Skip to main content

الأصحاح الأول

غني عـن البيان أن موضوع هذه الرسالة الرئيسي هو " المسيح والكنيسة "

والعلاقة الوثيقة والأبدية التي بينهما. وهذه العلاقة يرسمها لنا الروح القدس في هذه الرسالة في صور متنوعة. ففي الاصحاح الأول يقدم لنا الروح القدس العلاقة التي بين المسيح والكنيسة مرسومة في صورة " جسد " وربنا يسوع المسيح له المجد هو رأس هذا الجسد، والكنيسة التي هي جميع المؤمنين أو بعبارة أو ضح جميع المسيحيين الحقيقيين المولودين من الله في عهد النعمة هذا، (أي العهد الجديد) هذه الكنيسة هي جسد المسيح، والمؤمنون أفرادا هم أعضاء هذا الجسد.

وبما أن رأس هذا الجسد قد اكمل عمل الفداء بموته ثم أقيم من بين الأموات بمجد الاب، وقد أجلسه الاب عن يمينه في السماويات (1 : 20).

وبما أنه لا يمكن أن يكون الرأس منفصلا عن الجسد، لذا ترى الكنيسة التي هي جسده جالسة في السماويات فيه (2 : 6).

بالروح مقرونون برأسنا القدير

وهاتان الكلمتان " في السماويات " تردان في هذه الرسالة خمس مرات (1 : 3و20، 2 : 6، 3 : 10، 6 : 12).

وجدير بالاشارة، في هذه المناسبة، الا أن في هذه الرسالة عبارتين تعتبران بمثابة مفتاحين لهذه الرسالة وهما :

أولاً : " فيه " أي " في المسيح " فإن كانت هذه الرسالة تنبر كثيراً على مقام الكنيسة وبركاتها الروحية إلا انها كلها " في المسيح " فكل من ليس " في المسيح " ليس له نصيب أو تمتع بأية " بركة روحية " إننا بدون المسيح لا نستطيع أن نعرف الله ولا أن نصل اليه ونتمتع به وبغنى البركات التي للذين هم في المسيح يسوع دون سواه.

والعبارة الثانية هي " في السماويات " والكنيسة كما سلفت الاشارة ترى في هذه الرسالة جالسة في السماويات في المسيح يسوع. ولكن بينما ترى الكنيسة في هذا السمو العجيب، فإن الروح القدس ينبر في هذه الرسالة كثيراً على اهمية سلوك المؤمنين على الأرض. انها تشير إلى ما يجب أن يكون سلوكنا عليه وكذلك ما لا يجب أن نسلك فيه سبع مرات (2 : 1و10، 4 : 1و17، 5 : 2و8و15) وهذا معناه أنه أن كنا شعبا سماويا فيجب أن يكون سلوكنا متوافقا مع مقامنا – أن يكون سلوكنا سماويا. ومن هو كفؤ للوجود في حالة عملية كهذه؟ اننا نشكر الله على وسائله الإلهية التي أعدها لنا و وهبنا إياها والتي تقدرنا على السلوك الموافق لدعوتنا السماوية، لذا يشار في هذه الرسالة إلى الروح القدس نحو ثلاث عشرة مرة، ولا شك أن الروح القدس هو الذي يمنحنا القوة والنعمة للسلوك ونحن هنا على الأرض سلوكا سماويا، لذا يرد ذكر النعمة في هذه الرسالة اثنتى عشرة مرة.

(1) " بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئةِ اللهِ، إلى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أفسس، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ "

يفتتح الـروح القدس هذه الرسالة بذكر اسم كاتبها وخدمته، فبولس هو كاتب هذه الرسالة، وهوالاناء المختار من الله ليكون رسول يسوع المسيح إلى الامم (غل 2 : 7-9). لقد أفرز من بطن امه لهذه الخدمة، وتتميز خدمته الرسولية بأنه قبلها من الرب يسوع وهوفي المجد، أعنى بعد ارتفاعه إلى السماء وجلوسه عن يمين ابيه (أع 9 : 15، غل 1 : 12و15).

وقد كان اختياره لهذه الخدمة المباركة " بِمَشِيئةِ اللهِ " وهنا نرى نبع ومصدر هذه الخدمة التي كانت لبركة وغبطة المؤمنين في كل الأجيال. فقد كانت مشيئة الله أن هذا الذي كان قبلا مجدفا ومضطهدا لكنيسة الله أو بالحري للرب يسوع يصير الانـاء المختار ليحمل اسم الرب أمام أمم وملوك وبني إسرائيل (أع 9 : 15) وليس ذلك فقط بل ليقدم لكنيسة المسيح اسمى الإعلانات الإلهية التي تتضمنها رسائله ولا سيما هذه الرسالة.

إن كان بولس رسولا " بِمَشِيئةِ اللهِ " فانه لزام على كنيسة الله أن تصغي بكل انتباه إلى الحقائق الإلهية التي أعطي له أن يقدمها لها.

ويشار إلى " بِمَشِيئةِ اللهِ " في هذا الاصحاح أربع مرات (ع 1و5و9و11) يا له من تنازل من إلهنا الطيب أن يعلن لنا مشيئته الصالحة، ويا لها من بركة لنفوسنا أن نعرف هذه المشيئة وان نختبرها ونتمتع بها.

(1) الدكتور ايرنسيد Dr. H. A. Ironside

" وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ " ان كلمة المؤمنين هنا (كما في مستهل الرسالة إلى أهل كولوسي تجيء، في معظم الترجمات الأخرى، بمعنى " الامناء " (1) والمقصود هو أن الرسالة ليست موجهة إلى مجرد معترفين بإيمانهم بالرب يسوع، ولكن إلى اناس بالرغم من المقاومات التي واجهتهم (كما واجهت الرسول نفسه إذ كان وقتئذ أسيرا في رومية) فانهم بنعمة الله أمسكوا بأمانة بإيمانهم الذي قبلوه إنهم مؤمنون حقيقيون وأمناء للرب يسوع المسيح.

إلى "الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" ان من له إيمان في المسيح يسوع يجب أن يكون أمينا له أيضاً.

(2) " نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أبينا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ "

يحيي الرسول المؤمنين في أفسس، كما هي عادته في رسائله الأخرى، بهذه التحية الطيبة متمنيا لهم الامتلاء بالنعمة والسلام والتمتع بهما. أنها أمنية مزدوجة " نِعْمَةٌ وَسَلاَمٌ " من " اللهِ أبينا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ " فالله ابونا هو " إِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ " (1بط5 : 10) وهوأيضاً " إِلَهُ السَّلاَمِ " (عب13 : 20) وكذلك الرب يسوع المسيح، فهوالذي اتانا " مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحقاً ً.... وَمِنْ مِلْئهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ " (يو1 : 14-17. انظر 2كو8 : 9) وهوله المجد " رب السلام " الذي قال " سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا " (يو14 : 27).

 

1. The faithful

إن الاب هو وابنه الحبيب ربنا يسوع المسيح هما نبع ومصدر كل نعمة وكل سلام.

ثم لنلاحظ الارتباط الوثيق بين النعمة والسلام، فالله لا يهب سلاما إلا على أساس نعمته، ولا يمكن لأي إنسان أن يتمتع بالنعمة ما لم يكن قد حصل أولاً على " سلام مع الله " ليتنا لا نعرف فقط أن لنا نعمة وسلاما بل أن نتمتع بهما أيضاً.

(3) " مُبَارَكٌ اللهُ ابورَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السماويات فِي الْمَسِيحِ "

لقد أرتسمت أمام الرسول مقاصد ومشورات الله ونعمته الغنية من نحو الكنيسة والأسرار المجيدة التي لم تكن معروفة من قبل والتي أعطي له أن يعلنها للقديسين، فلم يستطع إلا أن يبدأ رسالته بهذه التسبحة الشجية " مُبَارَكٌ اللهُ ابورَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ " فمتى أدرك المؤمن مقامه السماوي وبركاته الروحية التي في المسيح، لا يمكن إلا أن تنفجر من قلبه وعواطفه تسابيح السجود والتعبد، أما المسيحي الذي يجهل مقامه ومركزه وامتيازاته والبركات الروحية التي له في المسيح فانه لا يستطيع أن يتقدم أمام الله ابيه كساجد حقيقي – لا يستطيع أن يرنم ويسبح ويبارك الله.

ثم لنلاحظ أن عبارة " مُبَارَكٌ اللهُ ابو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ " تجيء في الأصل (كما في معظم الترجمات) هكذا " مبارك إله* وابو ربنا يسوع المسيح " وهذا يرينا ربنا يسوع المسيح في علاقة مزدوجة مع الله، فهوالإنسان الفريد الكامل – الإنسان الوحيد الذي مجد الله هنا على الأرض في حياته وفي موته – الإنسان الذي كان بحسب فكره والذي وجد فيه كل سروره، فمن هذا الوجه كان الله إله (مز22 : 1، مت27 : 46، مز45 : 7، عب1 : 9) ولكنه في الوقت نفسه هو ابن الله أيضاً. هو ابن الله من وجهين. انه ابن الله الأزلي – هو الله الكلمة " وكان الكلمة الله " (يو1 :1) أن ربنا يسوع المسيح هو الابن الوحيد للاب منذ الأزل " الابن الوحيد الذي هو في حضن الاب " هذا هو الحق الإلهي الواضح في كل الكتاب المقدس (يو1 :1و2و14و18، 3 : 16، 10 : 30، 17 : 5و24، 1يو1 : 2، عب1 : 8 وشهادات أخرى عديدة) كذلك هو ابن الله بتجسده و ولادته من العذراء " أَجَاب الْمَلاَكُ : «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أيضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابن اللهِ " (لو1 : 35).

ولقد أو ضح الرب له المجد هذه الحقيقة الثنائية، إذ كانت أول رسالة أرسلها لتلاميذه بعد قيامته من الأموات هي قوله لمريم المجدلية " اذهَبِي إلى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ : إِنِّي أَصْعَدُ إلى ابي وَابيكُمْ وَإلهي وَإِلَهِكُمْ " (يو20 : 17) وعلى أساس موته وقيامته أدخلنا

" Blessed be the God and Father of our Lord Jesus Christ "

معه في هذه العلاقة المزدوجة، والتي هو فيها متميز عنا بلا شك. انه تبارك اسمه، " البكر بين أخوة كثيرين "

عندما وصل بولس إلى أفسس وجد إثنى عشر تلميذا. هؤلاء كانوا قد اعتمدوا بمعمودية يوحنا المعمدان فقط، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يجهلون حق الإنجيل الكامل الخاص بحضور الروح القدس وعمله في المؤمنين، والرسول بولس في حديثه إليهم أدرك ذلك، لذا وجه إليهم سؤالين :

السؤال الأول : " هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟ " (أع 19 : 2) لقد ميز الرسول أن إيمانهم لم يكن مؤسسا على عمل الفادي الذي مات على الصليب والذي قام من بين الأموات. انهم لم يدركوا تعليم الإنجيل الكامل ولم يعرفوا أن الروح القدس أتى لكى يسكن في المؤمن في اللحظة التي فيها يقبل الرب يسوع مخلصاً، لذا أجابوا قائلين " ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس " أن الحق الإلهي الصريح هو أن سكنى الروح القدس في قلب الإنسان هي البرهان الوحيد على أنه مسيحي حقيقي " إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له (أي ليس للمسيح) " (رو8 : 9) وهل كان ممكنا أن تبنى الكنيسة في أفسس على أساس معمودية يوحنا؟

لذا وجه الرسول بولس اليهم سؤاله الثاني :

ولقد وضع الله ختم المصادقة على كرازة الرسول بولس بأنه " كان يصنع على يديه قوات غير المعتادة حتى كان يؤتي عن جسده بمناديل أو مآزر إلى المرضى فتزول عنهم الامراض وتخرج الأرواح الشريرة منهم " (أع19 : 11، 12)

وجدير بالملاحظة أن اهتمام ديمتريوس الرئيس كان بالخسارة المادية التي تلحقه هو والصناع بسبب كرازة بولس فقد قال لهم " تعلمون أن سعتنا انما هي من هذه الصناعة " (ع 25) أما هدم عظمة الإلهة ديانا فكان أمرا ثانويا بينما كان ربح المال أمرا رئيسيا.

وإن رجلا يهوديا حكيما اسمه اسكندر خاطب الجمع فاستطاع أن يسكن هياجهم وان يصرف المحفل (ع 33- 41).

وبعدما انتهى الشغب دعا بولس التلاميذ و ودعهم وخرج ليذهب إلى مكدونية* (أع 20 : 1) ولكن خدمته في أفسس لم تنته عند هذ1 الحد، فأنه إذ كان بعد ذلك بوقت قصير في ميليتس القريبة من أفسس استدعى قسوس (أي شيوخ) تلك الكنيسة (أفسس) حيث خاطبهم خطابه الوداعي حاثا اياهم بأنهم كأساقفة (أي نظار) يجب عليهم بأن يرعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه، لأن ذئابا خاطفة ستدخل بينهم، وان من بينهم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم، لذ يستودعهم لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيهم وتعطيهم ميراثا مع جميع المقدسين (أع 20 : 17-38)

وفي رسالته الأولى إلى تيموثاوس (1 : 3، 4) يقول بولس بأنه طلب إلى تيموثاوس بأن يمكث في أفسس لكي يوصي المؤمنين هنالك بأن لا يعلموا تعليما آخر وأن لا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حد لها.

إن هذه الرسالة هي بحق اسمى كتابات الرسول بولس، واننا إذ نتصفحها كأننا نقف على رابية مرتفعة ومقدسة. ليس معنى ذلك أننا نقلل من قيمة أو أهمية بقية الرسائل أو الأسفار الإلهية الأخرى، لأن " كُلُّ الْكِتَاب هو مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ " (2 تي 3 : 16) ولكن من ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الروح القدس، في هذه الرسالة، أمام اللثام عن أسرار ومقاصد ومشورات إلهية لم تكن معروفة من قبل ولم تعلن بوضوح وبكل تفصيل في الرسائل الأخرى، كما أنها لم تعلن قط في أسفار العهد القديم؟ (أف 3 : 5و9).

وبعد أن يذكر الروح القدس اسم كاتب الرسالة وخدمته يشير إلى الذين كتبت هذه الرسالة اليهم " إلى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أفسس " فمع أن الرسالة موجهة إلى الكنيسة باعتبارها " جسد المسيح " إلا أن الروح القدس يخاطب المؤمنين فيها أيضاً كافراد " إلى الْقِدِّيسِينَ " فانه من الاهمية بمكان أن يعرف كل واحد في كنيسة الله أن الروح القدس يخاطبه فيها شخصيا، وأن يستوعب ما يقدمه له من الحقائق، سواء التعليمية أو العملية، وأن يدركها ويشبع به ويسير عمليا بموجبها.

" إلى الْقِدِّيسِينَ َ " ان المعنى الاصلي لكلمة " قديس " هو مفرز لله أو مخصص له. ليس معنى ذلك أن المؤمنين صاروا قديسين بسبب قداسة تميزوا بها عن سواهم، فليسوا هم الذين بسبب قداستهم أو تقواهم صيروا أنفسهم أو صيرهم الناس قديسين، ولكن الرب يسوع المسيح، على أساس ذبيحته الكاملة، قد صيرهم قديسين (عب 10 : 10، 13 : 12). حسنا كتب أحد خدام الرب الموهوبين(1) تعليقا على كلمة " الْقِدِّيسِينَ " في هذا الفصل " اننا لا نصبح قديسين بسبب قداستنا بل يجب أن نحيا حياة القداسة لأننا قديسون "

وقد أشار أحد خدام الرب إلى هذه التسبحة فقال " إن هذا الفصل (عدد 3-14) هو بمثابة أنشودة تسبحة مكونة من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يشير إلى الماضي البعيد – إلى الأزل وموضوع الله الاب وينتهي بهذه الكلمات " لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ " (ع 3-6) والجزء الثاني يشير إلى الزمان الحاضر وموضوعه الله الابن وينتهي بهذه الكلمات " لِمَدْحِ مَجْدِهِ " (ع7-12) والجزء الثالث يشير إلى المستقبل وموضوعه الله الروح القدس ويختم بالقول " لِمَدْحِ مَجْدِهِ " (ع13و14) وإن هذه الأجزاء الثلاثة يربطها معا ربنا يسوع المسيح " فِي الْمَحْبُوبِ " (ع6) " فِي الْمَسِيحِ " (ع12) " فِيهِ " (ع13) " مُبَارَكٌ اللهُ " أننا نباركه – نتعبد له لأنه، له المجد، قد باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح"

إن إله وابا ربنا يسوع المسيح قد " بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السماويات " ما اسمى هذا الحق! انها ليست بركات يريد الله أن يباركنا بها أو أن يمنحنا اياها مستقبلا، ولكنه قد باركنا بها فعلا. باركنا بكل بركة روحية، فهي ليست بركات أرضية كبركات العهد القديم. ليست بركات مادية أو جسدية ولكنها بركات روحية. لقد باركنا " بكل " بركة روحية، فلا توجد لديه تعالى بركة إلا وقد أجزلها لنا، كنا انها ليست من الأرض ولكنها سماوية " في السماويات " أي دائرتها " الأماكن السماوية " لقد كانت بركات إسرائيل أرضية، وقد فقدها بسبب عدم أمانته، ولكن بركات الكنيسة سماوية، والذي يكسبها جمالا وجلالا هي انها " في المسيح " انها في المسيح وللذين هم " في المسيح ".

جميل حقاً أن نعرف وندرك أننا قد بوركنا بكل بركة روحية، ولكن السؤال المهم هو : هل نحن متمتعون فعلا بكل هذه البركات الروحية السماوية؟ أن لنا ثروة لا يمكن أن تقدر بثمن – لنا غنى المسيح الذي لا يستقصى، ولكن هل نحن متمتعون عمليا بهذه الثروة وبهذا الغنى أم نحيا هنا كأننا فقراء؟ أن كانت امتيازاتنا وبركاتنا سماوية فيجب أن تكون حياتنا واختباراتنا سماوية أيضاً.

إن كلمة " نحن " في هذا العدد هي قاصرة على الذين آمنوا بالمسيح من اليهود، أما كلمة " أنتم " (في ع 13) فهي خاصة بالمؤمنين الحقيقيين من الأمم، فكأن الرسول بولس أراد أن يقول بأننا نحن (المؤمنين من اليهود) الذين " سبق رجاؤنا " أي آمنا أولاً بالمسيح سنكون " لمدح مجده " اما بقية إسرائيل فانهم بسبب رفضهم للمسيح لن يكونوا لمدح مجده. صحيح أن مجد الرب سيشرق على الذين سوف يؤمنون به منهم في التدبير الآتى " قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ " (اش60 : 1) وسيتحقق ذلك لهم عندما يرون الملك في بهائه. في ذلك اليوم

لقد علم الرب تلاميذه بأن يطلبوا من الاب عطية الروح القدس (لو11 : 13) وقد استجاب الاب طلبتهم هذه في يوم الخمسين إذ أعطاهم الروح القدس (أع2) لقد أرسله من السماء ليسكن في المؤمنين – في كل مسيحي حقيقى، فلا يوجد مؤمن واحد لم يعط الروح القدس " إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ فَذَلِكَ (الإنسانئليْسَ لَهُ (أي أنه ليس للمسيح) " (رو8 : 9) فهل يليق بعد ذلك أن يطلب المؤمن حلول الروح القدس الذي ختم به وسكن فيه؟ وألا يكون عدم إيمان شنيع لوأن التلاميذ طلبوا من الله أن يرسل اليهم المسيح بينما كان موجودا معهم؟ كذلك فإن من الخطأ وعدم الإيمان أن يطلب المؤمنون انسكابا جديدا للروح القدس أو يوم خمسين آخر بينما الروح القدس قد أتى فعلا من السماء وسكن في جميع المؤمنين الحقيقيين. صحيح أن من واجبنا أن لا نحزن الروح القدس وان لا نطفئه، بل بالحري يجب أن نصلى باستمرار لكى نتأيد بقوة الروح القدس في الإنسان الباطن " أمْتَلِئوا بِالرُّوحِ " (أف4 : 30، 1تس5 : 19، أف3 : 16،5 : 18).

ويسمى الروح القدس هنا " روح الموعد القدوس " لان الله الاب، بناء على إكمال عمل الفداء، وعد بارسال الروح القدس إلى العالم ليسكن في المؤمنين الحقيقين (أع 1 : 4، يو14 : 26، 15 : 26، أف3 : 6).

أن أول شىء طلبه الرسول في صلاته هذه هو قوله " كَيْ يُعْطِيَكُمْ...رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإعلان فِي مَعْرِفَتِهِ " وغنى عن البيان أن ليس المقصود بذلك هو أن الله يعطيهم الروح القدس فانهم نالوه فعلا وبه ختموا ليوم الفداء (ع13). أن كل مسيحي حقيقي قد نال عطية الروح القدس، ولكن إرادة الله هي أنه يهبنا بالروح القدس الحكمة لفهم وإدراك الإعلانات الإلهية التي أو دعها لنا في الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله. أن كل الكتاب هو موحى به من الله، ولكن الإنسان الطبيعى لا يستطيع أن يقبل ما يعلنه روح الله في كلمته (1كو2 : 8و14) أما المؤمن فإن الروح القدس ساكن فيه وهو الذي يهبه الحكمة والفهم لإدراك ما تعلنه كلمة الله. ثم لنلاحظ أن الرسول يصلى لأجل المؤمنين لكى يعطوا أمرين متميزين " الحكمة " و " الإعلان " أعنى أن الروح يعمل عملا إلهيا في الذهن فيهبه " الحكمة " التي بها يستطيع أن يفهم ويدرك " الإعلان " الإلهي أي كلمة الله، إذ أنه لا يمكن فهم هذه الكلمة إلا

وغاية أو هدف هذه الدعوة هو " الرجاء المبارك " والصالح – الرجاء الذي لا يخزى ولقد رأينا في مستهل هذا الاصحاح كيف أن الله الاب قد " باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة وهذا هو " رَجَاءُ دَعْوَتِهِ " انه في يوم قريب سنكون مثله (أي مثل المسيح) وسنراه كما هو . انه لهذه الغاية اختارنا الله ولا بد أن يحقق لنا ذلك. لقد دعانا الله لحالة الكمال عندما نكون مشابهين صورة ابنه يسوع المسيح (رو8 : 29، 1يو3 : 1و2). دعانا وأعطانا هذا الرجاء – رجاء فداء أجسادنا. فبعد قليل سيأتي الرب يسوع المسيح ثانية وعندئذٍ سنتغير إلى صورته المجيدة. أن رجاء مجيدا كهذا من شأنه أن يفصل قلوبنا من هذا العالم ومن الاشياء التي في العالم كى نحيا حياة القداسة " وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هَذَا الرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هو طَاهِرٌ " (1يو3 : 3) هذا هو رجاء جميع أولاًد الله. انه، له المجد، سيأتي ليأخذ كل خاصته اليه. آمين. تعال أيها الرب يسوع.

ولا بد من الإشارة هنا مرة أخرى إلى هذه الحقيقة المباركة، وهي أن عظمة قدرة الله الفائقة التي أقامت المسيح من الأموات وأجلسته عن يمين الاب فوق كل رياسة وسلطان وقوة و و..الخ هي نفس القدرة التي من نحونا نحن المؤمنين. ليت القارئ العزيز يمسك بهذا الحق الثمين ويفرح ويتمتع به عمليا وبإستمرار.

ويرينا الروح القدس في هذا الأصحاح كيف أنه كان لازما وضروريا أن يخلق الله خليقة جديدة، أعنى أن يخلق من جديد الإنسان الذي خلقه أولاً على صورته (تك1 : 27) ولكنه بسبب عصيانه سقط من المركز الرفيع الذي أو جده الله فيه، لذا في ملء الزمان تجسد ابن الله المبارك، إذ ولد من عذراء وعاش عيشة الطهارة الفريدة ومات موته الكفاري فوق الصليب وقام من بين الأموات وذلك ليرد إلى الله هذه الخليقة الساقطة، وهذا ما يبينه لنا روح الله في هذا الأصحاح. انه يرينا حاجتنا كبشر ساقطين إلى أن نصير خليقة جديدة راسما أمامنا صورتنا الزرية والبغيضة التي كنا عليها قبل أن خلصتنا نعمة الله الغنية.

تعلمنا كلمة الله أنه يوجد ثلاثة أنواع من الموت : (1) الموت الجسدى، أي إنفصال الروح عن الجسد (1كو15 : 21و22) (2) الموت الروحى أي إنفصال الإنسان عن الله (2 : 1، 4 : 18، 1يو5 : 12) (3) الموت الأبدي أي الطرد من محضر الله والطرح في بحيرة النار (1كو6 : 9و10، 2تس1 : 9، رؤ20 : 15).

أما في هذا الفصل (ع1) فإن الرسول يتكلم عن النوع الثاني أعنى الموت روحيا. وكلمة الله تعلن بكل وضوح في فصول عديدة أن كل البشر هم أموات روحيا، وسواء صدق الناس ذلك أو لم يصدقوا فهم أموات روحيا " أموات بالذنوب والخطايا " وبدون قبول المسيح الذي هو " الحياة الأبدية " فأنهم يبقون في حالة الموت روحيا (تك2 : 17، رو5 : 12) ثم يموتون موتا جسديا وفي النهاية يموتون موتا ابديا – " الموت الثاني " (عب9 : 27، رؤ20 : 6) ومهما حاول البشر أن يصلحوا ذواتهم لكى يحيوا لله فلا فائدة لأنهم أموات روحيا، قال واحد من رجال الله " إنك لا تستطيع أن تحيا لله ما لم تأخذ حياة من الله "

بقى علينا أن نتأمل في المجموعة الثلاثية الرابعة والأخيرة أعنى في النتائج الثلاث المجيدة للوسائل الإلهية الثلاث التي سبق التأمل فيها – هذه النتائج التي تعتبر بحق معجزات الرحمة والمحبة والنعمة.

ثم لنراع انه لا يقول " لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ " كأنه شىء مستقبـل أو " ربـما

" أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إسرائيل، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهودِ الْمَوْعِدِ " فلم يكن للامم نصيب في بركات وامتيازات شعب الله القديم، لأن الله أعطى المواعيد أولاً لابراهيم وتعهد له

ان ربنا يسوع المسيح، الذي هو سلامنا الثابت والأبدي، هو " الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً " أعنى الذي جعل المؤمنين به من الفريقين واحدا – المؤمنين من الختان ومن الغرلة، من اليهود الذين كانت لهم عهود الموعد والأمم الذين كانوا غرباء عن عهود الموعد. كل الذين آمنوا بالمسيح من هؤلاء ومن أولئك جعلهم واحدا لأنه مات فوق الصليب لأجل الجميع.

" لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إنساناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً " ان الله – الابن الازلى – الكلمة، الذي كل شىء كان، وبغيره لم يكن شىء مما كان، قد خلق الإنسان الأول من تراب الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة وسلطة على أعمال يديه، ولكنه فشل في الاحتفاظ بامتيازاته بسبب عصيانه، أما الآن فقد خلق الرب يسوع في نفسه إنسانا واحدا جديدا، فكل المؤمنين به من اليهود والامم قد كون منهم إنسانا واحدا جديدا " الكنيسة التي هي جسده " والذي هو رأسها الممجد. ويجب أن لا يغرب عن البال أن هذا مقام جديد لم يحصل عليه قبلا ولم يعرف عنه شيئا لا الأممى البعيد ولا اليهودى القريب، فالأمم الذين كانوا في حالة البعد الشاسع عن الله، واليهود الذين كانوا قريبين منه بسبب امتيازاتهم في تدبير العهد القديم – الكل بسبب إيمانهم بالمسيح يشتركون معا في التمتع ببركات لم يحصلوا عليها من قبل، فذلك الانفصال أو الحاجز القديم قد تلاشى وصار الجميع بنعمة الله واحدا في المسيح يسوع. ولكن متى بدأ ذلك؟ هل كان لمؤمني العهد القديم نصيب في ذلك – أعنى هل كانوا متحدين معا كجسد المسيح أي ككنيسة الله على الأرض؟ اننا لا نقرأ في كل العهد القديم عن وجود " جسد واحد " ولوأننا نجد صورا رمزية له في العهد القديم. ولكن على أساس صليب المسيح تكون هذا الجسد أي الكنيسة في يوم الخمسين. عندئذٍ فقط ابطل الله العدأوة. أما قبل ذلك فلم يكن الامر كذلك لان الله أمر الإسرائيلى بأن ينفصل عن الاممى، والرب يسوع نفسه، قبل موته فوق الصليب، قد أيد ذلك، فانه منع تلاميذه من الذهاب إلى أية مدينة من مدن الامم (مت10 : 5و6) كما أنه قال للمرأة الفينيقية بأنه لم يرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة لقد أتت تلك المرأة اليه مستندة إلى مواعيده باعتباره " ابن داود " ولكنه

" وَأهل بَيْتِ اللهِ " ما اسمى هذا! فاننا لسنا رعية مع القديسين فقط بل صرنا من العائلة السماوية، وكما أننا اتحدنا بالمسيح كأعضاء جسده، كذلك اتحدنا بالله الاب كأولاًد أحباء فصرنا في مقام اسمى من مقام الملائكة، فاننا لا نقرأ ابدا في كلمة الله أن الملائكة هم " أهل بَيْتِ اللهِ " انهم خدام في هذا البيت " أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأجل الْعَتِيدِينَ أن يَرِثُوا الْخَلاَصَ! " (عب1 : 14) وما أعظم الكلفة التي تكلفها الله لكى يصيرنا من أهل بيته، ولكى يأتي بنا إلى مجده الأبدي! " لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ (أي الله) الَّذِي مِنْ أجلهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهو آتٍ بِأبناء كَثِيرِينَ إلى الْمَجْدِ أن يُكَمِّلَ رئيس خَلاَصِهِمْ (أي المسيح) بِالآلاَمِ " (عب2 : 10).

أنك إذا قلبت كل صفحات العهد القديم لن تجد فيها كلمة واحدة عن هذا السر المبارك، والرسول يؤكد هذه الحقيقة في هذا الفصل الذي أمامنا، كما يشير اليها في رسالته إلى أهل رومية (ص16 : 25-27) " وَلِلْقَادِرِ أن يُثَبِّتَكُمْ حَسَبَ إنجيلي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ حَسَبَ إعلان السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ وَلَكِنْ ظَهَرَ الآنَ وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّة (أي كتابات العهد الجديد النبوية) حَسَبَ أَمْرِ الإِلَهِ الأَزَلِيِّ لإِطَاعَةِ الإيمان " حسب أمر الإله الأزلى لإطاعة الإيمان، لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد. آمين "

(6) " أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإنجيل "

ثم يرينا الرسول بكل جلاء أن خدمته للإنجيل كانت حسب الموهبة التي أنعم الله بها عليه وذلك حسب فعل قوته (أي قوة الله) هذا هو مقياس الخدمة الصحيحة لله " إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا اللهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ اللهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلى ابدِ الأبدينَ. آمِينَ " (1بط4 : 11).

" مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأيام شِرِّيرَةٌ " أي أن من واجب المسيحي الحقيقي أن يغتنم الفرص فلا تفلت من يديه. يجب أن يغتنمها في الشهادة لسيده ولخدمته في كل حين. أن الوقت يمر بسرعة واللحظة التي تنتهي لا يمكن إرجاعها لقد مضى يوم أمس ولا يمكن إعادته، ولا بد أن يمضى هذا اليوم أيضاً ومن سيكون في مقدوره إرجاعه مرة أخرى؟ والعمر كله مهما طال فلابد أن ينتهي سريعاً " أيام سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعاً فَنَطِيرُ " (مز90 : 10) فالحكيم هو الذي يفتدى الوقت مستخدما كل لحظة لمجد سيده قبل أن تفلت من بين يديه.

أيها الاحباء أن مجىء الرب أصبح قريبا جدا، والوقت الذي فيه نستطيع أن نمجده ونشهد له ونخدمه هو فرصة الحياة الحاضرة. اذن لنفتد الوقت. لنعمل " مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أن يَعْمَلَ " (يو9 : 4) " إذا يا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أن تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ " (1كو15 : 58).

" لأَنَّ الأيام شِرِّيرَةٌ " وهذا ما يحفزنا على أن يكون سلوكنا بالتدقيق، وعلى افتداء الوقت وانتهاز كل فرصة للشهادة لسيدنا ولخدمته.

إن الباب مفتوح أمامك اليوم للشهادة للرب ولخدمته فلا تتوان عن افتداء هذا الوقت، فمن يدرى أن كان هذا الباب سيستمر مفتوحا للغد أم سيكون مغلقا لأي سبب من الاسباب. اذن يجب علينا أن نفتدى الوقت لأن الأيام شريرة.

إن كثيرين من غير المؤمنين يتلمسون الفرح الوهمى والسرور الكاذب بواسطة الخمر الذي فيه الخلاعة – المسكر الذي يسلبهم وعيهم ويفقدهم الكرامة ويتلف عقولهم وأجسادهم، وما أكثر التحذيرات التي لنا في كلمة الله من تعاطى المسكرات " اَلْخَمْرُ مُسْتَهْزِئةٌ. الْمُسْكِرُ عَجَّاجٌ وَمَنْ يَتَرَنَّحُ بِهِمَا فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ " (أم20 : 1) " لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِي الْخَمْرِ بَيْنَ الْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُمْ " (أم23 : 20) " لِمَنِ الْوَيْلُ؟ لِمَنِ الشَّقَأوةُ؟ لِمَنِ الْمُخَاصَمَاتُ؟ لِمَنِ الْكَرْبُ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟ لِمَنِ ازْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ؟ لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْرَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ الشَّرَاب الْمَمْزُوجِ. لاَ تَنْظُرْ إلى الْخَمْرِ إذا احْمَرَّتْ حِينَ تُظْهِرُ حِبَابهَا فِي الْكَأْسِ وَسَاغَتْ مُرَقْرِقَةً. فِي الآخِرِ تَلْسَعُ كَالْحَيَّةِ وَتَلْدَغُ كَالأُفْعُوانِ. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ الأَجْنَبِيَّاتِ وَقَلْبُكَ يَنْطِقُ بِأمور مُلْتَوِيَةٍ. وَتَكُونُ كَمُضْطَجِعٍ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ أو كَمُضْطَجِعٍ عَلَى رَأْسِ سَارِيَةٍ. يَقُولُ : «ضَرَبُونِي وَلَمْ أَتَوَجَّعْ. لَقَدْ لَكَأونِي وَلَمْ أَعْرِفْ. مَتَى أَسْتَيْقِظُ أَعُودُ أَطْلُبُهَا بَعْدُ؟ " (أم23 : 29-35) وغير ذلك كثير في كلمة الله، وهذا ما لا يليق بالمسيحي الحقيقي بل بالحري يجب عليه أو هو إمتيازه أن يمتلىء بالروح القدس. أن هذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن باستمرار. ومما يجب ملاحظته أن الامتلاء بالروح القدس ليس إختبارا استثنائيا لفرد أو لجماعة معينة من المؤمنين بل هو امتياز لكل المؤمنين الحقيقيين أو بالحري هو الحالة الدائمة التي يجب أن يكونوا فيها.

على أنه يجب أيضاً أن نراعى هذه الحقيقة الهامة وهي أن الحث على الامتلاء بالروح القدس ليس معناه أننا نصلى ونصلى طالبين " معمودية الروح القدس " فإن كل المؤمنين قد اعتمدوا بالروح القدس " لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أيضاً اعْتَمَدْنَا إلى

كتب الرسول بولس للمؤمنين في كولوسى هذه الكلمات " مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ " (ص3 : 16) وهنا نجد التسبيح والترنيم والأغاني الروحية هي ثمرة سكنى كلمة الرب بغنى في المؤمنين بينما في رسالة أفسس هذه نجد أنها ثمرة الإمتلاء بالروح، وهذا معناه أن المسيحي الممتلىء بكلمة الله هو بعينه المسيحي الممتلىء بالروح القدس، لأنه متى سادت كلمة الله على حياتنا وسلكنا في الطاعة القلبية لها فإن الروح القدس يملأ كياننا واضعا أمامنا كمالات ربنا يسوع المسيح الذي هو " ابرع جمالا من بنى البشر " فتفيض قلوبنا بالتسبيح والترنم له.

" مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً " أعنى أننا نجتمع معا بنفس واحدة باسم ربنا يسوع المسيح ولنا فكر واحد وهوبنيان بعضنا بعضا والتغنى والترنم للرب "

" بِمَزَامِيرَ " كان شعب الرب في العهد القديم يرنمون معا من سفر المزامير، ولا شك في أن هذا السفر يتضمن أقوالا وتعبيرات جميلة توافق إختبارات المسيحي في سياحته في هذا العالم. ولوأن لغة هذا السفر لا تسموإلى المقام السماوي للمسيحي وامتيازاته في تدبير النعمة الحاضر، إلا أننا نجد في أجزاء كثيرة منه ما نرنم به مما يوافق أحوال وظروف وإختبارات متنوعة في حياتنا الحاضرة.

ولنراع أن هناك ارتباطا بين العدد السابق " خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ " وبين النصائح الثمينة الموجهة للعلائلات المسيحية بشأن العلاقات المقدسة والواجبات المتبادلة بين أفرادها، لذا يبدأ الرسول بالكلام عن أهم العلاقات في البيت المسيحي، أعنى بين الزوجة وزوجهاً، فللزوجات يقول " أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ " هذا التعليم الواضح والصريح ليس مقبولا عند الكثيراًت ولاسيما في عصرنا الحاضر – عصر المدنية التي جرفت الكثيرين في البعد عن الله وعن كلمته، وبصفة خاصة بين النساء المثقفات، ولكن واجب المرأة المسيحية هو

لقد أحب المسيح الكنيسة واسلم نفسه لأجلها. ما أمجد هذا العمل وما ابرك نتائجه، وما أحلى ثماره! فالكنيسة ترى الآن أمام الله بلا خطية، لأن الخطايا

الجزء السادس من سلاح الله الكامل

ليت كل مسيحي حقيقي يضع يده على هذه الثروة الروحية المجيدة ويتمتع عمليا واختباريا بكل بركة روحية في السماويات.

(4) " كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ"

أن موضوع الاختيار هو من الحقائق الإلهية الواضحة كل الوضوح في كلمة الله والمرتبطة بقصد الله الأزلي، وليس للإنسان أي دخل سوى الله، قصد تعالى " أن يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد " ولكن كيف كان ذلك ممكنا بعد دخول الخطية إلى العالم و وجودها فيهم وعليهم؟ لقد كان ضروريا أن الذين يقربهم الله اليه ويوجدهم في اقرب مكان إلى قلبه، يكونون " قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ " وهذا ليس من عمل الإنسان بل هو عمل الله على أساس الفداء بدم ابنه الحبيب يسوع المسيح. لقد " أَحَبَّ الْمَسِيحُ أيضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أو شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ " (اف 5 : 25-27) هذا هو مركز المسيحي الحقيقي. انه " في المسيح " والله لم يكن ممكنا أن يراه كقديس وبلا لوم قدامه لولا انه " في المسيح " انه تبارك اسمه، هو اقل من ذلك؟ حاشا. والله يرى الخاطيء الاثيم الذي احتمى في المسيح وفي كفاية عمله كما يرى المسيح نفسه. أن الله يرانا قديسين وبلا لوم قدامه " في المحبة " أعني محبة الله الاب والرب يسوع المسيح " الله محبة " وربنا يسوع المسيح هو " ابن محبته " هو " صورة الله غير المنظور – بهاء مجده ورسم جوهره " هو الإعلان الإلهي الكامل لمحبة الله – هو المحبة المتجسدة " اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابن الْوَحِيدُ الَّذِي هو فِي حِضْنِ الاب هو خَبَّرَ (اي اعلنه) " (يو1 : 18).

والذي يسعد المؤمنين في المجد ليس فقط صيرورتهم قديسين وبلا لوم، ولا وجودهم في دوائر المجد الأبدي فحسب، بل بالحري " المحبة " فمحبة الله الاب والرب يسوع المسيح ستكون موضوع غبطة وهناء القديسين هناك كما انها موضوع بهجتهم هنا على الأرض.

إن كنا ونحن في هذا العالم نرى كقديسين وبلا لوم، فإن ذلك سيتحقق عمليا في المجد، وسيستعلن أمام الخلائق بأسرها عند ظهور ربنا يسوع " مَتَى اظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئذٍ تُظْهَرُونَ انْتُمْ أيضاً مَعَهُ فِي الْمَجْدِ " (كو3 : 4). هناك " نَكُونُ مِثْلَهُ " هناك أيها القديسون سيوقفكم الله أمام مجده " بِلاَ عَيْبٍ فِي الابتِهَاجِ " " اَلإِلَهُ الْحَكِيمُ الْوَحِيدُ مُخَلِّصُنَا، لَهُ الْمَجْدُ وَالْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ، الآنَ وَإلى كُلِّ الدهور. آمِينَ " (يه

وهناك حقيقة اخرى وهي اننا الآن قديسون وبلا لوم من حيث مقامنا ومركزنا امام الله، بينما من الناحية العملية " لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا " (يع 3 : 2) فكم من تقصيرات تبدو في حياتنا (1يو1 : 8- 10، 2 : 1) وكم من المرات، نحن الذين بلا لوم قدامه " لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا " (1يو3 : 20) الا أن من واجبنا أن نصحو ونسهر لكى نسلك " كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ " (اف5 : 3) – ولنحيا بلا لوم " إِنْ لَمْ تَلُمْنَا قُلُوبُنَا فَلَنَا ثِقَةٌ مِنْ نحو اللهِ. وَمَهْمَا سَأَلْنَا نَنَالُ مِنْهُ، لأَنَّنَا نَحْفَظُ وَصَايَاهُ، وَنَعْمَلُ الأعمال الْمَرْضِيَّةَ أَمَامَهُ " (1يو3 : 21و22).

ومع أن موضوع الاختيار هو حق إلهي ثابت و واضح كل الوضوح في كلمة الله، الا أن هذا لا يتعارض مع ارادته تعالى من نحو خلاص جميع الناس، ولا مع مسئولية الإنسان أمامه تعالى، فهو " يُرِيدُ أن جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإلى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ " (1تي2 : 4) لذا هو " الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أن يَتُوبُوا " (اع17 : 30) إذ " لاَ يَشَاءُ أن يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أن يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إلى التَّوْبَة " (2بط3 : 9) فلا عذر للإنسان الذي يرفض دعوة الله المقدمة اليه. أن الرب له المجد يدعو الجميع أن يأتوا اليه، ومن يقبل اليه لا يخرجه خارجا. اذن من يهلك فإن هلاكه هو بسبب رفضه للمسيح، لأن الله لم يعين احد للدينونة أو الهلاك الأبدي.

(5) " إذ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئتِهِ "

رأينا في تأملنا في العدد الثالث أن الله هو إله " ربنا يسوع المسيح وهو أيضاً " ابو " ربنا يسوع المسيح، فهو كإله ربنا يسوع المسيح قد اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه، ولكنه كالاب قد عيننا للتبني. فهو الاب ذو العواطف الحبية الذي قصد منذ الأزل بأن يأتي بأبناء ليكونوا معه في المجد الأبدي، فلم يكتف بأن اختارنا منذ الازل لنكون قديسين وبلا لوم قدامه بل قربنا اليه، لا كمجرد عبيد بل كأبناء – أبناء الآن وأبناء في المجد الأبدي – هناك سوف لا نقف أمامه كالملائكة " العاملين مرضاته "بل كأبناء سنتمتع بعواطف المحبة الابوية. هذا هو مقامنا – مقام البنين لإله وابى ربنا يسوع المسيح، والرب نفسه هو البكر بين اخوة كثيرين. انه (الرب يسوع) كالابن الازلى للاب هو وحده الفريد في ذلك، ولكن سروره له المجد هو في أن يدعونا اخوة وذلك بعد قيامته من الأموات وليس قبل ذلك.

أننا، ونحن هنا على الأرض التي فيها تلوثنا بخطايانا والتي فيها كنا عبيدا للشيطان، إذ آمنا بالرب يسوع المسيح و وضعنا ثقتنا في كفاية عمله فوق الصليب قد تركنا خلفنا كل ما كنا عليه ودخلنا في هذه النسبة المباركة والمجيدة مع الله كبنين " لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابهِينَ صُورَةَ ابنهِ لِيَكُونَ هو بِكْراً بَيْنَ بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ " (رو8 : 29)

لقد عيننا الاب للتبني بيسوع المسيح " لنفسه " تبارك اسم إلهنا وأبينا المحب فأنه قد عيننا لنكون أبناء له " لنفسه " ولمجده.

إن كلمة " التبني " لا تجيء الا في بعض رسائل الرسول بولس، ولنلاحظ اننا قد اخذنا فعلا روح التبني " إذ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أيضاً لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ : «يا ابا الاب! " (رو8 : 15) وذلك بفضل عمل ربنا يسوع المسيح الذي مات عنا فوق الصليب لكي ننال التبني " ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أبناء، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابنهِ إلى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً : «يا ابا الاب». إذا لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ابناً، " (غل4 : 4-7) لقد أخذنا الروح القدس الذي هو " روح التبني " ولكننا ننتظر ونتوقع الوقت المجيد الذي فيه نحصل على التبني الذي سيشمل اجسادنا الترابية عندما يأتي المخلص " الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ " (في3 : 20و21) هذا هو رجاء المسيحي الحقيقي، " نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أيضاً نَ)نُّ فِي أَنْفُسِنَا مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا " (رو8 : 23) لقد نلنا الآن روح التبني من الله الذي هو " لابي الأَرْوَاحِ " (عب12 : 9) ولكننا متوقعون التبني فداء اجسادنا. ليس المقصود هو اننا في المجد سنكون أبناء اكثر مما نحن الآن " أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أولاًد اللهِ " (1يو3 :2) ولكن الرسول يوحنا يضيف إلى ذلك قوله " ولم يظهر بعد ماذا سنكون " ولكن سيجيء الوقت (وهوقريب) الذي فيه سيستعلن اما الخليقة بأسرها لمجد الله، أننا أبناء الله حقاً عندما نكون مثله (اي مثل المسيح).

لقد عيننا الاب للتبني بيسوع المسيح لنفسه وذلك " حَسَبَ مَسَرَّةِ مشيئته " اي انه لم يكن مجرد قصد أزلى أن الله اختارنا لنكون قديسين وبلا لو وانه عيننا لتبني ولكن لأن في ذلك سروره أيضاً : لقد سرت مشيئته بأن يقربنا اليه لا كعبيد بل كبنين، وذلك " لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ " (ع6). أن هذه المشيئة التي فيها مسرته هي مشيئة أزلية، فقد قال المسيح (الذي هو الحكمة الازلية) " مِنْ قَبْلِ أن تَقَرَّرَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ التِّلاَلِ ابدِئتُ (اي اظهرت)..... كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ فَرِحَةً دَائماً قُدَّامَهُ. فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أرضهِ وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَم " (ام8 : 22-31) ثم عند ولادته في هذا العالم رنم " جُمْهورٌ مِنَ الْجُنْدِ السماوي مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائلِينَ : 14«الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأرض السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " (لو2 : 13و14) فكانت مسرة الاب والابن منذ الازل بنا نحن الذين اختارنا وعيننا للتبنى. أن أعظم ملاك في السماء لن يكون له نصيب في مجد الإنسان الخاطيء الأثيم الذي خلصته نعمة الله الغنية.

(6) " لمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ "

أن هذه الكلمات مرتبطة بالأعداد السابقة (3-5) – هذه الأعداد التي هي بمثابة سلسلة ذهبية ثمينة من المشورات الإلهية الغنية، والتي كلها " لمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ " فالله قد باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، وعيننا للتبني – اي صيرنا أبناء له، وذلك " لمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ " وسيجيء قريبا اليوم الذي فيه ستكـون الكنيسـة الممجـدة موضوع تعجب الملائكة والبشر. أن الخلائق بأسرها سترى عجا)ب محبة الله غير المحدودة ونعمته الفائقة من نحو البشر الخطاة.

لقد قصد الله أن تسمو وتتفاضل نعمته المجيدة من نحو الخطاة المساكين لتكون موضوع مدح من الكائنات بأسرها إلى اباد الدهور كلها. صحيح أن غنى هذه النعمة لا يعرفه الآن سوى الذين افتقدتهم وأدركتهم النعمة، ولكن بعد قليل ستستعلن هذه النعمة " مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ " (2تس1 : 10). أن مجد هذه النعمة سيكون موضوع تعجب كل الكائنات بعدما ينتهي دور الكنيسة على الأرض – أعني عندما يضم اليها آخر عضو من المعينين للحياة الأبدية. عندئذٍ ستؤخذ الكنيسة للمجد لتكون مع الرب، ثم إذ يستعلن المسيح أمام الخليقة بأسرها عندئذٍ سيعاين سكان السماء والأرض والجحيم سمو عظمة نعمة الله في الكنيسة الممجدة والتي هي أقرب الخلائق إلى الرب يسوع وإلى قلبه وعواطفه. ستتعجب هذه الكائنات عندما يرون العروس امرأة الحمل معه ومشاركة له في مجده وفرحة.

لقد أنعم الله علينا بهذه النعمة " فِي الْمَحْبُوبِ " ذلك لأن محبته هي النبع الذي منه جرت الينا وفاضت علينا هذه النعمة، لذا لا يقال هنا بأنه أنعم بها علينا " في المسيح " مع أن هذا حق، ولكن " فِي الْمَحْبُوبِ " * لقد كان هناك شخص واحد الذي أشبع قلب الله والذي حقق كل رغبة وأشواق قلبه. ذلك هو المسيح – المحبوب الوحيد بكيفية لا يشاركه فيها أي كائن سواه. أن كنا محبوبين فذلك لأننا فيه فقط أي " فِي الْمَحْبُوبِ " حقاً ما اسمى هذه النعمة وما أمجدها! لقد أظهر الله لنا نعمة ومحبة مقياسها المسيح – لقد قال له المجد في صلاته لابيه" وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي" (يو17 : 23).

* هذه هي المرة الوحيدة في كل الترجمة العربية للكتاب المقدس التي فيها يقال عن ربنا يسوع " المحبوب "

إننا بكل جرأة مقدسة وبكل خشوع نقول أن الله لا يستطيع أن يعمل لأجلنا اكثر من ذلك كما أنه لا يمكن أن يعمل أيضاً أقل من ذلك. لقد رفعنا إلى اسمى ما يمكن أن تصل اليه نعمته الغنية ومحبته الفائقة وذلك " فِي الْمَحْبُوبِ " ولأجله. لاسمه المعبود كل المجد. هللويا.

(7و8) " الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ "

وصلنا الآن إلى الجزء الثاني من هذه التسبحة الشجية (1 : 7-12) ولقد راينا في الجزء الأول منها (1 : 3-6) مشورات نعمة الله الاب في الأزل القديم، أما في الجزء الثاني من هذه التسبحة فأننا نرى الوسيلة الإلهية لتحقيق ماقصدته هذه النعمة الغنية بواسطة الابن ربنا يسوع المسيح في الزمان الحاضر " الذي فيه لنا الفداء* بدمه غفران الخطايا " لقد كنا أسرى وعبيدا تعساء للشيطان والخطية ولكننا افتدينا وتحررنا من هذه العبودية المرة والقاسية بالثمن الكريم الذي دفع فينا " بدمه " أن عقوبة الخطية هي الموت (تك2 : 17، رو6 : 23) ولا يمكن انقاذ حياة الإنسان الخاطيء من الموت إلا بواسطة بذل حياة أخرى ليست فيها خطية نيابة عنه، وبما أن نفس (أي حياة) الجسد هي في الدم (لا17 : 11) لذلك أتى ابن الله الرب يسوع المسيح إلى العالم وإذ صار إنسانا بذل نفسه (أي حياته) فدية عن كثيرين (مت20 : 28) وكل الذين يضعون ثقتهم فيه وفي كفاية عمله ينالون اليقين الكامل بنوالهم الفداء أي عتقهم من عبوديتهم وذلك بواسطة الدم الكريم.

 

* يشار إلى الفداء في هذه الرسالة ثلاث مرات (1 : 7و14، 4 : 30) والفداء المشار اليه في (ع7) أعنى غفران خطايانا قد حصلنا عليه فعلا. أما الفداء في المرة الثانية أعنى. فداء المقتنى " فالمقصود به امتلاك ميراثنا في المجد مستقبلا، بينما الفداء في المرة الثالثة المقصود به فداء أجسادنا عند مجىء الرب حيث نكون مثله.

وبالفداء أيضاً سدد الرب يسوع للعدالة الإلهية الدين الذي كان علينا الذي كنا عاجزين عن وفائه (لو7 : 41و42).

إن كنا في المسيح نرى مركزنا ومقامنا وبركاتنا فاننا فيه أيضاً نجد الفداء الذي يؤهلنا نحن الأثمة لهذه البركات. نعم لقد كنا أثمة وفجارا ولم نكن نملك شيئا سوى خطايانا ولكن تبارك اسم إلهنا من أجل الفداء الذي لنا في ربنا يسوع المسيح وجدير بالملاحظة أن الروح القدس لا يشير إلى الفداء وغفران الخطايا إلا بعد أن سما بنا إلى المقام السماوي الذي أو صلنا الله نفسه اليه، وذلك لكي يؤكد لنا أن قصد الله ومشيئته المباركة كانا في فكره منذ الازل وبالتالي قبل خلق الإنسان وقبل أن تسوده الخطية. إنه قصد أزلي لا شأن فيه للإنسان ولا لحالته كخاطيء، ولكنه كخاطيء احتاج إلى الفداء بالدم الكريم لغفران خطاياه.

إنه وإن كان فداء أجسانا وفداء المقتنى أي ميراثنا سنحصل عليهما عند مجيء ربنا يسوع المسيح الثاني، إلا اننا قد حصلنا الآن على فداء كامل لنفوسنا، ولا يستطيع المؤمن أن ينال في المستقبل فداء أو غفرانا لخطاياه اكثر مما ناله الآن، أو بالحري لا يمكن أن يعمل الله لمحوالخطية وابطالها اكثر مما عمل. لقد بذلك ابنه الوحيد الذي سفك دمه الثمين على الصليب. فهل يستطيع الله، له المجد، أن يعمل اكثر من ذلك لمحوالخطية من أمام نظره؟ ياله من حق ثمين يملأ الضمير سلاما وراحة والنفس فرحا وعزاء!

صحيح أننا عرضة للسقوط في الخطية (الامر الذي يجب أن نسهر ضده) ولكن السقوط في الخطية يجب أن يقود المؤمن لا إلى الخوف من الدينونة الأبدية بل لإدانة النفس. ومن الأهمية بمكان أن يراعي المؤمن الفرق بين هذين الامرين : فمن جهة الدينونة الأبدية فإن الخطية بالنسبة للمؤمن، قد دينت في صليب المسيح وبذا تلاشت

إلى الأبد، أما من جهة إدانة النفس فإن أول واجب على المؤمن إذا أخطأ هو التذلل والاعتراف أمام الله. هذا ولا يمكننا أن ندين أنفسنا إدانة صحيحة الا إذا أدركنا أولاً بأن دينونة الله للخطية قد وقعت فعلا، بالنسبة لنا، على المسيح فوق الصليب.

ثم لنلاحظ عظم الثمن الذي دفع لفدائنا " الذي فيه لنا الفداء بدمه " فلم يكن يكفي أي ثمن أقل من ذلك لفدائنا وعتقنا وانقاذنا من اللعنة والدينونة التي كانت تهددنا. أن لعمل المسيح فوق الصليب وللدم الثمين الذي سفك هناك قيمة غير محدودة تكفي لفداء جميع البشر لوأتوا إلى الله محتمين في قيمة وفاعلية ذلك الدم الثمين ويجب أن يكون واضحا وجليا أمام الجميع أن خلاص الخاطىء أساسه موت المسيح وسفك دمه الثمين على الصليب وليس بالتمثل بحياة المسيح والاقتداء به. أن التمثل بحياة المسيح هو من امتياز الذين افتدوا بدم المسيح وحصلوا على غفران خطاياهم.

ومن الاهمية بمكان أن نراعي هذه الحقيقة وهي أن كلمة الله ترينا وجهين للغفران :

(أولاً) الغفران الأبدي وهذا ما يشير اليه الرسول في هذا العدد، فكل مؤمن قد نال الغفران الأبدي في اللحظة التي فيها أتى إلى الله بواسطة الرب يسوع وفي استحقاًقات

عمله الكفاري فوق الصليب " الَّذِي حَمَلَ هو نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ " (1بط2 : 24) فكل خطايا المؤمن من بداية الحياة إلى نهايتها قد حمل المسيح دينونتها على الصليب، والله لا يعود يذكرها فيما بعد. وكيف يمكن أن يذكر الله خطاياي بعد أن حمل دينونتها نيابة عني؟ لقد تلاشت إلى الأبد من أمام نظره.

(ثانيا) غفران الاب لأولاًده. أن الغفران الأبدي مصدره الله ديان الجميع، ولكن من اللحظة التي فيها انتهت مسئوليتي امام الله كخاطىء ابتدأت مسئوليتي كابن أمام الاب، فاذا أخطأت آتي أمامه معترفا بخطيتي لرد شركتي معه كابن له. أن الخطية بالنسبة للمؤمن لا تسلب منه حياته الجديدة لان هذه الحياة " مستترة مع المسيح في الله " ولكنها (أي الخطية) تسلب منه شركته مع الله ابيه – هذه الشركة التي لا يمكن استردادها إلا إذا أتى المؤمن العاثر إلى الله ابيه معترفا بخطيته فينال غفرانا به يسترد شركته مع الاب (1يو1 :6-10، 2 :1و2).

وجدير بالملاحظة أيضاً أن هناك فرقا بين " مَجْدِ نِعْمَتِهِ " (ع6) وبين " غِنَى نِعْمَتِهِ " (ع7) فإن مجد النعمة مرتبط ببركاتنا الروحية واختيارنا الأزلي وبتعييننا للتبني، أعني بكل امتيازاتنا التي لنا في المسيح يسوع ربنا، أما غنى النعمة فمرتبط بما أعده الله لنا كخطاة مساكين – أي الفداء بدم ربنا يسوع المسيح. ولكن الله تبارك اسمه، لم يكتف باظهار موارد النعمة الغنية من نحونا كخطاة تعساء، بل بإظهار مجد نعمته – بإظهار صفاته المجيدة، أعني بإظهار ما هو تعالى من نحونا وليس فقط ما كنا عليه.

لقد أجزل الله لنا نعمته الغنية " بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ " فهو، تبارك اسمه، لم يجزل لنا هبات النعمة الغنية فقط، بل شاء في جوده وصلاحه أن يهبنا الادراك الروحي – الحكمة والفطنة لكى نفهم ونعرف مشورات محبته ونعمته من نحونا في المسيح يسوع، ولكي نتمتع بادراكنا لها. وكلمة الله هي الإعلان الإلهي الكامل لكل مشوراته، وكلما فتشنا في كنوز الكلمة الإلهية ودرسناها بروح الصلاة وبالتأمل العميق، كلما نمونا في النعمة وفي معرفة أفكار الله ومشوراته ولاسيما من نحو ابنه الحبيب، وكأنه يقول لنا انكم تستطيعون الآن أن تدخلوا في دائرة أفكاري وتعرفوا ما هي مشيئتي وارادتي من نحو ابني. لقد تحررتم من الخوف من جهة خطاياكم التـي تلاشت من أمام نظري، وصارت لكم الحرية الكاملة في أن تدركوا مشيئتي لاسمه المعبود كل المجد.

(9) " إذ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مشيئته، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسه "

عجيبة حقاً هي محبة إلهنا وأبينا ونعمته الفائقة، فقد سر بأن يهبنا الحكمة والفطنة لنعرف " سِرِّ مشيئته " هذه المشيئة " التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر... الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ...مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ اذنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إنسان : مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ " (1كو2 : 8-10) كما لم يعلنها لأحد من قديسيه في القديم، لا قبل الناموس ولا في عهد الناموس (اف3 : 5و9).

ان هذه المشيئة المتعلقة بسيادة المسيح وجمع كل شىء ما في السموات وما على الأرض فيه كانت سرا لم يعرفه أحد من قبل.

ومن الاهمية بمكان أن نعرف أن المقصود بكلمة " سر " التي تتكرر كثيراً في أسفار العهد الجديد ولا سيما في هذه الرسالة هو فكر أو مشورة أو قصد إلهي أزلي كان مكتوما وغير معروف ولكنه أظهر وأعلن على صفحات العهد الجديد، وقد أعطى للمؤمنين امتياز معرفة كل سر من هذه الاسرار، لذا ليست فيما بعد أسرارا غامضة أو مكتومة بل هي أسرار معلنة ومعروفة " لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أن تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السماوات وَأَمَّا لِأولئكَ (أي غير المؤمنين) فَلَمْ يُعْطَ " (مت 13 : 11) لقد اعطي لنا أن نعرف هذه الاسرار، ليس لاشباع الذهن بل بالحري للتمتع بها ولبنيان نفوسنا في المسيح ولتقديس حياتنا العملية.

لا ريب انه توجد في أسفار العهد القديم حقائق إلهية مباركة ولكن لا يقال عنها ابدا أنها " أسرار " لان الاسرار لم تعلن وتوضح إلا في كتابات العهد الجديد، كما أنه لا يصح اعتبار أية فريضة من الفرائض المسيحية (مع أهميتها) انها سر، ولا أي من حقائق الإنجيل السامية إلا إذا قيل عنه بصريح العبارة انه سر* لقد عرفنا الله بسر مشيئته وذلك " حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ " فقد كان سروره تعالى في أن يعلن لنا أمجاد ابنه الحبيب الذي تمم إرادته، الذي " وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب "

(10) " لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السماوات وَمَا عَلَى الأرض، فِي ذَاكَ"

لقد سبقت الاشارة إلى أن الروح القدس أعلن لنا في العهد الجديد أسرارا كانت مكتومة وغير معروفة من قبل، ومن بين هذه الأسرار التي سرت مشيئة الله أن يعرفنا إياها هو أنه له المجد سيجمع كل الأشياء السماوية والأرضية في المسيح لتكون

* إتماماً للفائدة نذكر هنا أهم الاسرار التي أعلنت على صفحات العهد الجديد :

(1) سر التقوى (أي سر التجسد) (1تي3 : 16)

(2) سر اتحاد المسيح بالكنيسة (اف5 : 32)

(3) سر الإيمان (1تي3 : 9)

(4) سر اتحاد الأمم واليهود المؤمنين بالمسيح (اف3 : 5و6)

(5) سر الاختطاف (1كو15 : 51)

(6) سر رجوع اليهود للرب (رو11 : 25)

(7) سر الإنجيل (اف6 : 19)

(8) سر ملكوت الله (مر4 : 11 ومت13 : 11، لو8 : 10)

(9) سر السبعة الكواكب والسبع المناير (رؤ1 : 20)

(10) سر الاثم (2تس2 : 7)

(11) سر بابل العظيمة أم الزواني (رؤ17 : 5)

(12) سر جمع كل شىء في المسيح (اف1 : 9و10)

تحت سيادته. هذا هو " سِرِّ مشيئته " (ع9) أن سيادة المسيح وسلطانه غير معترف بهما حاليا في هذا العالم، ولكن عند انتهاء التدبير الحاضر ستستعلن سيادة المسيح للخليقة بأسرها، لأن الله " لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أيضاً، وَأَعْطَاهُ اسماً فَوْقَ كُلِّ اسم لِكَيْ تَجْثُو بِاسم يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأرض وَمَنْ تَحْتَ الأرض، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أن يَسُوعَ الْمَسِيحَ هو رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الاب" (في2 : 9-11).

والمقصود بعبارة " لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ " هوأن الله، بواسطة المسيح سيحقق قصده عندما يضع حدا أو نهاية للأزمنة المرتبطة بسيادة البشر على الأرض في الأدوار والأزمنة المتعاقبة (أزمنة الأمم) وحينئذ يضع صولجان الملك والسيادة في يد المسيح " قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ " (عب1 : 8).

واضح أنه " لما جاء ملء الزمان " أرسل الله ابنه إلى هذا العالم لإتمام عمل الفداء ولكن عند " ملء الأزمنة " سيرسله الله مرة أخرى ليجمع كل شيء فيه، وعندئذٍ ستعترف كل الكائنات أن الرب يسوع هو " ملك الملوك ورب الأرباب "

ان مسرة مشيئته تعالى التي قصدها في نفسه هي استعلان مجد ابنه ربنا يسوع المسيح. ذلك المجد الذي سنشترك معه فيه، فموضوع ذلك السر أي " سر مشيئته " هو المسيح والكنيسة، الأمر الذي تبينه هذه الرسالة بكل وضوح " هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نحو الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " (5 : 32). ليس المقصود هو أن الكنيسة في ذاتها هي سر بل " المسيح والكنيسة " والكنيسة لها هذا الامتياز وهذه الغبطة المباركة لانها مقترنة بالمسيح وانها للمسيح وفي المسيح. يا لها من سعادة تتمتع بها الكنيسة بل وستعم الخليقة بأسرها عندما يتم " تدبير ملء الأزمنة " ! عندئذٍ ستنتـهي أزمنة الحزن والخجل الحادثة الآن.. سينتهي زمان إخضاع الخليقة للبطل وكذا زمان عمى شعب الرب القديم الروحى وزمان سيادة الامم الغاشمة. سينتهي زمان ضعف الكنيسة وانقساماتها، وزمان سطوة الشيطان وخداعه وتعذيبه للبشر هذه الأمور الحادثة الآن ولا سيما للإنسان الذي بسبب الخطية أصبح خاضعا لكل أنواع الآلام والأمراض والموت، وحيث الخليقة كلها ت)ن. هذه كلها وغيرها سيضع الله لها حدا عندما يسود المسيح على الخليقة الذلى. في ذلك الوقت سيقيد الشيطان وسيتحرر الإنسان من عبوديته له ومن ضلالاته. عندئذٍ سيبارك الله شعبه الأرضى تحت سيادة وملك المسيا، كما سيبارك الله كل الشعوب عندما يتقدس في وسطهم، والأرض نفسها سوف لا تكون في حالة الفقر والتعاسة والأنين التي هي عليها الآن لأن اللعنة سترفع وتفرح البرية وتزهر. كل هذه الاشياء سيحققها الله. سيغير كل المشاهد الحاضرة عندما يجعل المسيح كنبع ومركز ومصدر كل بركة.

سيكون المسيح هو الإنسان الأقوى الذي سيربط القوى – نسل المرأة إلى سيسحق رأس الحية. انه رب السماء والأرض. المسيا الذي سيملك على شعبه الأرضى وابن الإنسان الذي سيسود على كل الأمم. وبالاجمال سيكون علاج الله التام لهذا العالم المضطرب هو المسيح عندما يخرج من خبائه لتراه كل عين.

(11و12) " الَّذِي فِيهِ أيضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مشيئته، ِلنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ "

يشير الرسول بولس هنا إلى نفسه وإلى اليهود الذين آمنوا نظيره بالمسيح يسوع، فانهم بسبب إيمانهم بالرب يسوع قد نالوا نصيبا سماويا. لقد سلفت الاشارة (ع 5) إلى أن المؤمنين الحقيقيين سبق الله الاب فعينهم للتبنى – أي صاروا أولاًدا لله، لذا فهم ورثة أيضاً (رو8 : 17). لا ريب أن الذين سيؤمنون بالمسيح من اليهود والأمم، عند جمع كل شىء في المسيح أي عند " تدبير ملء الأزمنة " ، وذلك بعد اختطاف الكنيسة، هؤلاء سيتمتعون ببركات أرضية عظيمة، أما نحن فقد نلنا نصيبا سماويا في المسيح قبل كل ذلك لان بركاتنا ليست أرضية بل " في السماويات " وذلك " حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مشيئته " تبارك اسم إلهنا وأبينا، فقد كان قصده أن أولاًده الذين اقترنوا بابنه الحبيب الوحيد ينالون فيه نصيبا سماويا ومجيدا. تبارك اسمه المعبود لأن هذا " قصده " وهذا " رأي مشيئته "

" لنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ "

سلف القول أن الاشارة هنا هي إلى المؤمنين بالمسيح من اليهود الذين كرز لهم بالإنجيل أولاً – أعنى قبل أن يكرز به بين الأمم، وقد كان الرسول بولس واحدا منهم لذا يقول بأننا قد نلنا نصيبا سماويا " لنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ " أعنى انهم سبقوا بقية اليهود الذين رفضوا المسيح ولم يؤمنوا به في مجيئه الأول. هذا هو المقصود بقوله " سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ " أي أن رجاءنا هو في المسيح إذ آمنا به في زمان رفضه أعنى قبل ظهوره بالمجد عندما تنظره كل عين (رؤ1 : 7) " فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ " (زك12 : 10). عندئذٍ ترجع بقية من تلك الأمة إلى الرب بالتوبة والندامة والإيمان به ربا وملكا.

سيهتفون قائلين " هوذَا هَذَا إلهنا. انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا " (اش25 : 9) أما الذيـن سيكونون " لمدح مجده " فانهم أولئك الذين قد قبلوا المسيح قبل أن يروه في ظهوره، والذين بالتالى سيظهرون معه في مجده " عظيمة حقاً هي غبطة أولئك الذين سيقبلون المسيح عندما يرونه بعيونهم عند ظهوره ولكن اكثر وأعظم غبطة هم الذين لم يروه ولكنهم آمنوا به " (يو20 : 29).

(13) " الَّذِي فِيهِ أيضاً أَنْتُمْ، إذ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إنجيل خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أيضاً إذ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ "

وصلنا الآن إلى الجزء الثالث والأخير من هذه التسبحة الشجية (1-13و14) ففي الجزء الأول منها (1 : 3-6) رأينا قصد الاب ومشورات نعمته الغنية في الأزل القديم، لقد اختارنا منذ الأزل لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه وذلك " لمدح مجد نعمته " كذلك رأينا في الجزء الثانى من هذه التسبحـة (1 : 7-12) ما عمله الابن لفدائنا وغفران خطايانا بواسطة دمه الكريم الذي سفك فوق الصليب وذلك " لمدح مجده " أما في هذا الجزء الثالث من هذه التسبحة فاننا نرى عمل الروح القدس في تجديد الخطاة وسكناه فيهم وذلك أيضاً " لمدح مجده " فالاب قصد في الازل أن يبارك الإنسان والابن أكمل العمل الذي به يتم قصد الاب الازلى، والروح القدس قد أتى إلى العالم ليحقق هذا العمل المبارك في نفوس الخطاة الذين يؤمنون بالمسيح يسوع، هذا العمل الذي يستمر إلى أن يصل المؤمنون إلى المجد، وفي كل ذلك نرى الله المثلث الأقانيم عاملا لأجل فداء الإنسان وبركته.

لقد كان كلام الرسول بولس في العدد السابق (12) خاصا به وبالمؤمنين بالمسيح من اليهود، أما هنا فالكلام موجه إلى المؤمنين الحقيقيين من الأمم " الذي فيه أيضاً (أي في المسيح) أنتم (الأمم) سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم " ولنلاحظ أن فى هذا العدد ثلاث كلمات لها أهميتها وهي " سمعتم " " آمنتم " " ختمتم " فقد سمعوا أولاً ثم آمنوا لأن الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله " (رو10 : 7) لقد سمع أولئك المؤمنين " كلمة الحق " التي هي "إنجيل خلاصهم "

إن أول عمل للروح القدس في نفس الإنسان الخاطىء هو اقتياده لمعرفة حقيقة ذاته – لإدراك أنه ميت بالذنوب والخطايا، وقد جلبت عليه الخطية كل ذل وتعاسة وانه يستحق لأجلها الهلاك الأبدي، وإذ يسمع كلمة الحق أي إنجيل الخلاص ويقبلها ويؤمن بالرب يسوع وبكفاية عمله لأجله فوق الصليب فانه يولد ثانية – يولد من الماء (أي كلمة الله) والروح، والله مصادقة منه على هذا الإيمان يختم هذا المؤمن بروحه القدوس " إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس " انه في اللحظة التي فيها يؤمن الإنسان بالرب يسوع المسيح ويقبله مخلصاً له يختم بالروح القدس.

إن أول شخص ختم بالروح القدس هو الرب يسوع، ولكن ذلك تم بكيفية كان هو فريدا فيها (مت 3 : 17، أع 10 : 38) على أنه لم يختم بالروح القدس بعد إكماله عمل الفداء بل قبل ذلك لما كان سائرا هنا على الأرض " لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الاب قَدْ خَتَمَهُ " (يو6 : 27). لقد ختم ربنا المبارك كابن الإنسان بدون حاجة إلى سفك دم لانه القدوس " الذي لم يعرف خطية " لهذا مسح بالروح القدس بدون حاجة إلى سفك دم أو إلى الفداء، ومع ذلك فقد مات وسفك دمه الكريم لكى يمكن أن نختم بالروح القدس نحن الذين لم يكن لنا أي استحقاًق بحسب الطبيعة – أي أن يسكن فينا نفس الروح القدس الذي سكن في الرب يسوع المسيح أولاً.

ان الله نفسه هو الذي يختم المؤمن بمجرد إيمانه بالرب يسوع وقبوله ربا ومخلصاً " اللهُ الَّذِي خَتَمَنَا أيضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا " (2كو1 : 21و22).

والختم هو برهان أو علامة صحة الإيمان – أعنى انه إيمان حقيقى وليس اسميا أو زائفا " ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ " (2كو3 : 3) فالمؤمنون الحقيقيون هم رسالة المسيح إلى عالم هالك، والرسالة المكتوبة تعبر دائما عن فكر وغاية كاتبها، كذلك أولاًد الله لم تكتب اسماؤهم بحبر أو تنقش في ألواح حجرية بل هم رسالة المسيح الذين كتب الروح القدس على قلوبهم وفي حياتهم كلمة الله الحية. أن العلامة المميزة للمسيحي الحقيقي من المسيحي بالاسم هي ختم الروح القدس.

ثم أن الختم هو أيضاً برهان أو علامة الملكية " وَلَكِنَّ أَسَاسَ اللهِ الرَّاسِخَ قَدْ ثَبَتَ، إذ لَهُ هَذَا الْخَتْمُ. يَعْلَمُ الرَّبُّ الَّذِينَ هُمْ لَهُ " (2تي2 : 19) وقد قال المسيح له المجد " أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي " (يو10 : 14). أن قطعان الغنم أو المواشى تتميز بختم صاحبها (أي بوضع وسم أو تمغة من نار عليها) كذلك لدى الله وسمه الذي به تتميز ملكيته للمؤمنين وانهم له وخاصته، و وسمه هذا هو الروح القدس أن طابع الله هو ختمه أي الروح القدس الذي يعطينا نحن أيضاً اليقين بأننا أولاًده (رو8 : 15و16).

والختم أيضاً هو برهان ضمان الأمن والحفظ إلى النهاية، لان الروح القدس هو "عربون ميراثنا" (ع14) وفي هذا الجواب الإلهي الصريح لن يرتابوا في أمر حفظ المؤمن إلى النهاية وفي عدم إمكانية هلاكه.

ولنلاحظ أيضاً انه يشار إلى الروح القدس كختم للمؤمنين ثلاث مرات في العهد الجديد (أف1 : 13، 4 : 30، 2كو1 : 22).

14) " الَّذِي هو عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ "

أن الروح القدس الذي به ختمنا ليوم الفداء – أي فداء أجسادنا عندما يأتي الرب يسوع المسيح مخلصنا " الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ " (في3 : 21) هو أيضاً عربون ميراثنا المجيد والأبدي، فكما أن الروح القدس هو الختم الذي ختمنا به برهانا على كمال وكفاية عمل المسيح لفدائنا وتطهيرنا من خطايانا وقبولنا أما الله كذلك أيضاً هو (أي الروح القدس) عربون ميراثنا. أن الروح القدس هو ختم نعمة الله الغنية التي نلناها فعلا في المسيح وهو أيضاً عربون الامجاد التي سننالها بعد قليل مع المسيح. هذا هو عمل هذا العربون الإلهي، أي الروح القدس فينا، فانه يعطينا، ونحن هنا فوق الأرض، أن نتمتع بأفراح ميراثنا الأبدي – أن نفرح بأمجاد هذا الميراث قبل الوصول اليه – أن نتذوق غبطة السماء ونحن هنا قبل أن نصل فعلا إلى السماء، أو بالحري يبهجنا ويلذذنا الروح القدس بما لنا في المسيح نفسه قبل أن نصل اليه لنكون معه في المجد. أن هذا الميراث المجيد هو في الواقع ميراث المسيح نفسه الذي له يحق الفداء الذي اكمله فوق الصليب، والذي به (أعنى بالصليب) أشترى كل شىء لنفسه، وقريبا سيجيء الوقت الذي فيه سيضع يده على هذا الميراث بقوته وسلطانه، وعندئذٍ سيشرك معه كل خاصته في مجد ميراثه هذا " وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي " (يو17 : 22).

و واجبنا نحن المؤمنين أن لا نسمح لأي معطل بأن يتسرب إلى حياتنا الروحية لكى يحرمنا الفرح والشبع والتلذذ بميراثنا العتيد أو بالحري بالرب نفسه الذي هو رجاء المجد فينا. أن أقل انحراف أو ميل جسدى من شأنه أن يعطل أفراحنا بميراثنا السماوي وبشركتنا مع الرب سيدنا، لذا فإن حاجتنا القصوى هي في أن نكون باستمرار في روح الصلاة والصحو والسهر حتى نتمتع على قدر ما بما ستكون عليه في المجد عند مجىء ربنا المبارك. ومن ذا يستطيع أن يتصور ويدرك الحالة السعيدة التي سنكون عليها عندما نرى ربنا وحبيبنا وجهاً لوجه، حيث لا يكون هناك أثر للخطية والضعفات والأثقال التي تحيط بنا هنا. أن هذه كلها ستختفى وتتلاشى عند مجىء ربنا يسوع المسيح " لفداء المقتنى " عندئذٍ سيغير أجسادنا المائتة ويلبسنا الأجساد الممجدة " نكون مثله لأننا سنراه كما هو "

وسيتحقق ذلك كله " لمدح مجده " تأمل في هذا! أن كل قديس مفدى، أو بالحري كل خاطىء قد خلصته النعمة الإلهية الغنية سيكون لمدح مجد إلهنا وأبينا ولشبع قلب الرب يسوع طوال الأبدية. أنه لهذه الغاية ترك الرب يسوع المسيح عرش السماء وأتى إلى هذا العالم ومات فوق الصليب محتملا عارنا ودينونتنا – أتى من السماء وفدانا بدمه الكريم وصيرنا خاصة له. والاب أعطانا الروح القدس الذي هو عربون ميراثنا وذلك " لمدح مجده "

ثم لنلاحظ الفرق بين " مجد نعمته " (ع6) و " مدح مجده " فإن مجد نعمته قد ظهر فعلا في الصليب، أما مدح مجده فسيستعلن أمام الخلائق بأسرها عندما يظهر المسيح حياتنا ونحن نظهر معه في المجد (كو3 : 4).

هذا هو الفارق بين مجد نعمته ومجده في العبارتين الكريمتين " لمدح مجد نعمته " و " لمدح مجده " ويجدر بنا أن نلاحظ أيضاً الفارق بين " مجد نعمته " (ع6) و " غنى نعمته " (ع7) فلئن كان مجد نعمته قد ظهر للمؤمنين وللمؤمنين وحدهم في الصليب إلا أن هذا المجد لن يستعلن بصورة كاملة وللخليقة أجمع إلا في المستقبل عندما تأتى بنا النعمة إلى المجد الأبدي رغم كل ضعفاتنا وعدم استحقاًقنا. عندئذٍ سنكون " لمدح مجد نعمته " أما " غنى النعمة " فهوما نتمتع به فعلا وبصورة كاملة في الوقت الحاضر أولاً كخطاة وثانيا كمؤمنين لأن ابن الله أتانا مملوءا نعمة ومن ملئه أخذنا ونعمة فوق نعمة، ونحن في النعمة نقيم ونفتخر على رجاء مجد الله.

(15و16) " لِذَلِكَ أَنَا أيضاً إذ قَدْ سَمِعْتُ بِإيمانكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نحو جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأجلكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي "

الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مملوء بالصلوات العظيمة القيمة والتي قدمها كثيرون من رجال الله القديسين والأفاضل، ومن أهم الصلوات التي سجلها لنا الروح القدس على صفحات الوحى المقدس تلك التي قدمها الرسول بولس وهو أسير ومقيد بالسلاسل – صلوات رفعها إلى الله من أجل المؤمنين أفرادا وكنائس، فإن كانت السلطات الغاشمة استطاعت أن تقيد الرسول العظيم بالسلاسل إلا أن روحه بقيت حرة وطليقة فلم تستطع القيود الحديدية أن تعطل شركته مع ربه وإلهه. وكم لنا من تعاليم روحية وسامية في صلوات أولئك القديسين سيما التي للرسول بولس!

ولم تكن خدمة الرسول بولس قاصرة على الكرازة بالإنجيل والوعظ والتعليم، ولا على تأسيس الكنائس والاهتمام بها في بلاد عديدة، بل كان، قبل كل شىء، رجل الصلاة. لقد كانت الصلاة أول علامة على تجديده " هوذَا يُصَلِّي " (أع9 : 11) كما كانت الصلاة أيضاً جزءا كبيرا من حياته. أليس في هذا درس عملي لنا جميعا؟ ألا يعلمنا رجل الصلاة هذا بحياته كما في كتاباته أن نواظب علىالصلاة لا لأجل أنفسنا فقط بل ولأجل جميع القديسين أفرادا وجماعات وكذلك لأجل " جَمِيعِ النَّاسِ " ؟ (1تى2 : 1و2).

وتتضمن هذه الرسالة صلوتين، الأولى في هذا الفصل (1 : 15-23) والثانية في الاصحاح الثالث (3 : 14-19) وقد سبقت الاشارة عند التأمل في العدد الثالث من هذا الاصحاح إلى أن الله، تبارك اسمه، هو إله ربنا يسوع المسيح انه أيضاً ابوربنـا يسوع المسيح، وهنـا نـرى أن كل صلاة من هاتين الصلوتين مرتبطـة في موضوعها باحدى هاتين العلاقتين، فالصلاة الأولى مقدمة إلى " إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (1 : 17) بينما الصلاة الثانية مقدمة إلى " ابي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (3 : 14) فكلاهما مقدمتان إلى الله الاب بالارتباط والاقتران بالرب يسوع من وجهين، ففى الصلاة الأولى نراه كالإنسان الذي الله إله " إلهي " (مت27 : 46، يو20 : 17) بينما في الصلاة الثانية نراه في علاقته الفريدة – الازلية والأبدية كالابن الوحيد " ابى " (يو30 : 17، 1 : 18).

يقول الرسول للمؤمنين " لذلك أنا أيضاً إذ قد سمعت بإيمانكم بالرب يسوع ومحبتكم نحو جميع القديسين لا أزل شاكرا لأجلكم. " لقد قاده الروح القدس في الأعداد السابقة (ع3-14) إلى توضيح الحقائق الإلهية المتعلقة بمشورات الله، الاب والابن والروح القدس، تلك المشورات الازلية الخاصة بفداء الإنسان وبركته – هذه الحقائق المجيدة هي التي ملأت قلب الرسول – بالشكر لله ولاسيما إذ سمع بإيمان أولئك المؤمنين ومحبتهم نحو جميع القديسين. و واضح أن غرض وموضوع الإيمان والرب يسوع المسيح، وقد سمع الرسول عن إيمانهم بالرب له المجد، فمع أن الإيمان هو عمل سرى يربط القلب بالمسيح إلا أن له صوتا مسموعا. انه كنور الشمس الذي يشرق في كل مكان والتي " وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا " (مز19 : 6). ولقد قيل عن المؤمنين في تسالونيكى بأنهم قد صاروا قدوة للآخرين لأنه في كل مكان قد ذاع إيمانهم بالله (1تس 1 : 7و8).

وكما أن غرض وموضوع الإيمان هو الرب يسوع المسيح كذلك فإن غرض وموضوع المحبة هو " جميع القديسين " فحيثما يوجد إيمان صحيح بالرب يسوع فهناك تكون المحبة الصحيحة لجميع القديسين. أن المحبة للقديسين هي من أعظم البراهين على صحة الإيمان والولادة الجديدة. انها (أي المحبة) هي الثمر الإلهي للإيمان الحقيقى بالمسيح " نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إلى الْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ " (1يو3 : 14).

ومن الأهمية بمكان أن نعى قوله " محبتكم نحو جميع القديسين " ذلك لأننا معرضون لأن تقصر محبتنا على أخوتنا الذين لهم نفس ميولنا وطباعنا وأمزجتنا، أو الذين هم نظيرنا في مراكزنا الثقافية أو الاجتماعية أو حتى المادية أيضاً. أن هذه ليست محبة لجميع القديسين بل هي محبة لذواتنا اكثر مما هي محبة لهم. أن الجسد فينا يميل إلى محبة من لهم مثل مشار بنا وإلى تجنب من يخالفوننا في عوائدنا أو الذين يسببون لنا أتعابا. ليت لنا أحشاء المسيح فنحب جميع القديسين لانه هو يحبهم جميعا.

مع انه واجب علينا كمؤمنين بالرب يسوع أن نحب جميع القديسين إلا انه لا يجوز أن تكون المحبة على حساب حق الله والمسيح، فاذا ما ظهر أي شر في وسط جماعة المؤمنين، سواء أكان تعليميا أم عمليا، فانه من الواجب القضاء على هذا الشر بروح المحبة وليس التساهل فيه بدافع المحبة. فإن المحبة على حساب الحق الإلهي إهانة لاسم الرب ولمجده. أن رسول المحبة يوحنا الذي يحثنا على أن نحب بعضنا بعضا وعلى أن نقبل المؤمنين الأمناء (3يو8) يحثنا أيضاً على أن لا نقبل في البيت من يتعدى ولا يثبت في تعليم المسيح ولا نقول له سلام. لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة (2يو9-11). يجب أن يكون المكان الأول في القلب وبين جماعة المؤمنين للرب ثم لجميع القديسين.

(17) " كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ابو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإعلان فِي مَعْرِفَتِهِ "

سلف القول أن هذه الصلاة موجهه إلى الله " إله ربنا يسوع المسيح " ذلك لأن ابن الله الأزلى صار إنسانا لأجل فدائنا بموته فوق الصليب لذا صار الله إله بينما هو في الوقت ذاته ابن الله الوحيد، والله الاب هو ابوه من الأزل وإلى الأبد (أنظر عب1 : 8و9).

إن إله ربنا يسوع المسيح هو " ابو المجد " أي أنه نبع ومصدر كل مجد، فكل بركاتنا السماوية هي منه ولمجده، وكما أنه هو " ابو المجد " كذلك هو " ابو الأنوار " (يع1 : 17) و " ابو الأرواح " (عب12 : 9) و " ابو الرأفة " (2كو1 : 3) وهوأيضاً " إله كل تعزية " (2كو1 :3) و " إله السلام " (في4 : 9، عب13 : 20، رو15 : 33و16 : 20) و " إله كل نعمة " (1بط5 : 10) و " إله الرجاء " (رو15 : 13) و " إله الصبر والتعزية " (رو15 : 5) وكما أن إله ربنا يسوع المسيح هو " ابو المجد " كذلك الرب يسوع هو " إله المجد " (أع7 : 2) و " رب المجد " (يع2 : 1) وهو أيضاً " رب السلام " (2تس3 : 16) و " رب الأرباب " (رؤ19 : 16).

ما أسعدنا حقاً بإلهنا وأبينا وبربنا وسيدنا المبارك يسوع المسيح الذي لنا فيه كل هذه الصفات المجيدة التي لغبطتنا وسعادتنا. لاسمه المعبود المبارك كل مجد واكرام إلى اباد الدهور كلها. آمين.

بواسطة الذهن المستنير بروح الله. لقد عمل المسيح له المجد هذين الأمرين لتلاميذه بعد قيامته من الأموات، فانه " فَتَحَ ذِهْنَهُمْ " (لو24 : 45) كما أنه فتح كلمة الله أمامهم " إذ كَانَ... وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ " (لو24 : 32) فبروح " الإعلان " يفتح أمامنا حق الله، وبروح " الحكمة " يفتح اذهاننا لندرك ونتقبل ذلك الحق الإلهي.

إنه، تبارك اسمه، يعطينا " روح الحكمة والإعلان " ليكون لنا إدراك أعمق أو بالحري للنمو ونتقدم باستمرار في معرفة الله الاب والرب يسوع المسيح، وهذا هو المقصود بقوله هنا " في معرفته " (أوفي كمال معرفته) ومهما نمونا في الحياة والاختبارات الروحية فاننا نحتاج إلى المزيد من روح الحكمة والإعلان في معرفته تعالى وفي معرفة ربنا يسوع المسيح وغناه الذي لا يستقصى (يو16 : 14).

(18) " مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ اذهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هو رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هو غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ "

يستمر الرسول في صلاته لأجل المؤمنين فيقول " مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ اذهَانِكُمْ " (أوقلبكم)* فكما أننا بالقلب آمنا بالمسيح " لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ " (رو10 : 10) كذلك بالقلب نستطيع أن نتمتع بالحقائق والبركات الإلهية التي لنا في المسيح يسوع ربنا، أما بالذهن وحده فلا نستطيع أن نتمتع أختباريا بما ذخره الله لنا في المسيح من غنى وأمجاد لا يستطيع الإنسان الطبيعى مهما سما ذكاؤه الذهنى أن يدركها أو يستسيغها.

يطلب الرسول بولس لأجل المؤمنين بأن تستنير عيون اذهانهم (أو قلبهم) وذلك لكى يعرفوا ثلاثة أشياء جوهرية :

* جاءت كلمة " اذهانكم " The Eyes of your heart في بعض الترجمات بمعنى " قلبكم ".

(أولاً) " لِتَعْلَمُوا مَا هو رَجَاءُ دَعْوَتِهِ " أن الله، تبارك اسمه، دعانا " دَعْوَةً مُقَدَّسَةً " (2تى1 : 9) وبنعمته صيرنا شركاء " الدَّعْوَةِ السماويةِ " (عب3 : 1) هذه هي " دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ " (فى 3 : 14). يا لغنى نعمة الله! فانه لم يختر لهذه الدعوة المجيدة كل الحكماء والأقوياء والشرفاء بل " وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ " (1كو1 : 26-31).

(ثانيا) لتعلموا " وَمَا هو غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ " لقد تأملنا قبلا في " غِنَى نِعْمَتِهِ " (ع7) أما هنا فإن أمامنا " غِنَى مَجْدِه " فنحن نتمتع الآن بغنى نعمته، ولكننا بعد قليل سنحظى بغنى مجده عند امتلاكنا ذلك الميراث المجيد وتمتعنا به تمتعا ابديا.

ان موضوع هذا الجزء من صلاة الرسول هو " الميراث " لقد تمنى الرسول أن أولئك القديسين يعرفون غنى مجد ذلك الميراث وأن يزدادوا في هذه المعرفة، ومن الأهمية بمكان أن نعرف غرض الرسول في قوله " غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ " فإن هناك فكرة عند كثيرين من المؤمنين وهي أن القديسين هم ذلك الميراث الغنى والمجيد* ولكن ليس هذا هو غرض الرسول أو بالحري الروح القدس، بل المقصود هو أنه عندما يخضع الله كل الاشياء التي في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض لسيادة المسيح وسلطانه، أو بالحري عندما يستولى على ميراثه المجيد سيستولى عليه في قديسيه. لقد كانت أرض كنعان قديما ميراث الله ولما أخذها لم ينـزل من السماء ليأخذها بقوته الإلهية بل امتلكها بواسطة شعبه القديم. كذلك بعد قليل سيأخذ الله ميراثه عندما يأتي المسيح – سيأخذه في قديسيه الذين سيملكون معه. من يستطيع أن يدرك سمو وعظمة نصيبنا في ذلك المجد؟ كم سيكون نصيبا في ذلك الميراث غنيا ومجيدا! عندما يرجع الرب ليأخذ ملكه المجيد، سنشاركه نحن في ملكه السعيد – سنرى محياه البهي – سنراه كما هو وسنجلس معه في عرشه. هذا هو غنى مجد ميراث الله الذي يريدنا أن نعرفه.

إننا لا نقرأ في العهد الجديد أن القديسين هم ميراث الله بل بالحري هم ورثة " وَرَثَةُ اللهِ و وارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ " (رو8 : 17) أن الله يريد في صلاحه وجـوده أن الخليقـة

 

(8) أن بعض المفسرين يعتقدون بأن ميراث الله الغنى والمجيد هو القديسون، وان كان الله كالخالق يملك كل ما في السموات والأرض والكائنات بأسرها، ولكن غناء المجيد ليس في هذه الكائنات مع عظمتها، ولكن في القديسين الذين اشتراهم بأغلى ثمن أي بدم ابنه الحبيب، لذا هم ميراث الله المجيد الذين سيكونون لمسرته ولذاته في بيته إلى ابد الأبدين.

بأسرها تتمتع بالغبطة والسعادة تحت سيادة المسيح، أما نحن فقد صار لنا النصيب الاسمى في غنى مجد ميراثه. لاسمه المعبود كل سجود وعبادة واكرام.

(19و20) " وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الفائقة نحونا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إذ أَقَامَهُ مِنَ الأموات، وَأجلسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السماويات "

(ثالثاً) هذا هو الجزء الثالث من صلاة الرسول بولس لأجل المؤمنين، فقد طلب لأجلهم بأن يعلموا " وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الفائقة نحونا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ " - تلك القدرة التي تجلت في إقامة المسيح من الأموات. صحيح أن قدرة الله ظهرت في عظمتها في الخليقة، كما ظهر أيضاً جلال قدرته عندما شق البحر الأحمر وأخرج شعبه القديم من أرض مصر بيد قوية وذراع رفيعة، ولكن الروح القدس لا يلفت أنظارنا هنا إلى شىء من ذلك، بل إلى عظمة القدرة الفائقة التي تجلت في إقامة المسيح من الأموات – إلى قيامته فقط، وليس إلى تجسده ولا حتى إلى صلبه مع انه لا غنى لنا عنهما إذ ما كان ممكنا أن يهبنا الله غفرانا لخطايانا وحياة ابدية ولا أن يباركنا بكل بركة روحية في السماويات لولا تجسد ربنا يسوع وصلبه، ولكن قوة الله العظمى قد ظهرت في إقامة المسيح من الأموات. أن ربنا يسوع " قَدْ صُلِبَ مِنْ ضُعْفٍ " (2كو13 : 4) فقد كان فوق الصليب واقعا تحت دينونة الله كما كان موضوع إهانة وازدراء البشر، ولكن القيامة أنهت كل ذلك إلى الأبد. لقد انتصرت القيامة على كل الضعف الذي ظهر في الصليب، فهو كالإنسان الكامل قد حمل خطايانا في جسده على خشبة الصليب كما انه هناك مجد الله تماماً، لذا مجده الله أيضاً إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات.

إن عظمة قدرته الفائقة هي " نحونا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ " تلك القدرة التي ظهرت في عتقنا من العبودية للشيطان والتي صيرتنا قديسين وبلا لوم قدامه هي هي بعينها القدرة التي أقامت المسيح من الأموات وأجلسته عن يمينه في السماويات. وهل يخطر ببال أحد أن قدرة الله التي ظهرت في الخليقة هي لحساب المؤمن؟ ألا يبدو فكر كهذا أنه أمر لا يمكن للعقل البشرى أن يصدقه؟ ولكن الواقع والصحيح هو أن لنا قوة تفوق تلك التي ظهرت في الخليقة. أعنى أن لنا نفس القوة التي ظهرت في إقامة المسيح من الأموات " حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إذ أَقَامَهُ مِنَ الأموات، وَأجلسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السماويات " ان هذا ما تبينه وتؤكده لنا جليا كلمة الله، وان كان هذا حقاً آمنا به وقبلناه فلماذا نحن اذن ضعفاء؟ لماذا نشكو ا من الهزال الروحى؟ السبب هو لأن إدراكنا لهذا الحق إدراك سطحى وليس له عمق في حياتنا، أي لأننا لم نعرف كما يجب أن عظمة قدرة الله الفائقة هي لحسابنا. أن كثيرين من أولاًد الله لم يسمعوا أو يتعلموا شيئا عن هذه القدرة الفائقة، وحتى الذين عرفوا هذا الحق وتعلموه فانهم ليسوا جميعا متمتعين به عمليا واختباريا. أن معرفة هذه الحقيقة تعليميا شىء واختبارها عمليا شىء آخر، فالله يريدنا أن نختبر هذه القدرة العظيمة والفائقة دائماً، وان نتزود بها، ليس في أو قات الشدائد والصعوبات فقط بل في كل ناحية من نواحى حياتنا اليومية والعادية.

والذي يملأ قلوبنا سلاما وراحة هو أن عظمة قدرته الفائقة هي " نحونا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ " إذ ما كان ممكنا لأحد من القديسين أن يعرف ذلك إلا بعد إقامة المسيح من

الأموات، أي أن تلك القدرة هي نحونا نحن مؤمنوا العهد الجديد – نحن الذين آمنا بعد موت وقيامة الرب يسوع.

إن مقياس القوة التي لحسابك أيها المؤمن هو ذات القوة التي عملت في المسيح إذ أقامته من القبر وأجلسته عن يمين ابيه في السماويات، وإن عدم إدراك ذلك هو علة ما يشكو منه كثيرون من المؤمنين، ولا سيما في هذه الأيام الأخيرة، من ضعف وجدوبة روحية، ولكن العلاج الإلهي الوحيد لهذه الحالة هو في المسيح يسوع ربنا، فمتى ارتبطت قلوبنا به وشخصت عيون إيماننا اليه فاننا نختبر علميا " قوة قيامته " – نختبر في كل ناحية من نواحى حياتنا نفس القوة التي أقامته من الأموات مادمنا سالكين في شركة حية ودائمة معه. لقد نـزل الرب يسوع إلى أقسام الأرض السفلى – إلى القبر، وكأن الشيطان وأجناده انتصروا وفرحوا عندما رأوه تحت سلطان الموت ولكن الله أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات، وهو هناك كالإنسان الممجد باسمى وأرفع مجد، إلا أن الامر الوحيد الذي ينبر عليه الرسول هنا هو أن القدرة التي عملت كل ذلك للرب يسوع لا زالت هي نفس القوة التي تعمل فينا نحن المؤمنين طالما لا نعطل أو نعيق عمله فينا بسبب انحرافنا أو ميلنا إلى الأمور العالمية. ليتنا نكون ساهرين لهذا بعينه فلا نعود نشكو مرة أخرى من أنه ليست لنا القدرة على الانتصار على أية تجربة أو أية خطية تعترض سبيلنا.

(21) " فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسم يُسَمَّى لَيْسَ فِي هَذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أيضاً "

عجيبة حقاً وعظيمة هي قدرة الله الفائقة فإن ذاك الذي مات فوق الصليب و وورى في القبر قد أقامه الله من الأموات أن الذي نـزل أولاً إلى أقسام الأرض السفلى هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات، فما اكبر الفرق بين القبر الذي وضع فيه الرب يسوع وبين المجد الذي رفعه الله اليه أنه الآن هناك كإنسان – الإنسان الممجد والذي صار أعلى من كل الخلائق بل هو أعلى من اسمى الخلائق التي لم تتدنس كالإنسان بالخطية. أهم ملائكة أو رؤساء ملائكة؟ لقد أجلسه الله عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً. وفي يوم قريب سيستعلن ذلك عندما يأتي " وَمَتَى جَاءَ ابن الإنسان فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْملائكة الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ " (مت25 : 31).

لقد وضع المسيح نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ولكن الله رفعه " وَأَعْطَاهُ اسماً فَوْقَ كُلِّ اسم لِكَيْ تَجْثُوبِاسم يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأرض وَمَنْ تَحْتَ الأرض، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أن يَسُوعَ الْمَسِيحَ هو رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الاب " (في2 : 8-11). نعم لقد رفعه الله إذ أجلسه عن يمينه في السماويات، وذلك كإنسان أو بالحري كالإنسان الفريد، لأن سموه ورفعته فوق جميع الكائنات العلوية كالله ليس شيئا جديدا إذ هو كذلك منذ الأزل، ولكنه بناسوته سما بالإنسانية فوق هؤلاء جميعا. انه، تبارك اسمه، قد قام من بين الأموات كإنسان – الإنسان الممجد ولا يزال عن يمين الاب كالإنسان الذي هو " فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل* اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً "

(22و23) " وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِ "

تأمل مليا في هذه الإعلانات الإلهية المباركة، فإن ربنا يسوع المسيح، الذي

· ان اسم " يسوع " هو الاسم الذي أعطى له كإنسان (مت1 : 21) ولكن معناه " يهوه مخلص "

أجلسه الله عن يمينه في السماويات فوق كل الخلائق التي ترى والتي لا ترى، قد

اخضع (الله) كل شىء تحت قدميه، وليس ذلك فقط بل جعله رأسا فوق كل شىء للكنيسة. وجدير بالملاحظة انه لا يقول هنا انه جعله " رأسا فوق الكنيسة " بل " رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ " أي أن الإنسان الكامل ربنا يسوع المسيح، المقام من بين الأموات والممجد والذي أعطاه الله سلطانا ومركزا فوق كل شىء، جعله رأسا للكنيسة، فالكنيسة ستشاركه في سيادته ومركزه فوق كل شىء، ولكنها ستشاركه في ذلك كجسده المتحد والمقترن به بدون انفصال عنه. أن الله قد أخضع كل شىء – كل الخلائق المنظورة وغير المنظورة تحت قدميه. أخضع هذه كلها تحت قدميه باستثناء شىء واحد وهو " الكنيسة " فإن مركزها ليس تحت قدميه لأنها هي جسده. نعم انه نصيب صالح بل هو شرف عظيم أننا نأخذ مركزنا عند قدميه – أن نجلس عند قدمى سيدنا المعبود نسمع كلامه ونتعلم منه (لو10 : 39-42) ولكن مركزنا كمقترنين به ليس تحت قدميه " لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ " (أف5 : 30).

ان ربنا يسوع الإنسان الكامل له المركز الاسمى فوق كل خليقة الله، وهو، تبارك اسمه سيشركنا معه في ذلك المركز، وسيستعلن ذلك أمام الخلائق بأسرها أن المسيحي الحقيقي هو عضو في جسد المسيح. هو عضو في ذلك الجسد الآن وليس فيما بعد فقط، وهذا يرينا سمو الدعوة التي دعينا اليها وكيف أن الله ينتظر منا انفصالا عن هذا العالم الشرير وعن كل ما في العالم. نحن خاصة المسيح وأعضاء جسده لذا يريدنا أن نسمو بقلوبنا وعواطفنا فوق مشهد هذا العالم الحاضر الموضوع في الشرير.

إن الكنيسة هي ملء المسيح أو بعبارة أو ضح هي الأعضاء المكملة للمسيح كالإنسان المقام من بين الأموات. انه كابن الله هو ، بلا شك، ليس محتاجا إلى شىء، ولكنه كإنسان وكرأس الجسد الممجد هو في حاجة إلى بقية الأعضاء، أعنى الكنيسة، لتكمل هذا الجسد. فقد كان قصد الله الأزلى، أن ربنا يسوع يشرك معه في مجده، كالإنسان المقام من بين الأموات والممجد، أولئك الذين كانوا خطاة تعساء ولكنهم أنقذوا من تعاستهم وصاروا واحدا مع المسيح، ولذلك لحمده ومدح مجده طوال الأبدية.

تفكر في هذا فقد كنا خطاة هالكين ولا نستحق شيئا سوى دينونة الله الرهيبة، ولكنه، تبارك اسمه، قد خلصنا بنعمته الغنية، وليس ذلك فقط بل صيرنا أعضاء جسد المسيح، هذا الجسد المكمل له كإنسان بينما في الوقت ذاته هو الله "الذي يملأ الكل في الكل" *.

حقاً ما اسمى ما أو صلتنا اليه النعمة الغنية وبالتبعية ما أخطر مسئوليتنا في أن نظهر المسيح في حياتنا في هذا العالم! – أن نعلن محبته ونعمته وقداسته وكراهته للخطية، كما نعلن أيضاً شفقته على الخطاة في أهتمامنا باقتيادهم اليه وإلى غنى نعمته. لقد تركنا في هذا العالم لنظهره ولنظهر محبته للعالم الذي رفضه وصلبه. ليتنا ننهض لندرك كما ينبغى عظم مسئوليتنا مدة وجودنا في هذا العالم إلى أن يجيء.

* أن ربنا يسوع باعتباره الله الخالق لكل الكائنات " يملأ الكل " " فانه فيه خلق الكل.. الذي هو قبل كل شىء وفيه يقوم الكل " (كو1 : 16و17) كما انه يرى " في الكل " بأعتباره الضابط أو الحافظ لكل الخليقة والمهيمن عليها " وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ " (عب1 : 3). وجاء في إحدى الترجمات العربية " وملء الذي يملأ الجميع في كل شىء "

  • عدد الزيارات: 4453