الفَصلُ الأوَّل "مَواقِفُ المَجيء إلى الرَّبّ" - الوُدَعاء
الوُدَعاء
المَوقِفُ المُبارَكُ التَّالِي الذي يضَعُهُ يسُوعُ أمامَنا، لهُ علاقَةٌ معَ ما نُريدُهُ: "طُوبَى للوُدَعاء، لأنَّهُم يَرِثُونَ الأرض." ما هي الوَداعَة؟ الوَداعَةُ لَرُبَّما هي أكثَرُ تطويبَةٍ أُسيءَ فهُما وتطبيقُها بينَ التَّطويباتِ الثَّمانِي. فالوَداعَةُ ليسَت ضَعفاً. نسمَعُ يسُوعَ يَقُولُ، "لأنِّي وَديعٌ." (متَّى 11: 29) عندما تتعرَّفُونَ على يسُوع المسيح الذي نراهُ في أسفارِ الكتابِ المُقدَّس، ستُدرِكُونَ أنَّهُ لم يَكُنْ وديعاً بمعنى أنَّهُ كانَ رَجُلاً ضَعيفاً هَزيلاً.
يَصِفُ العهدُ القَديمُ مُوسى بأنَّهُ كانَ "حَليماً جدَّاً أكثَر من جميعِ النَّاس الذين على وجهِ الأرض." (عدد 12: 3) بينما تقرأُونَ العهدَ القَديم وتتعرَّفُونَ على مُوسى، هل تُكَوِّنُونَ عنهُ إنطِباعاً بأنَّهُ كانَ ضَعيفاً؟ يسُوعُ لم يَكُنْ ضَعيفاً ولا مُوسى كذلكَ، بل كانَا وَديعَين.
بإمكانِنا أن نحصَلَ على فهمٍ أعمَق لِمَعنى الكلمة الكِتابِيَّة "وديع،" إذا تأمَّلنا بِحصانٍ جبَّارٍ لم يَتِمّ ترويضُهُ بعد. إنَّهُ حيوانٌ قَوِيٌّ جدَّاً، ولديهِ إرادَةُ جَبَّارَة. الأشخاصُ الخُبراء في هذا المجال، سوفَ يضَعُونَ بتَسَلُّلٍ لجاماً على رَأسِ هذا الحصان ورسغاً بينَ فَكَّيهِ. ثُمَّ يَضعُونَ سَرجاً على ظهرِهِ. وعندما يَصِلُونَ إلى مرحَلَةِ قبُولِ الحِصانِ باللجامِ والرَّسغِ والسَّرج والخَيَّالِ الذي يمتَطيهِ، بكلامٍ آخر عندما يَتِمُّ ترويضُ هذا الحصان، سوفَ يبقى قَوِيَّاً وجبَّاراً، ولكنَّهُ سيُصبِحُ وَديعاً.
عندما إلتَقى شاوُل الطَّرسُوسِيّ بالمسيحِ المُقام على طريقِ دمشق، قد يَكُونُ هذا تفسيراً لما سألَهُ الرَّبُّ يسُوعُ لشاوُل: "لماذا تضطَّهِدُني؟ لماذا ترفُضُ الرَّسغَ؟ هل هُوَ قاسٍ عليكَ؟" (أعمال 9: 4، 5).
ولكن عندما سأَلَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ، "يا رَبّ، ماذا تُريدُ منِّي أن أفعَلَ؟" كانَ قد قَبِلَ بِوَضعِ الرَّسغِ، الذي إلى جانِب أشياء أُخرى، كان مشيئة المسيح المُقام لحياتِهِ. في هذه المرحلة أصبَحَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ وَديعاً، وهذا هُوَ بالتَّحديد ما هي الوَداعَة.
لقد صَرَّحَ يسُوعُ قائِلاً: "لأنِّي وَديعٌ" عندما كانَ يُقدِّمُ إحدى أعظَمِ دعواتِهِ: "تعالَوا إليَّ أيُّها المُتعَبينَ والثَّقِيليّ الأحمال، وأنا أُريحُكُم. إحمِلُوا نيري عليكُم وتعَلَّمُوا منِّي، لأنِّي وَديعٌ ومُتواضِعُ القَلب. فتَجِدُوا راحَةً لِنُفُوسِكُم. لأنَّ نيري هَيِّن وحِملي خفيف." (متَّى 11: 28- 30).
اللُّغَةُ الأصليَّة التي سُجِّلَت فيها هذه الدَّعوَة تُشيرُ إلى أنَّ هذه الكلمات كانت مُوجَّهَةً إلى أشخاصٍ كانُوا يعمَلُونَ لدرجَةِ الإنهاكِ ليقُومُوا بأعباءِ الحياة الثَّقيلَة.
في دَعوَتِهِ هذه، يدعُو يسُوعُ النَّاسَ ذَوي الأحمال الثَّقيلَة ليأتُوا ويتعلَّمُوا عن حملِهِ الثَّقيل، عن قلبِه وعن نيرِهِ. لقد أرادَهُم أن يتعلَّمُوا أنَّ حملَهُ خفيف. (هذا مُدهِشٌ، لأنَّ المسيحَ كانَ لديهِ حمل ُالعالم على مَنكِبَيهِ). أرادَهُم أن يتعلَّمُوا أنَّهُ وديعٌ ومُتواضِعُ القَلب، وأنَّهُ يُريدُ أن يُعَلِّمَهُم أنَّ نيرَهُ هُوَ الذي يجعَلُ حِملَهُ خفيفاً وحياتَهُ سَهلَة.
فالنِّيرُ ليسَ حِملاً. النِّيرُ هُوَ أداةٌ تُمَكِّنُ حَيواناً كالثَّورِ مَثَلاً بأن يُحَرِّكَ حِملاً ثَقيلاً. كَثِيرُونَ منَّا رأَوا عرَباتٍ يجُرُّها ثَورٌ، مُحَمَّلَةً بأكوامٍ منَ الأحمال. نِيرُ الثَّورِ هُوَ الذي يُمَكِّنُ هذا الحَيوان القَوِيّ من وَضعِ قُوَّتِهِ تحتَ السَّيطَرة بطريقَةٍ تُسَهِّلُ عليهِ نقلَ الحملِ الثَّقيل.
هذه الإستِعارَةُ العميقَةُ والبَسيطَة تُعَرِّفُ الوَداعَة. التَّطويبَةُ الثَّالِثَة عن الوَداعَة تعني: القُوَّةُ تحتَ السَّيطَرَة. جَوهَرُ ما يُعَلِّمُهُ يسُوعُ هُو: "أنا أحمِلُ نيرَ مَشيئَة أبي السَّماوِيّ كُلَّ يَومٍ." تَذَكَّرُوا أنَّهُ قالَ، "لأنِّي في كُلِّ حِينٍ أفعَلُ ما يُرضِي الآب." (يُوحَنَّا 8: 29) هذا كانَ الحملُ الذي وضَعهُ يسُوع على نفسِهِ. فلقد إستَسلَمَ لِنيرِ الآب، وكانَ تحتَ سيطَرَةِ الآبِ كُلِّيَّاً وطِوالَ الوقت. هذه هي تطويبَةُ الوَداَعة التي علَّمَها يسُوعُ لتلاميذِهِ.
النِّيرُ الذي كانَ يُناسِبُ الحيوانَ تماماً، لأنَّ النَّجَّارَ يكُونُ قد سبقَ وصنَعَهُ بدقَّةٍ ونُعُومَة، كانَ يجعَلُ من حياةِ الحَيوانِ الذي يَضَعُهُ سهلَةً وهَنِيَّة؛ وجعلَ هذا النِّيرُ الهَيِّنُ الحِملَ خفيفاً. نجَّارٌ كيَسُوع لا بُدَّ أنَّهُ جعلَ أنياراً تُلائِمُ الحيوانات التي تَضَعُها تماماً، ولا سِيَّما بِصِناعَتِها ناعِمَةً منَ الدَّاخِل لكي لا تتَسَبَّبَ بجرحِ عُنقِ وكَتِفَي الحيوان. علَّمَ يسُوعُ بتطويبَةَ الوَداعَة، لأنَّهُ كانَ يعرِفُ أنَّ النِّيرَ الذي كانَ يضَعُهُ كُلَّ يَومٍ سيجعَلُ الأحمالَ خفيفَةً، والحياةَ سَهلَةً لأُولئِكَ الذين يُصارِعُونَ ويعانُونَ الأمَرَّين لأنَّهُم لا يحمِلُونَ نيراً.
عندما يُعَلِّمُ يسُوعُ التَّطويبَةَ الثَّالِثَة، يَقُولُ ما معناهُ: "تُوجَدُ طريقَةٌ صحيحَةٌ لعَيشِ حياتِكُم. فإن كُنتُم ستعيشُونَ حياتَكُم كما أعيشُها أنا، ستَجِدُونَ أنَّكُم لن تتعَبُوا ولن تنُوؤُوا لدَرَجَةِ الإستِسلامِ والإرهاقِ تحتَ أعباءِ مشاكِل الحياة." كانَ يسُوعُ يَقصُدُ القَولَ أيضاً، "عِيشُوا الحياةَ كما أعيشُها أنا. فإذا قَبِلتُم نيري الذي هُوَ نير الوَداعَة، ستكتَشِفُون أنَّهُ قد يجعَلُ حملَكُم خفيفاً، وحياتَكُم سَهلَةً مهما كانت التَّحدِّياتِ التي تُواجِهُونَها صَعبَةً."
بالإختِصار، يُعَلِّمُ يسُوعُ تلاميذَهُ على قِمَّةِ جبلِ الجليلِ ما جوهَرُ معناهُ: "أُولئكَ النَّاس القابِعُونَ عندَ سَفحِ الجبل، يُعانُونَ من الآلامِ، لأنَّهُم لا يعرِفُونَ كيفَ يَجرُّونَ أثقالَ الحياة. وهم غَيرُ قادرينَ على نقلَ أحمالِ الحياة لأنَّهم ليسَ لديهم نير. ولكن إذا آمنتُم بِقِيَمي، وإذا عِشتُم حياتَكُم بحَسَبِ مواقِفي، وإذا تمرَّستُم بالمبادِئ الرُّوحِيَّة التي سأُظهِرُها لكُم خلالَ إتِّباعِكُم لي، سوفَ تتعلَّمُونَ شَيئاً عن حِملي، عن قَلبي وعن نيري، الذي سيُعطي راحَةً لِنفُوسِكُم."
الوَداعَةُ هي مبدَأُ إنضِباطِ إرادَتِنا أو مَشيئَتِنا. كَلِمَةُ "تلميذ" وكلمة "إنضِباط" تأتِيانِ من الجذرِ نفسهِ. وَعدُ يسُوع الذي يُرافِقُ هذا المَوقِف المُبارَك هُوَ أنَّ التِّلميذَ الوَديع سيَرِثُ الأرض. هذا يعني بِبساطَة أمرَين: (1) علنا أن نتوقَّعَ من تلميذِ يسُوع أن يَكُونَ مُنضَبِطاً، و (2) تلميذ يسُوع المُنضَبِط يربَحُ كُلَّ شَيءٍ عندما يَضَعُ نيرَ يسُوع ونيرَ الآبِ السَّماوِيّ على حياتِهِ طِوالَ اليَومِ وكُلَّ يَوم.
- عدد الزيارات: 12277