Skip to main content

الاصحاح الخامس

(1) " فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأولاًد أَحِبَّاءَ "

نرى هنا إرتباطا وثيقا بين هذه الكلمات وبين الكلمات الأخيرة في الاصحاح السابق، فانه بعد أن يحثنا الرسول على أن نكون لطفاء شفوقين متسامحين كما سامحنا الله أيضاً في المسيح، يضع أمامنا الله كالمثال الكامل، لا في الصفح والتسامح فقط بل في كل شىء " فَكُونُوا " أي لذلك أو بسبب ذلك " كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأولاًد أَحِبَّاءَ "

ان هذا الحث موجه إلى المؤمنين الحقيقيين دون سواهم فانه من العبث أن تطلب من أي شخص غير متجدد لم ينل من الله طبيعة جديدة أن يتمثل بالله أو يتبع آثار خطوات المسيح، فإن سلوكنا في أثر خطوات الرب يسوع ليس هو الوسيلة لفدائنا أو تجديدنا بل هو نتيجة أو ثمرة فدائنا ونوالنا حياة ابدية، فكل محاولة من جانب الإنسان للتمثل بالله قبل أن يصبح شريكا للطبيعة الإلهية بالولادة من فوق هي بلا شك محاولة فاشلة، ولكننا " كَأولاًد أَحِبَّاءَ " فقط نستطيع بنعمة الله ومعونته أن نتمثل به.

أما غير المؤمنين " أبناء ابليس " فانهم لا يريدون أن يعملوا سوى " وَشَهواتِ ابيكُمْ " (يو8 : 44).

انه شىء طبيعى أن الأولاًد يريدون دائماً أن يقلدوا اباءهم ويتمثلون بهم، هكذا نحن المؤمنين فإن الله خلصنا بنعمته واعطى لكل منا حياة ابدية أي طبيعته الإلهية لذا ينتظر منا أن نتمثل به.

انه، تبارك اسمه هو مثالنا في كل شىء – في الفكر والكلام والعمل، فدستور أو قانون سلوك المسيحي ليس هو مجرد أو امر أو نواه بل هو الله نفسه معلنا ذاته وصفاته في ابنه الحبيب ربنا يسوع المسيح " كَأولاًد الطَّاعَةِ لاَ تُشَاكِلُوا شَهواتِكُمُ السَّابقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ، بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أيضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ " (1بط1 : 14و15) " مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَابتٌ فِيهِ، يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هَكَذَا يَسْلُكُ هو أيضاً " (1يو2 : 6).

قد يبدوغريبا أن يطلب منا أن نتمثل بالله الذي لم نره ولكن كلمات ربنا يسوع فيها كل الكفاية لأيضاًح هذا الأمر " اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابن الْوَحِيدُ الَّذِي هو فِي حِضْنِ الاب هو خَبَّرَ (أي اعلنه أو اظهره) " (يو1 : 18). كما قال هو بنفسه " اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأي الاب " (يو14 : 9)، " فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهوتِ جَسَدِيّا " (كو2 : 9).

(2) " وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أيضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائحةً طَيِّبَةً "

السلوك المسيحي هو ما ينبر عليه الروح القدس في هذه الرسالة بصفة خاصة، فمع انه يرينا فيها مقامنا السماوي وبركاتنا الروحية التي بوركنا بها في المسيح، وكيف أننا قد أجلسنا فيه في السماويات، الا انه من الناحية الأخرى يحثنا كثيراً على السلوك الذي يتوافق مع هذه الامتيازات المباركة، وفي هذا الاصحاح الخامس يشير إلى ثلاثة اشياء يجب أن نسلك فيها وهي : السلوك في المحبة (ع2) والسلوك في النور (ع8) والسلوك بالتدقيق (ع15).

أولاً " وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ " هذا الحث موجه إلى الذين كانوا قبلا خطاة مساكين، أمواتا بالذنوب والخطايا ولكنهم عرفوا محبة المسيح – المحبة التي أظهرها في موته نيابة عنهم فوق الصليب. عرفوها و وثقوا فيها، وفي كفاية عمله النيابى فانتقلوا من الموت إلى الحياة ومن ثم انسكبت محبة الله في قلوبهم بالروح القدس المعطى لهم. هؤلاء هم الذين يطلب الله منهم أن يسلكوا في المحبة إذ لا يكفى أن نعرف أو نتعلم عن المحبة بل يجب أن نسلك فيها عمليا " لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ " (1يو3 : 18).

ومقياس المحبة التي يجب أن نسلك فيها هو المسيح نفسه، " كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة طيبة"

حقاً ما اسمى المستوى الذي يجب أن يكون عليه سلوكنا كمسيحيين فليس هو السلوك بحسب أو امر الناموس الذي اعتقنا منه بل أن مقياس سلوكنا في المحبة هو محبة المسيح " كما أحبنا المسيح "

لقد كانت محبة المسيح لنا قوية بهذا المقدار حتى أن الموت لم يستطع أن يعطلها أو يؤخرها لحظة واحدة فقد أحبنا " وأسلم نفسه لأجلنا " هذه هي المحبة الحقيقية – المحبة الباذلة التي نحن مدعو ون أن نتمثل به فيها. أن المحبة تجد شبعها في خدمة من تحب، والمسيحي المتمثل بالمسيح في محبته يجد سروره في خدمة الآخرين.

يرسم الروح القدس أمامنا هنا ذبيحة المسيح من بعض أو جهها فانه " اسلم نفسه لأجلنا " فقد كان فوق الصليب كذبيحة خطية " الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة " مات رئيس الحياة لكي نحيا نحن الأموات، لاسمه المعبود كل سجود واكرام. ولكن هناك وجه آخر اسمى بما لا يقاس من موته " لأجلنا " ، فقد كان " قربانا وذبيحة لله رائحة طيبة " الاشارة هنا هي إلى " قربان التقدمة " (لا2)

الذي كان رمزا لناسوت ربنا الطاهر، وإلى " المحرقة " (لا1) التي كانت اسمى أنواع الذبائح حيث كانت ترمز إلى المسيح كمن قدم نفسه لا لأجلنا بل لله، فهو الذي " وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " إنه الإنسان الفريد الذي أطاع الله ومجده في حياته كما في موته فوق الصليب " وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الاب وَكَمَا أو صَانِي الاب هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا " (يو14 : 31) إلى أين؟ إلى الصليب حيث أكمل العمل الذي أعطاه إياه الاب ليعمله (يو17 : 4) نعم. انه المحرقة التي تصاعدت رائحتها الزكية فأشبعت قلب بالله " رائحة طيبة " وكما أنه أسلم نفسه لأجلنا فوضعت عليه كل خطايانا هكذا إذ قدم نفسه " ذبيحة لله رائحة طيبة " انتقلت كل كمالاته الينا فصار الله يرانا حاضرا وابديا فيه – مقبولين كقبوله هو أمام الله ومحبوبين بنفس محبة الاب له. أمام هذه الرفعة التي أو صلتنا اليها محبة الله الاب والرب يسوع المسيح نجثو ونخر سجودا وتعبدا.

(3) " أَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أو طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ "

ينتقل الرسول انتقالا مفاجئا من الكلام الجميل عن وجوب تمثل المؤمنين بالله كأولاًد أحباء وعن السلوك في المحبة كما أحبنا المسيح، إلى التحذير من الخطايا الدنسة المذكورة هنا. صحيح أن القديسين في أفسس كانوا قبل إيمانهم بالمسيح، أمما وثنيين غارقين في كل أنواع الخطايا النجسة وكانوا في حاجة إلى التحذير من

الرجوع إلى تلك الشرور القذرة التي كانوا عائشين فيها قبلا، ولكن كما كانوا وقتئذ في حاجة إلى ذلك التحذير فإن المؤمنين في هذه الأيام في حاجة إلى هذا التحذير عينه لأن القلب البشرى هو هو لم يتغير ولم يتحسن بالرغم من وسائل المدينة والتهذيب. أن كل أنواع الشرور والمفاسد التي كانت منتشرة بين الوثنيين قبل أيام الرسول بولس وفي أيامه لا زالت موجودة في كل مكان في هذا العالم أن لم تكن قد ازدادت بسبب وسائل المدنية التي لم تكن موجودة وقتئذ، كالسينما وصالات الرقص وأماكن الملاهي والمجلات المصورة وغير ذلك كثير.

إن القديسين في هذه الأيام كما في كل زمان في حاجة إلى أن يكونوا في حالة الصحو والسهر، وأن يكونوا مواظبين على الصلاة لكى يحفظهم الرب من هذه الخطايا " الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ " وكذا من كل " طمع " – أعنى من الطمع في الأمور المادية أي محبة المال، كما أن كلمة طمع قد تشير إلى الرغبة أو الميل إلى ارتكاب كل أنواع النجاسة. يجب أن لا ننسى أن فينا نفس الطبيعة الساقطة التي في جميع البشر بدون استثناء ولكن الذي يميزنا عن غير المؤمنين هو أننا نلنا طبيعة إلهية كما أخذنا الروح القدس الذي يمنح هذه الطبيعة الجديدة القوة لاماتة أعمال الجسد والنصرة على جميع أمياله. أن واجبنا ليس قاصرا على أن نمتنع فقط عن ارتكاب هذه الخطايا بل يجب أن لا تسمى بيننا لأنها لا تليق بالقديسين. فالقديس من واجبه لا أن يمتنع عنها فقط بل ولا يفكر فيها أو يتحدث عنها " فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ " أو كما يقول الرسول في نفس هذا الأصحاح " لأن الأمور الحادثة منهم سرا ذكرها أيضاً قبيح "

(4) " وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ"

يضع الرسول هذه الخطايا جنبا إلى جنب مع خطايا النجاسة المذكورة في العدد السابق، والمقصود بالقباحة كل ما من شأنه أن يحول قلوبنا وأفكارنا إلى أمور دنيئة سواء بالكلام أو بالعمل ولا سيما بالكلام لان هذا العدد يدور حول ما ينطق به اللسان، أما المقصود بكلام السافاهة فهو أقوال الجهالة والغبأوة، فالمفروض هو أن الجهال والسفهاء هم الذين ينطقون بكلام السفاهة وهذا ما لا يليق بالمؤمن الحقيقي " والهزل " هذه الخطية التي يضعها الروح في قائمة الخطايا الدنسة يتعرض لها مع الأسف كثيرون من المؤمنين، فانهم يتصورون أن من الظرف والكياسة وخفة الروح أن يمزحوا بكلمات تضحك الآخرين وتدخل السرور إلى نفوسهم فيستعملون ألفاظا لا تليق بقديسى الرب.

أنهم يتكلمون أحيانا بأقوال تحمل معنيين " أقوال التورية " أو بالحري أقوالا ملتوية قد تؤذى السامعين أو تمس كرامة أشخاص غا)بين، ظانين أن الهزل من علامات السرور والانشراح وهم يجهلون ما يقوله الحكيم " يُوجَدُ مَنْ يَهْذُرُ مِثْلَ طَعْنِ السَّيْفِ أَمَّا لِسَانُ الْحُكَمَاءِ فَشِفَاءٌ " (أم 12 : 18). أن الرجل المطوب هو الذي " فِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئينَ لَمْ يَجْلِسْ " (مز1 : 1) على أنه ليس المقصود هنا هو أن يكون المؤمن عبوسا أو كئيب الوجه ومقطب الجبين، كلا فإن مشيئة الله من جهة المؤمن الحقيقى هي أن يكون دائماً فرحا مبتهجا، لأن " الْقَلْبُ الْفَرْحَانُ يُطَيِّبُ الْجِسْمَ " (أم7 : 22). أن كلمة الله لا تحرم الضحك على وجه الاطلاق. قال أحد رجال الله " إنى أخاف من أولئك الذين صاروا قديسين لدرجة أنهم يحرمون الضحك مع أنه مما يميز الإنسان عن الخلائق الأخرى هو الضحك " وقال أيضاً " ما لم يستطع العلماء أن يجدوا قردا يمكنه أن يضحك فأنهم لن يجدوا الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد " أما المقصود بالهزل فهو أقوال المزاح التي تجفف الحياة الروحية " الَّتِي لاَ تَلِيقُ " فبدلاً من القباحة وكلام السفاهة والهزل التي لا تليق يجب أن تكون أفواهنا مكرسة للرب وفا)ضة بالحمد والتسبيح " بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ " فانه لا يليق الجمع بين هذين الأمرين، بين كلام السفاهة والهزل، والشكر. أن المؤمن الفطن الذي يقدر قيمة نعمة الله التي خلصته ويدرك سموالمقام الذي أو صلته اليه هذه النعمة لابد أن يفيض قلبه " بكلام صالح " بأقوال الشكر وأغاني الحمد والتسبيح للرب.

(5) " فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أن كُلَّ زَانٍ أو نَجِسٍ أو طَمَّاعٍ، الَّذِي هو عَابدٌ لِلأوثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ"

يذكر الرسول المؤمنين بأن ما يكتبه اليهم ليس شيئا جديدا، بل حقيقة معلومة عند جميعهم، وهي أن من يسلك في هذه الخطايا لا يمكن أن يكون ابنا حقيقيا لله، وليس له ميراث في ملكوت المسيح والله. لقد ظهرت نعمة الله الغنية مقدمة خلاصا لأشر الخطاة والفجار – خلاصا من الدينونة الأبدية وعتقا وتحريرا من سلطة الخطية، ولكن المبدأ الإلهي الثابت لن يتغير فإن من يرفض نعمة الله المانحة خلاصا مفضلا أن يعيش في هذه الخطايا القذرة لا يمكن أن يكون له نصيب في الميراث الأبدي. لقد وجدت محبة الله الغير المحدودة علاجا لمشلكة الخطايا في صليب المسيح الا أن قداسته لا يمكن أن تتسأهل مع الخطية، ولا يمكن أن الله والخطية يكونان معا، لذا يحذر الرسول المؤمنين الحقيقيين أولاًد الله الذين لهم الميراث المجيد في ملكوت المسيح والله من الوقوع في هذه الخطايا التي يعيش فيها غير المؤمنين الذين ليس لهم نصيب في ذلك الميراث الأبدي.

يشير الرسول إلى الطماع بأنه عابد للوثن، وهذا صحيح فانه يعبد إلها وهذا الإله أو الصنم هو ذاته، لذا يضعه الرسول جنبا إلى جنب مع الزانى أو النجس الذي ليس له هدف سوى اشباع لذاته وشهواته الدنسة.

(6و7) " لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الأمور يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أبناء الْمَعْصِيَةِ. فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ "

يحذر الرسول المؤمنين من الانخداع بآراء ونظريات الاباحيين الذين يتحدثون كثيراً عن رحمة الله ونعمته. الذين يحولون نعمة الله إلى الدعارة ظانين أن النعمة تتساهل مع الخطية، فيؤكد الرسول لهم أن غضب الله لابد أن يأتي على أبناء المعصية العائشين في الخطية.

إن من واجبنا أن نصلى من أجلهم لكى يرحمهم الرب من هذه الحالة ولكن لا يليق بنا أن تكون لنا شركة مع أمثال هؤلاء.

(8) " لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ. اسْلُكُوا كَأولاًد نُورٍ "

ثانيا السلوك في النور. لقد بدأ هذا الاصحاح بالحث على السلوك في المحبة " واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً " وهنا يحثنا الروح القدس على السلوك في النور واضعا أمامنا الفرق الكبير بين حالتنا في الماضى وحالتنا كمؤمنين في الحاضر " لأنكم كنتم قبلا ظلمة وأما الآن فنور في الرب "

لقد عمل الرسول في الاصحاح الثاني مباينة بين الموت والحياة، والمباينة هنا هي بين الظلمة والنور، وبما أننا قد صرنا فعلا نورا في الرب لذا يجب أن لا نكون شركاء أبناء المعصية " فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ "

يوجد مملكتان كبيرتان، وكل إنسان في العالم موجود في واحدة منهما، وهما مملكة الشيطان – مملكة الظلمة، ومملكة الرب يسوع – مملكة النور، وغير المخلصين موجودين بإرادتهم تحت سيادة وسلطان الظلمة، وهم يحبون الظلمة ويفضلونها على النور لأن أعمالهم شريرة (يو3 : 19). انهم ليسوا في الظلمة فقط بل هم أنفسهم " ظلمة " وأعمالهم كلها ظلمة لانهم لا يعرفون غير ذلك.

أما المسيحي الحقيقى فقد كان قبلا ظلمة، ولكنه منذ اللحظة التي فيها قبل الرب يسوع المسيح " نور العالم " مخلصاً له أنقذه الله الاب من سلطان الظلمة ونقله إلى ملكوت ابن محبته (كو1 : 13) " لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أن يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هو الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (2كو4 : 6) لقد كنا قبلا ظلمة وأما الآن فنور في الرب، أي أننا لسنا في النور فحسب بل اننا الآن فعلا " نور في الرب " لذا يجب علينا أن نسلك كأولاًد نور، فلا نسلك فيما بعد في الأشياء التي نخجل الآن من ذكرها. يجب أن تكون الحياة بجملتها مختلفة كل الاختلاف عن حياة غير المؤمنين " لأنكم كنتم قبلا ظلمة وأما الآن فنور في الرب " لما كان ربنا يسوع المسيح هنا في هذا العالم قال عن نفسه " أَنَا هو نُورُ الْعَالَمِ " (يو8 : 12)، ولكنه أعطى خاصته هذا الشرف العظيم أن يكون لهم نفس المركز السامى الذي كان له وهو على الأرض إذ قال لهم " أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ...فَلْيُضِ) نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أعمالكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا اباكُمُ الَّذِي فِي السماوات " (مت5 : 14و16) ولكى نستطيع أن نضىء يجب أن نكون باستمرار ممتلئين بالروح القدس وذلك لكي نجتذب أنظار الناس، لا لأنفسنا، بل لكى يرى المسيح في حياتنا وبذا يتمجد الله ابونا. قال الرب، له المجد، عن يوحنا المعمدان بأنه كان " السِّرَاجَ الْمُوقَدَ (أي المشتعل أو المحترق) الْمُنِيرَ " (يو5 : 35) وكان كل غرضه أن يضىء السبيل أمام الآخرين نحو المسيح وليس نحو نفسه. فهل نريد نحن أيضاً أن ننير ونضىء؟ أن الأمر يتطلب البذل والتضحية – يتطلب أن نكون مستعدين أن نكون كالسراج الموقد–أي المستعد أن ينفق لأجل المسيح فنكون بلا لوم وبسطاء أولاًد الله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتونضىء بينهم كأنوار في العالم " (في2 : 15). قال الحكيم بأن " أَمَّا سَبِيلُ الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِقٍ يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إلى النَّهَارِ الْكَامِلِ " (ام 4 : 18).

(9) " لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هو فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ "

يضع الرسول أمامنا ثلاثة اشياء هي الثمر الحقيقى للروح أو بالحري للنور*

(*) فقد جاءت كلمة الروح في معظم الترجمات بمعنى النور " For the fruit of light is … "

وهي الصلاح والبر والحق، ولا شك أن هذه الأشياء الثلاثة هي من عمل الروح القدس في المؤمن، إلا أن المعنى الأصلى لهذه الكلمة هو " النور " أي أن هذه الأشياء هي من ثمر النور فينا نحن الذين صرنا " نورا في الرب " وهذا يتفق مع قصد الوحى الإلهي هنا، بينما في رسالة غلاطية (ص5) نجد أن الثمر هناك ليس ثمر النور بل " ثَمَرَ الرُّوحِ " لأن المباينة هناك هي مع " أعمال الجسد " المعادية لله والمضرة للناس، " وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهو : مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إيمان وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ " (غلا5 : 22و32) بينما هنا في أف5 : 9 ليست المباينة مع أعمال الجسد التي يدينها الناموس بل مع الظلمة " لأنكم كنتم قبلا ظلمة".

ان ثمر النور هو في كل صلاح وبر وحق، فإن قصد الله من جهتنا هو أن تظهر فينا نحن أولاًده نفس صفاته الأدبية الجميلة، هذه المبادىء الإلهية السامية التي تتوافق مع الحياة الجديدة التي أعطانا إياها في المسيح يسوع، فالطبيعة الجديدة التي منحنا إياها تحب وترغب في كل صلاح وبر وحق أو بالحري في صلاحه وبره وحقه هو. كم هو جميل أن نتمثل بإلهنا في صلاحه من نحونا فنكون لطفاء شفوقين ومحسنين فنعمل الخير للجميع... للذين يحبوننا والذين لا يحبوننا أيضاً. هذه هي النعمة التي يجب أن يتميز بها كل أولاًد النور. وكم هو جميل أيضاً أن نظهر ثمر النور في عمل البر. هذه الصفة هي من مميزات الإنسان الجديد " وَتَلْبَسُوا الإنسان الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ " (4 : 24). يجب أن تكون أقوالنا وأفكارنا وأعمالنا بحسب البر والاستقامة. هذا ما يميزنا كأولاًد نور عن أبناء الظلمة الذين تسيطر عليهم الأنانية ومحبة الذات. كما أن من مميزات أولاًد الله – أولاًد النور السلوك بحسب الحق. أن كان تعاملنا مع الآخرين يجب أن يكون في كل صلاح وبر، فانه يجب أن تكون حياتنا الشخصية بحسب الحق، لأن الـرب يسر " بِالْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ " (مز51 : 6) فلا يكون للرياء أو التظاهر مكان في حياتنا المسيحية كأولاد نور. أن النور الإلهي لا يمكن أن يسمح لأي شر أو شبه شر بأن يوجد في حياتنا.

(10) " مُخْتَبِرِينَ مَا هو مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ "

كلمة " مختبرين " هنا هي بمعنى " ممتحنين " أو " فاحصين " لمعرفة ما هو مرضى عند الرب. أي أن واجبنا هو أن ندرك ونتيقن ما هي مشيئة الرب وارادته في كل شىء. هذا ما يجب أن يبتغيه كل أولاًد النور، فلا يليق أن تكون لغة المسيحي الحقيقى " أنا أظن أو أعتقد أن هذا التصرف حسن " أو " انى لست أرى أي ضرر في عمل هذا أو ذاك " وبالتالي لا يليق بالمؤمن أن يعمل بحسب ارادته الذاتية، بل يجب أن يكون لسان حاله " انى بنعمة الله تابع للمسيح، والروح القدس ساكن في، فهل هذا العمل هو ما يريده المسيح ويرضى به؟ وهل عملي هذا يؤول لمجد ربى وسيدى المبارك؟ إذا قلت هذا القول أو عملت هذا العمل أو ذهبت إلى ذلك المكان، هل أكون بذلك مكرما ومعظما لمخلصى؟ " اننا بهذه الكيفية وحدها نستطيع أن نختبر ما هو مرضى عند الرب.

(11) " وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أعمال الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا "

ليس في استطاعة المسيحي الحقيقى أن تكون له شركة مع أبناء المعصية العائشين في الظلمة (ع6و7) دون أن يتنجس بأعمالهم الدنسة وأفعالهم الشريرة. لذا نجد في رسائل الرسول بولس تحذيرات كثيرة من مخالطة ومعاشرة غير المؤمنين " كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي الرِّسَالَةِ أن لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاة " (1كو5 : 9) " لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْر الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ " (2كو6 : 14و15) فلا يليق بالمؤمن الحقيقي أن يكون له شركة مع غير المؤمنين ولا أن يكون تحت نير معهم في أية ناحية من نواحى الحياة، سواء في الزواج أو الأعمال الزمنية أو في المنظمات أو الأندية العالمية أو في الجمعيات السرية ولا حتى في الأنظمة الدينية المخالفة لكلمة الله، لأن " وَهَذَا هو الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ وَنُخْبِرُكُمْ بِهِ : أن اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ. أن قُلْنَا أن لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ " (1يو1 : 5و6). أن واجبنا هو أن لا نشترك في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري نوبخها بحياتنا العملية التقوية وبأقوالنا النقية، فلا يليق بنا أن نهادن الشر أو أن نتعامل مع الخطية باستخفاف وعدم مبالاة. لقد كانت حياة ربنا يسوع على الأرض نورا ساطعا وموبخا لأعمال وأفكار البشر المظلمة. ومن واجبنا أن نتمثل به في ذلك أيضاً، أي يجب أن يكون سلوكنا في النور فيكون موبخا لأعمال الظلمة غير المثمرة.

(12) " لأَنَّ الأمور الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أيضاً قَبِيحٌ "

المؤمن الواعى والممتلىء قلبه وعقله بالمسيح وبطهارته لا يفكر إلا في كل ما هو جليل وطاهر، فلا ينشغل بنجاسات الاشرار الدنسين ولا يفكر فيها وبالتالي لا يدنس لسانه بذكر الأمور القبيحة الحادثة سرا من أبناء المعصية العائشين في ظلمة الخطية.

(13) " وَلَكِنَّ الْكُلَّ إذا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهو نُورٌ "

ليس المقصود بقوله قبلا " وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أعمال الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا " (ع11) أن نبحث عن خطايا الآخرين ونشهر بها، بل المقصود هو أن النور من شأنه أن يظهر كل شىء من أعمال الظلمة ويوبخه، أو بعبارة أو ضح، انه إذا كانت حياتنا العملية نقية ومقدسة ومكرسة للمسيح وكنا متمثلين به في كل شىء، فإن الحياة هكذا تظهر رداءة الشر المحيط بنا وتوبخه، فليس هناك شىء يكشف حقيقة الشر ويوبخه سوى النور " لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إلى النُّورِ لِئلا تُوَبَّخَ أعمالهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إلى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أعمالهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ " (يو3 : 20و21).

" لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهو نُورٌ " أي أن كل شىء يسلط عليه النور فيظهره لا يبقى بعد ذلك مظلما بل يصير ظاهرا و واضحا إذ أن النور يظهر على حقيقته.

لما كان الرب يسوع هنا في هذا العالم و وبخ الفريسيين على ريائهم، لم تكن شرورهم قبل ذلك ظاهرة على حقيقتها أمام التلاميذ وغيرهم من اليهود ولكن عندما سلط المسيح نور الحق على شرورهم ظهرت على حقيقتها – ظهرت ردا)تها بصورة جلية.

على أن عبارة " لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهو نُورٌ " وردت في بعض الترجمات بمعنى " لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهو نُورٌ(1) " أعنى أن النور هو الذي يظهر الأشياء على حقيقتها،

(1) " For that which makes everything manifest is light "

وبدون النور لا يمكن رؤية الأمور كما هي. لقد صيرنا الله بنعمته " نورا في الرب " فواجبنا أن نكون دائماً " بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أولاًداً للهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ " (في2 : 15) وبذا نكون سبب هداية وبركة للعائشين في الظلمة وظلال الموت.

(14) " لِذَلِكَ يَقُولُ : «اسْتَيْقِظْ أيها النَّائم وَقُمْ مِنَ الأموات فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ» "

يوجه الروح القدس هذه الكلمات، لا لغير المؤمنين، بل للمؤمنين الحقيقين – إلى الذين انتقلوا من الموت إلى الحياة، أي أنهم ليسوا أمواتا روحيا بل أحياء في المسيح ومعه، ولكنهم، ويا للاسف، ليسوا متمتعين ببهجة الحياة الجديدة وأفراحها. انهم مخلصون بالنعمة ولكنهم فقدوا بهجة الخلاص. لقد استسلموا للنوم والرخأوة. لقد فقدوا نشاطهم الروحى وتركوا محبتهم الأولى. لقد ناموا وسط قبور الأموات روحيا، وكأنه لم يبق هناك فرق بينهم وبين الأموات بالذنوب والخطايا. أليست هذه صورة حقيقية لكثيرين من أولاًد الله؟ انك تكاد لا تميز بينهم وبين غير المؤمنين. لذا يحث الرسول كل متغافل متهاون أن يقوم من غفلته الروحية وأن يستيقط من نومه.

إن عبارة " لِذَلِكَ يَقُولُ اسْتَيْقِظْ أيها النَّائم " لا نجدها كما هي في أي سفر من أسفار العهد القديم، والأرجح، أن الرسول اقتبس العبارة الواردة في سفر اشعياء (ص60 : 1) بمعناها وليس حرفيا وهي " قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ " فانه بسبب الشرور التي كانت منتشرة في أيام النبى اشعياء، قد وجه الدعوة إلى شعب الرب وخاصته بأن يستيقظوا فيضىء عليهم مجد الرب ونوره في وسط الظلمة الدامسة المحيطة بهم. وهذه هي دعوة الرب لخاصته في تدبير النعمة الحاضر. إذ لا يليق بأن يكون الاحياء بين الأموات. إننا لا نقرأ عن أي واحد كان مقيما بين القبور سوى مجنون كورة الجدريين. ليحفظنا الرب من هذه الحالة المزرية.

ما أعجب محبة الرب ونعمته! فأنه يريد أن شعبه يتمتع بنور وضياء وجهه، لذا يوجه الدعوة لكل واحد منا بمفرده قائلا " «اسْتَيْقِظْ أيها النَّائم وَقُمْ مِنَ الأموات فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ» " لأن النائم لا يستطيع أن يرى نورا أو ضياء، وبالتالي هل يستطيع المؤمن النائم روحيا أن يتمتع بنور محيا ربنا يسوع المسيح وبضياء وجهه الجميل؟ ليتنا نوجد في حالة الصحوالروحى والشركة المستمرة مع ربنا المبارك فنتمتع بنور طلعته إلى أن يأتي وعندئذٍ " نراه كما هو "

(15و16) " فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأيام شِرِّيرَةٌ "

ثالثاً السلوك بالتدقيق. فقد بدأ هذا الاصحاح بالحث على السلوك في المحبة (ع2) ثم على السلوك في النور " اسْلُكُوا كَأولاًد نُورٍ " (ع8) أما هنا فإن الروح القدس يحثنا على السلوك بالتدقيق. ولنلاحظ أن هذه هي المرة السابعة والأخيرة التي فيها يشار إلى السلوك في هذه الرسالة – هذه الرسالة التي يرسم فيها الروح القدس مقامنا السماوي باعتبارنا جسد المسيح الرأس المقام من بين الأموات والممجد عن يمين الاب، وكيف اننا بوركنا فيه (أي في المسيح) بكل بركة روحية في السماويات لذا ينبر الروح القدس في هذه الرسالة على السلوك العملي أكثر مما في أية رسالة أخرى، لأنه بقدر ما قد سما مقامنا، بهذا القدر عينه تعظم مسئوليتنا للسلوك كما يحق لهذا المقام.

ان سلوك المؤمن بالتدقيق معناه السلوك بمنتهي الحرص واليقظة الروحية في كل لحظة وذلك بالاعتماد على الرب والاستناد على نعمته ومعونته. مكتوب عن العالم الذي نعيش فيه بأنه " الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ " (غل1 : 4) ومكتوب أيضاً " الْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ " (1يو5 : 19) والشيطان هو " رئيس هذا العالم " لذا نحتاج إلى السهر والحذر فإن ابليس عدوالمسيح وعدونا نحن أيضاً ينصب في طريقنا فخاخا وشباكا متنوعة ويحفر حفرا من كل جانب ليسقطنا فيها، لذا يجب أن نكون في حالة الوعى الروحى " لا كجهلاء بل كحكماء " فنعرف كيف نخطوكل خطوة – نعرف كيف نرفع قدما وأين نضعها، ولنا النظر الثاقب والبصيرة النيرة لنعرف أين سنخطوالخطوة التالية. أن الحكيم يعرف كيف يخطوكل خطوة بحسب إرادة الله – يعرف ما هو الكلام الذي يتكلم به والعمل الذي يجب أن يعمله، يعرف من هم الاصدقاء الذين يجب أن يسير معهم ويستفيد من معاشرتهم. الحكيم هو الذي يهدف إلى أن يكون سلوكه لمجد الرب يسوع، أما الجأهل فهو الذي يسير في هذا العالم بدون تقدير لعواقب الأمور ولا يبإلى بالنتائج الوخيمة للسلوك الطا)ش – سلوك الجهالة.

فأحذر أيها الأخ المسيحي من أن تجارى غير المؤمنين في تصرفاتهم بحجة أنهم الأكثرية. كن مدققا في سلوكك فلا تفعل شيئا مهينا لاسم سيدك ومعطلا لحياتك الروحية لأن الآخرين يفعلون ذلك الشىء. كن حكيما " لِتَنْظُرْ عَيْنَاكَ إلى قُدَّامِكَ وَأَجْفَانُكَ إلى أَمَامِكَ مُسْتَقِيماً. مَهِّدْ سَبِيلَ رِجْلِكَ فَتَثْبُتَ كُلُّ طُرُقِكَ. لاَ تَمِلْ يَمْنَةً وَلاَ يَسْرَةً. بَاعِدْ رِجْلَكَ عَنِ الشَّرِّ " (ام4 : 25-27).

(17) " مِنْ أجل ذَلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مشيئة الرَّبِّ "

جدير بالملاحظة أن الوسيلة الوحيدة التي بها نستطيع أن نكون كحكماء وليس كجهلاء هي فهم مشيئة الرب. واننا نشكره لأنه قد أو دع لنا كل مشيئته في كلمته الحية – تلك الهبة الإلهية التي منحنا إياها " الكتاب المقدس " فاننا بدون كلمة الرب لا نستطيع أن نفهم ما هي إرادة الرب. أن الكتاب المقدس قد تضمن كل ما قصد الله أن يعلمنا إياه، ولا نستطيع أن نفهم ما هي مشيئة الرب من أي مصدر آخر سوى كلمته. فكلمته هي دستور الحياة المسيحية، والروح القدس الساكن فينا يمنحنا القوة للسلوك بحسب الكلمة الإلهية. انه من المخجل حقاً أن نجد كثيرين من المؤمنين يهملون دراسة كلمة الله التي هي الغذاء الحقيقى للحياة الروحية. لذا نناشد كل مسيحي بأن يدرس كلمة الله يوميا – يدرسها بترتيب وبروح الصلاة فيجد فيها الغذاء لحياته الروحية. أنه " اللبن العقلى العديم الغش " كما أنه الخبز المشبع للنفس، لأنه " لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيا الإنسان بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ " (مت4 : 4) وبها يستطيع المؤمن أن يعرف مشيئة الرب في كل أمر وفي كل ناحية من نواحى حياته. فمنها نستمد الحكمة التي نحتاج اليها. إنها سراج لأرجلنا ونور لسبيلنا. لقد قال الرب يسـوع " فتشوا الكتب " هذه هي وصية لجميعنا ومن واجبنا أن نطيع أمره وذلك لخيرنا وبركتنا، وإلا فاننا نكون مخطئين و واجبنا في هذه الحالة أن نبادر اليه ونعترف له بهذه الخطية ونعقد النية بعزم ثابت، واثقين في معونته، على درس كلمته الصادقة التي منها نستمد المعرفة الحقيقة.

(18) " وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئوا بِالرُّوحِ "

يضع الرسول أمامنا هنا أمرين متباينين، الواحد يختلف عن الآخر إختلافا بينا، وهما " السكر بالخمر " و " الامتلاء بالروح " ولم يعمل الرسول هذه المباينة؟ السبب هو أن الإنسان الذي يسكر بالخمر يصبح شخصية أخرى غير شخصيته الحقيقية، فأنه يتفوه بأقوال ويعمل أشياء لا يمكن أن يتفوه بها أو يعملها في حالته الطبيعية، ذلك

لأن روح المسكر هي التي تهيمن عليه، وهذا ما لا يليق بالمؤمن الحقيقي " لا تكونوا أغبياء... ولا تسكروا بالخمر " بل بالحري يجب أن يهيمن روح القدوس على كل كيانه، وبذا يستطيع أن يتكلم بأقوال روحية ويعمل أعمالا مقدسة لا يستطيع أن ينطق بها أو يعملها بقوته الذاتية.

جَسَدٍ وَاحِدٍ " (1كو12 : 13) ثم يجب أن نراعي أيضاً أن الامتلاء بالروح القدس ليس معناه القيام بأعمال معجزية أو التكلم بألسنة أخرى ولا القيام بحركات إنفعالية " لأَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْحِ " (2تي1 : 7) أن خدمة الروح القدس الرئيسية هي أن يأخذ مما للمسيح ويخبرنا. إنه يقودنا للتفرس في جماله وكمالات وسجايا ربنا يسوع المسيح وبذا يجتب قلوبنا وعواطفنا اليه، فنحبه ونتعلق به أكثر ونحيا الحياة المكرسة له، وبقدر ما نـزداد تفرسا فيه بهذا القدر عينه نتغير إلى صورته (2كو3 : 18).

(19) " مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ "

ما أجمل ثمار الامتلاء بالروح القدس! فالمؤمنون الممتلئون بالروح لا يلذ لهم حديث به يكلمون بعظهم بعضا إلا عن الرب، وهو، له المجد، يسر بأن يصغي إلى خاصته الذين أحبهم وهم يكلمون بعضهم بعضا عنه وعن محبته ونعمته " حِينَئذ كَلَّمَ مُتَّقُو الرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَالرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَةٍ لِلَّذِينَ اتَّقُوا الرَّبَّ وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي اسمهِ " (ملا3 : 16). والمؤمنون الممتلئون بالروح القدس تفيض قلوبهم بالتسبيح والترنم للرب. لغتهم التي يتحدثون بها معا هي أغاني شجية وتسابيح روحية عذبة تبهج السماء بل بالحري تكون مبهجة لقلب الرب ومنعشة لنفوسهم " أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي. أُرَنِّمُ لإلهي مَا دُمْتُ مَوْجُوداً فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي وَأَنَا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ " (مز104 : 33و34).

" وَتَسَابيحَ " أي ترانيم تعبدية موجهة إلى الله مباشرة أن موضوعها ليس هو ظروفنا أو إحتياجاتنا بل الله إلهنا وابونا في جلاله وأمجاده ونعمته والرب يسوع المسيح في كل كمالاته ومحبته الفائقة المعرفة وعمله الفدائي. أنها ترانيم السجود والتعبد والتعظيم لله الاب وللرب يسوع المسيح.

" وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ " أعنى ليست أغاني عالمية، والأغاني الروحية تتضمن نواحي متعددة كالحث على حياة القداسة العملية والتكريس للرب، والتشجيع على الثقة فيه والاعتماد عليه في كل ظروف الحياة المتنوعة، وكذلك الحث على الصلاة ودرس كلمة الله وبالجملة التحريض على النهوض بالحياة الروحية. كما يمكن أن تتضمن الأغاني الروحية دعوة الخطاة إلى التوبة وإلى الإيمان بالرب يسوع المسيح.

" مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ " ان الرب يسر " بالحق في الباطن " فليست كل العبرة بالصوت المسموع أو الصوت الجميل، وان كان واجبا أن يكون الترنيم بصوت مسموع بقدر الإمكان، إلا أن المهم هو أن يكون الترنيم نابعا من القلب الممتلىء بالروح القدس، وغايته وغرضه هو الرب نفسه " مُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ ".

وبعد قليل سيكون للرب يسوع، له المجد، موضوع " الترنيمة الجديدة " في السماء، ولكن عمل الروح القدس فينا، ونحن هنا في هذا العالم، هو أن يملأ قلوبنا بالتسبيح والترنم لسيدنا ونحن على الأرض قبل أن نصل إلى السماء " اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ. ادْخُلُوا إلى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ.... ادْخُلُوا ابوَابهُ بِحَمْدٍ دِيَارَهُ بِالتَّسْبِيحِ. احْمَدُوهُ بَارِكُوا اسمهُ " (مز100) " طُوبَى لِلشَّعْبِ الْعَارِفِينَ الْهُتَافَ. يا رَبُّ بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ. بِاسمكَ يَبْتَهِجُونَ الْيَوْمَ كُلَّهُ وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُونَ " (مز89 : 15و16).

(20) " شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي اسم رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِلَّهِ وَالاب"

المؤمن الممتلىء بالروح القدس هو مؤمن شاكر في كل حين وعلى كل شىء، فإن الشكر هو من مميزات الحياة الروحية والعيشة في التقوى والقداسة العملية. أن مشيئة الله من جهة جميع المؤمنين هي أن يكونوا شاكرين كل حين وفي كل الظروف " اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هَذِهِ هِيَ مشيئة اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ " (1تس5 : 18) " لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ " (في4 : 6) فاذا سلمنا أنفسنا لإرادة الله ولعمل الروح القدس فينا فاننا نمتلىء يقينا بأن " كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ " (رو8 : 28) لنفحص أنفسنا أيها الأحباء. هل نحن نشكر الله على كل شىء؟ هل نشكره على الآلام والمشقات كما نشكره على الراحة؟ انه من السهل أن نشكره على بعض الاشياء، ولكن المخجل هو أننا نتذمر ونتململ في بعض الظروف التي نجتاز فيها والتي لا توافق ميولنا الطبيعية، مع أنه كان يجب أن نشكر الله عليها واثقين أن وراءها خيرا وبركة لنفوسنا حتى وإن كنا لا نعرف ما وراءها.

اذا لزم الأمر أن يجتاز مريض عملية جراحية فانه بلا شك يتألم من إجرائها له ولكنه يرضى بها عالما أن مبضع الجراح وان كان مؤلما إلا أنه سيريحه من آلام المرض وربما ينقذ حياته من الموت إذا كانت هذه إرادة الله. انه بكل يقين يشكر الجراح الذي أنقذه من الآلام. كذلك الأمر معنا فإن ابانا وإلهنا يسمح لنا باجتياز ظروف أليمة لينقينا من الشوا)ب التي تعطل حياتنا الروحية. انه الكرام الذي ينقى الأغصان المثمرة لكى تأتى بثمر أكثر. انه ابونا المحب الذي يرى البداية من النهاية فيعمل كل شىء لخيرنا وبركتنا. فليحفظنا الرب من روح التذمر وعدم الشكر بل بالحري نكون شاكرين الله ابانا شكرا مقبولا لديه لأننا نقدمه له " في اسم ربنا يسوع المسيح "

(21) " خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ "

يتميز المسيحيون الممتلئون بالروح القدس أيضاً بخضوعهم بعضهم لبعض وهذا ما يجب أن يراعيه المؤمنون الذين يجتمعون معا باسم الرب يسوع، فانهم متى كانوا جميعا خاضعين بعضهم لبعض في خوف الله فإن هذا يجنبهم كل نـزاع وخلاف، كل أنانية وغيرة مرة وحسد. أن خضوعنا لربنا يسوع سيدنا يقودنا إلى الخضوع بعضنا لبعض حاسبين الآخرين أفضل من أنفسنا. أن المؤمن الممتلىء بالروح هو مؤمن ممتلىء بالفرح (ع19) وهو مؤمن شاكر (ع20) ثم هو مؤمن خاضع (ع21). هذا هو المحك الصحيح لمستوى الحياة الروحية.


العــلاقات العائليــة في البيوت المسيحية

(22) " أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ "

يبدأ الروح القدس هنا بالكلام عن الروابط والعلاقات العائلية في البيوت المسيحية، والرب الذي يعنى بسلامة وبركة خاصته كأفراد تهمه سلامة وبركة المؤمنين كعائلات، فكما أنه يريد أن يكون له مكانه في قلوبنا فانه يريد أن يكون له مكانه أيضاً في بيوتنا، وما أسعد البيت المسيحي الذي للرب مكانه اللائق به فيه! والوسيلة الوحيدة لضمان إلهناء في العائلة هي في الخضوع للرب ولكلمته.

أن تصغى لكلمة الله وتفتح قلبها لتسكن فيها كلمة المسيح في هذا الأمر كما في كل أمر آخر.

قد تكون زوجة ما أكثر فطنة وفهما من زوجهاً، ولكنها تستطيع بخضوعها له – الخضوع المقترن بالفطنة الموهوبة لها من الله – أن تكون بركة له، لا بل يجب على الزوجة أن تخضع لزوجهاً حتى ولوكان غير مؤمن حقيقي فإنها تستطيع بسيرتها الطاهرة أن تربحه للمسيح (1بط3 : 1و2). على أن هذا ليس معناه أن يتزوج المؤمن بغير المؤمنة ولا المؤمنة بغير المؤمن بل " تَتَزَوَّجَ بِمَنْ تُرِيدُ فِي الرَّبِّ فَقَطْ " (1كو7 : 39) " لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ " (2كو6 : 14و15).

لقد تكلم الله إلى حواء قائلا " وَإلى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهو يَسُودُ عَلَيْكِ " (تك3 : 16) ذلك لانها كانت قد تخطت الحدود الموضوعة لها من الله عندما استسلمت لغواية الشيطان وبذا برهنت على ضعفها وعلى أن مكانها اللائق بها هو الخضوع، وهذا ما أشار اليه الرسول بولس ضمنا في قوله " لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ اذنُ لِلْمَرْأَةِ أن تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أولاً ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْولَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي " (1تي2 : 11-14) لذا يشدد الرسول بولس على لزوم خضوع المرأة لأن آدم أكل من الشجرة بمحض إرادته أما حواء فإنها أغويت وهذا يدل على أن المرأة أكثر من الرجل تعرضا لأن تنقاد بعواطفها اكثر مما بتفكيرها.

على أن للنساء التقيات مركزهن المبارك بين شعب الرب ولاسيما في البيوت التي فيها تمارس الصلاة العائلية وفيها تقرأ كلمة الله وتطاع طاعة قلبية.

ان خضوع المرأة لرجلها ليس هو عبودية أو مذلة وانما هو خضوع المحبة القلبية، وانه مما يزين الزوجة المسيحية ويجملها هو خضوعها لرجلها " كما للرب " أعنى أن خضوعها لزوجهاً هو خضوع للرب نفسه وهذا واضح من قول الرسول

نفسه في رسالته إلى أهل كولوسى " أَيَّتُهَا النِّسَاءُ، اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا يَلِيقُ فِي الرَّبِّ"

(ص3 : 18) وهذا يرينا أيضاً أن خضوع المرأة لرجلها يجب أن لا يتعدى الطاعة للرب ولكلمته لانه ينبغى أن يطاع الله اكثر من الناس. عندئذٍ يكون خضوع المرأة لرجلها هو جزء من خضوعها للرب نفسه.

(23و24) " لأَنَّ الرَّجُلَ هو رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أن الْمَسِيحَ أيضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهو مُخَلِّصُ الْجَسَدِ. وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ "

يذكر الرسول هنا السبب الذي لأجله يجب على المرأة أن تخضع لرجلها، فكما أن ربنا يسوع المسيح هو رأس الكنيسة الذي يهتم بسلامتها وبركتها مدة وجودها في هذا العالم، كذلك الزوج المسيحي، فانه رأس المرأة وقد أعطى له هذا المركز لا ليسيطر عليها ويعاملها بعنف أو قسوة بل بالحري ليعتنى بها ويهتم بسلامتها وإسعادها. إلا أنه واضح من الناحية الأخرى أن واجب المرأة هو الخضوع لرجلها في كل شىء كما تخضع الكنيسة للمسيح.

كم هو جميل ومبهج حقاً أن الروح القدس، في سياق الكلام عن الواجبات المتبادلة بين الزوج وزوجته، يتحدث بإفاضة وبأسلوب سماوي بديع عن العلاقة الاسمي التي بين المسيح الرأس والكنيسة التي هي جسده، وإنه لمما يشرف العلاقة المقدسة بين الزوج وزوجته أو بالحري الزواج المسيحي هو أنه صورة للعلاقة المجيدة التي بين المسيح وكنيسته.

لقد رأينا في الاصحاح الأول هذه العلاقة مرسومة في صورة " جسد " والمسيح المقام من بين الأموات والممجد عن يمين الاب في السماويات هو رأس هذا الجسد وأن المؤمنين الحقيقيين هم أعضاء هذا الجسد. وكذلك رأينا في الاصحاح الثاني هذه العلاقة مرسومة في صورة " بناء " والمسيح هو " حجر الزاوية " وأن المؤمنين مبنيون معا مسكنا لله في الروح، أما في هذا الفصل (ص5) فاننا نرى هذه العلاقة المقدسة مرسومة في الصلة الكائنة بين الرجل وزوجته. أن الرب يسوع هو العريس السماوي والكنيسة هي عروسه التي أحبها وأسلم نفسه لأجلها. وسيجيء الوقت وهو قريب، عندما تزف العروس امرأة الخروف لعريسها المبارك (رؤ19 : 7-9، 22 : 17).

(25) " أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أيضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلهَا "

أن كان واجب الزوجة هو أن تخضع لزوجهاً كما تخضع الكنيسة للمسيح، فإن واجب الزوج هو أن يحب زوجته كمحبة المسيح للكنيسة.

والروح القدس، في هذا الفصل، يقدم المسيح نفسه للزوج كما للزوجة أيضاً مبينا أن مقياس خضوع المرأة لرجلها هو خضوع الكنيسة للمسيح، وأن مقياس محبة الرجل لامرأته هو محبة المسيح للكنيسة.

لقد أحب المسيح الكنيسة بمحبة لم يستطع الموت أن يعطلها بل بالحري أظهر قوتها – أحبها وأسلم نفسه لأجلها. عندما يظهر الزوج لزوجته محبة كهذه فإن الزوجة تجد سرورها في خضوعها له. أن المسيحي الحقيقي الذي يظهر المسيح سيده في حياته يسر بإظهار المحبة الباذلة والمضحية لأجل زوجته وبذا يستأسر قلبها وعواطفها فتجد هي من جانبها أن سرورها في أرضائه والخضوع له. وهل هناك أجمل واسعد من بيت كهذا؟

هل ينتظر الزوج الطاعة القلبية من زوجته إذا كان قآسيا عليها؟ " أَيُّهَا الرِّجَالُ، احِبُّوا نِسَاءَكُمْ، وَلاَ تَكُونُوا قُسَاةً عَلَيْهِنَّ " (كو3 : 19) وهل تستطيع القسوة أن تقود الزوجة إلى الطاعة؟ أن المحبة وحدها هي التي تؤثر في قلب الزوجة وتقودها إلى الطاعة الحقيقية.

"أَحَبَّ الْمَسِيحُ أيضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلهَا"

يا له من مثال مقدس يضعه الروح القدس أمام الأزواج! مثال سماوي مبارك، فبقدر ما أحب المسيح الكنيسة واسلم نفسه لأجلها هكذا يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم.

لقد كان المسيح كل شىء في حياة الرسول بولس، وفي خدمته، فانه عند الكلام عن واجب الرجال من نحو نسائهم لم يستطع إلا أن يضع أمامهم الشخص المبارك الذي سبى قلبه وامتلك كل كيانه – الرب يسوع المسيح عريس الكنيسة ورأسها الممجد الذي أحبها و وضع حياته لأجلها. أن كانت محبة الرجل لامرأته تسبى قلبها وعواطفها فتقابل محبته بالخضوع الحبى له، فكم بالاحري يجب أن تكون محبتنا وخضوعنا لرأسنا وعريسنا المبارك محبة كاملة وخضوعا قلبيا تاما!

" وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلهَا " إنه لم يعط مما عنده للكنيسة بل أعطي نفسه، ولم يتألم لأجلها فقط بل بذل نفسه – بذل حياته لأجلها. ما أعجب محبتك أيها الرب يسوع! فلأجلنا بذلت حياتك لتحيينا نحن الأموات. أسلمت نفسك لتكون لنا حياة وليكون لنا أفضل. لاسمك المعبود كل سجود وحمد واكرام.

كلها قد محيت إلى الأبد. الفداء قد كمل والشيطان قد هزم، والغضب والدينونة قد انتهيا، والفرائض التي كانت ضدا لأولئك الذين كانوا تحتها قد سمرت في الصليب، والعداوة قد أزيلت إلى الأبد، وبالتالي تكون " الإنسان الجديد " والاساس الإلهي لكل ذلك بل ولأكثر من ذلك قد وضع بواسطة تسليم المسيح نفسه لأجلنا. لقد افتدينا بدم المسيح الكريم، ولكن هذا الفداء مؤسس على قيمة شخصه الكريم، ففيه أي في شخصه صار لنا هذا الفداء بدمه كما هو مكتوب " الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ " (ص1 : 7). إنه من الأهمية بمكان أن نعرف أن قيمة الفداء مرتبطة بقيمة وسموشخصه الكريم، فإن ما يجعل لعمله المبارك قيمته الفائقة الادراك إنما هو شخصه الجليل. أن ما يملأ نفوسنا حبا له وتعلقا به وتكريسا وخدمة له هو أن لا نذكر فقط العمل الذي عمل بل بالحري الشخص نفسه الذي عمله.

(26) " لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ "

عجيبة حقاً هي محبة المسيح للكنيسة! انها محبة أزلية! وما أمجد ما عملته محبته هذه، فإنها قادته إلى بذل نفسه لأجلها. هذا العمل المبارك قد أكمل فوق صليب الجلجثة. إنه عمل كمل قد تم مرة واحدة ولن يتكرر " لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إلى الأبد الْمُقَدَّسِينَ " (عب10 : 14) إلا أن محبته هذه لم تقف عند حد ما عمله في الماضى، بل كان بذلك نفسه لأجلها " لكى يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة " انه بموته (في الماضى) قد خلصها، وبكلمته (في الحاضر) يقدسها ويطهرها، وبمجيئه الثاني (في المستقبل) يمجدها.

" لِكَيْ يُقَدِّسَهَا " وهنا يجب أن نراعى أن هناك وجهين للقداسة، فعلى أساس عمله فوق الصليب أصبحنا قديسين وبلا لوم أمام الله، وهذا مركز كامل وثابت وابدي. إلا انه تبارك اسمه، يعمل بروحه فينا باستمرار لكى تكون حياتنا العملية حياة القداسة، وبقدر ما نسمح للروح القدس أن يهيمن على حياتنا بهذا القدر ننمو في حياة القداسة. فلنحرص على أن تكون عيشتنا في القداسة بأستمرار، وعلى أن ننمو فيها " مكملين القداسة في خوف الله "

" مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ " وهذا يرينا ما لكلمة الله من قيمة عظمى وأهمية فائقة. إننا عند إيماننا بالرب يسوع المسيح قد حصلنا على غسل الميلاد الثاني (تي3 : 5) وهذا ما قصده الرب بقوله لنيقوديموس " إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ (أي الكلمة) وَالرُّوحِ (أي الروح القدس) لاَ يَقْدِرُ أن يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ " (يو3 : 5). هذا العمل يتم مرة واحدة ولن يتكرر وذلك عند قبول الرب يسوع المسيح مخلصاً وفاديا. إلا أننا نحتاج إلى تطهير مستمر بواسطة كلمة الله، لأن " الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إلى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هو طَاهِرٌ كُلُّهُ " (يو13 : 10).

ولا حاجة إلى القول بأن المقصود بغسل الماء " ليس هو ماء المعمودية، فإن الرسول أو ضح لنا معنى هذه العبارة بقوله " بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ " " نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجاهل حَكِيماً.... أيضاً عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا وَفِي حِفْظِهَا ثَوَاب عَظِيمٌ " (مز19).

(27) " لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أو شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ "

يا لسموعمل المسيح لأجل الكنيسة فقد أحبها وبذل حياته الغالية لأجلها – لقد تجرع لأجلها كأس الدينونة المروعة، ومع ذلك فلم يكن ذلك سوى وسيلة لتحقيق غاية إلهية وقصد أزلى. نعم أن بذل حياته لأجل الكنيسة، وكذا خدمته لها في الحاضر كالكاهن العظيم الذي يقدسها ويطهرها بغسل الماء بالكلمة، هذه ليست سوى وسائل إلهية مباركة لإتمام المشورة الأزلية وهي أن يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شىء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب. هناك في المجد سيتمتع بوجود كنيسته معه، وهناك ستحظى الكنيسة " العروس امرأة الخروف " بكمال البركة الأبدية.

أنه سيحضرها لنفسه كنيسة مجيدة أي أنها ستشترك معه في مجده، وهذا ما قاله لابيه في صلاته " وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي " (يو17 : 22و24).

وهذا ما رآه الرسول يوحنا في نفيه في جزيرة بطمس، فقد رأي " العروس امرأة الخروف... ولها مجد الله " (رؤ21 : 9و11). سوف لا تحتاج الكنيسة هناك إلى تطهير أو غسل بماء الكلمة لأنه سيحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها كما أنها ستخلص مما يعتريها هنا من وهن وضعف فلن يرى فيها " غضن " أي تجعد أو شىء من مثل ذلك بل سيراها عريسها المبارك في نضارة وجمال كاملين، انها ستصل عندئذٍ إلى حالة القداسة الكاملة فتكون " مقدسة وبلا عيب " انه، تبارك اسمه، يريدنا أن نكون هنا في حالة القداسة في خوف الله عاملا فينا بروحه القدوس وبالكلمة إلى أن نصل إلى المجد وهناك سنرى أمامه وأمام كل الخليقة " بلا عيب "

(28و29) " كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أن يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أيضاً لِلْكَنِيسَةِ "

يضع الرسول أمامنا مقياسا إلهيا للمحبة التي يجب على الرجال أن يحبوا بها نساءهم، فكما أحب المسيح الكنيسة التي هي جسده وأسلم نفسه لأجلها وذلك لكى يسعدها ويشركها معه في مجده، كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. لقد أو ضح الرب يسوع هذه الحقيقة بأسلوب بديع عندما قال للفريسين " أَمَا قَرَأْتُمْ أن الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟ وَقَالَ : «مِنْ أجل هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ اباهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إذا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ " (مت19: 4،6) فالزوج والزوجة هما " جَسَداً وَاحِداً " لذا يجب على الرجال أن يتعاملوا مع نسائهم بحسب هذا المبدأ السامي – أن يحبوا نساءهم كأجسادهم " فإن من يحب امرأته يحب نفسه " أما من يحتقرها ويهينها فأنه في الحقيقة يحتقر ويهين نفسه.

إنه أمر طبيعى أن كل إنسان يحب نفسه، ولا يوجد إنسان عاقل يبغض جسده أو يؤذيه بل بالحري يعتنى به " يقوته ويربيه " اذن يجب على الزوج المسيحي أن يعتنى بزوجته ويعمل كل ما فيه راحتها واسعادها لأنها جسده.

ويضع الروح القدس أمامنا هنا الرب يسوع كالمثال الكامل، فانه باستمرار يعتنى بالكنيسة " التي هي جسده " – يعتنى بها – يقوتها ويربيها مستخدما وسائط نعمته لبركتها. وانه لأمر معز ومشجع أن نعلم أن الرب يسوع، الرأس الممجد في السماء، هو الذي بنفسه يغذى " يقوت ويربى " كل أعضاء جسده مدة وجودهم في هذا العالم. يالها من بركة وياله من ضمان إلهي!

(30) " لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ "

يبين الرسول هنا السبب الذي لأجله يعتنى المسيح بنا فيقوتنا ويربينا. ذلك " لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ " فكما تكونت حواء من آدم كذلك الكنيسة من المسيح. فقد أخذ الرب ضلعا من جنب آدم وعمل منها حواء، حتى قال آدم عنـها "هَذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ " (تك2 : 21-23) كذلك نحن أيضاً قد صرنا قريبين من المسيح " أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ " يا له من قرب عجيب وآتحاد مبارك! لاسمه المعبود كل الحمد.

على أنه ليس المقصود بقوله هنا " مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ " أن المسيح صار جسدا مثلنا واشترك معنا في لحمنا وعظامنا، بل اننا صرنا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه أي أنه صارت لنا علاقة مع المسيح المقام من الأموات والممجد في السماء، واتحاد به، وليس المقصود علاقته هو بنا كإنسان على الأرض. انه لا يشار هنا إلى ربنا المبارك كمن اشترك معنا في اللحم والدم، مع أن هذا صحيح، ولكننا لا نتعلم هذا هنا في هذه الرسالة بل في الرسالة إلى العبرانيين (ص2). إننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه أي صرنا جزءا منه ومتحدين به الآن وهو الممجد في حضرة الله وليس في صيرورته جسدا هنا على الأرض.

(31) " مِنْ أجل هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ اباهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الِاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً "

يقتبس الرسول هنا نفس الكلمات التي كتبها موسى قديما بمناسبة احضار حواء لآدم " لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ اباهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً " (تك2 : 24) وقد اقتبس الرب يسوع، له المجد، هذه الاقوال عينها و وضع عليها ختم مصادقته إذ أضاف اليها قوله " إذا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. َالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إنسان " (مر10 : 7و8) وأي كلام يمكن أن يضاف إلى أقوال الرب هذه؟ لقد تكلم سيد المعلمين فلنحن أمامه الهامات خضوعا وطاعة، فانه أعاد للعلاقة الـزوجية قدسيتها وجمالها كما كانت قبل دخول الخطية إلى العالم " مِنْ أجل هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ اباهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ " فالعلاقة المقدسة بين الرجل وامرأته هي أقرب من أية علاقة أخرى. انها أقرب من العلاقة الكائنة بين الوالدين وأولاًدهم.

(32) " هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نحو الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ "

تجىء كلمة " سر " في هذه الرسالة، ففي الاصحاح الأول يقول الرسول " إذ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مشيئته " (ع9) وفي الاصحاح الثالث يقول " أَنَّهُ بِإعلان عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ.... الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأونَهُ تَقْدِرُونَ أن تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيح ِ....وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هو شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدهور " (ع3و4و9) وهنا يشير إلى سر " عظيم " ولا ريب في أن المقصود بالسر هنا ليس هو العلاقة الزوجية بل الاتحاد المقدس الكائن بين المسيح وكنيسته، وهذا واضح من قوله " وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نحو الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " على أن العلاقة بين الزوج وزوجته هي بلا شك رباط مقدس قد عمله الله نفسه لان " الَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إنسان " (مر10 : 9).

(33) " أَمَّا أَنْتُمُ الأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ امْرَأَتَهُ هَكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلها".

يكرر الروح القدس هنا حث الرجل وامرأته على أن يراعى كل منهما واجبه من نحو الأخر، وذلك لأهمية هذا الأمر الذي عليه تتوقف السعادة العائلية، فعلى الرجل أن يحب امرأته كنفسه، وعلى المرأة أن تهاب رجلها، واننا لنجد مثل هذا الحث في أماكن أخرى في كلمة الله، وذلك لان الله يريد أن يتمجد لا في حياتنا كأفراد فقط بل وفي بيوتنا أيضاً، فالرسول بطرس في رسالته الأولى (ص3) يعظ النساء بأن يكن خاضعات لرجالهن، والرجال بأن يكونوا " ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائى كالأضعف معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضاً معكم نعمة الحياة لكى لا تعاق صلواتكم " ما أخطر هذه العبارة الأخيرة! فانه إذا لم يكن البيت المسيحي بحسب الترتيب الإلهي، ولم يراع كل من الزوج والزوجة مسئوليته من نحو الآخر، ولم تكن العلاقة بينهما كما يجب أن تكون، فإن صلواتهما تعاق فلا تصل إلى عرش الله، أما متى كان البيت المسيحي مزينا بالترتيب الإلهي الجميل فإن المذبح العائلى تتصاعد منه الصلوات. التشكرات والتسابيح كبخور عطر يشتمه الله الاب والرب يسوع المسيح. ويا لها من بركة عندما يجثو الزوج وزوجته وأولادهما معا (اذا كان الله قد اعطاهما أولاداً) للسجود والصلاة والترنيم ولدرس كلمة الله معا والتغذى بها. ليت هذه تكون حالة جميع بيوت المؤمنين " طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ... طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لَكَ. امْرَأَتُكَ مِثْلُ كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ فِي جَوَانِبِ بَيْتِكَ. بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائدتِكَ. 4هَكَذَا يُبَارَكُ الرَّجُلُ الْمُتَّقِي الرَّبَّ " (مز 128).

  • عدد الزيارات: 7793