أصحاح 12: موازين الغش
من الأصحاح السابق يبدأ - كما قلنا - قسم جديد من النبوءة، قسم يستعرض الله فيه بأسلوب فاحص تفاصيل مفاسد أفرايم، ويعرِّى ينابيع كيانهم الأدبية، تلك التي انطلقت منها فجور تمرداتهم على الله إلههم.
لقد كان أفرايم - نظير الجامعة الملكي - في سعيه الباطل وراء ما يملأ القلب ويشبعه بعيداً عن الله، إنما يرعى الريح، يتغذى عليها، يتبع الريح الشرقية المخربة وبذلك يثبت أن «الكل باطل وقبض الريح (أو انقباض الروح)» إذ يكون القلب مبتعداً عن المصدر الحقيقي لكل خير. وفي محاولتهم لأن يتحالفوا مع الآشوري القوى الذي كانوا يرهبونه، ويرسلوا - كرشوة في الواقع - الزيت إلى مصر ليشتروا معونة عدوهم القديم، كانوا يقصدون بذلك أن يحوِّلوا اليوم الشرير، لكنهم إنما كانوا يتبعون الأكاذيب والتخريب. نعم ولن يكون في ميسور الفطنة البشرية أن تحوِّل أو تلغي يوم معاملات الرب معهم من أجل خطاياهم (ع1).
وكانت له كذلك مع يهوذا خصومة، فإن كلمة التشجيع التي حملها إليهم ع12 من ص11، لا تعني حتماً أن الله شبعان بهم. فإن ذرية يعقوب في مجموعها كانت تتباهى باعوجاجات والتواءات ذاك الذي طلعت منه. ومن هنا فلابد من معاقبتهم بحسب طرقهم، ومجازاتهم بحسب أفعالهم (ع2).
في الأعداد من 3-6 نرى يعقوب شخصياً أمامنا، صورة من كل الوجوه للشعب الذي تفرع منه. وإذ هو منذ مولده متعقب، فقد أظهر من البطن روح الطمع، قابضاً بعقب أخيه كما في تكوين26:25. بيد أن النعمة دخلت في الميدان، وفي ضيقته تمسك بالله، وجاهد معه (أو كما في هامش إحدى الترجمات "تصرف مع الله كأمير")، مترجماً عن اسمه الجديد - إسرائيل، أمير مع الله.
وإذ عجز عن مواصلة المصارعة تعلق بذاك الذي كان يتصارع معه، وهذه القوة التي بها غلب، إذ بكى واسترحمه. تلك هي التي يقول عنها واحد "قوة الضعف التي لا تقاوم"، فتعلق بذلك القوي، كما يقرر الرسول «حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوى»، وذلك هو سرُّ غلبته مع الله الذي وجده في بيت إيل، طريداً شريداً بسبب خطيته. وأعتقد أن القول «هناك تكلم معنا» يفترض ويتضمن أن كلمة الرب له في تلك الليلة حين كان يتوسد الأحجار، كانت موجهة كذلك لكل بيته، حتى إلى نهاية الزمن. فمهما تكن سقطاتهم فإن عينه أبداً عليهم «والرب إله الجنود، يهوه اسمه». أو «يهوه ذكره».
ليت إسرائيل تعلم، من هذا جميعه، أن يرجع إلى إلهه ويحفظ الرحمة والحق وينتظره دائماً! لكنهم عوض ذلك إنما سلكوا في طرق أبيهم، ومن هنا يطلق الله على أفرايم تشبيه «الكنعاني» أي التاجر الذي في يده موازين الغش. وهو فعلاً كنعاني، وهل من وصف أدق من هذا للعبراني منذ كان؟ فضميره لا يؤنبه إن هو استغل حاجة ضحاياه، وهو يطمع دائماً فيما لدى غيره، حتى أنه يهنئ نفسه على زيادة ثروته قائلاً «جميع أتعابي لا يجدون لي فيها ذنباً هو خطية» (ع8).
ولكن مهما تكن عتامة الصورة في الوقت الحاضر (أي منذ أيام هوشع حتى الآن) فإن الرب لم يطرح إلى التمام الأمة التي هو إلهها «من أرض مصر». وفي نعمة خالصة سوف يعيدهم إلى أرضهم القديمة متمِّماً مواعيده، آتياً بهم إلى كامل الاستمتاع بعيد المظال، يوم يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته بلا خوف من أحد، إذ تكون أتعابهم وقد انتهت، والدروس وقد استوعبوها، والحروب وقد أكملوها (ع9).
ولأجل هذه الغاية تكلم الله بالأنبياء، وكثَّر الرؤيا مستخدماً الأمثال، ليضغط على ضمائر الشعب بحالتهم التاعسة، مشجِّعاً إياهم بوعد البركة على أساس التوبة (ع10). وعند قراءة خدمة أولئك الأنبياء، من المهم أن نضع في بالنا تعليم العهد الجديد الذي يقول إنه ما من نبوءة في الكتاب من تفسير خاص، بل ينبغي أن نقرأ الكل على ضوء طرق الله كما أعلنها تماماً هوشع ودانيآل. فإن نهاية وحي نبوءات رجلي الله هذين، هي فتح الباب ليوم الرب وإقامة الملكوت بالمجد على الأرض، يوم يرجع إسرائيل بالقلب إلى الرب الذي مرة رفضوه، ويقترنون بمسيحهم كابن داود الذي له طال انتظارهم.
لقد كانت الغاية من خدمة الأنبياء هي الكشف عن حقيقة حالة الأشياء وهكذا كشفوا إثم الجلجال. لقد كتب على الجميع "بُطل". ففي الجلجال، حيث تدحرج عنهم عار مصر، ذبحوا ذبائح، لكن ليس للرب. كانت المذابح في كل موضع مثل أكوام الحجارة في أتلام الحقل، ولكن ليس لمجده (ع11). ولابد أن يكون لعملهم رمز سابق في يعقوب الذي بسبب خديعته هرب إلى أرام، وهناك رعى غنم لابان ليشتري زوجته بالمال والجهد (ع12). ويوم جاء وقت الرب المعيَّن لإخراج إسرائيل من مصر، فإنه بنبي أصعدهم، وبنبي قادهم في البرية وحفظهم في كل تجاربهم (ع13). فإلى هذا النوع من الخدمة ينبغي أن يلتفتوا مرة أخرى قبل أن يُنقَذوا من عبودية خطاياهم ويؤتى بهم إلى الاستمتاع بالميراث الموعود.
لكنهم عوض الانتباه إلى كلمة الله والاتضاع قدامه حين أرسل إليهم عبيده، نجد أنه قد «أغاظه إسرائيل بمرارة، فيترك دماءه عليه ويرد سيده عاره عليه» (ع14). إن الانتباه والخضوع للخدمة المرسلة من الله يؤدي إلى الاتساع والبركة، أما رفض شهادة الروح فإنما يضاعف ذنب من يقسي قلبه إزاءها، ويزيد من سوء حاله. هذه قاعدة صحيحة أن النور المرفوض يزيد من كثافة الظلام. ومن هنا تأتي الحاجة إلى ضمير حساس حي، يتجاوب مع كل كلمة من الله.
- عدد الزيارات: 3582