أصحاح 14: الرجوع والبركة
ذلك الحنين عينه الذي أدمع عيني المسيا المرفوض، وأبكاه على أورشليم يوم قال «لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك» يتخلل أصحاحنا هذا الأخير. فهو حقاً ينطوي على أرق التوسلات المؤثرة من بين تلك التوسلات الأمينة التي يحفل بها كتاب الله، ويذكِّرنا بتلك الفرائد المؤثرة من التوسلات التي نطق بها الروح القدس في فترة تالية بفم إرميا. فهذا الأصحاح ليس يطالعنا فقط بتوسلات الرب إلى شعبه لأن يستمعوا إلى صوته ويرجعوا إليه، بل يعلن بوضوح كيف ينبغي أن يتصرفوا، إلى حد أنه يضع في أفواههم وعلى شفاههم أقوالاً، لو خرجت من قلوبهم لَسُرَّ الرب أن يسمعها. وكذلك يحفل أصحاحنا بمواعيد البركة التي ستنسكب عليهم حين يخضعون وينحنون قدامه توبة وانسحاقاً.
«ارجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت بإثمك» (ع1). نقرأ «البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية»، فلو أنهم سلكوا سبل الاستقامة التي خطّها لهم إلههم الأمين الحافظ العهد، لتغيَر وجه تاريخهم. لكنهم أبو الاستماع وحوَّلوا الكتف. وكانت النتيجة سقوطاً وخراباً من البداية إلى النهاية. فقد انحطوا أيما انحطاط. بيد أن ذاك الذي أخطأوا إليه بصورة مخزية لا يزال يستطيع أن يتجه إليهم حُباً ليرجعوا إليه، إلى ذاك الذي هو إلههم من أرض مصر.
فلنتعلم من منهاجهم التاعس أن نتجنب خطايانا، وأن نعرف نعمة الله المتفاضلة. لكن الكنيسة، شهادة الرب الغائب، فشلت تماماً كما إسرائيل. على أنه مهما تكن عتامة اليوم، فإنه حين يتحول القلب الصادق إلى الله، حاكماً على ذاته كمن هو مشترك في الخطية التي وقع فيها أولئك الذين أعطيت لهم الامتيازات السامية العجيبة، فإن ذاك الذي كان الخطأ في حقه، وأُلحق باسمه الكريم هواناً ثقيلاً يسره أن يقبله، بل إنه في انتظار الباب المفتوح ليدخل ويتعشى بالشركة، ولو في ساعة متأخرة.
وإن قالت النفس "لكنني أخطأت خطأً شنيعاً، ولا أعرف كيف اقترب من إله قدوس كهذا بعد الهوان الذي ألحقته باسمه الكريم إلى هذا الحد المخيف". حينئذ يضع هو بنفسه - تبارك اسمه - صلاة على شفاه عبده الراجع الخاضع، إثباتاً على استعداده لأن يسمع كل نفس تطلبه أو تسعى إليه. «خذوا معكم كلاماً وارجعوا إلى الرب. قولوا له ارفع كل إثم واقبل (اقبلنا) حسناً (أي بإحسان)، فنقدم عجول شفاهنا. لا يخلصنا أشور، لا نركب على الخيل، ولا نقول أيضاً لعمل أيدينا (أنتِ) آلهتنا، إنه بك يُرحم اليتيم» (ع2،3).
إن هذه الصلاة التي أملاها الله نفسه خليقةً بكل اعتبار. وهيا بنا نتبادلها مقطعاً مقطعاً، وازنين كل واحد منها في محضر الرب. «ارفع كل إثم واقبل بإحسان» هكذا تصرخ النفس النادمة. وإذ طال عليها الدنس، حتى كاد الضمير يصاب بالشلل، فإن نور الله أخذ الآن يكشف الأمور على حقيقتها. وهذا ينشئ بغضة ونفوراً من الانحراف والضلال الذي طالما سايرناه وتسامحنا معه كأنه ليس ضلالاً. ومن ثم ينقلب عدم المبالاة إلى تدريب عميق. وإذا بالنفس تنفس عن حقيقتها «ارفع كل إثم». فتصبح الخطية كريهة في ذات اللحظة التي تدخل فيها إلى محضر الله. وبعد ذلك تحس بالحاجة إلى النعمة ومن ثم تنطلق منها الصيحة «اقبلنا بإحسان» ويا لها من رحمة أننا نُدعى للاقتراب إلى «إله كل نعمة»!
ولن يكون هناك رجوع طالما يتهاون الإنسان ويعبث بالخطية، فتبقى غير مقضي عليها. ولكن في اللحظة التي يصدر فيها الاعتراف كاملاً، ونتحول في أمانة عن الإثم، فإن الكلمة تضمن لنا وتؤكد المغفرة السريعة. «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم»، هذا مبدأ ينطبق على الخاطئ الهالك الذي يطلب الخلاص، كما على القديس الذي يضلُّ والذي يطلب ردَّ النفس. والخطية المقضي عليها، خطية عبرت، وفي متناول النفس أن تجدد تمتعها بالشركة التي كانت قد توقفت منذ اللحظة التي سمحت فيها للشر أن يتسلل إلى الضمير. وإذ نعرف هذا معرفة مبعثها، لا مشاعرنا، بل شهادة الكتب، حينئذ تصعد من القلب التسابيح والسجود «فنقدم عجول شفاهنا».
وعندما تستقيم الحياة ويصفو الضمير من الدنس، يكون السجود بالروح والحق. ومن ثم يتسنى للقديس السعيد أن يسكب في أذن الله، دون عائق، تسبيحات عرفان الجميل، وينطلق سجوده كبخور متصاعد من القلب الذي صار المسيح كل شيء له. وسيدخل إسرائيل في هذا حينما يصرخون، وقد عادوا إلى أرضهم بعد تيهان التأديب، قدام ذاك الذي يسكن في وسطهم، بعد أن يكون قد نقَّاهم بروح الإحراق من كل ما يعطل اعترافهم الكامل بنعمته.
ثم «لا يخلصنا أشور». صيحة من الشعب الذي تعلم أن يكُف عن الإنسان الذي في أنفه نسمة. لقد رأينا، من خلال السِفر كله، كيف أنهم في ساعة الشدة رجعوا، ليس إلى الله الذي تمردوا عليه، بل إلى أشور، المملكة الشمالية المتعجرفة التي كانت معينة لخرابهم. وهكذا تعلموا أن عون الإنسان باطل. ومن ثم سيقولون في يوم اقتدار يهوه «لا يخلصنا أشور» ولكن في الله وحده يجدون مخلصهم.
كما أنهم سوف لا يعتمدون في ذلك اليوم على جيوشهم هم، «لا نركب على الخيل». والملاحَظ خلال هذا التاريخ أن قوتهم للمعارك لم تكن كامنة في تقليد عادات وأحوال الأمم، بل في الاعتماد على الله في روح الحمد. وحينما كان يقودهم يهوذا - الذي معناه "حمد" - كانت تُكتب لهم النصرة، إذ كانوا يعتمدون في معونتهم على الرب وحده. ويوم التقى يهوشافاط بالعدو وضع في مقدمة الجبهة مغنيين لا فرساناً، ومن ثم فاز بنصرة عظيمة. وإلى هذا سوف يرجعون حينما يتذللون قدام الله بسبب عثراتهم وخطيتهم «باطل هو الفرس لأجل الخلاص». والإيمان، ولو بدا أنه يضاعف المجهود البشرى في القتال ويزيد من ضراوته، ولكنه خير لنا أن نتعلم أن نستند على ذارع الرب ذاكرين أن الحرب له وليست لنا.
لقد كانت عبادة الأوثان عِلّة خرابهم وهلاكهم فيما مضى. لكنهم في يومهم الموعود القادم سوف يصيحون «ولا نقول أيضاً لعمل أيدينا (أنتِ) آلهتنا». وإذ اختبروا عجز الآلهة الكثيرين التي كانت تسيطر عليهم، فإن الرب سوف يتعظم ويتعالى في ذلك اليوم. وإنها لَصورة مشتهاة للنفس التي استيقظت، أنه ما من قوة، منظورة أو مستورة، تنفع في مشروع الخلاص سوى قوة «عزيز يعقوب». وإذ ينكشف في حضرته كل شيء، ولا يبقى في أرواحهم غش، يقدرون أنه يزيدوا على قولهم ذاك مقولة يقين أخرى «بك يُرحم اليتيم (أي فيك يجد اليتيم رحمة)» لقد كان إسرائيل ابناً للرب، دعاه من مصر، لكنهم نسوه، وتصرفوا ضد روح نعمته. ومن هنا حكم عليهم بلوعمي ولورحامة، كما رأينا في مستهل النبوءة. فإذ يرجعون، فإنما على أساس النعمة الخالصة والرحمة. يأتون إليه "كاليتيم"، ليس لكي يطالبوا بحقوق الأبناء، بل ليكونوا رعايا تلك الرحمة التي هي أفضل من الحياة. ما أوفق كلمات هذه الصلاة على شفاه البقية في الأيام الأخيرة!
وبعد ذلك يتتابع تجاوب الرب الكريم «أنا أشفي ارتدادهم، أحبهم فضلاً، لأن غضبي قد ارتد عنه» (ع4). لكأن قلب محبته الكبير قد امتلأ، حتى يكاد ينشق، لولا أن خطاياهم أعاقته عن التعبير بكل ما فيه. والآن قد رُفع الحاجز، ومثل جدول متدفق انطلق جوده ولطفه، قاهراً كاسحاً كل عقبة أو معثرة قد يضعها أو يثيرها عدم الإيمان. وإذ أحبهم فضلاً، مجاناً، سيقودهم في سبل البر، شافياً نفوسهم، راجعاً بهم من كل ارتدادهم. لقد غُفر الماضي الداكن وانتهى، وتلاشى سخطه، فنعمته لا تعرف حدوداً.
ولن يكونوا فيما بعد أرضاً قحلاً خواء، بل كجنة مروية، يقلمها ويحفظها بنفسه. «أكون لإسرائيل كالندى، يزهر كالسوسن ويضرب أصوله كلبنان» (ع5). والندى في الكتاب يرمز إلى تأثيرات الروح القدس الرطبة الندية المحيية، إذ يقدم الحق بالنعمة للنفس. ومن هذا القبيل ما نقرأه في أمر جدعون يوم سأل علامتين من الرب، حيث نجد، وعلى قياس عجيب، صورة لمختلف معاملات الله. ففي المرة الأولى كان الطل، أي الندى على الجزة، وجفاف على الأرض كلها. وفي المرة الثانية جفت الجزة وحدها بينما اكتست الأرض كلها ندى. وهكذا كان إسرائيل مبَاركاً بفضل شهادة الروح، بينما كان العالم كله رازحاً في الجهالة والوثنية. لكن إسرائيل رفض مسيحه عند مجيئه الأول، والأمة المختارة صارت جافة اليوم وخربة، بينما يعمل روح الله وسط الأمم. لكنه سوف يُسكب في العصر الألفي على كل بشر، يومئذ تنتشي الجزة والأرض سواء، يحيهما الندى الإلهي الرطيب. وندى حرمون في مز133 يصوِّر نفس الصورة التي يصفها هوشع، قوة الحياة والانتعاش. فالله نفسه سيكون الندى لشعبه الراجع، واهباً حياة جديدة وطلاوة ليفرحوا به إلى الأبد. وبفضل اهتمامه الحاني، سيرفلون في جمال السوسن، ولهم عراقة أرز لبنان. ولن يكون من نصيبهم مجد زائل، بل بهاء دائم لا يبور.
يومئذ «تمتد خراعيبه ويكون بهاؤه كالزيتونة وله رائحة كلبنان»(ع6). إن خراعيب إسرائيل السامقة إلى السماء كالأرز العتيد سوف تمتد في جلال، وعطرها الزكي سوف يضوع شذاه، ليعرف الكل معاً أن الرب عاد واحتضنهم كخاصته. ليس الأمر قاصراً على المجد والرائحة الزكية، بل سوف يتصفون بما تتصف به الزيتونة من ملاحة وإثمار. فالزيتونة، شجرة الزيت كما تترجم الكلمة العبرية، تتحدث هي الأخرى عن الروح القدس الذي سينساب في الأمة كما يسري الزيت في شجرة الزيتون، ليجعل منها منشأ بركة روحية لكل الأرض، فيكون ذِكرهم «كخمر لبنان» (ع7). وهكذا يستخدم النبي تشبيهاً في أثر تشبيه ليصور فرحة الرب بشعبه، ويرسم جمالهم وقدرهم في عينيه. وليس فقط أن يعقوب يعود ويتجمع، بل إنه سيكون وسيلة بركة للآخرين طبقاً للوعد للآباء، وهذا معنى القول إن كثيرين يكونون «ساكنين في ظله»، ليلقوا راحة من وراء الخدمة المسلَّمة إليه. ونحن نعلم أن الحنطة والخمر رمزان للقوة والفرح. فيومئذ سوف لا يقال «إسرائيل جفنة ممتدة، يخرج ثمراً لنفسه». فإنهم إذ يُغرسون من جديد في الأرض بوصفهم كرمة الرب، فإنهم يزهرون ويفرخون أغصاناً محمَّلة بالعناقيد المشتهاة، لكي يمدوا الأرض كلها بخمرة الأفراح.
حينئذ سيقول أفرايم «ما لي أيضاً وللأصنام؟» فإذ يسكنون في شركة مع الله، ويتمتعون بمحبته ونعمته التي لا مثيل لها، فإنهم يتنكرون لحماقات الماضي. وهكذا تتملكهم العواطف الجديدة في القلب، حتى يكرهوا وينسوا تلك الأصنام الباطلة التي مرة ركعوا قدام مذابحها، وفي رضى مقدس يتطلع الرب إليهم ويقول «أنا قد أجبت (أو سمعت) فألاحظه». فيرد إسرائيل ببهجة لا تدانى «أنا كسروة خضراء» ولكن لا خضرة موسمية فقط، بل هم كشجرة دائمة الاخضرار. سيكونون في عينيه سروة طيبة مشتهاة على مدى الدهر. غير أن هذا الخير كله، وتلك المحاسن كلها، إنما هي منه، وهكذا يجاوبهم «من قِبَلي يوجد ثمرك». في البعد عنه العقم كما قال سيدنا «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً». لكنهم إذ يثبتون بغير انقطاع متمتعين بمحبته، فإن ثمرهم لن يخيب، وحلاوتهم لن تبرح.
هنا خاتمة النبوءة، لكن الشيء الذي يلفتنا بوجه خاص هو أن الرب يشدد على كل قارئ أهمية تقييم ووزن كل شيء في محضره «من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور وفهيم حتى يعرفها. فإن طرق الرب مستقيمة والأبرار يسلكون فيها. وأما المنافقون فيعثرون فيها» (ع9). لقد كانت طرق الرب هي موضوع السفر. وما أسعدنا إذا كنا، بنعمة الله، معدودين ضمن الحكماء والمتفطنين الذين يعرفون ويفهمون، والأبرار الذين يسلكون فيها!
ألا ليت الرب يعطي فعالية لكلمته من أجل اسمه. آمين
آمين. تعال أيها الرب يسوع
- عدد الزيارات: 3654