وصف أحوال بولس وبيان عن نجاح بشارة الإنجيل في رومية
ص 1: 21- 30 |
|
21لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ. 22وَلَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! 23فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاِثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. 24وَلَكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ. 25فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهَذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي الإِيمَانِ، 26لِكَيْ يَزْدَادَ افْتِخَارُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضاً عِنْدَكُمْ. 27فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِباً أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيلِ، 28غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُقَاوِمِينَ،الأَمْرُ الَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ، وَذَلِكَ مِنَ اللهِ. 29لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ. 30إِذْ لَكُمُ الْجِهَادُ عَيْنُهُ الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، وَالآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ. |
21لأن الحياة لي هي المسيح والموت هو ربح. أنا إذا كانت الحياة في الجسد هي ثمر عملٍ لي فلست أدري ماذا أختار فإني متحير بين الأمرين لي الاشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح فذالك أفضل جداً إلا أن البقاء في الجسد ألزم من أجلكم وإذا أنا واثق بهذا فاعلم أني سأمكث وألبث مع جميعكم لأجل تقدمكم وفرحكم في الإيمان ليزداد افتخاركم في المسيح يسوع فيّ بحضوري ثانية عندكم. إنما سيروا كما يليق بأنجيل المسيح، حتى أنني سواء حضرت ورأيتكم أو كنت غائباً عنكم أسمع أخباركم أنكم تثبتون في روح واحد، مجاهدين جميعاً بنفس واحدة في سبيل إيمان الإنجيل، غير متخوفين في شيء من المقاومين- الأمر الذي هو دليل على الهلاك لهم وأما لكم فعلى الخلاص. وهذا من لدن الله لأنه قد أنعم عليكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أن تتألموا أيضاً من أجله مجاهدين ذات الجهاد الذي رأيتموه فيَّ وتسمعون الآن أني فيه. |
وقد إنتقل الرسول من الديباجة إلى بسط أخباره قائلاً "ثم أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أموري قد آلت بالحري إلى تقدم الإنجيل" لم يكن أهالي فيلبي قد تلقوا خبراً من بولس منذ وقت طويل وكانوا قلقين من أجله لأنه سجن في قيصرية ثلاث سنوات ثم ذهب إلى رومية فخوراً بالجند. لذلك رأى أن يكتب إلى أهل فيلبي عن نفسه ويخبرهم بأحسن أموره. ولا ريب في أنهم تلقوا رسالته بفرح عظيم وسرَّي عنهم ما كان يخامرهم من القلق بسببه ولا سيما لما علموا أن جميع المصائب التي نكب بها آلت إلى تقدم الإنجيل فقال "حتى أن وثقي" التي كان يظن البعض إنها قد تؤخر الإنجيل "صارت ظاهرة في المسيح" أي أنها في المسيح ولأجل المسيح "في دار الحرس الإمبراطوري" أي في الثكنة التي كان يقيم فيها الحرس المختص ببلاط قيصر. وكان الجنود الذين يحرسونه يؤخذون من ذلك الحرس وكل منهم يراه ويلاحظ معيشته اليومية وصلواته وأعماله وزيارات أصدقائه له ويسمع أحاديثه عن المسيح ولعل بولس كان يخاطب كلاً من أولائك الجنود عن المسيح. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تنتشر أخباره بين جميع الحراس "وفي سائر الأماكن أجمع" لأن الحراس كانوا يخبرون أصدقائهم الملكيين وهؤلاء يشيعون الأخبار. وفضلاً عن هذا فقد كان هنالك طرق أخرى لإذاعة الأخبار.
واستاق الرسول كلامه فقال "وأن معظم الإخوة" الذين يزورونني في السجن بحرية تامة- أنظر أعمال30:28- "وهم مثبتون في الرب بسبب وثقي" إذ يرون شجاعتي في الكرازة بالإنجيل على رغم ما أنا فيه من الحال- أعمال31:28- "يزدادون جرأة على التكلم بالكلمة بلا خوف" فكأن شرارة غيرته تتصل بهم فيقتبسونها ويخجلون من تباطئهم وجبنهم سابقاً مع ملائمة الأحوال التي هم فيها.
وهكذا كان الإنجيل يتقدم تقدماً حقيقياً فإن نجاح أولئك الأفراد المخلصين حرّض بعض المنافسين فقال بولس مشيراً إليهم "فقوم يكرزون بالمسيح حتى عن حسد وبغض" ولا يخفى أن بولس كان له أعداء في داخل الكنيسة نفسها وكانوا يتتبعون خطواته منذ عشر سنوات من كنيسة إلى كنيسة وقد اقتفوا أثره إلى غلاطية و فيلبي وكورنثوس وأفسس وأخيراً إلى رومية. وكانوا يحاولون أفساد عمله وإقناع المتنصرين عن يده بالانضمام إلى حزبهم القائل بأن جميع الأمم المتنصرين يجب أن يختتموا في أول الأمر مراعاة لما جاء في ناموس موسى وذلك شرط لازم للخلاص، والأرجح أن زعماء هذا الحزب كانوا طائفة من الفريسيين المتنصرين الذين كان اعتقادهم في المسيح أنه ملك اليهود لا غير وبناء عليه فيجب على الجميع أن يصيروا يهوداً. على أنهم كان لا بد لهم من المناداة بالمسيح وبما أنهم كانوا يفعلون ذلك في مدينة رومية الوثنية فقد أعدوا الأذهان لقبول صاحب ذلك الاسم "وآخرون عن نية صالحة" ينادون بالمسيح. وهذا وجه الفرق بين الفريقين "هؤلاء عن محبة" لوجه الله تعالى وعن إخلاص لبولس الرسول الذي كانت قدوته قد أثرت فيهم "عالمين أني مقام للدفاع عن الإنجيل" وليس لي غرض آخر على الإطلاق "وأولئك عن تحزب لا عن إخلاص" إذ كان لهم غرض يرمون إليه فلم تكن كرازتهم لمصلحة الإنجيل أو لمجد المسيح بقدر ما كانت للاهتمام بمصالحهم الحزبية ولتمجيد ذواتهم- والأمران على حد سوى. لأن حزب الإنسان أنما هو نفسه بنطاق أوسع. هكذا كان القوم "ينادون بالمسيح" فما أبدع الصورة الماثلة أمامنا- صورة رسول الله الأمين جالساً في غرفة سجنه مقيداً بسلاسل وإلى جانبه جندي يحرسه فتارة يصلي وطوراً يقرأ وأخرى يكتب أو يستقبل زائراً أو باحثاً أو خصماً. يقضي سحابة يومه من مطلع الفجر إلى انسدال الظلام في العمل ويصرف كل الليل إلا أقله في الصلاة فيراه الجندي فيشعر بطمأنينة ثم يذهب ذلك الجندي ويجيء غيره فيرى من السجين ما رآه سلفه وهكذا تشيع قصة السجين الغريب الأطوار وحكاية حاله. ويردد كل جندي سبق له أن حرسه الكلمات التي سمعها منه عن شخص عاش ومات في فلسطين ثم قام من بين الأموات ليفدي الناس أجمعين ويرجع بهم إلى الله. وهكذا تنتشر الأخبار في جميع الأنحاء فيهتدي البعض. ثم تصل الأخبار إلى الكنيسة نفسها فيتحمس الأعضاء ويحاولون تقليد غيرة شاول. وعلى هذا الوجه تظهر نهضة جديدة أو دور انتعاش غريب- كل ذلك من سجين فرد مقيد بسلسلة. إلى أن كلمة الله غير مقيدة. والإنسان الذي هو في المسيح يتحكم بالبيئة التي هو فيها ولا يدع لبيئته أن تتحكم به. فإن هذه الأمور هي اليوم صادقة كما كانت في رومية منذ سنة62 للميلاد والمسيح الذي نادى به بولس هو نفس المسيح الحي الذي هو مستعد أن يكون مسيحك أنت. أفلا تقبله وتكون فيه بطل الإيمان فتكون لك السلطة على أحوالك به.
وبعد أن ذكر الرسول أولئك الذين كانوا يكرزون بالإنجيل بروح التحزب والتعصب الذميم قال أنهم فعلو ذلك "مفكرين في إثارة ضيق على وثقي" أي أنهم كانوا يحاولون أن يجعلوا سجنه أشد وطأةً وذلك بخلقهم له المشاكل بسبب الطريقة المهيجة التي بها كانوا يبشرون بالمسيح.
ترى ماذا قال في ذلك هذا الرجل الواسع الصدر؟ قال "فماذا إذاً" هل أحزن بسبب سجني أم أحاول اسكت أولائك المبشرين غير المخلصين؟ كلا. فإنه "مع كل هذا" الضيق "سواء كان" التبشير "عن علة أو عن حق" أي بغاية أو بدون غاية "فعلى كل حال ينادي بالمسيح" أجل أنا نفس أولئك المخادعين الذين كانوا يحاولون نكاية بولس أكثر من مناداتهم بالمسيح لم يسعهم إلا المناداة باسم الفادي المبارك في أثناء عظاتهم وبهذه الطريقة ذاع ذلك الاسم في رومية وأصبحت الدعوة المسيحية موضوع الأحاديث والحقيقة كما لا يخفى بنت البحث.
وعليه قال الرسول "وبهذا أنا أفرح وسأفرح أيضاً" وقد قال بعد ذلك بقليل أن الحياة في نظره هي المسيح ولذلك فإذاعة إسمه المبارك هي سبب فرح عظيم له. لأن عدم الإخلاص يؤدي إلى الفشل والخذلان ولا ريب في أن الله تعالى يستطيع بكل سهولة أن يحول مساعي أعدائه إلى مجده العظيم كما حدث في الواقعة التي نحن بصددها. قال الرسول "لأني أعلم أن هذا" التبشير المنتشر بغاية أو بدون غاية "سيؤول إلى خلاصي" أي إلى حصولي على مكافأة أعظم وتاج أثمن في ذلك اليوم الذي ينال فيه المرء جزاء عمله جزاءً خالداً كما جاء في إنجيل لوقا 15:19-19 وهو قوله: ((ولما رجع بعد ما أخذ الملك أمر أن يدعى إليه أولئك العبيد الذين أعطاهم الفضة ليعرف بما تاجر كل واحد. فجاء الأول قائلاً يا سيد مناك ربح عشرة أمناء. فقال له نِعمّا أيها العبد الصالح. لأنك كنت أميناً في القليل فليكن لك سلطان على عشرة مدن. ثم جاء الثاني قائلاً يا سيد مناك عمل خمسة أمناء. فقال لهذا أيضاً وكن أنت على خمس مدن)).
وقد كان بولس الرسول يخشى دائماً أن يتباطأ قبيل خاتمة سعيه فيُحكم ذلك الجزاء (أنظر1كورنثوس 26:9و27) وقد رأى في أتساع نطاق الوعظ في رومية (الأمر الذي كان نتيجة ما عاناه مباشرة كما قال في ع14) خير عربون لخلاصه ولحصوله على الجزاء الأبدي واستمرار نعمة اللّه عليه وذلك- كما قال موجهاً الكلام إلى أهل فيلبي- "بدعائكم" لأنه كان يعلم أن النجاح في الأمور الروحية يتم بالتعاون في الصلاة بين القريبين والبعيدين. وبناء عليه فإن أهالي فيلبي في مكدونيا كان لهم يد في نجاح التبشير في رومية. على أن كل صلاة يقدمها الإنسان مرجعها إلى النعمة الإلهية ولذلك أردف الرسول قوله ((بدعائكم)) بقوله "وبإمداد روح يسوع المسيح" لأن الإنسان يحتاج إلى أمداد الروح له بسخاء وإمداد الروح يضمن اتساع نطاق البركة.
لاحظ أنه يسمي الروح القدس ((روح يسوع المسيح)) وهو الروح الذي به يتصل المسيح بالكنيسة المباركة ويسمى أيضاً روح اللّه. وهذا من الأدلة التي لا تحصى على أن ذات المسيح (1) هي ذات اللّه.
ووالى الرسول كلامه في هذا الشأن فقال عن الخلاص الذي يرجوه أنه "حسب توقعي ورجائي أني لا أخزى في شيء" سواء كان في ذلك اليوم الذي يمنح اللّه فيه أكاليل المجد لمستحقيها أو الآن بينما الجهاد لا يزال مستمراً "بل بكل صراحة يتعظم المسيح في جسدي" لأن أعظم عار يلحق بي هو الانقطاع عن الوعظ وفشل هذا الجهاد حالة أن أعظم مجد يكلل هامتي هو المجاهرة التي تؤدي إلى تعظيم المسيح في جسدي. وإن آثار الكلوم والجروح في الجسد هي كأوسمة مجد له وذلك "الآن كما في كل آن" أي في إبان سجني هذا وحتى النهاية "سواء كان بالحياة أو بالموت" لأنني أرى في سجني هذا رمزاً إلى استشهادي.
وفي الواقع أن الرسول قتل في رومية بعد بضع سنين فتمجد المسيح بجسده سواء كان في حياته أو موته. ولماذا؟
قال "لأن الحياة لي" أي في نظري "هي المسيح" لأنني مدين له بها كلها وقد شاء أن يتملكها فليس منها جزء خارج عنه "والموت هو ربح" لأنه يتمم سعادة الاتصال باللّه ولعمري أن هذا هو الصوفية الحقيقية.
ثم عاد الرسول بعد أن حلَّق بفكره قليلاً إلى الحياة السماوية، إلى الحياة التي يجب أن يحياها على الأرض. وحيث أن حياته هي المسيح والغرض الاسمي هو خدمته فربما كان الأفضل أن يلبث قليلاً في العالم لمواصلة الجهاد فقال "أما إذا كانت الحياة في الجسد هي ثمر عمل لي" لأنها تؤدي بالأكثر إلى خلاص النفوس فربما كان ثمة من لا يزال في حاجة إليَّ وربما أن عملي لأجل المسيح في العالم لم يتم بعد "فلست أدري ماذا أختار" الحياة أم الموت؟ "فإني متحير بين الأمرين" المشار إليهما وهما أولاً "لي الاشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح" في فردوس اللّه "فذلك أفضل جداً" فير حد ذاته. وثانياً "إلا أن البقاء في الجسد ألزم من أجلكم" أيها الفيلبيون الذين لم أرهم منذ سنين عديدة "إذ أنا واثق بهذا" وهذا الاعتبار مقدم على كل اعتبار سواه "فأعلم أني سأمكث والبث مع جميعكم" أنتم والكنائس الأخرى "لأجل تقدمكم وفرحكم في الإيمان ليزداد افتخاركم في المسيح يسوع فيَّ" كأن افتخارهم في المسيح سيظهر في بولس عندما يزورهم ثانية بقوة المسيح ولذلك قال "بحضوري ثانية عندكم" وفي الواقع أنه أخلي سبيله بعد ذلك بقليل وبُرئ من تلك التهمة فاستأنف سياحته في الشرق كما نرى من رسائله إلى تيموثاوس وتيطس. ولا ريب في أنه زار أهل فيلبي أيضاً فتحققت بذلك أمنيته.
]ملاحظة- أن الذين هم في المسيح لا يمكن أن يفصلهم الموت عنه (رومية 39:8) وحيثما يكون المسيح فهنالك السعادة وأن يكون الدور الأوسط بالنسبة إلى المجد الختامي كنسبة النوم إلى اليقظة. ورب نوم تزينه الأحلام الهنيئة [
- عدد الزيارات: 1992