الأصحاح الرابع
الاصحاح الرابع هو بداءة القسم الثاني والأخير من هذه الرسالة، أي القسم العملي فإن الثلاثة الاصحاحات الأولى هي القسم التعليمي الذي يدور حول قصد الله الأزلى ومشوراته من نحو الكنيسة ومقامها المجيد الذي صار لها لاتحادها واقترانها برأسها المبارك ربنا يسوع المسيح. فالله الاب هو الذي قصد منذ الأزل بان يأتي بالخطاة المساكين الذين يؤمنون بابنه الوحيد ليكونوا أولادا له، هؤلاء الذين منهم تتكون الكنيسة التي هي " جسد المسيح " ، والمسيح " الابن الوحيد " هو الذي اشترى الكنيسة بدمه الكريم إذ أسلم نفسه لأجلها، والروح القدس أتى من السماء ليقود النفوس إلى المخلص الوحيد وليتحد كل مؤمن حقيقى بالمسيح الرأس وبذا يتم قصد الله الأزلى.
سلفت الاشارة إلى أن الاصحاحات الثلاثة الأولى من هذه الرسالة هي القسم التعليمي أما الاصحاحات الثلاثة الأخيرة فإن الرسول يحدثنا فيها بالتفصيل عن الواجبات المسيحية، لأن التعليم الصحيح يجب أن يقود إلى السلوك الصحيح، ذلك لان الحياة العملية النقية هي ثمرة التعاليم النقية. فادراك سمو الدعوة أولاً ثم السلوك كما يحق لهذه الدعوة. هذا هو الترتيب الإلهي الذي نراه دائماً في رسائل الرسول بولس، وهذا هو أسلوبه الخاص فيها، فهو دائماً يقدم التعليم قبل العيشة العملية. الدعوة أولاً ثم السلوك. المقام قبل المسئولية، أو الامتيازات قبل الالتزامات، فالمؤمن الذي يتيقن من دعوته العليا يمكنه أن يدرك أيضاً واجبه من نحو العيشة في القداسة. أن آمنت بالمسيحية التعليمية فلا بد لك من أن تحيا في المسيحية العملية. وكما يرانا الله كمن أجلسنا في السماويات في المسيح، هكذا يجب أن يرانا الناس فوق الأرض في الحالة التي تتناسب مع هذا المقام.
ويقدم لنا الروح القدس في هذا القسم الأخير من الرسالة حقيقتين جوهريتين هما : السلوك المسيحي (ص4 : 1، 6 : 9) والجهاد المسيحي (ص6 : 10-20).
(1) " فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أن تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا "
واضح من قوله " فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ " ان هناك ارتباطا وثيقا بين الحق التعليمي في الاصحاحات السابقة وبين الحق العملي في الاصحاحات الثلاثة الأخيرة، إذ حيثما يوجد إيمان حقيقى فلابد أن يثمر بالأعمال الصالحة.
وهذه هي المرة الثانية التي فيها يشير الرسول إلى نفسه بأنه " الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ " (أنظر ص3 : 1) فبالرغم من أن الحكومة الرومانية هي التي أسرته وقيدته وأخيرا قدمته للموت كما قدمت ربه وسيده قبلا للموت " موت الصليب " ، بالرغم من ذلك فإن الرسول يحسبه شرفا يردد ذكره أن يكون " أسير يسوع المسيح " أو " سَفِيرٌ (له) فِي سَلاَسِلَ " (ص6 : 20).
وما أرق الاسلوب الذي به يخاطب الرسول بولس أولاًده في الإيمان في أفسس فهولا يخاطبهم بلغة أو لهجة الآمر ولكن بأسلوب لطيف " فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ "
" أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا " ما اسمى هـذه الدعـوة!! فإنها " دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ " (في3 : 14) – " دَعْوَةً مُقَدَّسَةً " (2تى1 : 9). انها " الدَّعْوَةِ السماويةِ " التي صرنا شركاءها (عب3 : 1) لقد دعانا الله بنعمته " إلى
شَرِكَةِ ابنهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا " (1كو1 : 9) وفيه قد باركنا بـكل بـركة روحية فـي
السماويات، فقد وهبنا حياة ابدية، واتحدنا بابنه الحبيب رأس الجسد المقــام من الأموات والممجد عن يمين الله في السماويات، كما أننا صرنا مبنيين معا مسكنا لله في الروح – صرنا هيكلا مقدسا في الرب. ففي نور هذه الحقائق الثمينة يجب أن نسلك كما يحق لهذه الامتيازات المباركة، وكما يحق للدعوة التي دعينا بها.
(2) " بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، و ودَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّةِ "
كان في ذهن الرسول أن يكتب للمؤمنين عن أهمية " حفظ وحدانية الروح برباط السلام " لذا نراه هنا يمهد لذلك بالحث على السلوك بالتواضع والوداعة...الخ
" بِكُلِّ تَوَاضُعٍ " أي التواضع في كل ناحية من نواحى الحياة. هذا ويجب أن نسهر على حالة قلوبنا التي كثيراً ما تخدعنا فنحرص على ألا يكون لنا مظهر التواضع الظاهرى، بل بالحري التواضع القلبى. أن سيد المعلمين يدعونا أن نتعلـم منه لأنه " متواضع القلب "
على أن هناك فرقا كبيرا بين تواضع الرب وبين تواضعنا نحن. فهو، له المجد، المعادل لله ابيه " أنا والاب واحد " ولكنه أخلى نفسه...وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، فهو العظيم الذي لا حد لعظمته ولجلاله ولكنه تنازل حتى وصل إلى أرضنا الملطخة بالخطية لا بل قد نـزل إلى أقسام الأرض السفلى. أما تواضعنا نحن فليس كذلك، فإن معناه أن نعرف حقيقة ذواتنا – أن نعرف أننا تراب ورماد. وادراكنا لهذه الحقيقة يصوننا من الكبرياء والانتفاخ. ليحفظنا الرب في حالة الاتضاع الصحيح لأن " الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعون فيعطيهم نعمة "
لقد افاض الرسول في شرح وإيضاح سمو مقامنا وكيف أن الله الغنى في الرحمة والمحبة والنعمة قد " أجلسنا معا في السماويات في المسيح يسوع " ولكنه (أي الرسول) يحثنا على السلوك " بِكُلِّ تَوَاضُعٍ " فلا ننتفخ ونتعظم بسبب سمو مقامنا بل بالحري نظهر جمال هذا المقام بسلوكنا بالتواضع. هذه هي الخطوة الأولى في سبيل الوحدة.
" و ودَاعَةٍ " حقاً ما أجمل هذه الصفة! وما أجمل أن نتحلى بها! انها صفة من صفات المسيح الجميلة التي يشير اليها الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس (ص10 : 1) " أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ الْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ " والرب نفسه يدعونا قائلا " تَعَالَوْا إِلَيَّ...وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ " (مت11 : 28و29).
الوداعة هي أن نقابل الإساءة بكل هدوء كما كان سيدنا هنا على الأرض " الذي إذ شتم لم يشتم عوضا " فيجب أن نتمثل به في وداعته وفي كل صفاته " مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَابتٌ فِيهِ، يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ(أي المسيح) هَكَذَا يَسْلُكُ هو أيضاً " (1يو2 : 6) هذه خطوة أخرى في سبيل الوحدة.
" وَبِطُولِ أَنَاةٍ " يتكرر هذا الحث في بعض رسائل الرسول بولس الأخرى، وطول الاناة معناه أن لا نكون سريعى الغضب والتهيج عندما يعتدى علينا أو يساء الينا، ولا سيما إذا كانت الإساءة الينا افتراء ولا نصيب لها من الصحة.
ما أجمل هذه السجية " طُولِ الأَنَاةٍ " فإنها تكسب النفس سلاما وهناء. ليتنا نصلى بلجاجة حتى يعطينا الرب سعة صدر ورحبة قلب كما أعطى سليمان قديما (1مل4 : 29). هذه أيضاً خطوة أخرى مباركة في سبيل الوحدة.
" مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّة " تجىء هذه العبارة مرة أخرى في (كو3 : 13) وهذا الحث يتضمن في معناه أن كلا منا معرض للخطأ في حق أخيه، ولكن متى توفرت المحبة في قلوبنا فاننا نستطيع بنعمة الله أن نحتمل أخطاء الآخرين الينا كمـا
أننا نريد أنهم يحتملون أخطاءنا في المحبة.
صحيح أنه من واجبنا أن نكون ساهرين فلا نخطىء إلى غيرنا، ولكن بما أننا نحن أنفسنا معرضون للخطأ في حق أخوتنا لذا يجب علينا أن نحتمل أخطاءهم الينا والرسول بطرس يحرض المؤمنين على التعقل والصحو للصلوات، وهذا تحريض له أهميته ومع ذلك فانه يقول " وَلَكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا " (1بط4 : 7و8). أن كل هذه التحريضات التي يقدمها لنا الروح القدس هي التي تساعدنا على حفظ وحدانية الروح برباط السلام.
(3) " مُجْتَهِدِينَ أن تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ "
لعله يكون واضحا وجليا لدى القارئ العزيز أن الرسول لا يطلب منا هنا أن نحفظ وحداينة " الجسد " ، لأن هذا ليس من اختصاص البشر بل هو عمل " إلهي " قد قام الله به بواسطة الروح القدس الذي حضر من السماء في يوم الخمسين ليضم إلى الكنيسة كل الذين يؤمنون إيماناً قلبيا صحيحا بالرب يسوع المسيح جاعلا منهم جسدا واحدا للمسيح " لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أيضاً اعْتَمَدْنَا إلى جَسَدٍ وَاحِدٍ " (1كو12 : 13) فانه بالرغم من الانقسامات العديدة التي حدثت، مع الاسف الشديد، في المسيحية فإن جميع المسيحيين الحقيقيين في كل الطوائف والجماعات المسيحية في كل العالم هم جسد المسيح الواحد. أما ما يحثنا الرسـول عليه هنـا فهو الاجتهاد في حفـظ " وحدانية الروح " – أعنى بذل كل الجهد في حفظ هذه الوحدانية – أي أن أعتبر أن كل مسيحي حقيقى في أية جماعة من الجماعات المسيحية هو أخى وأنه عضو مثلى في جسد المسيح وأن من واجبى أن أحبه وأتعامل معه على هذا الأساس.
ثم لنلاحظ أيضاً أن الرسول لا يطلب منا أن نجتهد في بناء أو تكوين هذه الوحدة بل في حفظها، لأن الروح القدس قد كون فعلا هذه الوحدانية، و واجبنا هو أن نجتهد في حفظها وذلك بواسطة اظهار المحبة القلبية – المحبة التي بلا رياء لجميع المؤمنين الحقيقيين بدون استثناء أو بالحري في اظهار جمال وبهاء هذه الوحدانية في تعاملنا مع كل أولاًد الله.
" بِرِبَاطِ السَّلاَمِ " ليس المقصود بالسلام هنا سلام الله لنفوسنا – السلام الذي يحفظ قلوبنا وافكارنا في المسيح يسوع، بل السلام الذي يربط قلوبنا بكل أولاًد الله الأعزاء. قد يكون عند البعض من هؤلاء المؤمنين عدم إدراك كامل لكل الحقائق الإلهية، ونفعل حسنا إذا كنا بكل تواضع و وداعة نساعدهم في فهم وادراك المبادىء الإلهية الصحيحة ولكن الشىء الأهم الذي ينبر عليه الرسول هنا هو الاجتهاد في حفظ وحدانية الروح برباط السلام.
على أنه، من الناحية الأخرى، يجب مراعاة هذه الحقيقة الهامة وهي أن حفظ وحدانية الروح برباط السلام ليس معناه قبول أي إنسان في الشركة مع جماعة المؤمنين كيفما كانت عيشته العملية أو مبادئه التعليمية، انه من الخطورة بمكان أن نفعل ذلك بدافع المحبة أو لحفظ وحدانية الروح برباط السلام، فإن المحبة لا تكون محبة مسيحية صادقة إذا أظهرت على حساب حق الله والمسيح. هل من الإخلاص للرب يسوع والمحبة له ولحقه الثمين أن نسمح لإنسان غير سالك بالأمانة وفي القداسة العملية بالوجود في شركة مع المؤمنين؟ أو أن نسمح بذلك لشخص يقول أنه مسيحي حقيقى ولكنه ملوث بتعاليم فاسدة تهين مجد المسيح ربنا وسيدنا؟
أيا قديسى الله. لنصح ولننتبه جيدا إلى أننا نعيش في الأيام الأخيرة – أيام لارتداد التي فيها " سر الإثم " يعمل بقوة استعدادا للارتداد الكامل وقبول " الأثيم – ضد المسيح " أن المبادىء العصرية التي تنكر وحى الكتب المقدسة كلها أو بعض أجزاء منها، أو التي تنكر لاهوت ربنا يسوع المسيح، أولاً تؤمن بأن موته فوق الصليب كان موتا كفاريا، أو غير ذلك من المبادىء الكفرية – هذه كلها قد تغلغلت في وسط المسيحية الاسمية، فجدير بكل محبى المسيح أن يتجنبوا أمثال هؤلاء العصريين الذين يدعون أنهم مسيحيون. أن يوحنا رسول المحبة يحذرنا من قبـول أمثال هؤلاء المضلين ومن التعامل معهم بأية صورة من الصور " كُلُّ مَنْ تَعَدَّى وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَلَيْسَ لَهُ اللهُ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَهَذَا لَهُ الاب وَالابن جَمِيعاً. أن كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ وَلاَ يَجِيءُ بِهَذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أعمالهِ الشِّرِّيرَةِ " (2يو1-11).
إن الرب يسوع المسيح قد بنى كنيسته على الاعتراف الصحيح الذي أعلنه الاب لبطرس فقال " أَنْتَ هو الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ الْحَيِّ " (مت16 : 16و17) فمن لا يعترف بأن الرب يسوع المسيح هو ابن الله الحي ولا يؤمن به وبقيمة عمله الفدائى فهو ليس من كنيسة المسيح أي ليس مسيحيا بالحق حتى ولو كان عمودا أو معلما في أكبر أو أعظم الطوائف المسيحية، فلا يليق ابدا أن تكون لمجبى الرب يسوع – أفرادا أو جماعات أية شركة، من أي نوع كان مع أمثال هؤلاء، بينما يجب علينا في الوقت نفسه أن نحفظ وحدانية الروح مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد – أن نحبهم بالحق وأن نقبلهم في المحبة. ليعطنا الرب أن نحفظ بنعمته من الرخاوة والتساهل مع الشر فلا تكون لنا شركة مع من يسيئون إلى اسم ربنا المبارك سواء في سلوكهم العملي أو بمبادئهم العصرية الآثمة. وليعطنا من الناحية الأخرى أن نحفظ أيضاً من الروح الضيقة – الروح الطائفية، فنحب جميع أولاًد الله حتى القاصرين منهم في إدراك كل امتيازاتهم التي صارت لهم في المسيح يسوع " وَمَنْ هو ضَعِيفٌ فِي الإيمان فَاقْبَلُوهُ... فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أن نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأجل الْبُنْيَانِ....لِذَلِكَ اقْبَلُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أن الْمَسِيحَ أيضاً قَبِلَنَا لِمَجْدِ اللهِ " (رو14 : 1، 15 : 1-7).
(4) " جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أيضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ "
يرسم الرسول أمامنا في هذا العدد وفي العددين التاليين له (4-6) سبع صفات للوحدة، ففي هذا العدد (الرابع) ثلاث صفات تعتبر بمثابة الجزء الأول من هذه الوحدة، وفي العدد الخامس الجزء الثاني المكون أيضاً من ثلاث صفات أخرى لهذه الوحدة وفي العدد السادس الجزء الثالث، المكون من الصفة السابعة.
" جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أيضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ " هذه هي الدائرة الأولى والتي لا يمكن أن يدخل فيها إلا كل مؤمن حقيقى – كل من ولد ثانية وختم بروح الموعد القدوس.
والمقصود بالجسد الواحد جميع الذين اغتسلوا بدم المسيح الكريم وصاروا خاصته واتحدوا به كأعضاء في جسده " فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ هَكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ : جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ " (رو12 : 4و5).
" وَرُوحٌ وَاحِدٌ " أي الروح القدس الذي به اعتمدنا فصرنا أعضاء في جسد المسيح " لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أيضاً اعْتَمَدْنَا إلى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً " (1كو12 : 13).
" كَمَا دُعِيتُمْ أيضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ " فإن كل المؤمنين الحقيقيين لهم هذا الرجاء الواحد – رجاء مجىء ربنا يسوع المسيح حيث نكون مثله لأننا سنراه كما هو . لقد اشار الرسول في الاصحاح الأول من هذه الرسالة (ع18) إلى رجاء دعوتنا هذه بالقول " رجاء دعوته " أي أن الله هو الداعى، كما انه " رجاء دعوتنا " لأننا نحن الذين دعينا.
(5) " رَبٌّ وَاحِدٌ، إيمان وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ "
يتضمن هذا العدد الجزء الثاني أو الدائرة الثانية لهذه الوحدة. وهي دائرة أو سع نوعا من الدائرة الأولى. فهي لا تتضمن بالضرورة كل المؤمنين الحقيقيين فقط، ولكنها قد تتضمن أيضاً المعترفين بإيمانهم بالمسيح دون أن يكونوا متجددين حقيقة أو مولودين ولادة ثانية.
" رَبٌّ وَاحِدٌ " أي الرب يسوع المسيح ابن الله الازلى الوحيد، والمؤمن الحقيقى يجد شبعا لنفسه إذ يعترف به ربا وسيدا ويسلك في الطاعة القلبية له ولإرادته الصالحة، انه، تبارك اسمه، هو مخلصنا ولكن أكثر من ذلك هو ربنا وسيدنا، وإدراكنا لربوبيته وسيادته علينا وعلى جميع خاصته هو من أقوى العوامل على حفظ وحدانية الروح برباط السلام. غير أن الإقرار به ربا قد يشمل أيضاً المعترفين به دون أن يكونوا مولودين الولادة الثانية، وقد أشار الرب إلى ذلك في قوله " لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي : يا رَبُّ يا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السماوات. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ ابي الَّذِي فِي السماوات. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ : يا رَبُّ يا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسمكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسمكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسمكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئذ أُصَرِّحُ لَهُمْ : إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذهَبُوا عَنِّي يا فَاعِلِي الإِثْمِ! " (مت7 : 21-23). أن اليوم سيبين حقيقة كل المعترفين بربوبية المسيح. حقاً ما أخطر هذا وما أروعه بالنسبة لكل معترف بالمسيح ولكنه ليس مسيحيا بالحق!
وسيجيء الوقت الذي فيه يعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الاب.
" إيمان وَاحِدٌ " إن الوسيلة الوحيدة لدخول الإنسان في دائرة النعمة والحياة الأبدية هي الإيمان القلبى بالرب يسوع المسيح. لقد كنا أمواتا روحيا ولكننا إذ آمنا بالرب يسوع انتقلنا من الموت إلى الحياة – أي نلنا حياة ابدية، غير أن القول " إيمان واحد " إنما يشير إلى الإيمان المسيحي العام أو المشترك أعنى إقرار جميع المعترفين بالمسيح بالإيمان به، وذلك للتمييز بينه وبين الإيمان اليهودى وإيمان الأمم الوثنين.
" مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ " لا جدال في أنه ليس المقصود بالمعمودية هنا معمودية الروح القدس فإن هذه أشير اليها في العدد السابق بقوله " روح واحد " أي الروح القدس، ولكن المقصود بالمعمودية هنا هو المعمودية بالماء باسم الاب والابن والروح القدس، وتسمى بالمعمودية هنا هو المعمودية بالماء باسم الاب والابن والروح القدس، وتسمى بالمعمودية المسيحية أو باسم الرب يسوع تمييزا لها عن معمودية يوحنا المعمدان وعن المعموديات (الغسلات) اليهودية (قارن أع2 : 38، 10 : 48 مع مت3 : 6 وعب6 : 2).
على أن المقصود بالمعمودية لا إزالة وسخ الجسد بل " سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (1بط3 : 21) وفي (أع8 : 13) نقرأ أن فيلبس قد عمد سيمون الساحر عندما اعترف بإيمانه بالمسيح ولكن تبين على الفور أنه لم يكن مسيحيا بالمرة، ولذلك فإن فيلبس لما قال له الخصى الحبشى بعد ذلك " هوذَا مَاءٌ. ماذا يَمْنَعُ أن أَعْتَمِدَ؟ " فَقَالَ فِيلُبُّسُ : «إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ " (أع8 : 36و37).
(6) " إِلَهٌ وَاب وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ "
هذه هي الدائرة الثالثة في هذه الوحدة وهي دائرة أو سع كثيراً من سابقتها، فانه وإن كان من امتياز المؤمنين الحقيقيين أن يعرفوا الله كالاله والاب الواحد لهم وأن يجدوا سلامهم وشبع قلوبهم في هذه المعرفة، إلا أننا من الناحية الأخرى نرى الله هنا كصاحب السيادة والسلطان على كل البشر لأنهم خليقته. انه في الواقع إله الجميع " الرَّبُّ إِلهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ البَشَرِ " (عدد27 : 16) فهوإله الذين يعرفونه ويؤمنون به وإله الذين لا يعرفونه بل يعبدون الإلهة والأوثان العديدة " نَعْلَمُ أن لَيْسَ وَثَنٌ فِي الْعَالَمِ وَأَنْ لَيْسَ إِلَهٌ آخَرُ إِلاَّ وَاحِداً. لأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى آلِهَةً..لَكِنْ لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ : الاب الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ : يَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ " (1كو8 : 4-6).
إننا نؤمن " بإله واحد " وليس بآلهة عديدة كالأمم الوثنيين، كما نؤمن " باب واحد للكل " هذه الحقيقة لم يدركها اليهود في عهد الناموس فأنهم كانوا يظنون أن الله لهم وحدهم دون بقية البشر كما أنهم لم يعرفوه كالاب بالكيفية المباركة التي يعرفه به مسيحيوالعهد الجديد " إذ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أيضاً لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ : «يا ابا الاب! اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أيضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أولاًد اللهِ " (رو8 : 15و16).
ان الله والاب الواحد هو " للكل " فانه يعتنى بالكل أعنى بجميع خلائقه حتى ولوكانوا ينكرونه " فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأبرار وَالظَّالِمِينَ " (مت5 : 45) وهوالذي " يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْء ٍ... لأَنَّنَا أيضاً ذُرِّيَّتُهُ(1) " (اع17 : 24-28).
وكما أنه للكل فانه أيضاً " على الكل " أي صاحب السلطان والسيادة على كل خليقته.
(1) ليس المقصود بالقول " اننا أيضاً ذريته " ان جميع البشر هم أولاًد الله المولودون منه ولادة جديدة بل باعتبار انهم خليقته وصنعة يديه الذين يعتنى ويهتم بهم.
" وَفِي كُلِّكُمْ " هذا هو امتياز المؤمنين الحقيقيين، فانه وان كان الله هو الإله والاب الواحد للكل وعلى الكل، الا انه في كل المؤمنين أولاًده، إذ لا يقول الرسول هنا " في الكل " بل في كلكم " وفي هذا نرى التمييز الواضح والفرق الكبير بين معاملة الله للعالم بجملته وبين معاملته لأولاًده المولودين منه " الولادة الثانية " " فِي كُلِّكُمْ " فهو ليس معنا فقط بل هو أيضاً فينا. ما أمجد هذا!
بتأملنا في هذه الوحدة السباعية نرى الله المثلث الأقانيم عاملا لأجلنا وفينا لحفظ وحدانية الروح برباط السلام، ففي (ع4) الروح القدس " رُوحٌ وَاحِدٌ " وفي (ع5) الرب يسوع " رَبٌّ وَاحِدٌ " وفي (ع6) الله الاب " اب وَاحِدٌ " لاسمه المعبود كل المجد والاكرام.
(7) " وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ "
يوجه الروح القدس التفاتنا في هذا العدد وفي الأعداد التالية له (7-13) إلى موضوع المواهب الروحية التي أعطاها المسيح الممجد والمرتفع إلى السماء لكنيسته لبنيانها ونموها، غير أن هذا الموضوع يجيء بعد الكلام بالتفصيل عن أهمية حفظ وحداينة الروح برباط السلام، إذ ما قيمة ممارسة المواهب مع ما لها من أهمية عظمي إذا لم يراع حفظ الوحدانية برباط السلام؟ ما قيمة الخدمة مهما كانت سامية إذا لم تتوفر المحبة بين أعضاء الجسد الواحد؟ (اقرأ 1كو13).
والرسول هنا يتكلم أولاً عن المواهب المعطاة لكل واحد من المؤمنين " لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا " بينما توجد في الوقت نفسه مواهب خاصة سيجيء الكلام عنها في الأعداد التالية. أن كل عضو في أجسادنا الطبيعية له عمله – الأعضاء الداخلية الغير المنظورة والأعضاء الخارجية المنظورة – كل منها له عمله و وظيفته التي يقوم بها لفائدة بقية أعضاء الجسد، كذلك كل عضوفي جسد المسيح له عمله أي موهبته التي يجب أن يخدم بها بقية الأعضاء " فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ هَكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ : جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ. وَلَكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا " (رو12 : 4-6).
وهذه المواهب كلها من مجرد النعمة " لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ (أو نعمة) حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ " فالمسيح الرأس قد أعطى بحسب نعمته ومسرته الصالحة لكل واحد من أعضاء جسده عملا أو هبة. وقوله " حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ " معناه أن الرب يسوع قد أعطى لكل واحد من المؤمنين موهبته بحسب القياس أو القدر الذي أراده له " وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ الأَعْضَاءَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ كَمَا أَرَادَ " (1كو12 : 18).
إن المسيح الرأس هو مصدر كل المواهب التي أغدقها على كنيسته، وجدير بالملاحظة أن الوحى في هذه الرسالة يتحدث عن الرب يسوع الذي صعد إلى العلاء كمصدر للمواهب بينما في رسالة كورنثوس الأولى لا يشير إلى الرب يسوع كمانح المواهب الروحية بالقدر الذي يشير به الروح القدس كالمعطي لتلك المواهب (1كو12 : 7-12)، ذلك لأن الكنيسة منظور اليها في رسالة كورنثوس باعتبار أنها لازالت في هذ1 العالم وبما أن الروح القدس الاقنوم الإلهي قد حضر إلى العالم ولا يزال موجودا فيه لذا يشار اليه كالمعطي للمواهب الروحية، بينما في رسالة أفسس ترى الكنيسة أنها أجلست في السماويات لذا يشار إلى المسيح الممجد والجالس الآن في السماويات كالمانح لهذه المواهب الروحية.
(8) " لِذَلِكَ يَقُولُ : «اذ صَعِدَ إلى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا» "
اقتبس الرسول بولس هذه الكلمات من مزمور 68 : 18 حيث يقول " صَعِدْتَ إلى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيا. قَبِلْتَ عَطَايا بَيْنَ النَّاسِ(1) وأيضاً المتمردين للسكن أيها الرب الإله " ويبدوأن داود قصد في كتابة هذا المزمور الإشارة إلى حادثة تاريخية في أيام ملكه على إسرائيل، أعنى إلى احدى انتصاراته على أعدائه واقتياد جزء منهم إلى السبى، كما يبدوأيضاً أنه عند انتصـار الملك داود على أولئك الاعـداء وزعـت " عطايا " سواء من الملك إلى رعيته وهوالأرجح، أو من الرعية إلى الملك اعترافا بفضل انتصاره، انما الذي يهمنا نحن أن نراعيه هو أن الرسول بولس رأي في كلمات داود هذه ربنا يسوع كمن ترمز اليه هذه الأقوال – رأي في نصرة ملك العهد القديم (داود) صورة لنصرة ربنا المبارك على الموت وعلى من له سلطان الموت أي ابليس (عب2 : 14) وانه من وقت رجوعه المظفر إلى بيت ابيه لا يزال يوزع عطايا وهبات على رعيته. أن هذا ما أدركه أيضاً الرسول بطرس عندما قال في يوم الخمسين عن الرب يسوع " وإذ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الاب سَكَبَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ " (اع2 : 33) فقد كان حضور الروح القدس هو العطية الأولى التي وهبها الرب لكنيسته بعد ارتفاعه إلى السماء.
(1) " أو قبلت عطايا لأجل الناس وأيضاً للمتمردين "
Thou hast received gifts for men : yea, for the rebellious also.
(9و10) " وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هو إِلاَّ إِنَّهُ نـزلَ أيضاً أولاً إلى أَقْسَامِ الأرض السُّفْلَى. اَلَّذِي نـزلَ هو الَّذِي صَعِدَ أيضاً فَوْقَ جَمِيعِ السماوات، لِكَيْ يَمْلَأَ الْكُلَّ "
الانتصارات التي أعطاها الرب لداود ولغيره من ابطال العهد القديم كانت انتصارات عظيمة وعجيبة حقاً، ولكن أعظم وأعجب وأشرف نصرة هي نصرة المسيح له المجد، فانه بعد أن انتصر على الخطية وغلب الموت وهزم الشيطان قام بمجد إلهي وصعد إلى السماء بجلال فائق ومن هناك وزع الغنائم والبركات على أولئك الذين كانوا أسرى مسبيين في قبضة العدو، فهو(أي المسيح) الاقوى الذي غلب القوى وخلص الاسرى إذ حطم الأغلال والقيود التي كبلهم بها ذلك العدو. مبارك وممجد اسم ربنا المعبود إلى الأبد.
تأمل في هذا! أن الذي صعد فوق جميع السموات هو الذي نـزل أولاً إلى أقسام الأرض السفلى، فاذا ما تأملت في اتضاعه فانك لن تصل إلى أعمال تنازله أن ذاك المعادل لله أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس. وإذ وجد في إلهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لقد مات رئيس الحياة موت العار والهوان والازدراء. لقد حمل دينونتنا – حمل خطايانا في جسده على الخشبة. نعم انه نـزل إلى أقسام الأرض السفلى – أي أنه دفن في القبر وهناك دفنت خطايانا إلى الأبد. يا له من تنازل!
كما أنك إذا رفعت بصرك إلى السماء فانك لن تصل إلى ادراك سمو الرفعة التي رفعه الله اليها – الرفعة التي وصل اليها المسيح كإنسان، فانه هو الإنسان الوحيد المقام من الأموات والممجد والمرتفع إلى السماء بل فوق جميع السماوات " لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسما فوق كل اسم " وانى إذ أراه بالإيمان هناك اتيقن بأنى صرت مقبولا فيه أمام الله بل مقبولا كقبوله هو أمام ابيه. لقد صعد فوق جميع السمـوات " لِكَيْ يَمْلَأَ الْكُلَّ " وهل هناك ملء أعظم من صيرورتنا مقبولين فيه قبولا كاملا وابديا؟ وأن الله يرانا فيه "قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" ؟ نعم هل هناك ملء أكثر من أن الله يحبنا الآن كمحبته لابنه الحبيب (يو17 : 23)؟ لقد أسلم الرب يسوع لأجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا، و وجوده هناك فوق جميع السموات هو أعظم برهان على تبريرنا وقبولنا أمام الله. هل أدركنا هذه الحقيقة المباركة أن الذي صعد فوق جميع السموات هو إنسان مثلنا تماماً بلا خطية؟ وأنه ممجد على عرش الله، وأنه بالرغم من وجوده في السماء فأنه كإنسان يرثى لنا في آلامنا وتجاربنا وأحزاننا؟ " فَاذ لَنَا رئيس كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السماوات، يَسُوعُ ابن اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رئيس كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أن يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إلى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ " (عب4 : 14-16) نعم لنأت اليه في كل ظروف الحياة ولنخبره بكل شىء فإن قلبه الرقيق مملوء بالحنان والعطف علينا ويده ممدودة بالعون في حينه.
(11) " وَهو أَعْطَى الْبَعْضَ أن يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ "
المسيح له المجد هو الرأس الممجد والمرتفع إلى السماء، وهو وحده صاحب السلطان في أن يعطى هذه المواهب المتنوعة لمن يشاء.
إن الموهبتين الأولى والثانية " الرسل والأنبياء " هما الموهبتان الاساسيتان أو بالحري الموهبتان اللتان استخدمهما الرب لتأسيس الكنيسة. ومن الخطأ البين أن يظن أحد بأنه يوجد رسل في الكنيسة الآن بخلاف الرسل الذين أقامهم الرب في البداءة أو يوجد خلفاء للرسل باقون للآن ولهم سلطان الرسل أنفسهم.
لقد أختار الرب يسوع في أيام جسده على الأرض اثنى عشر تليمذا الذين سماهم رسلا (لو6 : 13) ولكن خدمتهم وقتئذ لم تكن لتأسيس الكنيسة بل كانت قاصرة على خراف بيت إسرائيل الضالة (مت10 : 5و6) أما بعد أن أكمل الرب عمل بالفداء وقام من بين الأموات بمجد الاب فقد أعطى هؤلاء الرسل أنفسهم خدمة جديدة – أعطاهم هذه الموهبة الفريدة أي أن " يَكُونُوا رُسُلاً " للكرازة بالإنجيل للخليقة كلها. على أن ارساليتهم الجديدة كانت متوقفة على صعود الرب إلى السماء وارسال الروح القدس ليحل عليهم ويزودهم بالقوة في إتمام خدمتهم الجديدة هذه، وهي خدمة تأسيسية " مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزاوية " (اف2 : 20)
" وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ " أقام الله في البداءة أشخاصا لم يكونوا رسلا ولكنهم كانوا أو اني للوحى مثل مرقس ولوقا وغيرهما، هؤلاء كانوا أنبياء. وليس ذلك فقط بل كان هناك أنبياء آخرون ولكنهم لم يكونوا أو انى للوحى نظير أغابوس (أع21 : 10و11) وغيره. ذلك لأن أسفار الوحى لم تكن كلها قد كتبت وقت تاسيس الكنيسة لذا أقام الله الأنبياء الذين كان يعطيهم إعلانات أي نبوات شفوية ينطقون بها عند الحاجة لمعرفة فكر الله في أي أمر من الأمور. هذا هو المقصود بقوله للمؤمنين في كورنثوس بأنه إذا كان أحد المؤمنين يتكلم في الاجتماع لبنيان المؤمنين اخوته وحدث أن " أُعْلِنَ لِآخَرَ جَالِسٍ فَلْيَسْكُتِ الأول " (1كو14 : 30) ذلك لأن الإعلان هنا هو عبارة عن وحى شفوى لإرشاد الكنيسة في أي أمر عن الأمور أو مبدأ من المبادىء الإلهية. أما وقد كملت أسفار الوحى (التي تبدأ بسفر التكوين وتنتهي بسفر الرؤيا) فلم تعد هناك حاجة إلى إعلانات جديدة، وإن كل ادعاء بوجود ما يسمى إعلانات في الوقت الحاضر لهو انكار لكمال الوحى الإلهي الذي فيه كل الكفاية لإرشاد المؤمنين أفرادا وجماعات في كل شىء، كما أن هذا الادعاء يعطى الشيطان الكذاب وابو الكذاب فرصة لخداع النفوس وتضليلها.
مما لا ريب فيه أن الله أقام من حين إلى آخر رجالا موهوبين كان لهم في خدمتهم ما يشبه إلى حد ما خدمة الأنبياء إذ استخدمهم في إظهار بعض الحقائق الإلهية المعلنة في كلمة الله والتي أخفاها العدو عن الناس ربما لأجيال عديدة. مثال ذلك، الحق البسيط الخاص بالتبرير بالإيمان بدون أعمال. هذا الحق قد طمس العدوعيون المسيحيين عن إدراكه أجيالا طوالا إلى أن أقام الله لوثر الذي استخدمه في إنارة الملايين من الناس في إدراك هذا الحق الإلهي الثمين ان " البار بالإيمان يحيا " كذلك الحق المبارك الخاص بمجىء الرب الثانى كرجاء الكنيسة، هذا الحق الذي غاب واختفى من أمام الكنيسة أجيالا عديدة، ولكن الله أقام من وقت ليس ببعيد رجالا موهوبين لم يكونوا أنبياء بالمعنى المقصود في هذا العدد ولكن كان لهم في خدمتهم ما يشبه خدمة الانبياء إذ استخدمهم الرب في إحياء هذا الحق الثمين فأشرق نوره البهيج على الكثيرين من أولاًد الله فملأ قلوبهم بفرح مجيد، كما أنه قادهم إلى الانفصال العملي عن كل ما ليس من الله. وأين تجد في كتابات المفسرين في عصور المسيحية الوسطى المظلمة الحق الخاص بدعوة الكنيسة وصيرورتها جسد المسيح ومقامها السماوي؟ وأين تجد شرحا مفصلا وكاملا لرجاء الكنيسة – أعنى مجىء الرب لاختطاف المؤمنين ليكونوا معه ويشاركوه في مجده؟ هذه وحقائق أخري غيرها غابت وأصبحت مجهولة حتى من المؤمنين الحقيقيين أجيالا عديدة إلى أن أقام الرب رجالا مكرسين استخدمهم في شرح وتوضيح هذه الحقائق الثمينة.
على أن هناك نوعا آخر من الانبياء بخلاف الانبياء الذين استخدمهم الرب هم والرسل في تأسيس الكنيسة. هذا النوع الآخر من الأنبياء هم الذين يكلمون جماعة المؤمنين " بِبُنْيَانٍ و وعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ " (1كو14 : 3) هؤلاء موجودون في الكنيسة في كل مدة وجودها على الأرض وإلى أن يأتي الرب.
" وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ " ما اسمى هذه العطية! فإن خدمة المبشر المجيدة هي أن يحمل أخبار النعمة الغنية المفرحة إلى عالم اثيم وهالك، فخدمته ليست دائرتها الكنيسة حيث الخدمة فيها للراعى والمعلم، ولكن دائرتها " العالم أجمع " ، ومع ذلك فإن خدمة المبشر هي أعظم بركة للكنيسة فانه يأتي بالنفوس البعيدة ويقودها إلى المسيح وبالتالى إلى جماعة المؤمنين. ومما هو جدير بالملاحظة أن الكنيسة التي لا تعتم بالكرازة بالإنجيل هي كنيسة ضعيفة ومنحطة روحيا ولا يمكن أن تنمو أو يتزايد عدد تلاميذ الرب فيها، أو كما قال أحدهم " ان الكنيسة المحلية التي تتوقف عن خدمة البشارة تعد كفنها بيدها " وهذا ما آلت اليها فعلا بعض الاجتماعات المحلية.
ثم أن هذه الموهبة ليست قاصرة على طائفة معينة من المؤمنين ولكن الرب الذي صعد إلى السماء يعطى البعض من المؤمنين بين كل الجماعات المسيحية ان يكونـوا " مُبَشِّرِينَ "
يظن بعض المسيحيين أن خدمة المبشر هي أقل أهمية أو أدنى مرتبة من خدمة الراعى أو المعلم ولكن هذا الظن لا أساس له من الصحة، فقد كان الرسول بولس مبشرا وكذا تيموثاوس وفوق الكل الرب يسوع الذي كان يذهب إلى القرى والمدن كارزا ومبشرا بملكوت الله.
ان المبشر هو شخص قد ملأ الرب قلبه بالمحبة للنفوس البعيدة وألهب عواطفه بالغيرة المقدسة والاهتمام بالاتيان بالنفوس إلى المخلص الكريم. ليت الرب يملأ قلوب الكثيرين من خاصته بالمحبة للنفوس البعيدة ويزودهم بالقوة الروحية لتقديم بشارة الإنجيل المباركة للنفوس " الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده.
" وَالْبَعْضَ رُعَاةً " ان كان عمل المبشر هو الكرازة بالإنجيل للنفوس المسكينة فإن الراعى الحقيقى يتميز بأن قلبه مملوء بالعطف والاهتمام بسلامة قطيع المسيح. أن كان المبشر يجد النفوس كخراف ضالة وتائهة في برية هذا العالم ويأتي بها إلى مكان الأمن والسلام – إلى حيث قطيع المسيح فإن الراعى يغذيها من مراعى كلمة الله. إنه يهتم بكل واحد منها فيعمل على تقوية الضعيف وتعزية الحزين وتشجيع المجرب وإقامة الساقط والعاثر. يهتم بكل واحد من قطيع المسيح ولوكان في حالة المرض أو على فراش الموت.
عندما التقى الرب يسوع راعى الخراف العظيم المقام من بين الأموات ببطرس ومعه بعض التلاميذ عند بحر طبرية وسأله ثلاث مرات قائلا " أتحبنى؟ " كان جوابه " نَعَمْ يا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ : «ارْعَ خِرَافِي " قَالَ لَهُ أيضاً ثَانِيَةً : «يا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ : «نَعَمْ يا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ : «ارْعَ غَنَمِي " (يو21 : 15-17) فلم يكن بطرس رسولا فحسب بل كان راعيا أيضاً. ما اسمى هذه الخدمة! انها موهبة لا تنال بالعلم في الجامعات أو الكليات اللاهوتية ولكن الرب نفسه هو الذي يعطى الراعى قلبا مملوء بالمحبة الشديدة لخرافه.
" وَمُعَلِّمِينَ " وهنا يجب أن نراعى أن هناك فرقا بين الراعى والمعلم، فالراعى شخص قد ميزه الرب بأن اعطاه فطنة روحية في رعاية قطيعه والاهتمام بكل واحد منهم في ظروفه المتنوعة، بينما المعلم هو شخص أعطاه الرب معرفة واسعة في كلمته وقدرة على شرحها للمؤمنين. اننا نقرأ في رسالة كورنثوس الأولى (12 : 8) " فانه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد " فيمكننا القول بأن الراعى تتميز خدمته بكلام " حكمة " – حكمة في رعاية خاصة المسيح ومعالجة متاعبهم أو بالحري كل ظروفهم، بينما تتميز خدمة المعلـم بكلام " علم " فهو يستطيع أن يشرح ويفصل كلمة الحق بالاستقامة حتى يستوعبها المؤمنون ويستفيدوا منها.
وقد يعطي الرب شخصا واحدا أن يكون راعيا ومعلما في وقت واحد.
هذه هي المواهب الدائمة واللازمة لكنيسة الله كل مدة وجودها على الأرض، وذلك بخلاف بعض المواهب الأخرى المعجزية المذكورة في رسالة كورنثوس الأولى (ص12و14) والتي كانت لازمة لتثبيت الكرازة عند تأسيس الكنيسة " وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابعَةِ " (مر16 : 20قارن أيضاً عب2 : 3و4).
(12) " لأجل تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ "
يبين الرسول هنا غاية الرب العظمى من إعطاء المواهب الروحية، فإن قصده من خدمة الرسل والانبياء والمبشرين والرعاة والمعلمين هو " لأجل تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ " أي نموهم ونضوجهم الروحى. هذه هي إرادة الرب من نحو قديسيه، فهو يريدهم أن يكونوا كاملين في المعرفة وفي الحياة العملية. أن كان الرسل والانبياء المؤسسون ليسوا موجودين الآن بالجسد بين المؤمنين على الأرض فإن لدينا كتاباتهم – الأناجيل وسفر الأعمال والرسائل وسفر الرؤيا وفيها كل الكفاية لكنيسة المسيح إلى نهاية وجودها في هذا العالم، كما أعطى البعض أن يكونوا مبشرين للاتيان بنفوس المعينين للحياة الأبدية إلى المسيح، وكذلك أعطى البعض أن يكونوا رعاة ومعلمين لفائدة شعبه. وغاية الرب في ذلك كله هي " لأجل تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ " وذلك بواسطة الخدمة التي أعطاها الرب لخدامه للقيام بها " لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ " – هذا العمل الذي يستخدمه الرب " لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ "
ان الرب يسوع المسيح رأس الجسد الذي أحب الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها هو الذي يغذى ويقوت أعضاء جسده وذلك بواسطة المواهب الروحية التي أغدقها على كنيسته لبنيان جسده.
(13) " إلى أن نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إلى وَحْدَانِيَّةِ الإيمان وَمَعْرِفَةِ ابن اللهِ. إلى إنسان كَامِلٍ. إلى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ "
المسيح يسوع ربنا وحده ولا سواه هو موضوع كلمات الرسول هذه، فإن قصد الله في إعطاء المواهب الروحية هو بنيان المؤمنين ونموهم روحيا حتى يكون لهم هدف واحد 0وهوالمسيح نفسه. انه جميل حقاً أن نعرف حقيقة الفداء الذي صار لنا بموت ربنا يسوع، ولكن ارادة الله الاسمى هي أن ننمو ونتعمق أكثر في معرفة ابن الله نفسه. أن الإيمان بعمله الكفاري فوق الصليب لازم ولا غنى للنفس عنه، ولكن اسمى ما يستطيع أن يصل اليه الإيمان هو الرب يسوع ابن الله المبارك نفسه، فانه من اسمى امتيازاتنا أن ننتهي جميعا إلى وحدانية الإيمان – أي الإيمان الواحد المسلم مرة إلى القديسين – أن نتعمق في الإيمان بكل ما للمسيح من أمجاد فائقة ومقام فريد، وننمو في معرفة ابن الله.
" إلى إنسان كَامِلٍ. إلى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " والكمال هنا بمعناه الحقيقى هو أن نعرف الرب يسوع معرفة اختبارية، وأن يكون هو هدفنا الوحيد. أن يكون هو كل شىء في حياتنا وأن يكون موضوع تعلق وفرح وتعبد قلوبنا.
صحيح أننا سنصل إلى هذه الحالة السامية والمجيدة بصورة كاملة في المجد عندما يأتي الرب يسوع ويأخذنا لنكون مثله ونراه كما هو ، ولكن قصد الروح القدس هنا هو حالة النمو الروحى التي يجب أن نكون عليها ونحن هنا على الأرض قبل أن نصل إلى المجد. وهذا يؤيده قول الرسول في العدد التالى " كى لا نكون فيما بعد أطفالا..الخ "
(14و15) " كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إلى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إلى ذَاكَ الَّذِي هو الرَّأْسُ : الْمَسِيحُ "
جدير بنا أن نلاحظ هنا المباينة الواضحة بين " إنسان كَامِلٍ " في العدد السابق وبين " أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ " فإن غاية الله من اعطاء المواهب الروحية هي نمو المؤمنين في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح. انه لا يريد أن يكون المؤمنون به كالأطفال الصغار الذين لا استقرار لهم ولا ثبات " وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إلى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ "
إن قرعتنا وقعت في هذه الأيام الأخيرة " الأزمنة الصعبة " التي كثر فيها المعلمون الكذبة الذين يستعملون كل حيلة لاقتناص المؤمنين الذين لا يزالون في حالة الطفولة الروحية. فليحذر كل مؤمن وليسهر لئلا ينخدع بأراء هؤلاء المعلمين أمثال شهود يهوه أو المعلمين العصريين وغيرهم.
ان أهم وسيلة لوقاية المؤمنين من " حِيلَةِ النَّاسِ " ومكرهم ومكايدهم التي تقود إلى " الضلال " هي درس كلمة الله بروح الصلاة إذ هي " اللبن العقلى العديم الغش "
" بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ " أي متكلمين بالحق أو متمسكين بالحق في المحبة(1).
ان المقصود بهذه العبارة هي ألا نكون أطفالا بل بالحري نامين في ادراك الحق الإلهي والتكلم به بروح المحبة. انه لأمر له أهميته أن نكون أمناء في تمسكنا بالحق الإلهي والمجاهرة به بشجاعة وبكل أمانة، ولكنه أيضاً أمر جوهرى أن نفعل ذلك بروح المحبة، فلا نكون متشامخين ولا معجبين بأنفسنا ظانين اننا أفضل ممن لم يدركوا بعد كل الحق الذي قبلناه من الله إذ ليس لنا فضل في ذلك " لانه من يميزك. وأي شىء لك لم تأخذ (من الله) وان كنت قد أخذت (من الله) فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟ " (أي كما لو كان ما عندك هو منك ولم تأخذه من الله) " وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإيمان حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شيئا " (1كو13 : 2). اننا نرى هذين الأمرين " الحق والمحبة " ظاهرين
(1) " But speaking the truth in love " or " Being truthful in love " or " Holding the truth in love "
في كمالهما في ربنا يسوع المسيح، فقد كان تبارك اسمه هو " النور الحقيقى " (يو8) الذي أعلن الحق كاملا بل كان هو " الحق " بعينه (يو14) كما كان هو المحبة المتجسدة " لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أن يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأجل أَحِبَّائه " (يو15 : 13) بل ولأجل أعدائه أيضاً!
فبينما يجب علينا أن نتمسك بالحق المعلن في كلمة الله ونجاهر به بدون خوف بل بكل شجاعة مقدسة، فانه من واجبنا أيضاً أن نكون لطفاء مزينين التعليم الصحيح بوداعة المحبة.
" بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إلى ذَاكَ الَّذِي هو الرَّأْسُ : الْمَسِيحُ " هذه هي ارادة الله من نحو كل واحد من المؤمنين خاصته. فهو يريد أن نكون جميعنا نامين " فِي كُلِّ شَيْء " أعنى في كل ناحية من نواحى حياتنا، النمو الذي يقودنا إلى الرأس الممجد ربنا يسوع وإلى اظهاره واظهار كمالاته في حياتنا يوما بعد يوم.
(16) " الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُو الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ "
الصورة الماثلة أمامنا في هذه الكلمات مأخوذة من أعضاء الجسد الطبيعية، فكما أن كل عضو وكل مفصل أو بالحري كل جزء في جسم الإنسان كبيرا كان أو صغيرا له عمله وله وظيفته التي يقوم بها لفائدة وحفظ بقية أجزاء الجسد الأخرى، كذلك الامر في كنيسة المسيح التي هي جسده، فانه متى قام كل عضو في جسد المسيح أي في الكنيسة بعمله المعين له من المسيح الرأس " الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ
مُرَكَّباً مَعاً وَمُقْتَرِناً " فإن الجسد بمؤازرة كل مفصل يقوم بعمله " عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ" أي بحسب قياس العمل المعطى لكل جزء، وعندئذٍ " يُحَصِّلُ نُمُو الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ " أن الرب يسوع المسيح هو " رأس الجسد " والذي منه يستمد كل عضو التوجيه والارشاد لمعرفة واجبه من نحو بقية الأعضاء، كما يستمد منه القوة والمعونة للقيام بذاك الواجب وبذلك " يُحَصِّلُ نُمُو الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ " ليعط الرب كل واحد منا ادراكا اكثر لمسئولية الفردية كعضو في جسد المسيح من نحو نمو وبنيان بقية الأعضاء في المحبة.
(17) " أَقُولُ هَذَا وَأَشْهَدُ فِي الرَّبِّ، أن لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سائر الأُمَمِ أيضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، "
يناشد الرسول بولس المؤمنين بأن لا يسلكوا كما يسلك سائر الأمم، واضعا امامهم الرب يسوع الذي آمنوا به والذي بوركوا فيه بكل بركة روحية في السماويات " أَقُولُ هَذَا وَأَشْهَدُ فِي الرَّبِّ " انه الرب صاحب السلطان والسيادة علينا نحن المؤمنين به والذي صرنا أعضاء جسده فلا يليق ابدا بأن يكون سلوكنا مشابها لسلوك غير المؤمنين به. لقد كان المؤمنون في أفسس من الامم الوثنيين ولكنهم رجعوا إلى الله من الأوثان وقبلوا المسيح يسوع مخلصاً وربا لذا يحذرهم الرسول من الرجوع إلى إلى الحياة أو العوائد الوثنية الدنسة أو السلوك فيها، فإن غير المؤمنين يسلكون في الشر والدنس منقادين في ذلك " بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ " وإذ " لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أن يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إلى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ " (رو1 : 28) وما يقوله الرسول للمؤمنين في أفسس يقوله الروح القدس لنا نحن أيضاً.
(18) " إذ هُمْ مُظْلِمُوالْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ "
مظلموالفكر، أو بالحري " أَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ " (رو1 : 28) فليس لديهم أي شعاع أو ومضة من النور الإلهي. هذه هي حالة النفوس المسكينة، النفوس البعيدة عن الله فانهم " متجنبون عن حياة الله، أو بالحري ليس فيهم حياة إلهي " مَنْ لَهُ الابن فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابن اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ " (1يو5 : 12). فأولئك الامم هم مظلموالفكر ومتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة (أوعمى) قلوبهم. لذا ارسل الرب يسوع عبده بولس عندما ظهر له وهوفي طريقه إلى دمشق، إلى أولئك الامم المساكين قائلا له " لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إلى نُورٍ وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إلى اللهِ حَتَّى يَنَالُوا بِالإيمان بِي غُفْرَانَ الخطايا وَنَصِيباً مَعَ الْمُقَدَّسِينَ " (اع26 : 17و18).
(19) " اَلَّذِينَ إذ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ "
أودع الله في الإنسان " الضمير " الذي يميز بين الخير والشر، ولكن أولئك الأمم الوثنيون أو بالحري جميع البعيدين عن الله متى تمادوا في الشر فانهم يصلون إلى هذه الحالة المرعبة – أحط درجة يمكن أن يصل اليها الإنسان، اعنى انهم يفقدون الحس، وكأن الضمير لم يبق له أي عمل فيهم. لقد صاروا اناسا " موسومة ضما)رهم " فانهم يفعلون الشر بدون مبالاة. يشربون الإثم كالماء، ولا يشعرون بأي ألم في أنفسهم بسبب ارتكابهم الشر، " إذ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ " (أو بطمع) أي انهم ارتكبوا كل أنواع النجاسة بطمع وشراهة.
يالعظم غنى نعمة الله! فإن القديسين في أفسس كانت هذه الحالة البشعة حالتهم قبل إيمانهم بالرب يسوع. حقاً انه المخلص القدير الذي يدعو أشر الفجار ليقبلوا اليه بالإيمان فيخلصون من حالة الشر القذرة وينالون حياة ابدية. يصبحون خليقة جديدة " الأشياء العتيقة قد مضت هو ذا الكل قد صار جديدا " يا له من مخلص!! تبارك اسمه المعبود إلى الأبد.
(20و21) " وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ هَكَذَا - أن كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هو حَقٌّ فِي يَسُوعَ "
العلاج الإلهي الصحيح لحفظنا من السلوك كما يسلك سائر الأمم هو في المسيح يسوع. انه، له المجد، ليس فقط مخلصاً من الدينونة والهلاك الأبدي بواسطة موته فوق الصليب ولكن حياته التي عاشها فوق الأرض كإنسان وأيضاً كالمقام من بين الأموات والممجد عن يمين الاب هي دستور حياة المسيحي الحقيقى. وكما انه هو المعلم الوحيد الذي ليس مثله معلم، فهو أيضاً الـدرس الأعظـم الذي يجب أن نتعلمـه " تتعلموا المسيح " وذلك بالشركة معه والتفرس في كمالاته " وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إلى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إلى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ " (2كو3 : 18).
" تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ... قَدْ سَمِعْتُمُوهُ " ان الروح القدس هنا يربطنا بالمسيح بكيفية مباشرة. صحيح أن الرسول يوحنا يخبرنا عما سمعه هو والرسل من المسيح لكى تكون لنا شركة معهم فيما سمعوه ولكى يكون فرحنا كاملا (1يو1)، ولكن لنا ما هو أكثر من ذلك كما هو ظاهر من قول الرسول بولس هنا " سَمِعْتُمُوهُ " وليس سمعتم عنه. أن هذا هو امتياز خاصة المسيح – اننا تعلمنا المسيح واننا سمعناه هو ، كما قال بفمه الكريم بأن " وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ....وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أن آتِيَ بِتِلْكَ أيضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي... خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي " (يو10).
" سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هو حَقٌّ فِي يَسُوعَ " إن الحق كله هو " في يسوع " وليس هناك حق خارجا عنه " أنا هو الطريق والحق والحياة " فاذا أردنا أن نتعلم الحق من جهة الإنسان، فاننا لن نجده في آدم الإنسان الأول الذي فشل في مسئوليته أمام الله ولكننا نجد الحق كله في الإنسان الكامل – الإنسان الثاني الذي كان هنا بحسب فكر الله، كما أننا إذا أردنا أن نتعلمه الحق من جهة الله فاننا لن نجده في أي شخص أو في أي شىء آخر سوى في المسيح، فهو وحده الذي استطاع أن يقول " أَنَا وَالاب وَاحِد...واَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأي الاب " (يو10و14) وحتى أن أردنا أن نتعلم فكر الله من نحو الخطية فاننا لن نتعلمه إلا في صليب المسيح، فهناك نرى مخلصنا المبارك آخذا مكاننا ونرى ما تستحقه الخطية. أن الحق هو في يسوع فكأن المسيح الممجد في الأعإلى يقودنا إلى شخصه كمن عاش هنا في هذا العالم لنتعلم كيف يجب أن نسلك كما سلك هو . وبالاجمال لن نستطيع أن نجد الحق بخصوص أي أمر من الأمور إلا في " يسوع وحده "
واضح كل الوضوح أن يسوع هو المسيح، والمسيح هو يسوع ولكن الروح القدس لا يضع أمامنا هذين الاسمين في هذا العدد بدون قصد أو غرض. فهو أولاً يضع أمامنا اسمه " المسيح " – " لم تتعلموا المسيح هكذا " لانه في ذلك يقودنا إلى ادراك كل بركاتنا وامتيازاتنا التي صارت لنا في المسيح المقام والممجد في السماويات. ثم يضع أمامنا اسم " يسوع " وهو الاسم الذي سمى به لما كان هنا في هذا العالم وذلك لندرك واجبنا من حيث السلوك كما هو حق في يسوع الذي ترك لنا مثالا لكى نتبع خطواته " كما سلك ذاك هكذا نسلك نحن أيضاً "
(22) " أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابقِ الإنسان الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهواتِ الْغُرُورِ "
كيف أستطيع أن أسلك كما سلك المسيح لما كان هنا على الأرض وأنا أعلم اننى ورثت من " الإنسان الأول " آدم طبيعة ساقطة وفاسدة؟
إن الحق كما هو في يسوع هو أن نخلع من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور. وهذا ليس معناه تحسين الإنسان العتيق فانه لا يقبل إصلاحا بأي حال من الأحوال، ولكن العلاج الإلهي الوحيد هو أننى كمسيحي أخلع أو أطرح كل تصرفات الإنسان العتيق الفاسد السابقة.
إن الإنسان العتيق هو الطبيعة القديمة الساقطة التي لا تحب شيئا سوى الفساد والشهوات الغاشة والتي لا تحب البر والقداسة كما انها عديمة القوة فلا تستطيع أن ترضى الله بعمل أي شىء صالح أو مقدس " لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هو عداوة لِلَّهِ إذ لَيْسَ هو خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أيضاً لاَ يَسْتَطِيع " (رو8 : 7) والرب يسوع لم يطلب قط من " الإنسان العتيق " أن يخلع عنه تصرفاته الفاسدة، فإن محاولة تكليف الإنسان العتيق بخلع أعماله وتصرفاته وشهواته وبعمل ما هو مرضى أمام الله هي نظير وضع خمر جديدة في زقاق عتيقة " وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ فَهِيَ تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً " وإذ عرف الرب يسوع ما كان في قلوب الفريسيين قال لهم " وَلَيْسَ أَحَدٌ إذا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الْجَدِيدَ لأَنَّهُ يَقُولُ : الْعَتِيقُ أَطْيَبُ " (لو5 : 37-39). هذه هي حالة القلب غير المتجدد انه يفضل شهوات " الإنسان العتيق الفاسد " ومسراته الوقتية الغاشة على العيشة في البر والقداسة. أن المقصود بخلع الإنسان العتيق هو النظر اليه في صليب المسيح – الإيمان واليقين بأنه قد سمر في الصليب " عَالِمِينَ هَذَا : أن إنساننَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أيضاً لِلْخَطِيَّةِ " وأن نحسب أنفسنا أمواتا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا (رو6 : 6و11).
ومن الاهمية بمكان أن نعرف أن خلع الإنسان العتيق ليس معناه انه لم يبق فينا أي أثر أو ميل إلى الخطية فإن ذلك يحسبه الرسول يوحنا ضلالا وليس بحسب الحق (1يو1 : 8و10). والرسول بولس بعد أن يقول للمؤمنين " مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ " (كو2 : 20) " 3لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ " (كو3 : 3و5). فالقول بالموت مع المسيح أو خلع الإنسان العتيق ليس معناه أننا وصلنا إلى حالة الكمال وهذا ما قاله الرسول العظيم بولس عن نفسه " لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أو صِرْتُ كَامِلاً، وَلَكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأجلهِ أَدْرَكَنِي أيضاً الْمَسِيحُ يَسُوعُ. أيها الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شيئا وَاحِداً : إذ أَنَا أَنْسَى مَا هو وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إلى مَا هو قُدَّامُ. أَسْعَى نحو الْغَرَضِ لأجل جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ " (في 3 : 13-14).
وجدير بالملاحظة أن القول بأننا لم نصل بعد إلى حالة الكمال ليس معناه التساهل أو التهاون في السلوك بالتدقيق والعيشة في القداسة العملية بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أيضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ (1بط1 : 15و16) فإن الرسول يوحنا بعد أن يقرر هذه الحقيقة وهي أننا " إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا " يحثنا قائلا " يا أولاًدي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الاب، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهو كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا " (1يو1 : 8، 2 : 1و2).
(23و24) " وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا الإنسان الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ "
بالمباينة مع خلع الإنسان العتيق وتصرفاته الفاسدة يحثنا الرسول على أن نتجدد بروح ذهننا، والمقصود بتجديد روح الذهن هو تغذية وتقوية أرواحنا المتجددة حتى يمتلىء الذهن بأشواق ورغائب مقدسة وطاهرة. فكما نحرص بكل اهتمام على تغذية أجسادنا بالأطعمة التي تحفظها وتجددها وتجعلها قوية كذلك يجب أن تتجدد وتتقوى أرواحنا واذهاننا النقية بالتغذى بكلمة الله " اللبن العقلى العديم الغش " وبالشركة مع الرب يسوع ومع شعبه المحبوب. بهذه الوسائل الإلهية تتجدد أرواح اذهاننا. فلن تجد مسيحيا قويا ونشيطا دون أن يكون متغذيا بكلمة الله محبا لها وشغوفا بها، ودون أن يكون في شركة عميقة مع الرب ومحبا لاخوته المؤمنين أيضاً.
" وَتَلْبَسُوا الإنسان الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ " مما لا ريب فيه أن لبس الإنسان الجديد قد تم فعلا في اللحظة التي فيها قبل الإنسان المسيح مخلصاً له، و ولد الولادة الثانية، ولكن المقصود هنا هو لبس الإنسان الجديد بكيفية عملية أو اختبارية. إنه اظهار الإنسان الجديد أو الحياة الجديدة بكيفية علنية – ذلك الإنسان الجديد أو الطبيعة الجديدة التي حصل عليها المؤمن في داخله.
وهذا الإنسان الجديد هو " الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ " فانه أن كانت الخليقة الأولى قد فسدت ولم تبق بحسب فكر الله فإن الخليقـة الجديـدة هي " بِحَسَبِ اللهِ " أي كما قصد أن تكون عليه، وذلك بواسطة المسيح أولاًن الله يراها فيه " أعرف إنسانا في المسيح " وهذا الإنسان الجديد يرى بكيفية عملية في صورتين وهما البر وقداسة الحق : البر في تعاملنا المسيحي اللائق مع جميع الناس, والقداسة هي في سلوكنا بالتقوى أمام الله. البر هو سلوكنا الخارجي أمام الناس في كل ناحية من نواحى الحياة، والقداسة هي في حالة قلوبنا الداخلية أمام الله.
واذ صرنا خليقة جديدة فيجب أن نلبس ثياب " الإنسان الْجَدِيدَ " أعنى سيرة جديدة وتصرفات جديدة، تختلف كل الاختلاف عن تصرفات الإنسان العتيق وشهواته الفاسدة. يجب أن تكون رغبة كل مسيحي حقيقي هي أن الرب " يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ... نَعْبُدُهُ بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أيام حَيَاتِنَا " (لو1 : 74و75).
(25) " لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ "
أيليق بالمؤمن الذي خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق أن لا يكون أمينا وصادقا في أعماله وفي أقواله أيضاً؟ أن الكذب هو من أعمال الطبيعة العتيقة الفاسدة، كما انه من صفات غير المؤمنين الذين " َنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هو الْمَوْتُ الثَّانِي... لأَنَّ خَارِجاً (أي خارج المدينة السماوية)...كُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِباً " (رؤ21 : 8، 22 : 14و15).
إن واجب كل من تعلم الحق كما هو في يسوع أن يطرح عنه الكذب وان يتكلم بالصدق دائماً متمثلا بالسيد الذي كانت كل أقواله تعلن حقيقة حياته " فَقَالُوا لَهُ : «مَنْ أَنْتَ؟ " فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ : «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أيضاً بِهِ " (يو8 : 25) فإن كلام الإنسان هو المرآة التي تظهره على صورته الحقيقية.
"لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ " أي اننا أعضاء في جسد واحد، فمن لا يتكلم بالصدق مع قريبه الذي هو عضو في الجسد الواحد فهولا يغش أخاه فقط ولكن كأنه يخدع نفسه. هل يعقل أن عضوا في أجسادنا الطبيعية يعمل على خداع واذى عضو آخر؟ أن ما يضر عضوا واحدا يضر بقية الأعضاء، وما يفيد عضوا واحد يفيد بقية الاعضاء، وهكذا الحال في جسد المسيح. فالعضوالذي يتكلم بالصدق مع أي عضو آخر فانه يحسن، لا إلى ذلك العضو فقط، بل إلى نفسه أيضاً. ليت طلبة المرنم قديما تكون طلبتنا نحن أيضاً " لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يا رَبُّ صَخْرَتِي و ولِيِّي " (مز19 : 14).
(26و27) " اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ وَلاَ تُعْطُوا ابلِيسَ مكاناً "
لقد حيرت هذه الكلمات كثيرين من المؤمنين وأربكت اذهانهم لأنهم يتصورون أن الغضب في كل الحالات هو شر لا يليق بالمؤمنين، ولكن ليست هذه هي الحقيقة تماماً، ولا نغالي إذا قلنا انه في بعض الحالات يكون عدم الغضب شرا لا يليق بالمؤمن الذي يحب المسيح ويغار على مجده، غير أنه من المهم جدا أن نتنبه إلى الحافز أو الدافع إلى الغضب، فاذا كان سببه شيئا يمس الذات أو الكرامة الشخصية فانه لا يكون غضبا مقدسا، بل هو الغضب الذي يحذرنا منه الرسول يعقوب بقوله " لأَنَّ غَضَبَ الإنسان لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ " (يع1 : 20).
أما الغضب الذي بحسب مشيئة الله فهوالذي نرى فيه المسيح مثالا لنا، فاننا نقرأ عنه بأنه " نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ " (مر3 : 5) قد غضب الرب في مناسبات مختلفة ولكنه، تبارك اسمه، لم يخطىء في غضبه. غضب حينما رأي أولئك الذين جعلوا الهيكل بيت تجارة فصنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل (يو2: 13-16) كما انه نطق بالويل على الكتبة والفريسيين المرائين لأنهم كانوا يأكون بيوت الأرامل ولعلة يطيلون صلواتهم (مت23 : 14).
انى إذا كنت أرى أو اسمع كلمات التجديف المهينة لشخص ربنا يسوع ولمجده وابقى جامدا ولا تحتد روحى في فانى لا أكون في الحالة التي يجب أن أكون عليها كمسيحي يحب المسيح ويعتز بمجده وكرامته. أن عدم الغضب في هذه الحالة هو عدم تقدير لمجد وكرامة سيدنا المعبود المبارك. هذا أمر له أهميته لأن البعض يظنون أن ذلك يتعارض مع المحبة. أن ظنا كهذا لا أساس له من الصحة، فإن المحبة الصحيحة هي التي تغار للحق ولا تتسأهل مع الشر. إنها " وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ " (1كو13 : 6) فلا يليق أن تكون المحبة على حساب حق الله والمسيح، فإن المحبة في هذه الحالة لا تكون محبة صادقة بل رياء.
غير أن هناك خطر نحن معرضون له بكل سهولة وهو الغضب المقترن بالخطية. لذا يحذرنا الروح القدس بقوله " اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئوا " إن الوسيلة الإلهية لحفظنا من الخطأ هي أن يكون الغضب لمجد الله وأن يحدث منا ونحن في حضـرة الله وهنـاك ينتهي ولا يتعدى هذا الحد، لذا يقول الرسول " لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ " لأنه إذا بقى هياج أو غضب كامنا في نفوسنا فلا يكون هذا الغضب من الله. فاذا ما غربت الشمس فإما أن أكون في حالة السلام القلبى العميق والشركة الحلوة مع الرب، أو أكون في حالة الغيظ محروما من التمتع به والشركة معه، و واجبى فيه هذه الحالة الأخيرة أن لا أستريح على فراش نومى إلا بعد أن أعترف بخطأي لأخى الذي غضبت عليه وبعد أن أجثو أمام الرب معترفا له بخطيتى، وإلا فاننا نعطى لابليس مكاناً، فاننا إذا ابقينا شيئا من الغضب في قلوبنا واذهاننا فاننا بذلك نعطى منفذا للعدو ليدخل إلى حياتنا. يجب أن نكون في حالة الصحو والسهر لأن ذلك العدو الخبيث يريد أن يهيمن على حياتنا فيسلبنا أفراحنا الروحية ويحرمنا من الشركة الحلوة مع الرب سيدنا.
يجب أن يكون الصفح رائدنا في حياتنا في كل حين " لِئلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ " (2كو2 : 10و11).
(28) " لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أن يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ "
صحيح أن المؤمنين في أفسس كانوا قبلا وثنيين لا يعرفون الله، وكانوا سالكين في كل أنواع الشرور والرذائل، لذا كانوا بعد إيمانهم بالمسيح، معرضين لارتكاب هذه الخطايا – كانوا معرضين لخطية السرقة التي كانوا يمارسونها قبل إيمانهم بالرب يسوع. هذا صحيح ولكن ليس المعنى أن المسيحي ليس معرضا لارتكاب هذه الخطية إذا لم يكن متحصنا بالنعمة الإلهية. أن ما يوجهه الروح القدس للمؤمنين في أفسس في حالة السمو الروحى. وقد عرفهم الرسول بولس بمقامهم السماوي كأعضاء في جسد المسيح، فأدركوا أن الله الاب قد باركهم بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، وانهم قاموا مع المسيح وأجلسوا فيه في السماويات، ومع ذلك كان يعظهم بالقول " لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ " فمن الخطأ والخطر أن نتصور أننا لسنا معرضين للوقوع في هذه الخطية – ليحفظنا الرب بنعمته.
ما اسمى وأجمل تحريضات النعمة لمن ادركتهم هذه النعمة " لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ " هذه لغة النعمة اللطيفة، وما أكبر الفرق بين تحريضات النعمة وبين تهديدات الناموس (خر21 : 16، 22 : 1-3).
إن هناك أشكالا متنوعة للسرقة، فقد يسرق موظف أو عامل من وقت عمله، وآخر يسلب سمعة غيره أو صيته، وما أكثر المؤمنين الذين يسلبون الله فلا يعطونه حقه من الأموال التي أعطاهم الله اياها " أَيَسْلُبُ الإنسان اللَّهَ؟ فَإِنَّكُمْ سَلَبْتُمُونِي. فَقُلْتُمْ : بِمَ سَلَبْنَاكَ؟ فِي الْعُشُورِ وَالتَّقْدِمَةِ. قَدْ لُعِنْتُمْ لَعْناً وَإِيَّايَ أَنْتُمْ سَالِبُونَ " (ملا3 : 8و9). على أن عمل النعمة في المؤمن في العهد الجديد يقوده إلى العطاء للرب بسخاء اكثر مما كان مطلوبا في العهد القديم (انظر 2كو8 : 3-5).
" بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أن يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ " لا يكفى أن يكون المؤمن أمينا فلا يسرق، بل هناك صورة ايجابية جميلة وهي انه يتعب عاملا الصالح بيديه ليكون له هذا الامتياز المبارك وهو أن يعطى للمحتاجين. عجيبة حقاً هي نعمة الله! فإن اليدين اللتين كانتا تمتدان للسرقة تغيرتا تغييرا كليا فصارتا تمتدان للعطاء للمعوزين والمحتاجين " ان كان أحد في المسيح فهوخليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت. هو ذا الكل قد صار جديدا " لقد كان انسيمس عبدا سارقا ولكن إذا افتقدته نعمة الله المخلصة اصبح الأخ الأمين الحبيب " (كو4 : 9) قال واحد من رجال الله الأفاضل " انى اكون سالكا بحسب البر الذي في الناموس إذا لم اسلب واختلس حقوق غيرى، ولكننى لا استطيع أن أحيا بحسب مبدأ النعمة الغنية والقداسة الحقيقية إذا لم أشرك الآخرين في الخيرات التي منحنى الله اياها " أن فرح المعطى اسمى واعظم بكثير من فرح الآخذ " وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فِيهِ؟ " (1يو3 : 17) ولنذكر دائماً كلمات الرسول المغبوط " لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائح مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ " (عب13 : 16).
(29) " لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ "
ينتقل الرسول من الحث على العمل الصالح وعلى العطاء للمحتاجين إلى التحذير من الكلام الردىء والحث على الكلام الصالح الذي يؤول للبنيان. وما اكثر التحريضات التي في كلمة الله عن هذا الموضوع الهام، فإن كلام الشفتين هو مرآة صادقة لحالة القلب الداخلية " فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ " (مت12 : 34). لقد أفاض الرسول يعقوب في الكلام عن اللسان " إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أن يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ " (يع3 : 2).
وكم هو جميل ومبهج أن نوجد في حضرة قديس فاضل يفيض قلبه ولسانه بكلمات النعمة التي تبنى السامعين! وكم هو مؤذ وهادم أن يخرج من أفواهنا " كلام السفاهة والهزل الذي لا يليق " أو اقوال النقد والمذمة والطعن في سير الآخرين. ليتنا نحرص على أن لا تخرج من افواهنا كلمة ردية " انـزعْ عَنْكَ الْتِوَاءَ الْفَمِ وَابعِدْ عَنْكَ انْحِرَافَ الشَّفَتَيْنِ " (ام4 : 24).
" لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يجب أن تُجَأوبُوا كُلَّ وَاحِدٍ " كو4 : 6). إن " الملح الجيد " وله قيمته فهو وان كان لا يصلح الفاسد ولكنه يحفظ الجيد من الفساد. انه الحق الذي يحفظ النفس في القداسة. فمتى كان لنا في أنفسنا ملح فإن كلامنا يكون نقيا واقوالنا تؤول إلى السلام مع الآخرين. هكذا قال الرب يسوع " لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً " (مر9 : 50).
يجب أن لا نتكلم إلا بما كان " صالحا للبنيان " والكلام الصالح هو من القلب الصالح " فَاضَ قَلْبِي بِكَلاَمٍ صَالِحٍ " (مز45 : 1) " مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ يَصْلُحُ يا إِخْوَتِي أن تَكُونَ هَذِهِ الْأمور هَكَذَا! أَلَعَلَّ يَنْبُوعاً يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ " (يع3 : 10و11).
كذا يجب أن يكون الكلام " حَسَبَ الْحَاجَةِ " فانه من الخطأ أن نتصور أن الكلام من أي نوع كان لا يكلفنا شيئا، اقرأ ما كتبه الرسول يعقوب عن الأضرار المروعةالتي مصدرها اللسان (ص3).
يجب أن لا ننسى أن كثرة الكلام لا تخلومن معصية، فلنحرص على أن لا نتكلم إلا بحسب الحاجة.
(30) " وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ "
الروح القدس هو الأقنوم الإلهي الذي حضر من السماء في يوم الخمسين، أي بعد أن أكمل الرب يسوع المسيح عمل الفداء بموته فوق الصليب وبعد أن قام من الأموات بمجد الاب ثم صعد إلى السماء وجلس عن يمين ابيه هناك. أن الروح القدس ليس هو مجرد تأثير أو قوة بل هو الشخص الإلهي المعادل للاب وللابن، فهويتكلم، ويرسل خداما للكرازة بالإنجيل (اع13 : 2و4)، ويبكت العالم (يو16 : 8) ويعزى المؤمنين إذ يأخذ مما للمسيح ويخبرهم، وهوالذي يرشدهم ويقودهم (يو16 : 13-15، رو8 : 14)، كما أنه يحزن إذا لم يسلك المؤمنون في القداسة لأنه روح الله القدوس.
انه ساكن في كل مؤمن حقيقى وهو يصغي إلى كل كلمة ننطق بها ويعرف كل فكر يخطر باذهاننا ويرى كل عمل نعمله، لذا يحرضنا الرسول بالقول " لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ " وهذا ليس معناه أن الروح القدس يترك المؤمن، فانه متى سكن في المؤمن فانه يسكن فيه إلى الأبد " مُعَزِّيا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إلى الأبد " (يو14 : 16) هذا هو امتياز مؤمنى العهد الجديد. لقد صلى داود في العهد القديم قائلا : " رُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنـزعْهُ مِنِّي " (مز51 : 11) أما في عهد النعمة الحاضر فإن صلاة كهذه لا تليق بالمسيحي الحقيقي الذي سكن فيه الروح القدس وبه ختم إلى يوم الفداء، أن الروح القدس ساكن في المؤمن الحقيقي ولن يفارقه مطلقا ولكنه يحزن إذا لم نسلك سلوكا مقدسا بحسب كلمة الله، وهذا هو سبب حرمان الكثيرين من الفرح ومن التلذذ بالشركة الحلوة مع الرب. أما إذا سلكنا في القداسة والأمانة للرب فإن الروح القدس يبهج قلوبنا، ويأخذ مما للمسيح ويخبرنا.
في الاصحاح الأول من هذه الرسالة يقول الرسول " إذ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ، 14الَّذِي هو عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ " (ع13و14) وهنا يعود الرسول ليؤكد هذه الحقيقة المباركة وهي أننا ختمنا بالروح القدس – ختمنا ختما دائماً " ليوم الفداء " والمقصود بيوم الفداء ليس فداء أرواحنا " الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا " (ص1 : 7) بل فداء أجسادنا وذلك عندما يأتي الرب يسوع المسيح من السماء ليأخذنا اليه وعندئذٍ يفدى هذه الأجساد الذليلة " سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ " (في3 : 20و21) سيأتي الرب يسوع لأخذ كل المؤمنين الحقيقيين ولن يترك مؤمناً واحدا فإن كل مسيحي حقيقي هو عضو في الجسد الواحد ولن يكون الجسد في المجد ناقصا عضوا واحدا مهما كان صغيرا أو ضعيفا.
(31) " لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ "
يحذرنا الرسول هنا من بعض الخطايا التي إذا تساهلنا معها فاننا نحزن الروح القدس الساكن فينا. والرسول يبدأ بالتحذير من الشر الكامن في داخل القلب " لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ " والمرارة هي عكس الحلاوة ومتى وجدت المرارة في قلب الإنسان فإنها تسلبه حلأوة الفرح والسلام الداخلى وتجعله قلبا مظلما وكئيبا، انها صفة بغيضة من صفات غير المؤمنين الذين فمهم مملوء مرارة (رو3 : 14) والرسول يعقوب يحذرنا من الغيرة المرة في قلوبنا (ص3 : 11-15).
ثم يحذرنا الرسول أيضاً من الخطايا الظاهرة التي تنشأ من المرارة التي يجب أن لا تبقى في القلب – يحذرنا من كل سخط وغضب وصياح وتجديف (أوكلام شرير). هذه الخطايا التي يحركها الخبث متى وجد في القلب. نعم أيها الأخوة الأحباء يجب أن ترفع كل هذه الأشياء من بيننا. اننا نقولها كلمة صريحة وهي أنه إذا لم نتحرر من هذه الخطايا بقوة الروح القدس فاننا لا نكون عائشين العيشة المسيحية الحقيقية. فلنحرص على أن لا يكون لهذه الأمور المعيبة وجود فينا أو بيننا وذلك بنعمة ومعونة إلهنا لنا.
(32) " وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نحو بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أيضاً فِي الْمَسِيحِ "
المسيحية الحقيقية ليست قاصرة على تجنب الشرور والخطايا التي تحزن الروح القدس، بل هي اسمى من ذلك بكثير، انها اظهار صفات المسيح الجميلة في حياتنا، فلكى نكون لطفاء وشفوقين في تعاملنا مع بعضنا البعض يجب أن نتمثل بسيدنا في لطفه وشفقته، ولكى نكون متسامحين يجب أن نضع أمامنا المقياس الإلهي في الصفح والغفران " متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح " هل أخطأ إلى أحد بأخطاء كثيرة توازى خطاياي أنا من نحو الله؟ أن كان الله قد سامحنى بجميع خطاياي من أجل المسيح وعمله فوق الصليب فبالقدر الذي به سامحنى يجب أن أسامح أخى. ربما تظن أن الشخص الذي اخطأ في حقك لا يستحق الصفح والمسامحة فهل كنت انت مستحقاً للغفران الإلهي؟ انه لا يمكن أن يكون شخص قد أساءك واخطأ اليك بالقدر الذي اخطأت أنت به إلى الله ومع ذلك فقد احبنا الله وغفر لنا جميع خطايانا. وهذا هو المقياس الذي به يجب أن تغفر للآخرين.
يا ربنا يسوع هبنا بنعمتك أن نتعلمك، وان نتعلم منك ونتمثل بك. آمين.
- عدد الزيارات: 3680