Skip to main content

أصحاح 13: فيَّ عونك

الكلمات الاستهلالية لهذا الأصحاح «لما تكلم أفرايم برعدة ترفّع في إسرائيل، ولما أثم ببعل مات» (ع1)، التي هي خير استطراد للوحي الذي بدأه العدد الأخير من ص 11، تطرق أبواب ذاكرتنا بكلمات الرب لشاول يوم أبى أن يستمع لصوته في صموئيل الأول 17:15.

وهذه الأقوال تسرد لنا التاريخ الروحي لآلاف ممن بدأوا بداية طيبة، ولكن كانت نهايتهم محزنة، حين فشلوا في الثبات في الرب بعزم القلب. ولو أننا تتبعنا دراسة تاريخ كثير من ملوك يهوذا لوجدنا تجسيداً لهذا الوصف، ولكن يختلف الأمر فيما يتعلق بملوك إسرائيل وذلك، مردُّه أن واحداً منهم لم يبدأ مع الله قط، فجميعهم كانوا يعبدون الأوثان. واحد فقط من تلك الكوكبة الوثنية، هو يهوآحاز، قيل عنه إنه تضرع إلى الرب وذلك عندما كان في ضيقة شديدة.

ولكن وجد بين ملوك يهوذا كثيرون بدأوا حسناً، ويصح أن نطبق عليهم ما قيل في أحدهم «في أيام طلبه الرب أنجحه الله»، على أن الفشل كان في طريق معظمهم، فشوَّه شهادتهم وجلب عليهم الحزن والمشقة.

لما تبنى الله أفرايم لأول مرة كان صغيراً في عيني نفسه «وتكلم برعدة»، أي أنه، وقد استشعر هوان قدره وعدم كفايته، اتضع حينما أتت إليه كلمة الرب. ويقول الله «إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش2:66). وهكذا كان أفرايم في طلاوة أيامه الأولى. وإذ كانت هذه حالته «ترفع إسرائيل، ولما أثم ببعل مات»، وكم يؤسفنا أن تكتب العبارة الأخيرة! ما كان أسعد أفرايم، وما كان أسعد الآلاف من القديسين الآن، لو أنهم لم يتركوا محبتهم الأولى! وهذه جميعها كُتبت مثالاً لنا، وليت إلهنا يعلمنا بها أن لا نثق بقلوبنا الخدّاعة، بل نسلك قدامه في هدوء، في توقير وخوف. وبغير هذا السبيل لن نُحفظ من الهزيمة الأدبية والروحية، فإن الثقة بالذات هي بداية الهزيمة النكراء القاصمة.

والملاحظ بوجه عام أنه بعد الخطوة الأولى في البعد عن الله، تكون كل خطوة تتلوها أيسر من التي قبلها؛ فتَقِّل لسعات الضمير، وتخفت نبضاتنا إزاء مجاهدات الروح القدس المحزون في داخلنا، إذ تتقسى قلوبنا بغرور الخطية. وهذا ما كان مع أفرايم «والآن يزدادون خطية»، هكذا يقول النبي مستطرداً في تصويره للوثنية الشنيعة التي ملأت الأرض، وغشت كل طبقات الشعب (ع2). والنتيجة أنهم يُحملون بالدينونة. «لذلك يكونون كسحاب الصبح وكالندى الماضي باكراً، كعصافة تُخطف من البيدر وكدخان من الكوة (المدخنة)» (ع3). وبهذه الطريقة كان الرب «ينقي بيدره».

ولكن، كما هي العادة، لم يشأ أن يقضي قضاءً نهائياً على شعب اختياره، بل بالعكس، بقي لهم الإله الوحيد الحقيقي، الرب الذي كان إلههم من أرض مصر. ولسوف يأتي اليوم الذي يعترفون به وحده، ولا يعرفون إلهاً سواه، لأنه وحده مخلص إسرائيل. ففي البرية - الأرض الناشفة واليابسة - كان يعولهم حتى ارتفع قلبهم، ولما شبعوا من كل شيء نسوه، ولذلك فإن الذي منحهم تلك المراحم سيكون لهم كنمر في الطريق، وكدبة ثكلى تشق شغاف قلوبهم، وتمزقها كأسد. وقد أعدَّ وحش البرية لكي يفترسهم (ع4-8).

من التشبيهات التي يستخدمها النبي يبدو أننا أمام أكثر من مجرد إشارة إلى طابع الإمبراطوريات الأممية، التي كان لابد أن تتعاقب على إسرائيل مضايقة لهم. والمقارنة مع دانيآل1:7 تفتح ذهننا إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أن الأسد يُذكر هناك رمزاً لبابل، والدب لمادي وفارس والنمر لدولة اليونان. وأعتقد أن الوصف «وحش البرية» هو إشارة متقنة للحيوان الأخير الموصوف بأنه هائل وقوى وشديد، الذي يُكنى به عن الإمبراطورية الرومانية التي ظلّت تضطهد إسرائيل سنوات طوالاً، والتي وإن كانت اليوم ساقطة فسوف تحيا في وحش رؤيا 13 الخارج من البحر، عندما تأتى النهاية، وتختم الضيقة العظيمة؛ أوجاع يعقوب.

على أنهم هم المسؤولون وحدهم عن كل ما حدث لهم وما سوف يحدث. يقول الله «قد أهلكت نفسك يا إسرائيل، ولكن إنيَّ عونك» (ع9). لقد كانت أنانيتهم عِلّة خرابهم. غير أنه تأنى عليهم لكي يخلِّصهم، وكان على استعداد أن يستعلن ذراعه لإنقاذهم لو بدت منهم بادرة التوبة والحكم على الذات. فإن كانوا لا يرجعون إليه فلن يجدوا غيره يصلح لخلاصهم. ومن هنا يتساءل «أين هو ملكك؟» وهل وُجد من يخلصهم في جميع مدنهم؟ لقد طلبوا ملكاً ليكونوا كسائر الشعوب حولهم، فأعطاهم سؤلهم. ولكن أين كانت قوة ملكهم وقضاتهم. لقد كانوا يثقون بقصبة مرضوضة.

قد يبدو غريباً أنه بعد قيام المملكة بقرون كثيرة، وفي نهاية تاريخ العشرة الأسباط يلومهم الله على خطية طلبهم ملكاً في أيام صموئيل، على أن هذا يُبرز الفكرة التي كنا نعرضها ونحن نتأمل في الأصحاح السابع. فإن روح الاستقلال عنه، التي حفزتهم أن يشتهوا ملكاً يخرج ويدخل قدامهم يوم كان الرب ملكهم، كانت لا تزال تسيطر عليهم، ومن أجل هذا استحقت عليهم الدينونة. وما أخطر الأقوال «أنا أعطيتك ملكاً بغضبي وأخذته بسخطي» (ع11). وهكذا يسمح الله أن يعطي أولاده ما يشتهون عندما تكون قلوبهم بعيدة عنه. يعطيهم سؤل قلوبهم ويرسل هزالاً في نفوسهم. على أن الأمور تكون إلى أحسن متى كان الإرادة خاضعة، وما دمنا نقول في صلواتنا وطلباتنا «لتكن مشيئتك». إنه يعرف خيراً مما نعرف نحن. وحيث يتوفر خضوع القلب فإنه تعالى يرُد علينا ليس حسب أدعيتنا الناقصة المغلوطة، بل حسب رحمته وحكمته. وإلا، وقد اختلفت الحال، فإنه قد يجاوب طلباتنا وصلواتنا بالدينونة والقضاء. وقد تمضي علينا سنوات نقضيها آسفين على حماقتنا إذ لم نترك مصالحنا بين يديه.

وقد أضاف أفرايم على هذه السقطات سقطة أخرى، فإنه صَرَّ (أو كتم) أثمه، وكنـز (أو غطى) خطيته (ع12). وطالما كانت هذه حال واحد، فإن يد الله لابد أن تكون عليه للتأديب؛ «من يكتم خطاياه لا ينجح». ومن الناحية الأخرى، إذا عرض كل شيء في النور ودان الخطية واعترف بها، فإن الله نفسه يسترها، وإلى الأبد تزول من أمام عينيه «طوبى للذي غُفِر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غش».

وبسبب إصرار أفرايم على كتمان خطيته لابد أن يأتي عليه مخاض الوالدة. وفي تشبيه آخر، هو ابن غير حكيم، إذ وقف موقف الأحمق الذي يقوده إلى الحيرة. وهكذا ظل سائراً في حماقته بينما يسمع التحذير تلو التحذير بالرجوع عنها. (ع13).

والعددين الأخيرين استئناف واستطراد للموضوع العام، وإعلان لمدى الدينونات الخطيرة التي لابد أن يجوزها. على أننا قبل أن نصطدم بهذه المشاهد الخطيرة، نقرأ كلمة نعمة، هي كقوس قزح ظهر في الجو الخانق المحمَّل بالغضب، تلك هي كلمات ع14. فإن ذاك الذي يزمع أن يفتقدهم بغضبه، يتحدث عن الرحمة والشفقة، واعداً بنظرة محبته في آخر الأمر. «من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلصهم. أين أوباؤك يا موت، أين شوكتك يا هاوية .تختفي الندامة عن عينيّ» (ع14).

وأي شيء أسمى بركة من وعد كهذا، في وسط محاكمة خطيرة كهذه؟ ففي الغضب يذكر الله الرحمة. وهكذا سوف يظهر كفادي مختاريه، محرِّراً من الموت والهاوية أسلابهما وضحاياهما، مخلَّصاً لكل الذين يتحولون إليه بروح منكسرة، معترفين بذنبهم. ويومئذ لن يندم عن مقاصد نعمته، ولذلك فإنهم يثبتون إلى الأبد في جوده ورحمته.

لقد كان إسرائيل منذ قرون، ولا يزال، كإنسان ميت، مدفوعاً في وسط الأمم، تائهاً كأخيلة الهاوية، لكن الساعة ليست بعيدة حين تتم رسالة دانيآل الأخيرة ونبوءة وادي العظام اليابسة في حزقيال37 «في ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت. وفي ذلك الوقت ينجى شعبك كل من يوجد مكتوبا في السفر. وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي» (دا1:12،2). وهناك شهادة لنبي أقدم بكثير، هو إشعياء (ص19:26). «تحيا أمواتك، تقوم الجثث. استيقظوا ترنموا يا سكان التراب لأن طلك طل أعشاب والأرض تسقط الأخيلة» كل هذه الأقوال سوف تتم بصورة مجيدة يوم تستيقظ بقية إسرائيل ويهوذا من نومة الموت، وتخرج عند نداء الله لترجع إلى صهيون بالأغاني، وفرح أبدي على رؤوسهم. وكذلك سوف تتم حرفياً أقوال سيدنا بصورة عجيبة «تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» ويتم كذلك قول الرائي «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى» (يو28:5،29، رؤ6:20).

وقد كان يسعدنا حقاً أن نختم أصحاحنا بهذه التذكِرة الكريمة لنعمة مخلِّصنا الله. غير أنه نافع وضروري أن نتذكر أن يوم قوة يهوه وظهور المسيا لم يأتِ بعد، ومن هنا نرجع لنتأمل في حالة إسرائيل التي يُرثى لها، وفي الأيام السوداء التي تنتظرهم قبل فجر المجد.

وإذ نتأمل في كلمات ع 15،16 الخطيرة، نتصور أن «قوس قزح» التي هي «شبه الزمرد» قد أخذت تتلاشى، وأن سحب الدينونة السوداء تتجمع وتتكاثف على أرض الموعد، بينما «من العرش تخرج بروق ورعود وأصوات»، نُذُر العاصفة المخيفة العتيدة أن تهبَّ على أولئك الذين كانت لهم عيون تبصر، فلم يبصروا، وآذان تسمع فلم يسمعوا قعقعة يوم السخط القادم، حتى فاتتهم الفرصة للاختباء. ومن عند الرب ستطلع من القفر ريح شرقية تجفف عيون الرجاء وينابيع الفرح وتنهب كل متاع. والخراب يطوى السامرة في لفافة الليل البهيم والويل العظيم «لأنها قد تمردت على إلهها»، فيسقطون تحت يد الآشوري السفاح الذي لا يبقي على شيخ ولا شاب ولا امرأة. صحيح أن هذا تم في زحف جيوش شلمنأسر على الأرض. لكنه سيتم بصورة أخرى حينما يكتسحها الآشوري الأخير كالطوفان المتمرد حتى توقفه نفخة الرب.

بهذا تنتهي أجزاء النبوءة. أما الأصحاح التالي والأخير فينطوي على دعوة رقيقة موجهة للشعب المرتد، تحرضهم على الرجوع إلى ذاك الذي هو رجائهم الوحيد الصالح.

  • عدد الزيارات: 3484