الفصل الثالث - الرجال الذين قالوا للملك "لا" - المرسوم الإمبراطوري
المرسوم الإمبراطوري
"فأجاب نبوخذ نصر وقال تبارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه وغيروا كلمة الملك وأسلموا أجسادهم لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير ألههم. فمتى صدر أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبدنغو بأنهم يصيرون إرباً إرباً وتجعل بيوتهم مزبلة إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا، حينئذ قدم الملك شدرخ وميشخ وعبدنغو في ولاية بابل" (دانيال 3: 8- 3).
نتيجة هذا الإنقاذ المعجزي، بارك الملك نبوخذ نصر الله، لكنه باركه على اعتبار أنه "إله شدرخ وميشخ وعبدنغو" (دانيال 3: 8) وليس إلهه هو. تماماً كما فعل بعد أن أخبره دانيال بحلمه وتعبيره إذ قال "حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار" (دانيال 2: 47). فنبوخذ نصر رغم الحلم الذي رآه، والمعجزة الكبرى التي شاهدها بعينيه مازال ملكاً وثنياً. فالمعجزات لا تغير القلوب.
ولقد مدح الملك شدرخ وميشخ وعبدنغو لأنهم اتكلوا على إلههم، وغيروا كلمة الملك، وأسلموا أجسادهم للنار لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير إلههم. وهذه شهادة لمدى أمانة هؤلاء الرجال، وولائهم المطلق لله الذي آمنوا به. إن الله يستخدم لمجده أولئك الذين يكرسون نفوسهم له بالتمام، ويضعون حياتهم على مذبحه حتى الموت.
وأصدر الملك نبوخذ نصر أمراً إلى كل الشعوب والأمم والألسنة في إمبراطوريته يحذرهم من الكلام بالسوء من يعصى هذا الأمر.
ويقف المرء متعجباً من ملك لم يعط لله قلبه، ولم يعترف به إلهاً له، ومع ذلك فهو يحمي اسمه؟!!
وتنتهي القصة التاريخية الواقعية بأن "قدم الملك شدرخ وميشخ وعبدنغو في ولاية بابل" (دانيال 3: 30).
والنجاح المادي يأتي نتيجة أمانتنا لله.
فأمانة يوسف أوصلته أن يكون رئيساً على كل أرض مصر.
وأمانة دانيال أوصلته إلى ق النجاح في ملك داريوس.
فالأمانة للرب هي مفتاح النجاح في كل دوائر الحياة.
"كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" (رؤيا 2: 10).
بقي أن نجيب على ثلاثة أسئلة هامة بخصوص هذا الإصحاح.
السؤال الأول: أين كان دانيال حين نصب الملك التمثال الذهبي؟
وبغير شك أن دانيال لم يكن موجوداً في بقعة دوراً في ذلك الوقت. لقد كان منصب دانيال في باب الملك (دانيال 2: 49) ولعل الملك أرسله في مهمة خاصة.. إن ما نعرفه عن دانيال أنه لو كان موجوداً في المشهد لكان أحد الذين ألقاهم الملك في وسط الأتون، فقد أبى في مناسبة أخرى أن يوجه الصلاة إلى الملك داريوس لمدة ثلاثين يوماً وألقي في جب الأسود.
وعدم ذكر دانيال في هذا الإصحاح دليل قاطع على وحي الكتاب المقدس، وصدقه، ودقته، لأنه لو كان سفر دانيال سفراً خيالياً كتب عن بطل اسمه دانيال كما يقول النقاد، لرأينا دانيال في المقدمة في كل قصصه وحوادثه، ولكن غياب دانيال عن المشهد يؤكد لنا أن السجل المقدس سجل لنا تاريخاً أميناً وحقيقياً.
والسؤال الثاني: لماذا تذكر هذه الحادثة التاريخية في سفر نبوي؟ وهل من علاقة بين ما حدث للرجال الثلاثة وبين النبوات المرتبطة بالأيام الأخيرة؟
ونجيب: بأننا حين ندرس سفر دانيال يجب أن لا يغرب عن بالنا أن حوادثه التاريخية هي نبوات كتابية. وما حدث للرجال الثلاثة أيام حكم نبوخذ نصر سوف يتكرر بصورة أبشع خلال حكم الحاكم العالمي القادم. فكما ساد روح الوثنية خلال هذه الحقبة من حكم نبوخذ نصر كذلك ستسود ذات الروح خلال حكم الحاكم العالمي القادم.
وإذا قمنا بمقارنة الإصحاح الثالث من سفر دانيال بالإصحاح الثالث عشر من سفر رؤيا يوحنا لرأينا مدى التشابه بين الإصحاحين.. فكما طالب نبوخذ نصر الملك شعب إمبراطوريته بعبادة تمثال الذهب والسجود له، كذلك سيطالب الحاكم العالمي القادم الساكنين على الأرض بالسجود له "فسيسجد له جميع الساكنين على الأرض الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذبح" (رؤيا 13: 8).
وكما هدد الملك نبوخذ نصر من يجسر على عصيان أمره بالحرق في أتون النار المتقدة. كذلك ستكون عبادة الحاكم العالمي القادم تحت تأثير الخوف، والخرافة، والاضطهاد، والقتل. (رؤيا 13: 15). وكما استخدم نبوخذ نصر تمثال الذهب الذي نصبه في محاولة توحيد شعوب إمبراطوريته سيستخدم الحاكم العالمي القادم دينه الجديد لتوحيد شعوب العالم تحت سيادته. وكما مر الرجال الثلاثة في النار دون أن يحترقوا، سيمر الأمناء في نار الضيقة العظيمة دون الاحتراق بها.
التاريخ المسجل في سفر دانيال إذاً هو تاريخ ونبوة في وقت واحد.
السؤال الثالث: ماذا كان يحدث لو سمح الرب باحتراق هؤلاء الرجال في الأتون المتقد بالنار؟ أما كان هذا يعني عجز الله عن إنقاذ الذين يتقونه؟
ونجيب: يقيناً لا... فالله يسمح أحياناً في ترك الذين يتقونه للألم والموت لغرض في قلبه. والرجال الثلاثة عرفوا هذه الحقيقة وقالوا للملك نبوخذ نصر "وإلا.." أي وحتى إذا لم ينقذنا إلهنا فلن نعبد آلهتك ولن نسجد للتمثال الذي نصبته.
وفي سجل أبطال الإيمان في الإصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين نقرأ عن نوعين من الأبطال.. أبطال قهروا ممالك، وصنعوا براً، وأطفأوا قوة النار، وأبطال تحملوا الألم بصبر وتسليم.
"وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء. الذين بالإيمان قهروا ممالك وصنعوا براً نالوا مواعيد سدوا أفواه أسود. أطفأوا قوة النار نجوا من حد السيف تقووا من ضعف صاروا أشداء في الحرب هزموا جيوش غرباء. أخذت نساء أمواتهن بقيامة. وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجربوا في هزء وجلد ثم في قيود أيضاً وحبس. رجموا نشروا جربوا ماتوا قتلاً بالسيف طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين مكروبين مذلين. وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغائر وشقوق الأرض. فهؤلاء كلهم مشهود لهم بالإيمان" (عبرانيين 11: 32- 39).
وفي خلال حكم الحاكم العالمي القادم سينقذ الله بعضاً من أتقيائه، وسيسمح للبعض الآخر بأن يموتوا بيد هذا الحاكم الأثيم ليعطيهم إكليل الحياة.
فمهما كانت إرادة الله بخصوصك، فإن أهم ما يجب أن تعرفه هو أن "البار بالإيمان يحيا" (رومية 1: 17).
- عدد الزيارات: 25455