Skip to main content

الإصحاح الثالث

يعتبر الاصحاح الثالث من هذه الرسالة بمثابة أقوال معترضة تدور حول " المسيح والكنيسة " هذا الموضوع الذي هو في ذاته كأنه شىء معترض يجيء في وسط معاملات الله وطرقه من البداية إلى النهاية. ويجيء هذا الاصحاح بين الحق التعليمي في الاصحاح الثاني وبين الأقوال الوعظية التي تبدأ من أول الاصحاح الرابع. وينبر الرسول في هذا الاصحاح على أن الحق المبارك الخاص " بالمسيح والكنيسة " هو سر لم يعرف به أحد من قديسى التدابير السابقة، ولكنه أعلن لرسل وأنبياء العهد الجديد بعد إكمال عمل الفداء وتمجيد المسيح عن يمين الاب وبعد حضور الروح القدس في يوم الخمسين. ومع أن هذا السر أعلن لجميع رسل وأنبياء العهد الجديد إلا أن امتياز إعلانه وتوضيحه للكنيسة أعطى للرسول بولس – رسول المسيح في المجد. صحيح أن الرب أشار إلى " خرافه الخاصة " التي أخرجها من حظيرة إسرائيل، كما أشار أيضاً إلى " خراف آخر " من الأمم وان هؤلاء وأولئك سيكونون رعية واحدة لراع واحد (يو10)، كذلك في رؤية بطرس للملاءة المدلاة من السماء اشارة إلى الإتيان بمؤمنين من الأمم إلى المسيح، ولكن الحق الإلهي الواضح والصريح عن " الجسد الواحد " المكون من مؤمنين بالمسيح من اليهود والأمم على السواء، وان المسيح الممجد هو رأس هذا الجسد، هذا الحق كان سرا، والمسيح عرفه لبولس بإعلان خاص (3 : 3) وقد أعطى لبولس امتياز الكرازة بهذا السر وإنارة الجميع فيه (ع8).

لقد أو ضح الرسول في الاصحاح الثاني من هذه الرسالة هذه الحقيقة المباركة وهي أن المؤمنين بالمسيح من اليهود والأمم يقفون جميعا على قدم المساواة، فانه في المسيح يسوع ليس يهودى ولا اممى بل الجميع هم جسد واحد والمسيح هو رأس هذا الجسد، وقد كان إعلان هذا الحق سببا في مقاومة اليهود للرسول بولس واضطهادهم له (قارن أع22 : 21-24، 1تس2 : 15، 2كو11 : 24) بل كان إعلان هذا الحق سببا في اسره وسجنه (اف3 : 1).

لم يكن من السهل حتى على المؤمنين بالمسيح من اليهود أن يدركوا لأول وهلة هذا الحق الجوهرى – أي أن المؤمنين من اليهود والامم هم على السواء أعضاء في جسد المسيح، وأن المسيح بموته جعل الاثنين واحدا ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة لم يكن من السهل عليهم أن يفهموا تماماً كيف أن الله نقض وابطل ما سبق أن بناه هو بنفسه، فإن كان الله هو الذي جعل في العهد القديم فاصلا بين اليهود والامم إذ ميز اليهود في ذلك العهد العتيق واعطاهم امتيازات لم يكن للامم نصيب فيها فكيف اذن ازال الله كل الفوارق؟ الجواب هو أن الله جعل لكل تدبير زمانا معينا، فهو، تبارك اسمه، عين زمانا لتدبير العهد القديم الذي فيه جعل فرقا بين شعبه القديم والامم، اما الآن فانه قد سر بأن يأتي بتدبير جديد مؤسس على عمل الفداء – تدبير جديد تزول فيه كل هذه الفوارق، والجزء الأول من هذا الاصحاح (3) يدور حول أيضاًح هذا الجزء من سر المسيح أي أن الامم المؤمنين بالمسيح يقفون على قدم المساواة مع اخوتهم المؤمنين بالمسيح من اليهود – أي الذي ن قبلوا المسيح مخلصاً وفاديا وانهم جميعا اصبحوا جسدا واحدا، والسبب الذي لأجله لا يستطيع اليهودى أن يفهم هذا الحق بسهولة هو أن الناموس والانبياء وكل أسفار العهد القديم لم تعلن هذا السر.

إن كلمة " سر " ليس معناها شيئا غامضا لا يمكن فهمه بل شيئا لم يكن معلنا في أسفار العهد القديم، وانما أعلن بكل وضوح في العهد الجديد ولا سيما في هذه الرسالة. ثم لنلاحظ أن موضوع هذا السر هو " المسيح والكنيسة " أي ليس المسيح وحده ولا الكنيسة وحدها " هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نحو الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " (اف5 : 32).

(1) " بِسَبَبِ هَذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأجلكُمْ أيها الأُمَمُ "

يرينا الرسول هنا بكل وضوح السبب الذي لأجله كان اسيرا، فقد كان اسير المسيح يسوع لأجل المؤمنين من الامم، فانه بسبب كرازته بهذا الحق المبارك اعنى أن المؤمنين بالمسيح من الامم لهم نفس الامتيازات والبركات التي للمؤمنين بالمسيح من اليهود، وانه ليس هناك أي فرق بين هؤلاء وأولئك، بسبب ذلك ثار اليهود على الرسول بولس واضطهدوه حتى وصل الامر إلى أسره وسجنه في رومية.

ولكن كم هو جميل حقاً أن الرسول لا ينظر إلى أسره من الناحية الإنسانية فلا يعتبر أنه اسير الدولة الرومانية، بل ينظر إلى ذلك من الناحية الإلهية فيقول بأنه " اسير المسيح يسوع " ولا ريب في أن ذلك كان سبب تعزية وفرح لنفسه بل أنه يحسب ذلك شرفا عظيما إذ يقول في ختام هذه الرسالة بانه " سفير في سلاسل (ص6 : 20). أيها الاحباء أليس في هذا درس نافع لنا فيجب أن لا ننظر إلى آلامنا ومتاعبنا ومشقات الطريق من الناحية الإنسانية بل من الناحية الإلهية فتمتلىء قلوبنا سلاما وعزاء ونصرة " في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي احبنا "

وكم هو عجيب أيضاً أن الرسول الذي أعطى له شرف وامتياز كتابة هذه الرسالة التي تعلن اسمى حقائق الإنجيل الجوهرية والتي تعلن هذا السر العجيب موضحة مقام الكنيسة السماوي واقترانها بالمسيح الرأس الممجد، نقول اليس عجيبا أن الرسول كان في نفس الوقت اسيرا ومقيدا بالسلاسل؟ أن وطن الكنيسة الحقيقى هو السماء – هو بيت الاب، وانها (أي الكنيسة) غريبة في هذا العالم الموضوع في الشرير فلا عجب أن كانت تلاقى منه اضطهادات ومقاومات – ليس غريبا اذن أن بولس رسول المسيح الممجد يكتب هذه الرسالة المباركة وهواسير ومقيد بالسلاسل.

(2) " إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأجلكُمْ "

أن كلمة " تدبير " هنا معناها " خدمة " أو " وكالة " فقد كان الرسول بولس الاناء المختار من الله لإعلان المشورات الإلهية المتعلقة بدعوة الكنيسة ومقامها السماوي ورجائها المجيد. صحيح أن هذا السر قد اعلن أيضاً لبقية رسل المسيح وانبيائه لكنه لم يعلن للكنيسة بواسطتهم بل بواسطة الرسول بولس – رسول المسيح يسوع للامم. ويعتبر الرسول أن اختيار الله له لهذه الخدمة أو الوكالة كان من مجرد النعمة " نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ " وهذا ينطبق إلى حد ما على كل من أؤتمن على خدمة من الله " " (1بط4 : 10). والرسول بولس يؤكد للمؤمنين في أفسس أن هذه الوكالة أو الخدمة هي لأجلهم – أي لأجل المؤمنين من الامم.

(3و4) " أَنَّهُ بِإعلان عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ. الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأونَهُ تَقْدِرُونَ أن تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ "

تتكرر كلمة " سر " في هذا الاصحاح ثلاث مرات. وقد اعلن الرب هذا السر للرسول بولس بإعلان خاص، فلم يتسلمه من بطرس ولا من غيره من الرسل الذين كانوا قبله، بل أخذه من الرب الممجد مباشرة. هذا السر العظيم الخاص " بالمسيح والكنيسة " أي بمجد ربنا المبارك وبغبطة الكنيسة التي هي جسده، فإن مجد المسيح وبركتنا نحن اعضاء جسده مرتبطان معا ارتباطا ابديا ولا يمكن فصل الواحد عن الآخر.

والرسول في قوله " كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ " يشير إلى ما كتبه في الاصحاح الأول (ع9-14) وكذلك في الاصحاح الثاني. لقد أشار بإيجاز إلى موضوع هذا السر، ولكنه يريد هنا في الاصحاح أن يكتب عنه بأكثر تفصيل.

إن غاية الرسول العظمى هي أن المؤمنين إذ يقرأون ما يكتبه عن هذا السر يكون معروفا ومفهوما جيدا، وهذا بلا شك هدف كل خادم أمين للمسيح. انه يريد أن يوصل لاخوته المؤمنين كل ما تعلم من الحق الإلهي. ليتنا نقرأ كلمة الله بروح الصلاة وبتأمل عميق حتى نستطيع أن نفهمها ونتغذى بها ونلهـج فيها. وبقـدر ما نتعمق في درس كلمة الله وفهمها يزداد سجودنا وتعبدنا لإلهنا وأبينا وللرب يسوع سيدنا من أجل نعمته التي اجزلها لنا.

(5) " الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائه بِالرُّوحِ "

ترينا كلمات الرسول هذه، بكل وضوح، أن هذا السر لم يكن معروفا قبلا عند أحد من البشر، ومع انه كان في التدابير السابقة لعهد النعمة الحاضر قديسون أفاضل ولكن هذا السر لم يعلن لأحد منهم، وانما أعلنه الرب يسوع لرسله القديسين وأنبيائه (انبياء العهد الجديد) بالروح القدس، ومعروف طبعا أن الروح القدس لم يسكن في أحد من المؤمنين قبل موت ربنا المبارك وقيامته من بين الأموات بمجد الاب وارتفاعه إلى السماء (يو7 : 39).

يذكر الرسول هنا ما يتضمنه هذا السر الذي لم يكن معروفا من قبل. انه يتضمن بركات سماوية ومواعيد عظمى وثمينة للمؤمنين بالمسيح من الأمم في تدبير النعمة الحاضر – مواعيد لم يعرف عنها أنبياء وقديسوالعهد القديم شيئا. انك إذا قرأت كل أسفار العهد القديم، من سفر التكوين إلى سفر ملاخى لن تجد فيها ذكرا للبركات الروحية السماوية التي للمؤمنين بالمسيح من الامم كما للمؤمنين به من اليهود (اع11 : 15-17). صحيح أن الله أعطى لابراهيم مواعيد تتضمن بركات أرضية للأمم مستقبلا – أعنى في الملك الألفى المجيد (تك22 : 18) ولكن هناك فرقا كبيرا بين مواعيد الله لابراهيم من نحو الأمم وبين بركاته للكنيسة التي صارت لها في المسيح يسوع. نعم أن هناك فرقا كبيرا بين المواعيد التي تكلم بها أنبياء العهد القديم وبين البركات التي للكنيسة في تدبير النعمة الحاضر، والتي أعلنها الروح القدس في كتابات العهد الجديد، وهي أن الأمم، الأمم المؤمنين بالمسيح صاروا (أولاً) " شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ " ، فمع أنه لم يكن للأمم نصيب في الميراث والمواعيد والبركات الأرضية التي وعد الله بها ابراهيم ونسله (مت15 : 21-27) ولكن شكرا لله فقد صار لنا نحن المؤمنين بالمسيح من الامم شركة في الميراث السماوي مع المسيح كما للمؤمنين به من اليهود على السواء " فإن كُنَّا أولاًداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أيضاً وَرَثَةُ اللهِ و وارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ " (رو8 : 17). (ثانيا) أن هؤلاء المؤمنين بالمسيح من الأمم صاروا شركاء في الجسد أعنى الجسد السرى المكون بقوة الروح القدس من جميع المؤمنين بالمسيح والذي رأسه هو المسيح الممجد عن يمين الاب. (ثالثاً) صاروا شركاء أيضاً في " نَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإنجيل " والمقصود بموعده هنا على الأرجح هو الروح القدس " مَوْعِدَ الاب " (أع1 : 4). فإن الروح القدس لم يعط للمؤمنين بالمسيح من اليهود فقط بل ومن الأمم أيضاً (أع10 : 45، 11 : 16و17).

(7) " الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ"

كان للرسول بولس خدمتان : فقد كان خادما للإنجيل – إنجيل المسيح في المجد. هذا الإنجيل الذي بشر به بين الأمم وبواسطته تأسست كنائس كثيرة في أماكن عديدة، كما كان أيضاً خادما للكنيسة، فهوالذي أعطى له أن يعلن ويذيع الحق المجيد الخاص بالكنيسة باعتبارها جسد المسيح. ويبين الرسول هذه الحقيقة، أعنى أنه كان (1) خادما للإنجيل (2) وخادما للكنيسة في رسالته إلى المؤمنين في كولوسى، فعن الإنجيل يقول " الَّذِي صِرْتُ انَا بُولُسَ خَادِماً لَهُ " (1 : 23) كما أنه يقول عـن الكنيسة " الَّتِي صِرْتُ انَا خَادِماً لَهَا، حَسَبَ تَدْبِيرِ اللهِ الْمُعْطَى لِي لأجلكُم " (1 : 24و25).

(8) " لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، أن ابشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى "

يالسمونعمة الله التي أعطيت للرسول بولس! فإن هذا الذي كان قبلا مجدفا ومضطهدا لكنيسة الله أصبح الآن إناء مكرسا للمسيح وللكرازة بغناه الذي لا يستقصى. وما أجمل الوداعة والتواضع اللذين زين الله بهما هذا الرسول المغبوط، فانه إذ يتحدث عن نعمة الله العاملة فيه كواحد من المؤمنين يقول بأنه " أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ " كما أنه عندما يتحدث عن خدمته كواحد من الرسل يقول " لأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ أَنَا الَّذِي لَسْتُ أهلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ " (1كو15 : 9) ولكنه عندما يشير إلى نفسه كواحد من البشر يقول بأنه أول الخطاة " الْخُطَاةَ الَّذِينَ أو لهُمْ أَنَا " (1تى1 : 15). ليتنا نتمثل بالرسول بولس في تواضعه بل بالحري بالرب يسوع نفسه الذي يدعونا قائلا " تَعَالَوْا إِلَيَّ...اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ " (مت11 : 29).

إن إدراكنا لمقامنا السماوي كما أن نمونا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح يجب أن يكون مزينا ومجملا بالوداعة والتواضع وليس بالعجب والانتفاخ، فلا نحسب أنفسنا أفضل وأعظم من الآخرين الذين لم يدركوا بعد ما أدركنا بنعمة الله من حقائق إلهية.

لقد كانت خدمة الرسول هي الكرازة بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقى، الأمم الذين كانوا قبلا في ظلمة حالكة، وفي جهالتهم كانوا يعبدون الأوثان اليكم، هؤلاء صار لهم نصيب مجيد ومبارك في " غنى المسيح الذي لا يستقصى " تبارك اسم ربنا يسوع فإن غناه الذي لا حد له صار لنا نحن الأمم الذين قبلناه مخلصاً وربنا وسيدا. فهل أنا وأنت يا قار)ى العزيز متمتعان بهذا الغنى الذي لا نهاية له؟ أن كان فقر المسيح هو غنى لنا (2كو8 : 9) فكم بالحري يكون غناه الذي لا يستقصى؟ لقد حسب موسى في يومه أن عار المسيح غنى أعظم من خزا)ن مصر(عب11 : 26) فليتنا نحن بدورنا نوجد باستمرار في ملء الشركة المقدسة مع ربنا المبارك فنتمتع عمليا به وبغناه " الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى " ما أسعد الوجود في هذه الحالة المباركة اختباريا!

(9) " وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هو شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدهور فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ "

ليت كل خادم للمسيح يتأمل مليا فيما تتضمنه كلمات الرسول هذه، فإن عمله لم يكن قاصرا على خدمة المؤمنين فقط، بل كان هدفه أيضاً توصيل البشارة إلى جميع الناس " وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ " أعنى ليدرك جميع البشر نعمة الله الغنية التي لا تقدم لهم غفرانا لخطاياهم فحسب – غفرانا مؤسسا على كفاية ذبيحة ربنا يسوع المسيح بل تعبهم أيضاً اتحادا بالمسيح وتصيرهم أعضاء في جسده.

ثم لنلاحظ قوله " السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدهور فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ " فإن هذا السر لم يكن مكتوما في الكتاب المقدس – اعنى أسفار العهد القديم، بل كان مكتوما في الله، فلم يعرفه أحد من قديسى التدابير السابقة لعهد النعمة الحاضر، ولكن بعد موت ربنا يسوع المسيح وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء حضر الروح القدس إلى العالم وسكن في المؤمنين ليعلن لهم قيمة عمل الفداء وليذيع هذا السر الذي كان قبلا مكتوما وغير معلن.

(10) " لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السماويات بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ "

نرى هنا أن هذا السر المجيد الخاص بالكنيسة ومقامها السماوي لم يكن فقط غير معروف عند مؤمنى العهد القديم بل كان غير معروف أيضاً عند الرؤساء والسلاطين أي الملائكة ورؤساء الملائكة " لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السماويات " وان يروا فيه " بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ " أعنى أن الله أراد أن يعلن للملائكة نوعا جديدا من الحكمة الإلهية. لقد رأي الملائكة من قبل حكمة الله في صور متنوعة. رأوا حكمته في ابداع الخليقة وعندئذٍ " تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعاً وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟ " (أيوب38 : 7) كما رأوا حكمته في أعماله المتنوعة في كل التدابير السابقة لعهد النعمة الحاضر، أما الآن فقد أعلن الله لهم شيئا جديدا لم يعرفوه من قبل بل كان سرا مكتوما في الله وحده. نعم لقد شاء الله أن يعرف الملائكة حكمته المتنوعة بواسطة الكنيسة. يا لسمو هذا المقام الذي رفع الله كنيسته اليه! وفي الوقت نفسه ما أخطر مسئولية الكنيسة أي جميع المسيحيين الحقيقيين الذين تتكون الكنيسة منهم! ولكن ما أقل الذين يدركون مقام الكنيسة وبالتالي ما أكثر الذين لا يعرفون فكر الله ومشيئته من نحو كنيسته ومن نحو سلوكها في هذا العالم كشاهدة له. فهل نحن سالكون وفق إرادته حتى يتسنى له تعالى أن يشير الينا كدرس لملائكته؟ أن إرادة الله هي أن تكون الكنيسة بمثابة كتاب للملائكة فيه يتعلمون " حِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ " هذا هو قصد الله وهذه هي مسئوليتنا نحن، فليس قصد الله أن يعرف الرؤساء والسلاطين بحكمته المتنوعة عندما نصل إلى السماء بل الآن ونحن هنا في هذا العالم " لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السماويات بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ "

مما لا ريب فيه أنه أن كنا سالكين بحسب إرادة الله أبينا والرب يسوع سيدنا فإن العالم يبغضنا، ولكن ألا يكفينا بل ويسعدنا اننا موضوع مشورات الله العجيبة، وأن ملائكته يحيطون بنا، وأنه ينظر الينا باستمرار نظرة الحب الفائق الادراك؟ ألا يكفينا انه أعطانا المسيح ليكون " حياتنا " – المسيح الذي هو " عطية الله التي لا يعبر عنها " كما أنه أعطانا الروح القدس ليسكن فينا جاعلا إيانا هيكلا له ونحن هنا على الأرض؟ إذا أراد ملاك من الملائكة أن يعرف أين تستقر محبة الله فعليه أن يطل من فوق إلى هذا العالم فيراها مستقرة على كل المؤمنين، حتى على أصـغر وأضعـف

المؤمنين، فهل ادركنا هذا أيها القارئ العزيز؟ هل أدركنا أنت وأنا هذا السمو الذي أو صلنا الله اليه في نعمته الغنية والعجيبة؟ أن إدراكنا لهذا الحق الثمين والمبارك من شأنه أن يقودنا لأن ننفصل عن كل ما هو تحت الشمس، عن كل ما يميل اليه الجسد مما في هذا العالم. لقد صار لنا مركز ومقام مع المسيح فوق الشمس لذا يجب أن نضع كل شىء هنا في هذا العالم تحت حكم الموت وأن يكون هدفنا الوحيد هو مجد اسم ربنا يسوع المسيح وأن يكون فرحنا فيه وحده.

(11) " حَسَبَ قَصْدِ الدهور الَّذِي صَنَعَهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا "

أن كل مشورات الله العجيبة وأفكاره الصالحة من نحو كنيسته وما عمله لأجلها وفيها، كل ذلك تم لها بحسب قصده الأزلى " قَصْدِ الدهور " وذلك في المسيح يسوع ربنا. لاسمه المعبود كل المجد.

إن من يقرا كلمة الله بإمعان وبروح الصلاة يجد واضحا فيها أن قصد الله الأزلى عندما خلق العالم وعمل الإنسان هو أن يأخذ جماعة عظيمة من أولاًد آدم الساقط ويصيرهم خليقة جديدة ويتحدهم بابنه المبارك ليكونوا معه ويشاركونه في مجده طوال الأبدية. كل ذلك " صنعه في المسيح يسوع ربنا " ولمجده.

(12) " الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإيمانهِ عَنْ ثِقَة "

أشار الرسول في العدد السابق إلى ربنا يسوع المسيح الممجد الآن في الأعالى كمن فيه وحده يتحقق قصد الله الأزلى " قَصْدِ الدهور " هذا القصد الذي يدور حول بركة الكنيسة في اقترانها واتحادها برأسها المجيد يسوع المسيح. هذا هو الحق الغالي والثمين الذي فيه يرى الملائكة ورؤساء الملائكة "حكمة الله المتنوعة" ولكن ليس هذا كل ما صار لنا في المسيح، فهو، تبارك اسمه، الذي صار لنا به جراءة وقدوم إلى الله أبينا. لقد صار لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح : لذا وقد امتلكنا هذا السلام نستطيع أن نتقدم بجراءة أعنى بدون خوف أو فزع بل بالحري بشجاعة تامة وثقة كاملة إلى الله أبينا الذي يسر باقترابنا وقدومنا إلى عرش نعمته في اسم ابنه العزيز ربنا يسوع المسيح " فَاذ لَنَا أيها الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إلى الأقداس» بِدَمِ يَسُوعَ... لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإيمان " (عب10 : 19-22) " فَاذ لَنَا رئيس كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السماوات، يَسُوعُ ابن اللهِ،... فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إلى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ " (عب4 : 14-16) أن النفس التي وثقت في محبة الاب لا ترهب الاقتراب اليه بل يلذ لها أن توجد في حضرته القدسية – يلذ لها أن تطيل الشركة معه. ليتنا نـزداد إدراكا لمحبة أبينا فنجد أن أسعد اللحظات هي التي نهنأ فيها بالوجود أمامه في اسم ربنا يسوع المسيح الذي آمنا به و وثقنا فيه وفي كفاية عمله فوق الصليب " بِإيمانهِ عَنْ ثِقَة " أي بالإيمان به والثقة فيه.

(13) " لِذَلِكَ أَطْلُبُ أن لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائدي لأجلكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ "

رأينا في أول هذا الاصحاح كيف أن الرسول كان أسير يسوع المسيح وذلك بسبب إعلان السر الخاص بالكنيسة ومقامها.

نعم انه بسبب إعلان السر الخاص بالكنيسة (المكونة من اليهود والأمم على السواء) ومقامها السماوي – هذا المقام الذي صار لها لاقترانها واتحادها بالمسيح الرأس – بسبب ذلك كان الرسول بولس أسيرا مقيدا بالسلاسل، وكان معرضا وقتئذ للموت، إذ قد سر الله بأن يستخدم عبده ورسوله هذا في إعلان سمومركز الكنيسة ومقامها المجيد. وهنا (في ع13) يعود الرسول ليذكرهم بهذه الحقيقة مرة أخرى إذ يبدوأن نفوسهم كانت صغيرة بسبب آلامه، لذا يشجعهم ويطلب اليهم أن لا يكلوا بسبب شدائده بل بالحري يجب أن تكون تلك الشدائد عاملا على تقوية إيمانهم. لقد كان الرسول تحت سلطة الحكومة الرومانية الغاشمة التي قيدته بالسلاسل، ولكن هناك في ذلك الأسر أعلن الله، بواسطة الكنيسة، ذلك المجد الذي صار لها في اتحادها برأسها الممجد، الأمر الذي ملأ قلب الرسول فرحا في وسط شدائده، لذا يطلب اليهم بأن لا يكلوا ولا يفشلوا. ما أجمل الاتحاد الذي أو جده الروح القدس بين القديسين أعضاء الجسد الواحد، فالرسول يعتبر أن شدائده هي مجد لهم وليس له وحده.

(14و15) " بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى ابي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السماوات وَعَلَى الأرض "

رأينا في تأملاتنا في الاصحاح الأول أن من أهم الصلوات التي سر الروح القدس أن يدونها لنا على صفحات الكتاب المقدس، تلك التي قدمها الرسول بولس وهوأسير ومقيد بالسلاسل. انها صلوات قيمة وعظيمة ومليئة بالتعاليم الروحية النافعة لنا. وقد راينا أيضاً أن هذه الرسالة تتضمن صلوتين، الأولى في الاصحاح الأول (ع15-23) والثانية في هذا الاصحاح3 : 14-21) وقد سبقت الاشارة عند التأمل في الاصحاح الأول (ع3) إلى أن الله، تبارك اسمه، هو إله ربنا يسوع المسيح وأنه أيضاً ابوربنا يسوع المسيح، وان كل صلاة من هاتين الصلوتين مرتبطة في موضوعها باحدى هاتين العلاقتين. فالصلاة الأولى مقدمة إلى " إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (1 : 17) والثانية مقدمة إلى " ابي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح " (3 : 14). في الصلاة الأولى رأيناه كالإنسان الذي الله إلههه " إلهي " (مت17 : 46، يو20 : 17) بينما في الصلاة الثانية نراه في علاقته الفريدة بالاب كالابن الوحيد–العلاقة الأزلية والأبدية " ابى " (يو20).

ومن الأهمية بمكان أن نراعى أن هناك فرقا بين صلاته الأولى (ص1) وبين صلاته الثانية (ص3) فالأولى موضوعها " الذهن " بينما الثانية موضوعها " الإنسان الباطن " – الأولى موضوعها " الاستنارة " بينما الثانية موضوعها " المسيح في القلب " فلا يكفى حصولنا على المعرفة بل يجب أن تثمر هذه المعرفة ثمرا روحيا في حياتنا العملية. ان قراءتنا للصلاة الأولى تقودنا للتأمل في قصد الله الازلى ومشوراته العجيبة من نحو نا، ولكن تأملنا في الصلاة الثانية يقودنا إلى سكب قلوبنا بالتعبد والتعظيم لله أبينا، والمحبة والتكريس للرب يسوع الذي أحبنا أولاً.

"بسبب هذا" أعنى بسبب سمو هذا السر الذي أفاض الرسول في شرحه في الأعداد السابقة (ع1-13) حيث كان كل غرضه أن يتمتع المؤمنون عمليا بهذه الامتيازات المباركة التي لهم في المسيح.

 

" بسبب هذا أحنى ركبتى لدى ابى ربنا يسوع المسيح " فإن سمو وجلال الموضوع الذي كان ماثلا أمام الرسول ومالئا قلبه وافكاره قد قاده لأن يحنى ركبته ويسكب نفسه وعواطفه أمام الله الاب. صحيح أن في أجزاء كثيرة من كلمة الله نقرأ عن الصلاة وقوفا (أنظر 1صم1 : 26، مر11 : 25، لو18 : 11و13) ولكن إحناء الركبتين أمام الله يدل على الأهمية العظمى التي لموضوع الصلاة كما يدل على سكب النفس والقلب أمام عرش النعمة. وكأنى بالرسول عندما كان يملى هذه الرسالة على الشخص الذي كان يكتبها (كما في رو16 : 22) – كأنى به عندما أتى إلى إعلان هذه المشورات العجيبة وإلى الكرازة بغنى المسيح الذي لا يستقصى، لم يستطع إلا أن يتوقف قليلاً عن الاملاء لكى يحنى ركبتيه. ولسنا نغإلى أن قلنا أن صلاة بولس هذه هي اسمى صلواته – هي تاج كل صلواته الأخرى. ولم يكن أمرا مستغربا عند القديسين في أفسس أن يحنى بولس ركبتيه في الصلاة لأجلهم فانه بعد أن خاطب قسوس تلك الكنيسة ذلك الخطاب الوداعى " جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى " (اع20 : 36). الم نختبر نحن أيضاً ذلك عمليا؟ فقد نصلى منفردين أو مجتمعين معا ونحن واقفون على أقدامنا ولكن عندما يقودنا الروح القدس للتأمل العميق في مشورات محبة الله العجيبة ونعمته الغنية ألا نجد أنفسنا مدفوعين لاحناء ركبنا بالسجود والتعبد لله أبينا؟ ليتنا ننموفي إدراك سمومقامنا وما صار لنا في المسيح يسوع ربنا من غنى لا يستقصى فتكون لنا الركب المنحية والقلوب الفا)ضة بالتعبد لابى ربنا يسوع المسيح.

" الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السماوات وَعَلَى الأرض "

لقد كانت لإسرائيل دون سواه في العهد القديم علاقة مع الله باعتباره " يهوه " ولكن عندما يحدثنا الرسول هنا عن اله " ابى ربنا يسوع المسيح " فانه لا يقدمه لنا كمن له علاقة بعشيرة واحدة فقط هي إسرائيل، ولكن كالخالق لجميع الكائنات الحية – الملائكة والبشر على السواء، هو " الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السماوات وَعَلَى الأرض " انه هو " خالق الجميع بيسوع المسيح " (ع9) فالمقصود بكل عشيرة في السموات وعلى الأرض هو الملائكة ورؤساء الملائكة الذين يدعون أيضاً "أبناء الله" (أي1 : 6، 38 : 7) وكذا جميع المؤمنين في تدبير النعمة الحاضر كما في التدابير السابقة أعنى في أيام الاباء الذين قبل الطوفإن وبعده، وكذا مؤمنى العهد القديم، وكذلك جميع المؤمنين الذين سيوجدون على الأرض بعد اختطاف الكنيسة أي البقية التقية من إسرائيل والامم الذين يقبلون بشارة الملكوت. وقد عين الله لكل عشيرة من هذه العشائر مركزها ومقامها، فليس لها جميعها مركز ومقام واحد، فاننا نقرأ في كلمة الله عن العروس امرأة الخروف كما نقرأ عن أصدقاء العريس. كذلك نقرأ في سفر نشيد الانشاد (ص6 : 8و9) عن ملكات وسرارى وعذارى وبنات. ولاشك أن لكل عشيرة من هؤلاء علاقتها بالمسيح، إلا أن المقام الاسمى، ولا ريب، هو للكنيسة التي هي عروس الحمل السماوية، الكنيسة التي هي جسده " لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه "

(16) " لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أن تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإنسان الْبَاطِنِ "

يا لسمو نعمة إلهنا وأبينا من نحو نا! انه، تبارك اسمه، مستعد ويريد أن يعطى، لا بمقياس ادراكنا المحدود ولكن " بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ " (في4 : 19) ومهما سألنا فلا نستطيع أن نطلب منه أكثر مما يستطيع أن يعطى أو يهب. انه يعطينا " بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ " قيل أن شخصا ما تقدم إلى الملك وطلب منه شيئا فأعطاه الملك بحسب غناه وكرمه، أعطاه أكثر مما سأل، فقال ذلك السائل له، يا جلالة الملك أن هذا كثير وأكثر جدا من اللازم. فابتسم الملك وقال له " قد يبدو لك أن ما تأخذه كثير بالنسبة لك ولكن بالنسبة لى ليس ما أعطيه كثيراً على " فجدير بنا اذن أن نطلب من إلهنا وأبينا المحب بثقة وبيقين لأنه يفعل فوق كل شىء أكثر جدا مما نطلب أو نفتكر.

ان صلاة الرسول بولس هذه هي بمثابة سلسلة ثمينة مكونة من حلقات ذهبية. انها تتضمن مجموعة من الطلبات الروحية العالية :

" لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أن تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإنسان الْبَاطِنِ " لقد عـرف الرسول بولس ضعف الإنسان في ذاته – عرف معنى قول الرب " بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا " بل سمع كلمات الرب المشجعة " تكفيك نعمتى لان قوتى في الضعف تكمل " لذا كان أول شىء طلبه في هذه الصلاة هو أن يتأيدوا بقوة الروح القدس في الإنسان الباطن. صحيح أن الروح القدس ساكن في كل مؤمن حقيقى الأمر الذي أكده الرسول في الاصحاح الأول " إذ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ " (ع13) ولكن ما نحتاج اليه هو أن نتأيد بقوته في الإنسان الباطن. ليتنا نتمثل بالرسول بولس فنحنى ركبنا باستمرار لدى ابى ربنا يسوع المسيح لكى يؤيدنا بقوة روحه القدوس. حقاً ما أحوجنا في هذه الأيام الأخيرة – أيام لأودكية التي ساد فيها الضعف والفتور على كثيرين من المسيحيين، أقول ما أحوجنا إلى سكب نفوسنا يوميا وباستمرار أمام إلهنا وأبينا لكى يؤيدنا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن.

(17) " لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإيمان فِي قُلُوبِكُمْ "

جدير بالملاحظة أن غاية الرسول في طلبه لأجل المؤمنين بأن يتأيدوا بقوة الروح القدس في الإنسان الباطن هي لكى يحل المسيح بالإيمان في قلوبهم. إذ متى امتلك الروح القدس حياة المسيحي الحقيقى فانه يملأ قلبه وعواطفه وأفكاره وكل كيانه بالمسيح يسوع. أن غاية الروح العظمى في سكناه في المؤمنين هي أن يريهم ما في المسيح من كمالات وأمجاد. انه يريهم كيف انه " ابرع جمالا من بنى البشر " وان " حلقه حلأوة وكله مشتهيات " " ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلاب هو لِي. لِهَذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ " (يو16 : 14و15).

انه من الخطأ أن تنحصر أفكارنا ومشغوليتنا في عمل الروح القدس فينا مهما كان عظيما، فإن الغرض من سكنا ومن عمله فينا هو ليشهد للمسيح (يو15 : 26) حتى يكون للمسيح مكانه اللائق في قلوبنا.

ومن الأهمية بمكان أن نراعى قصد الرسول في صلاته هذه، فهولا يطلب لأجل القديسين في أفسس بأن يقبلوا المسيح بالإيمان، فإن هذا قد تم فعلا في اللحظة التي فيها قبلوه مخلصاً وفاديا لهم، ولكن هناك بركة اسمى من ذلك، وهي أن يجلس المسيح على عرش قلوبنا.

و واضح أيضاً أن كل مؤمن حقيقى هو في المسيح " إذا أن كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهو خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ " (2كو5 : 17) " أَعْرِفُ إنساناً فِي الْمَسِيحِ " (2كو12 : 2). ولكن السؤال المهم هو " هل للمسيح وحده مكانه في قلوبنا؟ " انه لا يقبل أن يكون لأي شىء آخر مكان معه فيه. كما تقول ترنيمة انجليزية ما معناه " إذا لم يكن المسيح ربا وسيدا على كل شىء (في القلب) فهو ليس سيدا على أي شىء(1).

ومتى حل المسيح بالإيمان في قلب المؤمن وامتلكه فانه بالتالي يهيمن على الكيان بجملته. انه يسود على الحواس والعواطف والأفكار وكل أعضاء الجسد، وهذا هو سبيل النصرة والفرح في حياة المسيحي الحقيقى. حقاً ما أسعد المؤمن الذي يكون المسيح كل شىء في حياته " المسيح يحيا في " ليتنا نصلى بلجاجة وباستمرار وبركب منحنية لدى ابى ربنا يسوع المسيح حتى يكون هذا اختبار الكاتب والقارئ العزيز طيلة أيام وجودنا في هذا العالم.

(18) " أَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أن تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هو الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ"

يستعمل الرسول في مستهل هذا العدد تشبيهين جميلين للمؤمنين " أَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ

 

1) " If Christ is not Lord of all, He is not Lord at all

وَمُتَأَسِّسُونَ " واننا نجـد ما يماثلهـما في رسالته إلى أهل كـولوسي (ص2 : 7) " مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ " وهذا معناه اننا " متأصلون " كشجرة تعمقت جذورها في باطن الأرض فصارت ثابتة لا تزعزعها العواصف كما انها مليئة بالثمار الشهية " فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِيِِ الْمِيَاهِ الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أو انِهِ و ورَقُهَا لاَ يَذْبُلُ " (مز1) " ومتأسسون " كبناء راسخ مبنى على الصخر " صخر الدهور " ربنا يسوع المسيح.

" مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ " فالمؤمن كشجرة متأصلة تستمد غذائها من الله الذي هو " محبة " وكبناء متين مؤسس على الصخر الراسخ ربنا يسوع المسيح الذي هو المحبة المتجسدة " وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ بِنَاءُ اللهِ " (1كو3 : 9).

" حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين " وهنا نرى فائدة الشركة المقدسة بين المؤمنين، فانه متى كنا متأصلين ومتأسسين في المحبة نستطيع أن نساعد ونعاون بعضنا بعضا في فهم وادراك مشورات نعمة الله الغنية من نحونا. اننا لا نستطيع أن نستغنى عن بعضنا البعض، فكل واحد منا كعضوفي الجسد الواحد هو نافع لبقية الأعضاء. بل بالحري أن أصغر وأضعف عضو في جسد المسيح هو لازم لبقية الاعضاء (1كو12 : 22-25) فمتى كنا متأصلين ومتأسسين في المحبة نستطيع معا " أن ندرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو " أي يكون لنا النمو والتقدم في معرفة وادراك ذلك السر الذي هو موضوع هذا الاصحاح بصفة خاصة.

يظن البعض أن المقصود بالعرض والطول والعمق والعلو هو " محبة المسيح " ولكن ليس هذا هو قصد الرسول هنا لان حرف الواو في العبارة التالية " وتعرفوا محبة المسيح " يبين أن المقصود بعبارة " أَنْ تُدْرِكُوا... مَا هو الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ " هو شىء آخر غير محبة المسيح.

صحيح أن الرسول لا يذكر هنا بوضوح الشىء الذي له هذا العرض والطول والعمق والعلو– انه يترك ذلك لفطنة القارئ أو بالحري ليفهم أن المقصود هو ذاك السر المبارك الذي أفاض الرسول في شرح موضوعه في هذه الرسالة وبصفة خاصة في هذا الاصحاح.

(19) " وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الفائقة الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئوإلى كُلِّ مِلْءِ اللهِ "

يختم الرسول صلاته لأجل القديسين بهذه الطلبة العجيبة والمجيدة " وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الفائقة الْمَعْرِفَةِ " فكأنه ابقى الخمر الجيدة إلى الآخر. انه شىء جميل ومبارك أن ننموفي إدراك سمو نعمة الله الغنية من نحونا – أن ندرك ما هو عرض وطول وعمق وعلو قصد الله الأزلى – ذلك القصد الذي كان سرا مكتوما ولكنه أعلن لنا نحن أولاًد الله في تدبير العهد الجديد المجيد، إلا أن الرسول يختم صلاته بهذه الطلبة العجيبـة " وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الفائقة الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئوا إلى كُلِّ مِلْءِ اللهِ " ألا يبدو كأن هناك تناقضا في هذه العبارة إذ كيف نستطيع أن نعرف شيئا فائق المعرفة؟ الصحيح هو أن الرسول لا يقصد بقوله هذا أننا نستطيع – في أي وقت من الأوقات – أن نستوعب محبة المسيح ونعرفها معرفة كاملة بل أن ننمو أكثر فأكثر في معرفة هذه المحبة اللانهائية، وكأن الرسول يقودنا إلى السباحة في بحر عميق – عميق جدا ولا نهاية لعمقه – إلى بحر لا شاطىء له، فاننا لن نستطيع، لا في الحياة الحاضرة ولا في الأبدية، أن نصل إلى آخر أو نهاية لهذه المحبة، فإن محبة

المسيح لنا هي كمحبة الاب له " كَمَا أَحَبَّنِي الاب كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا " (يو15 : 9) فكما أن محبة الله الاب لابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح لا قياس ولا حدود لها كذلك محبة المسيح لنا.

أيها الرب يسوع ما أعجبك وما أعجب محبتك لنا! فهبنا بنعمتك أن نعرفك ونعرف محبتك أكثر فأكثر وان نختبرها عمليا وباستمرار في حياتنا.

حبـك الحب العجـيب فاق إدراك العقـول

لم يكـن هول الصـليب دون ذا الحـب يحول

ليــس مـن حـد له أو قيـاس أو قـرار

كـل فكــر للـورى عنـد ذا الحـب يحار

أليست هذه هي غبطة السماء بعينها؟ أن غبطتنا ونحن هنا على الأرض إذا كنا قد عرفنا محبة المسيح الفائقة المعرفة وملكت هذه المحبة على كل كياننا هي غبطة السماء.

 

وكما أن محبة المسيح لنا هي كمحبة الاب له كذلك محبة الاب لنا نحن أولاًده هي كمحبته لابنه العزيز ربنا يسوع (يو17 : 23) أليس هذا عجيبا! نعم انه عجيب ولكنه في الوقت نفسه حقيقى وصحيح.

والله قـد احبـنا محبـة ابنه الحبيـب

لاننـا فيـه وذا تفسير ذا السر العجيب

انه جميل حقاً أن نلاحظ كيف أن هذه الصلاة ترينا الله الواحد في أقانيمه الثلاثة عاملا لبركتنا، فالرسول قد حنى ركبتيه لدى ابى ربنا يسوع المسيح (الله الاب) لكى يؤيدنا بالقوة بروحه (الله الروح القدس) في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا ولكى نعرف محبة المسيح الفائقة المعرفة (الله الابن) تبارك اسمه المعبود.

" لِكَيْ تَمْتَلِئوا إلى كُلِّ مِلْءِ اللهِ " هذه بلاشك هي النتيجة المباركة لحلول المسيح بالإيمان في قلوبنا ولمعرفة محبته الفائقة المعرفة. وهذا واضح من قوله " لِكَيْ تَمْتَلِئوا " ولكن كما أننا لا نستطيع أن نصل إلى نهاية لمحبة المسيح الفائقة المعرفة كذلك لا نستطيع أن نصل إلى نهاية لملء الله. وليس هناك اختبار أعجب واسمى من هذا اننا نحن الخلائق الضعيفة المسكينة في ذاتها نمتلىء إلى كل ملء الله. أن طلبة الرسول هذه هي لنا كما كانت قديما للقديسين في أفسس، فلم يكتف هذا الرسول المغبوط بما طلبه في صلاته الأولى (ص1) أي الاستنارة حتى نعرف أننا جسد المسيح وأننا ملء الذي يملأ الكل في الكل، بل يريد لنا أكثر من ذلك – انه يريد لنا اختبارا اسمى أي أننا بقوة الروح القدس الساكن فينا نمتلىء إلى كل ملء الله نفسه، وهذه جالة عملية دائرتها، ليس الذهن بل القلب، أي نمو وعمق في الشركة مع الله بعد أن استنرنا وعرفنا مركزنا ومقامنا في المسيح.

لقد صلى سليمان عند تدشين الهيكل قائلا " هوذَا السماوات وَسَمَاءُ السماوات لاَ تَسَعُك " (1مل8 : 27) ومع ذلك فانه يسكن " أَسْكُنُ وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ " (اش57 : 15). وكلمات الرسول يوحنا " وَمَنْ يَحْفَظْ وَصَايَاهُ يَثْبُتْ فِيهِ وَهو فِيهِ " " اللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِي " (1يو3 : 24، 4 : 16) وكذلك قول الرب يسوع لخاصته " اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ " (يو15 : 4) هذه الكلمات قد تعطينا فكرة عن معنى قول الرسول " لِكَيْ تَمْتَلِئوا إلى كُلِّ مِلْءِ اللهِ "

" حسنا فسر أحد رجال الله كلمات الرسول هذه بتشبيه جميل وهوأنك إذا ألقيت وعاء مفتوحا في البحر فانه يكون في البحر والبحر فيه " ليت لنا القلوب المفتوحة لله وأمامه أو بالحري ليتنا نكثر من الشركة مع الله فيكون هذا اختبارنا المبارك استمرار – اختبار الامتلاء إلى كل ملء الله.

يحدثنا الروح القدس هنا عن " ملء الله " وفي الاصحاح الرابع عن " ملء المسيح " (ع13) وفي الاصحاح الخامس عن " ملء الروح القدس " (ع18) " امتلئوا بالروح " فماذا يعوزنا بعد؟

(20و21) " وَالْقَادِرُ أن يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أو نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إلى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدهور. آمِينَ "

يختم الرسول القسم الأول من هذه الرسالة أي القسم التعليمي (ص1-3) بهذه التسبحة الجميلة. لقد رأيناه في الأعداد السابقة (14-19) جاثيا على ركبتيه مصليا لأجل القديسين هذه الصلاة القيمة والتي لا تغإلى أن قلنا انها أعظم واسمى صلواته المدونة في كل رسائله، أما الآن فإن قلبه يفيض بالتسبيح لله ابى ربنا يسوع المسيح " القادرة أن يفعل ".

ومن المفيد أن نلاحظ أن كلمتى " القادر أن " تتكرران ثلاث مرات في ثلاث تسبيحات واردة في رسائل العهد الجديد، فالرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية (ص16 : 25) يقول " وَلِلْقَادِرِ أن يُثَبِّتَكُمْ حَسَبَ إنجيلي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ... للهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لَهُ الْمَجْدُ إلى الأبد. آمِينَ " ثـم في رسالة يهوذا (ع24) يقـول " وَالْقَادِرُ أن يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي الابتِهَاجِ، اَلإِلَهُ الْحَكِيمُ الْوَحِيدُ مُخَلِّصُنَا، لَهُ الْمَجْدُ وَالْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ، الآنَ وَإلى كُلِّ الدهور. آمِينَ " فما اعظم قدرة إلهنا الذي معه أمرنا! أن التسبيح ملذ لقلبه ومبهج لنفوسنا أيضاً.

ثم لنلاحظ أيضاً سعة إيمان الرسول وثقتـه في قـدرة الله، فهولا يكتفى بالقـول " والقادر أن يفعل أكثر مما نطلب " فإن طاقته الروحية كانت أو سع من ذلك فلا يكتفى أيضاً بالقول " والقادر أن يفعل أكثر جدا مما نطلب " بل لقد سما إيمانه بالله وبقدرته العظيمة فقال " وَالْقَادِرُ أن يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أو نَفْتَكِرُ " لقد سلفت الاشارة بأن الرسول طلب في صلاته لأجل القديسين بأن يعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة وأن يمتلئوا إلى كل ملء الله، وإذ يبدوأن هذا أمر صعب المنال، لانه كيف نستطيع أن نسموإلى اختبارات مجيدة كهذه؟ لذا يوجهنا الروح القدس إلى الله القادر أن يفعل لا اكثر مما نطلب فقط بل واكثر جدا مما نفتكر أو يخطر لنا ببال. ليت إيماننا في قدرة إلهنا وأبينا يقوى ويزداد حتى انننا في كل ظروف الحياة المتنوعة نتقدم اليه بثقة كاملة وبيقين شديد عالمين انه " القادر " الذي لا حدود لقدرته فهوالذي يستطيع كل شىء ولا يعسر عليه أمر ما.

ان إلهنا هو القادر أن يفعل " بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا " هذه القوة هي قوة الله الروح القدس الساكن في قلب كل مؤمن، فالمسيحي الحقيقى هو هيكل لله " لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هو " (1كو3 : 17) " أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أن جَسَدَكُمْ هو هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ " (1كو6 : 19).

أيها الأحباء أن في داخلنا نحن المؤمنين قوة إلهية تعمل فينا الآن كما أن هناك أيضاً قوة إلهية قد عملت لأجلنا وهي التي تأملنا فيهـا في الاصحـاح الأول (ع19) " وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الفائقة نحونا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ " تلك هي القوة التي أقامت المسيح من الأموات والتي عملت لأجلنا " نحونا " حتى أقامتنا من موتنا – أقامت المسيح وأقامتنا معه. أما هنا فالروح القدس يضع أمامنا القوة التي تعمل الآن فينا والتي بها نستطيع أن نعرف محبة المسيح الفائقة المعرفة وأن نمتلىء إلى كل ملء الله. أن الله هو القادر أن يفعل " بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا " فبقدر ما نفسح المجال للروح القدس ليهيمن على حياتنا وليعمل فينا بقوته، بهذا القدر عينه نستطيع أن نفوز بثمار وبركات هذه القدرة الإلهية التي لا حدود لها.

" لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إلى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدهور. آمِينَ "

يالسموالمقام الثابت والدائم الذي أعطاه الله لكنيسته! هذا المقام الذي تضمنته هذه التسبحة الجميلة، فإن الله قد أو جد الكنيسة لتكون لمجده إلى جميع أجيال دهر الدهور – لمجده في الزمان وفي الأبدية، فلا يمكن أن يكون هناك وقت من الأوقات أو بالحري أي دهر من الدهور لا تكون فيه الكنيسة " عروس الحمل " لمجد الله. ففي الأبدية أي بعد أن تزول السماء الأولى والأرض الأولى والبحر لا يكون فيما بعد، ستكون الكنيسة نفسها هي " مسكن الله مع الناس " (رؤ21 : 1-3) أي أن الله حالا في الكنيسة سيسكن مع الناس، فإن جميع المفدييـن المقامين (بخلاف الكنيسة) سينظـرون في الأبدية " مسكن الله " الذي بلا شك هو الكنيسة*، والذي بواسطته سيسكن الله مع أولئك المفديين.


* واضح من مقارنة رؤ21 عدد 9 مع الأعداد 10-23 ان " العروس امرأة الخروف " التي أراها أحد السبعة الملائكة ليوحنا هي " المدينة العظيمة أورشليم المقدسة " فالمدينة هذه هي صورة رمزية لمجد الكنيسة وعندما رأي يوحنا أورشليم الجديدة نازلة من السماء سمع صوتا عظيما قائلا " هوذا مسكن الله " (ع2و3).

إن الكنيسة هي مسكن الله في الحاضر وفي المستقبل أيضاً، فهي الآن مسكن لله في الروح (أف2 : 20-22) أما في الأبدية فالله، الذي هو الكل في الكل سيجعلها مسكنا له (رؤ21 : 3).

المسيح. اننا بدون المسيح كنا أجنبيين عن الله وأعداء له، ولكن إذ اتحدت الكنيسة بالمسيح فصار هو (أي المسيح) رأسها وهي جسده، صارت لحمد الله ولمجده " له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور "

" آمين " ليت كلا من القارئ العزيز والكاتب أيضاً يشترك من القلب مع الرسول المغبوط في إحناء ركبتيه أمام الله ابى ربنا يسوع المسيح طالبا منه أن يعطيه أن يختبر عمليا كل ما تضمنته صلاة الرسول كما ويشترك معه أيضاً بكل عواطفه في هذه التسبحة المباركة التي تملأ قلبه سجودا وتعبدا حتى يستطيع أن يقول بحق " آمين "

  • عدد الزيارات: 3473