الفصل الثامن - الملك الجافي الوجه - حركة الملائكة في سفر دانيال
حركة الملائكة في سفر دانيال
وكان لما رأيت دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا بشبه إنسان واقف قبالتي وسمعت صوت إنسان بين أولاى فنادى وقال يا جبرائيل فهّم هذا الرجل الرؤيا" (دانيال 8: 5- 16) حرّكت الرؤيا فكر دانيال، وحاول أن يفهم المعنى، ولعله في ذلك الوقت رفع قلبه إلى الله ليشرح له المعنى "ادعني فأجيبك وأخبرك بعظائم وعوائص لم تعرفها" (ارميا 33: 3) وإذا به يرى شبه إنسان واقف قبالته. هذا الذي جاء في شبه إنسان كان هو جبرائيل الملاك، وقد قال عنه دانيال فيما بعد "وبينما أن أتكلم وأصلي.. إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مطاراً واغفاً لمسنى" 0دانيال 9: 20- 21) وهذه أول مرة يذكر فيها اسم جبرائيل (دانيال 8: 16) ثم ذكر بعدئذ (في دانيال 9: 20- 21) وذكر في العهد الجديد في (لوقا 1: 19- 26). وهو أحد ملاكين نعرف اسميهما، والملاك الثاني المذكور بالاسم في سفر دانيال هو "ميخائيل".
ويهمنا هنا أن نقول أن سفر دانيال يموج بحركة الملائكة كسفر رؤيا يوحنا، ففي الإصحاح السادس نرى ملاكاً يقضي الليلة مع دانيال في جب الأسود (دانيال 6: 22)، وفي الإصحاح السابع نقرأ عن "ألوف ألوف يخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه" (دانيال 7: 10) وفي الإصحاح الثامن نسمع قدوساً يتكلم إلى قدوس آخر، ثم نرى ونسمع جبرائيل الملاك (دانيال 8: 13- 15- 16- 17)، وفي الإصحاح التاسع نرى ونسمع جبرائيل أيضاً (دانيال 9: 21- 22) وفي الإصحاح العاشر نقرأ عن ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين (دانيال 10: 13) وفي الإصحاح الثاني عشر نقرأ عن ميخائيل الرئيس العظيم (دانيال 12: 1).
رأى دانيال جبرائيل في شبه إنسان، وسمع صوت إنسان ينادي جبرائيل آمراً إياه "يا جبرائيل فهّم هذا الرجل الرؤيا" كان هذا الصوت هو صوت الله صاحب السلطة العليا، والذي يأمر الملائكة فيفعلون أمره عند سماع صوت كلامه (مزمور 103: 20) وهكذا أطاع جبرائيل الملاك الأمر الإلهي الصادر إليه. "فجاء إلي حيث وقفت ولما جاء خفت وخررت على وجهي. فقال لي افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى" (دانيال 8: 17). ومع أن الملاك جبرائيل ظهر لدانيال في شبه صورة إنسان، إلا أن الخوف سيطر على دانيال حتى دفعه للسقوط على وجهه، لأنه كمخلوق ساقط لا يستطيع أن يحتمل مواجهة القداسة الكاملة التي ظهرت له في الملاك، وسقوطه على وجهه يعني إدراكه لعدم استحقاقه. ونقرأ عن زكريا أنه عندما رأى جبرائيل في الهيكل "اضطرب ووقع عليه خوفاً" (لوقا 1: 12)، وكذلك نقرأ أ،ه عندما وقف ملاك الرب أمام الرعاة عندما ولد المسيح "خافوا خوفاً عظيماً" (لوقا 2:9) فالمخلوق الترابي يصعب عليه مواجهة سكان العالم السماوي.
قال جبرائيل لدانيال "افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى" (دانيال 8: 27) وقد يظن القارئ السطحي أن الوقت المنتهى هنا هو نهاية هذا الدهر ولكن عدد 19 يريق نوراً على المعنى " وقال هاأنذا أعرفك ما يكون في آخر السخط, لأن لميعاد الانتهاء" ثم نجد في عدد 23 نوراً أكثر "وفي آخر مملكتهم عند تمام المعاصي يقوم ملك جافي الوجه وفاهم الحيل".
ووضع هذه النصوص معاً يوضح لنا معنى الكلمات "إن الرؤيا لوقت المنتهى" فوقت المنتهى يشير إلى الوقت الذي يسمح فيه الرب بوقوع الذي والاضطهاد على إسرائيل بسبب معاصيهم التي ملأت مكيال آثامهم وذلك خلال حكم انطيوخوس ابيفانس الملك الجافي الوجه أي القاسي في منظره، والذي لا يخضع لعاطفة إنسانية، ويأتي ملكه في الحقبة الأخيرة لحكم السلوقيين في سوريا. وقد كان ملكاً سياسياً من طراز فريد، وكانت لديه القدرة على إخفاء خططه عن طريق الكلام الغامض وبهذا وصل إلى أهدافه ولذا أسمته النبوة "فاهم الحيل" "وتعظم قوته ولكن ليس بقوته. يهلك عجباً وينجح ويفعل ويبيد العظماء وشعب القديسين" (دانيال 8: 24).
وتعني هذه الكلمات أن انطيوخوس ابيفانس تعظم قوته بالسماح الإلهي، وقد تعني أيضاً أنها تعظم بالحيل السياسية وليس بالقوة الذاتية أو العسكرية. وانطيوخوس ابيفانس سيهلك الكثيرين بصورة تدعو للعجب، ويبيد العظماء وهم أعداءه السياسيين، كما يبيد الإسرائيليين الذين تصفهم النبوة في ذلك الوقت بأنهم "شعب القديسين". "وبحذاقته ينجح أيضاً المكر في يده ويتعظم بقلبه وفي الاطمئنان يهلك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر" (دانيال 8: 25).
وتعني هذه الكلمات أنه بسبب ذكائه سينجح المكر الذي يستخدمه. ويتعظم بقلبه المملوء بالكبرياء فيبتكر خططاً لتمجيد ذاته. وفي الاطمئنان يهلك كثيرون أي يأتي على المطمئنين ويهلكهم دون أن يتوقعوا هجومه عليهم. تماماً كما فعل سبط دان في القديم إذ "جاؤا إلى لايش شعب مستريح مطمئن وضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار" (قضاة 18: 27) "ويقوم على رئيس الرؤساء" إي على الله ذاته الذي نقرأ عنه في (دانيال 8: 11) ـنه "رئيس الجند" "فيجدف عليه ويستهين بناموسه ويذل شعبه وبلا يد ينكسر". إذ ضربه الرب بمرض خطير قضى عليه كما ذكرنا فيما سبق.
"فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق"
أي الرؤيا التي رآها في الصور المرئية
والرؤيا التي سمعها ورآها في الكلمات المسموعة.
ويقول جبرائيل لدانيال في نهاية حديثه له "أما أنت فاكتم الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة" (دانيال 8: 26) ومعنى اكتم الرؤيا يحمل معنى حفظها لأيام كثيرة، لأن كلماتها ستكون سبب قوة وتعزية للقديسين.
"وأنا دانيال ضعفت ونحلت أياماً ثم قمت وباشرت أعمال الملك. وكنت متحيراً من الرؤيا ولا فاهم" (دانيال 8: 27).
لقد كان التأثير النفسي لهذه الرؤيا من القوة بحيث أضعف دانيال، ونحل أياماً إلى أن استعاد قوته وعاد إلى أعماله.
ولقد استمرت محتويات الرؤيا مطبوعة في ذهن دانيال وملأته حيرة. لأن الرؤيا تتحدث عن أحداث ستتم في المستقبل البعيد فإنه لم يفهمها. ونجد اعتراف دانيال بعدم فهمه مرة أخرى في (دانيال 12: 8) "وأنا سمعت وما فهمت"
يقول دكتور فريد مارتن "بغير افتخار بشري، أو غرور إنساني يمكننا القول بأن المؤمن الذي يدرس كلمات النبوة بتفكير وفهم وخضوع للروح القدس، يمكنه فهم نبوات دانيال أكثر من دانيال نفسه. لأن المؤمن المحب للكلمة النبوية له ثلاث امتيازات لم تكن لدانيال:
أولها: الإتمام التاريخي لكثير من أجزاء هذه النبوات.
ثانياً: العهد الجديد بكماله بإعلان الله في المسيح.
ثالثاً: سكنى الروح القدس الذي هو مفسر الكلمة كما أنه هو الذي أوحى بها.
نقرأ في ختام سفر دانيال الكلمات "... ولا يفهم أحد الأشرار لكن الفاهمون يفهمون" (دانيال 12: 10).
أما اعتراف دانيال بعدم فهمه وقت إعطائه النبوة فهو يؤكد لنا صدق كلمات بطرس الرسول عن الأنبياء "الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور" (1 بطرس 1: 12) بل أيضاً صدق كلماته "عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأتي نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بطرس 1:20- 21).
- عدد الزيارات: 28949