الفصل الثامن - الملك الجافي الوجه
لغة هذا الإصحاح
ابتدأ من العدد الأول في الإصحاح الثامن من سفر دانيال، نجد أن دانيال يستخدم اللغة العبرية. ويبدو أن سبب الانتقال من اللغة الآرامية وهي اللغة التي عم استخدامها في بابل. إلى اللغة العبرانية وهو لغة الشعب القديم هو أن الإصحاحات القادمة في سفر دانيال تتعامل بصورة مركزة مع النبوات التي لها علاقة مباشرة مع الشعب القديم وبملكوت الله.
زمان ومكان رؤية دانيال الثانية
"في السنة الثالثة من ملك بيلشاصر الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت في الابتداء. فرأيت في الرؤيا وكان في رؤياي وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام, ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي" (دانيال 8: 1- 2).
يسجل دانيال بكلماته زمان ومكان الرؤيا التي رآها، ويعلن أنها رؤيا ثانية "بعد التي ظهرت في الابتداء". أما زمان هذه الرؤيا الثانية فهو السنة الثالثة من ملك بيلشاصر، أي قرب نهاية الإمبراطورية البابلية، وبعد سنتين من زمان الحلم الذي سجله في الإصحاح السابع. ويجدر بنا أن نلاحظ أنه في الإصحاح السابع رأى دانيال حلماً وهو على فراشه. أما في هذا الإصحاح فقد رأى رؤيا وهو مستيقظ ومكان الرؤيا عند نهر أولاي، وهو مجرى مائي، ماؤه بلون الدم كما يقول "اشور بانيبال" موقعه مدينة شوشان، أو شوشن وهي المدينة التي ذكرت في سفر استير (استير 3: 15) وفي سفر نحميا (نحميا 1" 1) والواقعة في ولاية عيلام.
الرؤية ذاتها
يضيف دانيال بكلماته النبوية في هذا الإصحاح تفاصيل جديدة لها أهميتها، فبينما الحلم الذي رآه في الإصحاح السابع في السنة الأولى لبيلشاصر ملك بابل يقدم الممالك الأربع التي ذكرت أولاً في حلم الملك نبوخذ نصر في التمثال العظيم الذي تدرج من الذهب إلى الفضة، إلى النحاس، على الحديد المختلط بخزف الطين. بينما هو يقدم هذه الممالك في صورة أربعة حيوانات ويوجه الالتفات بصورة خاصة إلى الحيوان الرابع الذي يشير إلى الإمبراطورية الرومانية وعلى الأخص في صورتها النهائية عند ظهور وحش سفر الرؤيا. فإنه في هذه الرؤيا الثانية التي نحن بصدد شرحها في هذا الفصل يوجه الالتفات خاصة إلى الإمبراطوريتين الثانية والثالثة.. الإمبراطورية المادية والفارسية، والإمبراطورية اليونانية.
وقبل أن نستطرد في شرحنا لمحتويات هذا الإصحاح نقول أن التاريخ الذي ذكره دانيال وهو " السنة الثالثة من ملك بيلشاصر" يرينا أن سفر دانيال لم يكتب بترتيب تاريخي، فالإصحاح الخامس الذي يسجل نهاية الإمبراطورية البابلية كتب في السفر قبل الإصحاح الثامن الذي سجل فيه دانيال رؤياه الثانية التي رآها خلال ملك بيلشاصر.
كذلك نقول أن ذكر دانيال لاسمه بصيغة المتكلم "ظهرت لي أنا دانيال" (دانيال 8: 1) "وكان لما رأيت أنا دانيال" (دانيال 8: 15) يؤكد وحدة السفر، كما يؤكد أن كاتبه هو دانيال النبي.
الكبش ذو القرنين
"فرفعت عيني ورأيت وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيراً" (دانيال 8: 3).
تظهر دقة النبوة في وصف الكبش، فمع أنه كبش واحد إلا أن له قرنان. هذا الكبش يشير إلى الإمبراطورية المادية الفارسية كما نقرأ في (دانيال 8: 20) "أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادى وفارس" وهذا يتفق مع الصدر والذراعين في التمثال الذي رآه نبوخذ نصر (دانيال 2: 32).
والكبش له قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيراً.
القرن الأعلى هو فارس، والأدنى هو مادى، وطلوع القرن الأعلى أخيراً يرينا أن الفارسيين جاؤا إلى مركز القوة بعد الماديين، وأخذوا مكان القيادة والسيطرة في الإمبراطورية تحت حكم الملك كورش.
"رأيت الكبش ينطح غرباً وشمالاً وجنوباً فلم يقف حيوان قدامه ولا منقذ من يده وفعل كمرضاته وعظم" (دانيال 8:4).
والنبوة ترينا كيف وسعت الإمبراطورية الفارسية حدودها من بلادها الأصلية نحو الغرب إلى سوريا وأسيا الصغرى، ونحو الشمال إلى أرمينيا والمنطقة الواقعة حول بحر قزوين، ونحو الجنوب، إلى مصر والحبشة. وتعلن النبوة أنه لم تقف قوة أمام الإمبراطورية الفارسية، ولم يكن هناك من ينقذ الشعوب من سطوتها حتى بلغت نهايتها.
تيس المعز
"وبينما كنت متأملاً إذا بتيس من المعز جاء من الغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض وللتيس قرن معتبر بين عينيه" (دانيال 8: 5).
كان دانيال يتأمل ما يرى، وإذا به يرى تيساً من المعز جاء من الغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض. وقد أعلن الملاك جبرائيل لدانيال ما يشير إليه هذا التيس فقال "والتيس العافي ملك اليونان والقرن العظيم الذي بين عينيه هو الملك الأول" (دانيال 8: 21).
بهذا عرفنا أن تيس المعز يشير إلى الإمبراطورية اليونانية، إمبراطورية النحاس في التمثال الذي رآه نبوخذ نصر، وعرفنا كذلك أن القرن المعتبر العظيم في هذه الإمبراطورية هو أول ملك وسع حدودها، هو الإسكندر الأكبر الذي تولى الحكم بعد اغتيال أبيه الملك فيليب ملك مكدونية.
"وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفاً عند النهر وركض إليه بشدة قوته. ورأيته قد وصل إلى جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسّر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه وطرحه على الأرض وداسه ولم يكن للكبش منقذ من يده" (دانيال 8: 6- 7).
قام الملك الإسكندر الأكبر بعد توليه الحكم بقيادة جيشه لغزو الإمبراطورية الفارسية انتقاماً منها بسبب غزوها السابق لليونان، وبعد عدة حملات موفقة، رائعة، حاسمة، قضى الإسكندر الأكبر تماماً على قوة الإمبراطورية الفارسية. والتعبير "ولم يمس الأرض " يشير إلى سرعة انقضاض جيوش الاسكندر الخاطفة في غزواته.
ونقول أنه كان من تدبير الله أن تعد غزوات الإسكندر الطريق لانتشار اللغة اليونانية حول المنطقة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، واستخدام هذه اللغة الدقيقة التعبير في كتابة العهد الجديد.
"فتعظم تيس المعز جداً ولما اعتز انكسر القرن العظيم وطلع عوضاً عنه أربعة قرون معتبرة نحو رياح السماء الأربع" (دانيال 8: 8).
يقف دارس سفر دانيال متعجباً من الدقة المتناهية لكلمات النبوة، فالنبوة تتحدث عن عظمة الإمبراطورية اليونانية، إمبراطورية الفلسفة وأساطير الآلهة، ثم تنتقل بدقتها الرائعة إلى القرن العظيم فتقول عنه "ولما اعتز انكسر القرن العظيم".. وهذا ما حدث تماماً لإمبراطورية الاسكندر الأكبر ولشخصه. فلقد كان الاسكندر بكل يقين أحد عباقرة القادة العسكريين في التاريخ، وكان في الثانية والعشرين من عمره عندما عبر حدود الدولة الهلينية اليونانية لبدء غزواته العسكرية. وتقول أسطورة تحكي عنه أنه بكي لأنه لم يجد أرضاً أخرى يغزوها. وقد انكسر هذا القرن العظيم "الاسكندر" إذ مات في بابل سنة 323 قبل المسيح وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وبعد موته، وبعد سنوات من الحرب بين قواد جيشه، قسّم أربعة من قادة الجيش الإمبراطورية اليونانية فيما بينهم.. وهذا هو التقسيم الذي تم:
[1] مكدونية تحت سيطرة كاساندر
[2] آسيا الصغرى تحت سيطرة ليسيماخوس
[3] سوريا تحت سيطرة سيلقوس
[4] مصر تحت سيطرة بطليموس
وهكذا تقسمت الإمبراطورية "نحو رياح السماء الأربع" وتم التفسير الذي قاله الملاك جبرائيل لدانيال " وإذ انكسر – أي الاسكندر الأكبر- وقام أربعة عوضاً عنه فستقوم أربعة ممالك من الأمة ولكن ليس في قوته" (دانيال 8: 22).
الملك الجافي الوجه
" ومن واحد منها خرج قرن صغير وعظم جداً نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضي" (دانيال 8: 9)
بينما نقرأ في الإصحاح السابع عن قرن صغير آخر خرج من الإمبراطورية الرومانية "وقلعت ثلاثة من القرون الأولى من قدامه" (دانيال 7: 8). نجد أن هذا القرن الصغير خرج من واحد من القرون الأربعة.. أي القادة الأربعة الذين قسموا الإمبراطورية اليونانية فيما بينهم، ويهمنا من هؤلاء القادة اثنين: بطليموس الذي حكم مصر، وسيلقوس الذي حكم سوريا. والتاريخ النبوي لهذين الدولتين معطى ببعض التفصيل في الإصحاح الحادي عشر من سفر دانيال.
وتنتقل النبوة في الإصحاح الثامن إلى شخص "القرن الصغير"، وهو الذي خرج من سلالة السلوقيين.
لقد أسس سيلقوس عاصمة ملكه في مدينة جديدة أسماها "أنطاكية" تخليداً لذكرى أبيه انطيوخوس" وقد اشتهرت هذه المدينة في زمن العهد الجديد إذ نقرأ عنها "ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً" (أعمال 11: 26) وكانت المركز الذي بدأ منه بولس الرسول رحلته التبشيرية (أعمال 13: 1- 3).
هذا القرن الصغير الذي خرج من سلالة السلوقيين، سمّي في النبوة بهذا الاسم لأنه خرج من حالة كونه صغيراً إلى مركز العظمة. وهناك جماع يكون تاماً على أن هذا القرن الصغير هو "انطيوخوس ابيفانس" الملك الجافي الوجه، والذي وصفته النبوة في (دانيال 8: 23- 25). وهو يظهر مرة أخرة في النبوة في لإصحاح الحادي عشر.
ولا يجب أن نخلط بأية صورة بين القرن الصغير المذكور في الإصحاح السابع، والقرن الصغير المذكور هنا في الإصحاح الثامن. فالقرن الصغير في القرن السابع سيظهر من بين القرون العشرة للحيوان الرابع، الإمبراطورية الرومانية، ومازال ظهوره مستقبلاً. أما القرن الصغير في الإصحاح الثامن فقد ظهر من أحج أقسام الإمبراطورية اليونانية وقد ظهر فعلاً في التاريخ باسم "انطونيوخوس ابيفانس"، مع أن ظهوره كان مازال في المستقبل حين كتب دانيال نبوته، أما الآن فإن حياته بالنسبة إلينا تعبيراً تاريخياً قديماً. هذا القرن الصغير "انطيوخوس ابيفانس" عظم جداً نحو الجنوب والشرق ونحو فخر الأراضي. وفخر الأراضي اسم كتابي لفلسطين كما نقرأ في سفر حزقيال عن الشعب القديم "في ذلك اليوم رفعت لهم يدي لأخرجهم من أرض مصر إلى الأرض التي تجسستها لهم تفيض لبناً وعسلاً هي فخر كل الأراضي" (حرقيال 20: 6) [اقرأ أيضاً أرميا 3: 19 ودانيال 11: 16].
وقد ركز "انطيوخوس ابيفانس" جهوده ضد "فخر الأراضي" أرض كنعان، أرض إسرائيل ولذا أعطته النبوة هذه الأهمية.
"وتعظم حتى إلى جند السموات وطرح بعضاً من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم، وحتى إلى رئيس الجند تعظم وبه أبطلت المحرقة الدائمة وهدم مسكن مقدسه. وجعل جند على المحرقة الدائمة بالمعصية فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح" (دانيال 8: 10- 12).
"جند السموات" تعبير مجازي عن الشعب القديم كما قال الرب لموسى وهرون "ولا يسمع لكما فرعون حتى أجعل يدي على مصر فأخرج أجنادى شعبي بني إسرائيل من أرض مصر بأحكام عظيمة" (خروج 7: 4) وفي سفر رؤيا نقرأ عن القديسين العائدين مع الرب "والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بذا أبيض ونقياً" (رؤيا 19: 14).
أما النجوم فهي اسم مجازي للقديسين الذين ردوا كثيرين إلى البر. فبينما المدعين الإيمان هم "نجوم تائهة محفوظ لها قتام الظلام إلى الأبد" (يهوذا 13) فإن الذين ردوا كثيرين إلى البريضيئون " كالكواكب إلى أبد الدهور" (دانيال 12: 3) فأنطيوخوس ابيفانس تعظم على القديسين أجناد الرب، وطرح بعضاً من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم. فازداد في غرور كبريائه فتعظم على الرب "رئيس الجند" الذي ظهر ليسوع وقال له "أنا رئيس جند الرب" ؛يسوع 5: 14).
وقد أبطل انطيوخوس المحرقة الدائمة إمعاناً في اضطهاده الأسود للشعب القديم، والمحرقة الدائمة تشير ليس فقط إلى المحرقة اليومية (لاويين 6: 12- 13) بل إلى كل المحرقات الدائمة التي تقدم على المذبح. وبهذا أوقف كل أنواع الخدمة في الهيكل، وقد عبّر دانيال في نبوته عن هذا العمل بكلماته "وهدم مسكن مقدسه". ومسن مقدسه هو المسكن الذي عينه الرب لعبادته (خروج 15: 17).
"وجعل جند على المحرقة الدائمة بالمعصية" وقد شرح "مورير " و"هافرنك" و"كيل" هذا النص بأن عدداً من الإسرائيليين ارتدوا عن الرب مع إبطال المحرقة الدائمة. لكنني أرى في النص أن انطيوخوس ابيفانس جعل حراسة بوليسية على الهيكل وهو مكان تقديم المحرقة الدائمة، بسبب معصيته وتحديه لله ولكل ما هو مقدس. "فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح"... والحق هو عبادة الله الحي كما قال يسوع للمرأة السامرية "الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يوحنا 4: 24). وقد نجح انطيوخوس ابيفانس فيما فعل حتى حان وقت نهايته.
مدة الألفين وثلاث مئة صباح ومساء
"فسمعت قدوساً واحداً يتكلم فقال قدوس واحد لفلان المتكلم إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة الدائمة ومعصية الخراب لبذل الجند والقدس مدوسين. فقال لي إلى ألفين وثلاث مئة صباح فيتبرأ القدس" (دانيال 8: 13- 14\\\9\ز
تنتقل الرؤيا الآن من الصور المرئية إلى الأصوات المسموعة. فقد سمع دانيال "قدوساَ واحداَ يتكلم"، هذا القدوس هو ملاك من الملائكة القديسين (اقرأ متى 25: 31)، ونحن نجد حديثاً مماثلاً في سفر زكريا "فأجاب ملاك الرب وقال. يا رب الجنود إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذا السبعين سنة" (زكريا 1: 12). تكلم هذا الملاك وإذا بملاك آخر يسأله عن الزمن الذي تستغرقه حوادث الرؤيا، وإبطال المحرقة الدائمة، ودياسة جند الرب؟
وقد رد الملاك لا على الملاك الذي سأله بل على دانيال قائلاً "إلى ألفين وثلاث مئة صباح ومساء فيتبرأ القدس" (دانيال 8: 14). هذه هي المدة التي حددتها النبوة لاضطهاد انطيوخوس ابيفانس للشعب القديم وحرمانه من عبادة إلهه.
كثيرون من المفسرين تخبطوا في شرحهم في هذه المدة. فقال بعضهم إن ال 2300 صباح ومساء هي 2300 سنة باعتبار أن اليوم سنة. وهؤلاء المفسرون حاولوا أ يربطوا نبوة دانيال من وقت وجوده بالأيام الأخيرة التي تسبق المجيء الثاني للمسيح.
لكن الكلمة العبرية لهذه الحقبة الزمنية تحرسنا من الوقوع في هذا الخطأ إذ ترينا أن المدة هي أيام حرفية فهي حرفياً 2300 صباح ومساء وهي بالقطع تشير إلى المدة التي توقفت خلالها المحروقات التي كانت تقدم على المذبح كل صباح ومساء يومياً في العبادة الطقسية اليهودية.
وهذه المدة ألفان وثلاث مئة صباح ومساء هي مدة اضطهاد انطيوخوس ابيفانس للشعب القديم، وقد أعطى انطيوخوس لنفسه اسم ابيفانس الذي معناه "المجيد" وقد استمر الاضطهاد من سنة 171 قبل المسيح إلى سنة 165 قبل الميلاد. وانتهت مدة الاضطهاد بثورة اليهود التي قادها كاهن شيخ اسمه ماتاسياس . وقد صار أولاد ماتاسياس القادة العسكريين لهذا التمرد ولاسيما يهوذا الذي لقب باسم يهوذا المكابى ومعناه "المطرقة"، وقد عرف إتباع يهوذا المكابى في التاريخ باسم المكابيين.
في سنة 165 ق.م. طرد يهوذا المكابى الغزاة الوثنيين، وطهر الهيكل، واحتفل بهذا الحادث بتأسيس عيد التجديد لذكراه، وهو العيد المذكور في زمن العهد الجديد خلال مدة خدمة ربنا يسوع المسيح على الأرض (يوحنا 10: 22).
ولقد مات انطيوخوس ابيفانس بمرض خطير جاء كعقاب من الله وتمت فيه كلمة النبوة " وبلا يد ينكسر" (دانيال 8: 25).
لقد أطلق بعض المفسرين على انطيوخوس ابيفانس اسم "الدكتاتور العالمي للعهد القديم" وذلك لتشابه أفعال وتصرفاته لأفعال وتصرفات الدكتاتور القادم المذكور في (رؤيا 13: 1- 8). ولكن علينا أن لا نخلط بين الشخصيتين.
حركة الملائكة في سفر دانيال
وكان لما رأيت دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا بشبه إنسان واقف قبالتي وسمعت صوت إنسان بين أولاى فنادى وقال يا جبرائيل فهّم هذا الرجل الرؤيا" (دانيال 8: 5- 16) حرّكت الرؤيا فكر دانيال، وحاول أن يفهم المعنى، ولعله في ذلك الوقت رفع قلبه إلى الله ليشرح له المعنى "ادعني فأجيبك وأخبرك بعظائم وعوائص لم تعرفها" (ارميا 33: 3) وإذا به يرى شبه إنسان واقف قبالته. هذا الذي جاء في شبه إنسان كان هو جبرائيل الملاك، وقد قال عنه دانيال فيما بعد "وبينما أن أتكلم وأصلي.. إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مطاراً واغفاً لمسنى" 0دانيال 9: 20- 21) وهذه أول مرة يذكر فيها اسم جبرائيل (دانيال 8: 16) ثم ذكر بعدئذ (في دانيال 9: 20- 21) وذكر في العهد الجديد في (لوقا 1: 19- 26). وهو أحد ملاكين نعرف اسميهما، والملاك الثاني المذكور بالاسم في سفر دانيال هو "ميخائيل".
ويهمنا هنا أن نقول أن سفر دانيال يموج بحركة الملائكة كسفر رؤيا يوحنا، ففي الإصحاح السادس نرى ملاكاً يقضي الليلة مع دانيال في جب الأسود (دانيال 6: 22)، وفي الإصحاح السابع نقرأ عن "ألوف ألوف يخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه" (دانيال 7: 10) وفي الإصحاح الثامن نسمع قدوساً يتكلم إلى قدوس آخر، ثم نرى ونسمع جبرائيل الملاك (دانيال 8: 13- 15- 16- 17)، وفي الإصحاح التاسع نرى ونسمع جبرائيل أيضاً (دانيال 9: 21- 22) وفي الإصحاح العاشر نقرأ عن ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين (دانيال 10: 13) وفي الإصحاح الثاني عشر نقرأ عن ميخائيل الرئيس العظيم (دانيال 12: 1).
رأى دانيال جبرائيل في شبه إنسان، وسمع صوت إنسان ينادي جبرائيل آمراً إياه "يا جبرائيل فهّم هذا الرجل الرؤيا" كان هذا الصوت هو صوت الله صاحب السلطة العليا، والذي يأمر الملائكة فيفعلون أمره عند سماع صوت كلامه (مزمور 103: 20) وهكذا أطاع جبرائيل الملاك الأمر الإلهي الصادر إليه. "فجاء إلي حيث وقفت ولما جاء خفت وخررت على وجهي. فقال لي افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى" (دانيال 8: 17). ومع أن الملاك جبرائيل ظهر لدانيال في شبه صورة إنسان، إلا أن الخوف سيطر على دانيال حتى دفعه للسقوط على وجهه، لأنه كمخلوق ساقط لا يستطيع أن يحتمل مواجهة القداسة الكاملة التي ظهرت له في الملاك، وسقوطه على وجهه يعني إدراكه لعدم استحقاقه. ونقرأ عن زكريا أنه عندما رأى جبرائيل في الهيكل "اضطرب ووقع عليه خوفاً" (لوقا 1: 12)، وكذلك نقرأ أ،ه عندما وقف ملاك الرب أمام الرعاة عندما ولد المسيح "خافوا خوفاً عظيماً" (لوقا 2:9) فالمخلوق الترابي يصعب عليه مواجهة سكان العالم السماوي.
قال جبرائيل لدانيال "افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى" (دانيال 8: 27) وقد يظن القارئ السطحي أن الوقت المنتهى هنا هو نهاية هذا الدهر ولكن عدد 19 يريق نوراً على المعنى " وقال هاأنذا أعرفك ما يكون في آخر السخط, لأن لميعاد الانتهاء" ثم نجد في عدد 23 نوراً أكثر "وفي آخر مملكتهم عند تمام المعاصي يقوم ملك جافي الوجه وفاهم الحيل".
ووضع هذه النصوص معاً يوضح لنا معنى الكلمات "إن الرؤيا لوقت المنتهى" فوقت المنتهى يشير إلى الوقت الذي يسمح فيه الرب بوقوع الذي والاضطهاد على إسرائيل بسبب معاصيهم التي ملأت مكيال آثامهم وذلك خلال حكم انطيوخوس ابيفانس الملك الجافي الوجه أي القاسي في منظره، والذي لا يخضع لعاطفة إنسانية، ويأتي ملكه في الحقبة الأخيرة لحكم السلوقيين في سوريا. وقد كان ملكاً سياسياً من طراز فريد، وكانت لديه القدرة على إخفاء خططه عن طريق الكلام الغامض وبهذا وصل إلى أهدافه ولذا أسمته النبوة "فاهم الحيل" "وتعظم قوته ولكن ليس بقوته. يهلك عجباً وينجح ويفعل ويبيد العظماء وشعب القديسين" (دانيال 8: 24).
وتعني هذه الكلمات أن انطيوخوس ابيفانس تعظم قوته بالسماح الإلهي، وقد تعني أيضاً أنها تعظم بالحيل السياسية وليس بالقوة الذاتية أو العسكرية. وانطيوخوس ابيفانس سيهلك الكثيرين بصورة تدعو للعجب، ويبيد العظماء وهم أعداءه السياسيين، كما يبيد الإسرائيليين الذين تصفهم النبوة في ذلك الوقت بأنهم "شعب القديسين". "وبحذاقته ينجح أيضاً المكر في يده ويتعظم بقلبه وفي الاطمئنان يهلك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر" (دانيال 8: 25).
وتعني هذه الكلمات أنه بسبب ذكائه سينجح المكر الذي يستخدمه. ويتعظم بقلبه المملوء بالكبرياء فيبتكر خططاً لتمجيد ذاته. وفي الاطمئنان يهلك كثيرون أي يأتي على المطمئنين ويهلكهم دون أن يتوقعوا هجومه عليهم. تماماً كما فعل سبط دان في القديم إذ "جاؤا إلى لايش شعب مستريح مطمئن وضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار" (قضاة 18: 27) "ويقوم على رئيس الرؤساء" إي على الله ذاته الذي نقرأ عنه في (دانيال 8: 11) ـنه "رئيس الجند" "فيجدف عليه ويستهين بناموسه ويذل شعبه وبلا يد ينكسر". إذ ضربه الرب بمرض خطير قضى عليه كما ذكرنا فيما سبق.
"فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق"
أي الرؤيا التي رآها في الصور المرئية
والرؤيا التي سمعها ورآها في الكلمات المسموعة.
ويقول جبرائيل لدانيال في نهاية حديثه له "أما أنت فاكتم الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة" (دانيال 8: 26) ومعنى اكتم الرؤيا يحمل معنى حفظها لأيام كثيرة، لأن كلماتها ستكون سبب قوة وتعزية للقديسين.
"وأنا دانيال ضعفت ونحلت أياماً ثم قمت وباشرت أعمال الملك. وكنت متحيراً من الرؤيا ولا فاهم" (دانيال 8: 27).
لقد كان التأثير النفسي لهذه الرؤيا من القوة بحيث أضعف دانيال، ونحل أياماً إلى أن استعاد قوته وعاد إلى أعماله.
ولقد استمرت محتويات الرؤيا مطبوعة في ذهن دانيال وملأته حيرة. لأن الرؤيا تتحدث عن أحداث ستتم في المستقبل البعيد فإنه لم يفهمها. ونجد اعتراف دانيال بعدم فهمه مرة أخرى في (دانيال 12: 8) "وأنا سمعت وما فهمت"
يقول دكتور فريد مارتن "بغير افتخار بشري، أو غرور إنساني يمكننا القول بأن المؤمن الذي يدرس كلمات النبوة بتفكير وفهم وخضوع للروح القدس، يمكنه فهم نبوات دانيال أكثر من دانيال نفسه. لأن المؤمن المحب للكلمة النبوية له ثلاث امتيازات لم تكن لدانيال:
أولها: الإتمام التاريخي لكثير من أجزاء هذه النبوات.
ثانياً: العهد الجديد بكماله بإعلان الله في المسيح.
ثالثاً: سكنى الروح القدس الذي هو مفسر الكلمة كما أنه هو الذي أوحى بها.
نقرأ في ختام سفر دانيال الكلمات "... ولا يفهم أحد الأشرار لكن الفاهمون يفهمون" (دانيال 12: 10).
أما اعتراف دانيال بعدم فهمه وقت إعطائه النبوة فهو يؤكد لنا صدق كلمات بطرس الرسول عن الأنبياء "الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور" (1 بطرس 1: 12) بل أيضاً صدق كلماته "عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأتي نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بطرس 1:20- 21).
- عدد الزيارات: 28951