالحكيم هنا- الذي في شركة عميقة مع الرب يتعقل ليرى عواقب الأمور, وهكذا يتجنب مواقف صعبة "من قِبلْ الرب تتثبت خطوات الإنسان وفي طريقه يُسّر" (مز 37: 23), "الحكمة عند الفهيم أما عينا الجاهل في أقصى الأرض" (أم 17: 24) فهو يعيش بلا هدف ويهيم ببصره هنا وهناك, لاشيء سوى الفراغ والبُطل في القلب والذهن "إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم" (أف 4: 17)

َ"فقُلْتُ فِي قَلْبِي: كَمَا يَحْدُثُ لِلْجَاهِلِ كَذَلِكَ يَحْدُثُ أَيْضاً لِي أَنَا وَإِذْ ذَاكَ فَلِمَاذَا أَنَا أَوْفَرُ حِكْمَةً؟ فقلت في  قَلْبي هذَا أَيْضاً بَاطِلٌ" (ع 15).

يتساءل الحكيم: إن كنت رغم حكمتي سأصل كغيري إلى الموت فما الفضل في إني صرت أكثر حكمة من غيري؟ وأسفاه! هذا هو أحكم إنسان إذ انحصر نظره وفكره في الأمور التي تحت الشمس, هاهي الموازين ترتبك فيرى الموت كارثة كبرى تنهى كل نشاطه وكل حكمته. ما أبعد الفارق بين هذه النظرة وهذا التقدير, وبين نظرة وتقدير قلب شبع بمن هو فوق الشمس "برأيك تهديني وبعد إلى مجد تأخذني", "لي اشتهاء ان أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً" (مز 73: 24, في 1: 21). "لأنهُ لَيْسَ ذِكْرٌ لِلْحَكِيمِ وَلاَ لِلْجَاهِلِ إِلَى الأَبَدِ كَمَا مُنْذُ زَمَانٍ كَذَا الأَيَّامُ الآتِيَةُ الْكُلُّ يُنْسَى وَكَيْفَ يَمُوتُ الْحَكِيمُ كَالْجَاهِلِ؟  فَكَرِهْتُ الْحَيَاةَ لأَنَّهُ رَدِيءٌ عِنْدِي الْعَمَلُ الَّذِي عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ لأَنَّ الْكُلَّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ" (ع 16, 17).

إذ ارتسم الموت أمام الحياة التي تحت الشمس وكل التفكير فيما يقال تحت الشمس, ولو كانت حياة أغنى وأعظم واحكم إنسان على الأرض, ها هي النتيجة انه لا يجد لذة في حياته هنا بل يكرهها! لكن ما أروع الحياة التي يملؤها ذاك الذي ليس مثله فوق أو تحت الشمس.

كم كانت الحياة هنا على الأرض متعة رائعة جداً بالنسبة لبولس بالرغم من الضربات والسجون والاضطرابات, في الشدائد والضرورات والضيقات (2 كو 6: 4) وذلك لأن مسيح الله المبارك المحبوب المعبود, كان هو الذي يحيا في بولس "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ إِيمَانِ ابْنِ اللهِ الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غل 2: 20).

 سليمان يرى كل ما عمله "رديء عندي العمل الذي عمل تحت الشمس لأن الكل باطل وقبض الريح" بينما بولس شاكر الله جداً من أجل كل ما عمله هنا على الأرض وفخور به, ويرسمه أمام المؤمنين في كل العصور كقدوة. وذلك لأن عمل سليمان كان لنفسه وكل محوره تحت الشمس, لكن عمل بولس كان لأجل ربنا يسوع المسيح ولمجده فقط وكل محوره أن يتعظم المسيح ويتعالى ويكرم اسمه المجيد المعبود لأنه يستحق.

كان عمل سليمان نابعاً من نفسه لأجل إسعادها, أما عمل بولس كان نابعاً من المسيح ليرجع للمسيح ويسعد الآخرين "وأما أنا فبكل سرور أُنفِق وأُنفَق لأجل أنفسكم" (2 كو 12: 15).

وكان بولس إناء للكرامة يستمتع بيد السيد وهي تحركه في مخطط سماوي رائع جميل تظهر فيه كمالات المسيح وأمجاده وفضائله.

"فَكَرِهْتُ كُلَّ تَعَبِي الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ حَيْثُ أَتْرُكُهُ لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدِي. وَمَنْ يَعْلَمُ هَلْ يَكُونُ حَكِيماً أَوْ جَاهِلاً وَيَسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ تَعَبِي الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ وَأَظْهَرْتُ فِيهِ حِكْمَتِي تَحْتَ الشَّمْسِ. هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ فَتَحَوَّلْتُ لِكَيْ أَجْعَلَ قَلْبِي يَيْأَسُ مِنْ كُلِّ التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ. لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ إِنْسَانٌ تَعَبُهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَبِالْفَلاَحِ فَيَتْرُكُهُ نَصِيباً لإِنْسَانٍ لَمْ يَتْعَبْ فِيهِ. هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ وَشَرٌّ عَظِيمٌ. لأَنَّهُ مَاذَا لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ وَمِنِ اجْتِهَادِ قَلْبِهِ الَّذِي تَعِبَ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ "لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِهِ أَحْزَانٌ وَعَمَلَهُ غَمٌّ أَيْضاً بِاللَّيْلِ لاَ يَسْتَرِيحُ قَلْبُهُ هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ هُوَ" (ع 18- 23).

في هذه الأعداد ينتقل الحكيم إلى التأمل لا في الأعمال التي عملها كما رأينا في ع 18, لكن في التعب والمجهود الذي بذله في إخراج هذه الأعمال:

أولاً: قلبه يمتلئ باليأس والقنوط لأنه بانتهاء حياته, سيضع إنسان آخر يده على كل ما تعب فيه سليمان, وقد استخدم كل حكمته وكل معرفته في هذا التعب, وتأوهات الأسى هي أن الذي يأتي بعده قد يكون إنساناً جاهلاً. وقد حدث فعلاً إذ جاء ابنه رحبعام وأفسد كل شيء, ولم تمضي خمس سنوات من موت سليمان حتى جاء شيشق ملك مصر ووضع يده على كل شيء نتيجة لجهل رحبعام, هكذا امتدت عليه يد الرب بالتأديب هو وكل المملكة.

ثانياً: هو يتذكر أن تعبه في انجاز هذه الأعمال كان مقترناً بالحزن والغم والقلق بالليل والنهار, بسبب انحصار السعي في ما هو تحت الشمس الذي طابعه عدم الاستقرار وعدم الثبات ومعرض للزوال في أية لحظة.

- ما أبعد الفارق بين تعب سليمان وتعب بولس:

أولاً. تعب بولس هو صدى لدين المحبة العظيم- محبة المسيح إذ يقول عنه "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي "لأن محبة المسيح تحصرنا.. كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لجلهم وقام" (2 كو 5: 15).

ثانياً. تعب بولس سوف لا يتركه لنفوس تعبث به وتتلفه, ولكن لكي تحيا هذه النفوس وتسعد وتتبارك في المسيح هنا وأبدياً.

ثالثاً. هذه النفوس بدورها تتعب لكي تأتي بنفوس أخرى, وهذا يعني أن تعب بولس ممتد في هذه النفوس الجديدة. وفي الحقيقة تعب بولس و الرسل جميعاً وكل المفيدين في تدبير النعمة ليس إلا امتداد للتاعب الحقيقي, الذي في لاهوته لا يكل ولا يعيا ليس عن فهمه فحص, لكن إذ جاء إلى أرضنا كان هو التاعب الحقيقي لأجل مجد الله ولأجل كنيسة الله. وقد صرح بولس بهذه الحقيقة قائلاً "وأكمل نقائص شدائد المسيح" (كو 1: 24) أي أنه له المجد تعب التعب المجيد اللامع إلى الأبد,لكنه ترك نصيباً لكل مؤمن لكي يشترك في هذا التعب لأجل مجد الله ولأجل إكمال عدد العروس.

رابعاً. تعب بولس بقوة الروح القدس لذلك ليس في قاموسه إطلاقاً كلمة يأس أو فشل بالرغم من الأهوال التي واجهته في طريق الخدمة لأجل سيده العظيم المحبوب المعبود. وطابعه باستمرار أن الله "لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح" (2 تي 1: 7) والراية الكبيرة التي كان يسير تحتها "شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14). ما أعجب الختم الذي يضعه سليمان على تعبه وعمله:

- كرهت كل تعبي ع 18

- تحولت لكي أجعل قلبي ييئس ع 20, وذلك مصيبة عظيمة.

- ترك تعبه لإنسان يُعّد في موازينه شر عظيم ع 21

- عمله مقترن بالحزن والغم والقلق ع 23

وواضح فيما تقدم أن تعب بولس على النقيض من هذه كلها تماماً.

"لَيْسَ لِلإِنْسَانِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيُرِيَ نَفْسَهُ خَيْراً فِي تَعَبِهِ. رَأَيْتُ هَذَا أَيْضاً أَنَّهُ مِنْ يَدِ اللَّهِ" (ع 24).

قصد الحكيم أنه خير للإنسان أن يتمتع بما يعطيه له الله من بركات, وأن يشعر بالرضى عن العمل المعين له من الله ويتذوق لذة التعب فيه. وهكذا يصل إلى هذه النتيجة المذلة للكبرياء البشرية وهي أن الإنسان في ذاته عاجز كل العجز أن يجعل حياته سعيدة, إن لم يقبل الأمور من يد الله المحب.

"لأَنَّهُ مَنْ يَأْكُلُ وَمَنْ يَلْتَذُّ غَيْرِي" (ع 25)

يقرر سليمان هنا بأنه هو القمة في الأطعمة والتلذذ بها لكن لم يكن لها أي طعم أو لذة بدون قبولها من يد الله.

"لأَنَّهُ يُؤْتِي الإِنْسَانَ الصَّالِحَ قُدَّامَهُ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً وَفَرَحاً أَمَّا الْخَاطِئُ فَيُعْطِيهِ شُغْلَ الْجَمْعِ وَالتَّكْوِيمِ لِيُعْطِيَ لِلصَّالِحِ قُدَّامَ اللَّهِ هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ" (ع 26)

في هذه الأقوال يعود سليمان إلى أيام الشركة السعيدة عندما كان متمتعاً بالحكمة والمعرفة والفرح.

وعلى عكس ذلك الخاطئ فإنه لا يحصد من وراء كده واجتهاده سوى التعب والعناء والأنين المّر, وما يجمعه ويكومه يرثه الصديق "ثروة الخاطئ تذخر للصديق" (أم 13: 22). أيضاً "تُجمع لمن يرحم الفقراء" (أم 28: 8) وأيضاً "إن كنز فضة كالتراب واعد ملابس كالطين فهو يعد والبار يلبسه والبريء يقسم الفضة" (أي 27: 16, 17). ليتنا نسمع نصيحة الرسول بالروح القدس:

"إذاً يا إخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب" (1 كو 15: 58) فما من كأس ماء بارد نقدمه في اسم ربنا يسوع المسيح إلا وله أجره ونفوز في الوقت المعين بابتسامة ربنا يسوع المسيح واستحسانه ومديحه عن قريب.

ما أروع المباينة فكل تعب للذات هو باطل وباطل الأباطيل وكل تعب لربنا يسوع المسيح ليس باطلاً على الإطلاق, شكراً لك يا من غيرت الحال معنا تماماً.

  • عدد الزيارات: 1948