Skip to main content

الفَصلُ الأوَّل "مَواقِفُ المَجيء إلى الرَّبّ"

مُحتَوى المَوعِظَة على الجَبَل

(متَّى 5: 3- 6)

كرَزَ يسُوعُ بهذا المَوعِظَة على تَلَّةِ جَبَلٍ في الجَليل، حيثُ تحدَّى الذين يدَّعُونَ بأنَّهُم تلاميذَهُ، لكي يَقِفُوا ستراتيجيَّاً بينَ محبَّةِ اللهِ وبينَ ألم النَّاس المُعَذَّبِينَ في العالم. لقد تحدَّى يسُوعُ تلاميذَهُ ليُشارِكُوا مَعَهُ بِكَونِهِم قنواتٍ لنَقلِ محَبَّتِهِ. ولقد ختَمَ يسُوعُ عِظَتَهُ بدعوَةٍ مَهُوبَةٍ للإلتِزام. ثُمَّ عَيَّنَ إثنَي عشَرَ رَجُلاً منَ الذين سَمِعُوا عِظَتَهُ، ليَكُونُوا "رُسُلَهُ" أو "مُرسَليه." عاشَ هَؤُلاء الرُّسُول وماتُوا لأجلِ يسُوع، وهُم يُتَلمِذُونَ لهُ شُعُوباً حولَ العالم.

الآن وقد تأمَّلنا معاً بخَلفِيَّةِ المَوعِظَةِ على الجَبَل، أصبَحنا مُستَعِدِّينَ لنَنظُرَ إلى مُحتَوى هذه العِظَة العَظيمة. نقرأُ: "فَفَتَحَ فاهُ وعَلَّمَهُم قائِلاً. طُوبَى لِلمَساكِينِ بالرُّوح. لأنَّ لَهُم مَلَكُوت السَّماوات. طُوبَى لِلحَزَانى لأنَّهُم يتعزَّون. طُوبَى لِلُودَعاءِ لأنَّهُم يَرِثُونَ الأرض. طُوبَى لِلجِياعِ والعِطاشِ إلى البِرّ لأنَّهُم يُشبَعُون." (متَّى 5: 2- 6)

يبدَأُ يسُوعُ بتعليمِ تلاميذهِ ثمانِيَة مَواقِف – تُسَمَّى، "التَّطويبات،" أو "المَواقِف المُبارَكَة،" لأنَّ كُلَّ مَوقِفٍ منها يبدَأُ بِكَلِمَة "طُوبَى." يَعِدُ يسُوعُ هُنا بأن يُبارِكَ كُلَّ تلميذٍ يتَحَلَّى بهذه المَواقِف. تعني كلمة "طُوبَى": "يا لَسَعادَتِهِ،" أو "يا لإزدِهارِهِ الرُّوحِيّ،" أو، "يا لِلنِّعمَة التي يعيشُ فيها." يحتَوِي كُلُّ مَوقِفٍ أيضاً على وَعدٍ يَصِفُ الشَّكلَ الذي فيهِ ستأتي هذه البَركة إلى حياةِ ذلكَ التَّلميذ.

هذه المَواقِف الثَّمانِية المُبارَكَة تُبرِزُ لنا ذهنِيَّةَ تلميذِ يسُوع، وكيفَ ينبَغي أن يُفَكِّر. الإطارُ الذي فيهِ يُعَلِّمُ يسُوعُ هذه المواقِف، يُعلِنُ أنَّ هذه النَّظرَة للحَياة ستجعَلُ من تلاميذِهِ جُزءاً منَ حَلِّ وجوابِ يسُوع لكُلِّ الألَم المَوجُود في هذا العالم، والذي تمثَّلَ بتلكَ الجُمُوع القابِعَة عندَ أسفَلِ الجَبَل.

كتلاميذ ليسُوع، عندما نُقَرِّرُ أنَّنا نُريدُ أن نَكُونَ جُزءاً من الحَلِّ، وأن لا نَكُونَ بعدَ الآنِ جُزءاً منَ المُشكِلَة، أوَّلُ أمرٍ علينا القَيامُ بِهِ هُوَ أن ندرُسَ هذه المَواقِف، إلى أن نفهَمَها ومن ثَمَّ أن نلتَزِمَ بالعَيشِ بِحَسَبِها كُلَّ يَومٍ من أيَّامِ حَياتِنا. تَذَكَّر – كما تَعَلَّمنا من خَلفِيَّةِ هذه المَوعِظَة – أنَّ التَّطويبات هي العِظَة الفِعليَّة. وما تبقَّى من هذا التَّعليم هُوَ تطبيقُ هذه المَوعِظَة أو تطبيقُ هذه المَواقِف.

سوفَ يُعَلِّمُ يسُوعُ لاحِقاً في هذه العِظَة أنَّ المَواقِفَ الصَّحيحة هي الفَرقُ بينَ الحَياةِ المُمتَلِئَة بالنُّور (الطَّهارَة، الحَقّ، والسَّعادة)، وبينَ الحياة المُمتَلِئة بالظُّلمَة، أو بالحُزن (متَّى 6: 22، 23) ويُضيفُ بالتَّعليقِ أنَّهُ عندَما تمتَلِئُ حياتُنا بالظُّلمَةِ، بسببِ كَونِ المواقِف الخاطِئة تَسُودُ حياتَنا، قد تُصبِحُ حياتُنا مُظِلَمَةً جدَّاً جدَّاً، وحُزنُنا كبيراً جدَّاً جِدَّاً.

بإمكانِنا أن نُضيفَ أنَّهُ عندما يَقُومُ أشخاصٌ أمثل أدُولف هتلر، جُوزيف ستالين، وأمثالُهُما منَ القادَةِ الأشرار، عندما يَقومُونَ بإبادَةِ النَّاس، إنطلاقاً من ذهنِيَّتِهِم المَغلُوطة، فإنَّ هذا سيُدخِلُ ظُلمَةً حالِكَةً إلى حياةِ الملايين منَ النَّاس. لهذا كرزَ يسُوعُ وطبَّقَ في خُلوَتِهِ الأُولى ما يُمكِنُنا تَسمِيَتُهُ، "فَحصُ الرَّأس،" أو بالإنكليزيَّة، A Check Up from the Neck Up.


مَواقِفُ المَجيء

تنقَسِمُ التَّطويباتُ الثَّمانِي إلى مَجمُوعَتين، تتألَّفُ كُلٌّ منهُما من أربَعَةِ مواقِف. نَجِدُ عبرَ أسفارِ الكتابِ المُقدَّس نَمُوذَجاً ينبَثِقُ عندما يُجَنِّدُ اللهُ قادَةً لِعَمَلِهِ. هؤُلاء القادَة لدَيهِم ما يُمكِنُنا تَسمِيَتُهُ، "إختِباراتُ المَجيء" ومن ثَمَّ "إختِباراتُ الذَّهاب." ينبَغي أن يَكُونَ لديهم مَجيئاً ذا مغزَى إلى الله، قبلَ أن يُصبِحَ لديهم ذهاباً مُثمِراً لأجلِ الله. التَّطويباتُ الأربَع الأُولى تُمَثِّلُ المَواقِف المُتَعَلِّقَة بالمَجيءِ إلى الله، والتَّطويباتُ الأربَعَة الثَّانِيَة تُظهِرُ المَواقِف الأربَعة المُتَعَلِّقَة بالذَّهابِ لأَجلِ الله.

بَعضُ الأُمور مثل المَواهِب، تنمُو في الخَفاءِ والوِحدَة، ولكنَّ الشَّخصِيَّةَ ينبَغي أن تنمُوَ داخلَ تَيَّارِ الإنسانِيَّةِ الجارِف، أو في خِضَمِّ علاقاتِنا معَ النَّاس. التَّطويباتُ الأربَعة الأُولى تنمُو على قِمَّةِ الجَبَل، أو في ما يَصفُهُ يسُوعُ لاحِقاً بالمَخدَع، أو في إختِباراتِنا الفَردِيَّة الخاصَّة معَ الله (متَّى 6: 6). نتعلَّمُ ونُنَمِّي التَّطويباتِ الأربَعة الأُولى في علاقَتِنا معَ الله، ولكنَّ المَجمُوعَة الثَّانِيَة من التَّطويبات فيَنبَغي أن نتعلَّمَها ونُطَوِّرَها عندما نَكُونُ في علاقاتِنا معَ النَّاس. 


المساكِينُ بالرُّوح

التَّطويبَةُ الأُولى هي، "طُوبَى لِلمَساكِين بالرُّوح، لأنَّ لَهُم مَلَكُوت السَّماوات." (متَّى 5: 3) هذا المَوقِف المُبارَك الأوَّل يتعلَّقُ بذلكَ السُّؤال الذي طرَحَهُ رِجالُ الدِّين على يُوحَنَّا المَعمدان: "ماذا تَقُولُ عن نفسِكَ؟" (يُوحَنَّا 1: 22) فبِدُونِ موقِفٍ صَحيحٍ تجاهَ نُفُوسِنا، لن نَكُونَ أبداً جُزءاً من حُلُولِ رَبِّنا يسُوع المسيح لمشاكِل العالم.

الوَعدُ الذي يَصِفُ البَرَكَةَ التي تُحَقِّقُها هذه التَّطويبَة في حياةِ تلميذِ المسيح، تعني بِبٍَساطَةٍ أنَّنا إتَّخَذنا يسُوعَ المسيح مُخَلِّصَنا، رَبَّنا ومَلِكَنا. وكَونَنا جُزءاً من مَلَكُوتِ السَّماوات، هي طريقَةٌ أُخرى للقَولِ أنَّنا من رَعايا مَلك المُلُوك ورَبّ الأربَاب – لأنَّهُ هُوَ وحدَهُ الحَلُّ الحقيقيّ. هذا هُوَ المَوقِفُ الأوَّلُ الذي ينبَغي أن نتمتَّعَ بهِ، إذا أرَدنا أن نَكُونَ جُزءاً منَ الحلِّ لحاجَةِ البَشَرِيِّةِ، ذلكَ الحلّ الذي يُريدُ المسيحُ أن يُحَقِّقَهُ للنَّاسِ المُتألِّمينَ في هذا العالم، من خلالِ تلاميذِهِ.

يُخبِرُنا المُفَسِّرُونَ أنَّ عبارَة "مساكين بالرُّوح" يُمكِنُ أن تَعني أيضاً "المُنكَسِرينَ في الرُّوح." هذا يعني أنَّ هذا المَوقِف يَصِفُ الإنكِسار –الذي هُوَ أمرٌ نراهُ في حياةِ أُولئِكَ الذين يَدعُوهُم اللهُ ويُؤَهِّلُهُم لخدَماتٍ خاصَّة ومُمَيَّزَة. لاحِظُوا بينَما تقرَأُونَ الكتابَ المُقدَّس، كيفَ يُعلِّمُ اللهُ هذا المَوقف الأوَّل المُطَوَّب، لأُولئِكَ الذين دَعاهُم للقِيامِ بأعمالٍ عَظيمَةٍ لمَجدِهِ. مثلاً، يعقُوب إختَبَرَ الإنكِسار عندما تصارَعَ معَ ملاكِ اللهِ طِوالَ الليل. (تكوين 32: 24- 32).

أشخاصٌ أمثال يعقُوب، مُوسى، والرَّسُول بُطرُس، كانَ عليهِم أن يتعلَّمُوا ثلاثَةَ دُرُوسٍ بينما كانَ اللهُ يجعَلُ منهُم مساكين بالرُّوح: تعلَّمُوا أنَّهُم لا أحَد ذا قيمَة؛ وتعلَّمُوا أنَّهُم أصبَحُوا أحداً ذَا قيمة؛ ومن ثَمَّ تعَلَّمُوا أنَّ اللهَ قادِرٌ أن يعمَلَ شَيئاً عظيماً من خلالِ شخصٍ تعلَّمَ أنَّهُ لا أحد. تفسيرٌ شَعبِيٌّ مُبَسَّط لهذه التَّطويبَة الأُولى التي علَّمَها يسُوع، يُمكِنُ أن يَقُول: "طُوبى لكُم عندَما تُصبِحُوا على نهايَةِ قُدرَتِكُم. فبِمِقدارِ ما تنقُصُون، بِمِقدارِ ما يَزيدُ الرَّبُّ ويَسُود." (متَّى 5: 3)

بِكَلِمَةٍ واحِدَة، إنَّ حالَةَ النِّعمَة التي وصَفَها يسُوعُ بِعبارَة "مساكين بالرُّوح،" تعني بِبساطَةٍ "التَّواضُع." التَّواضُعُ هُوَ مفهُومٌ يصعُبُ فهمُهُ. فإذا كُنتَ تَظُنُّ أنَّكَ مُتَواضِع، قد تَكُونُ بالحقيقَةِ أبعدَ ما يَكُونُ عنِ التَّواضُع. قدَّمَت لَجنَةُ إحدى الكنائِسُ ميدالِيَّةَ تواضُعٍ لرَاعيها، ولكنَّهُم سُرعانَ ما إستَرَدُّوها منهُ لأنَّهُ صارَ يُعَلِّقُها على صَدرِهِ صَبَاحَ كُلِّ أحَد! نحنُ نُظهِرُ أنَّنا نفهَمُ التَّواضُعَ، عندما نُصَلِّي قائِلين: "يا رَبّ، أنا لَستُ الحلّ. وليسَ بإمكانِي حتَّى أن أجِدَ حُلُولاً لمشاكِلي، ولهذا فأنا غيرُ قادِرٍ أن أحُلَّ مشاكِلَ الآخرين. ولكنَّني الآن أعرِفُ أنَّكَ أنتَ تستطيعُ! فأنتَ الحَلُّ لِمشاكِلِهم. فإن كُنتَ فيَّ وإن كُنتُ أنا في علاقَةٍ حَميمَةٍ معَكَ، عندها سيَكُونُ لدَيَّ القُدرَة لأُصبِحَ أداةً وقناةً لحَلِّكَ ولِجوابِكَ، بينما أتعاطَى معَ النَّاس وأُلاحِظُ مشاكِلَهُم." 


الحَزَانَى

المُوقِفُ الثَّانِي المُبارَك هُو: "طُوبَى لِلحَزَانَى لأنَّهُم يتعزَّون." (متَّى 5: 4) يُعطينا يسُوعُ هُنا دَرساً في القِيَم. فهَل نعتَبِرُ أنفُسَنا مُبارَكِينَ عندما نَكُونُ حزَانَى؟ يَعِدُنا يسُوعُ بِوُضُوحٍ ببَرَكَةٍ وتعزِيَةٍ مُمَيَّزَتين في الأوقاتِ التي نَكُونُ فيها حَزَانَى. إنَّهُ بالحقيقَةِ يُقَدِّمُ تصريحاً في القِيَم، يَقُولُ فيهِ أنَّ الحَزَانَى مُبارَكُون.

سُليمانُ، أحكَمُ إنسانٍ عاشَ على الأرض، وافَقَ معَ يسُوعَ عندَما كتَبَ يَقُولُ: "الذَّهابُ إلى بيتِ النَّوحِ خَيرٌ منَ الذَّهابِ إلى بَيتِ الولِيمة لأنَّ ذاكَ نهايَةُ كُلِّ إنسانٍ والحَيُّ يَضَعُهُ في قَلبِهِ. الحُزنُ خَيرٌ منَ الضَّحِك لأنَّهُ بِكآبَةِ الوَجهِ يُصلَحُ القَلبُ. قَلبُ الحُكماءِ في بَيتِ النَّوحِ وقَلبُ الجُهَّالِ في بَيتِ الفَرَح. "في يَومِ الخَيرِ كُنْ بِخَيرٍ وفي يومِ الشَّرِّ إعتَبِرْ. إنَّ اللهَ جعَلَ هذا معَ ذاكَ لِكَيلا يَجِدَ الإنسانُ شَيئاً بعدَهُ." (جامِعَة 7: 2- 4، 14)

بِكَلِماتٍ أُخرى، "تبَارَكَ أُولئِكَ الذين يحزَنُون." يكتُبُ سُليمانُ قائِلاً ما معناهُ أنَّهُ لإختِبارٌ مَهُوب أن نذهَبَ إلى جنازَةٍ وننظُرَ إلى جُثَّةِ شَخصٍ نُحِبُّهُ أو نعرِفُهُ، وقد فارَقَ هذه الحياة. تتحرَّكُ مشاعِرُنا بِعُمقٍ لأنَّنا نَعرِفُ أنَّ القَضِيَّة لَيسَت قَضِيَّة: ماذا لَو حدَثَ هذا لنا، بل هي قضيَّة: متَى سيَحدُثُ لنا أن نُصبِحَ جُثَّةً هامِدَة على وَشَكِ دُخولِ القَبر. يُعلِنُ سُليمانُ أنَّ نِظامَ قِيَمِنا هُوَ في إنسِجامٍ أكثَر معَ القِيم الأبَدِيَّة التي يُريدُ اللهُ أن يُعَلِّمَنا إيَّاها عندما نَكُونُ في جنازَة. فمِنَ الأفضَل الذَّهابُ إلى بيتِ النَّوحِ مِمَّا هُوَ إلى بَيتِ الوَليمة.

أحياناً يَكُونُ لدَى المُؤمنين إقتناعٌ مَغلُوط بأنَّهُم إذا أظهَرُوا عَلاماتِ الحُزن على وفاةِ شَخصٍ محبُوبٍ لديهم، يَكُونُ إيمانُهُم ضَعيفاً. ولكنَّ يسُوعَ حضَرَ جنازَةَ شَخصٍ أحَبَّهُ، وبكى لدَرَجَةِ أنَّ النَّاسَ علَّقُوا بالقَول، "أُنظُرُوا كم كانَ يُحِبُّهُ!" (يُوحَنَّا 11: 35، 36) تَفسيرٌ وتطبيقٌ بِدائِيٌّ لهذه التَّطويبَة الثَّانِيَة هي أنَّهُ علينا أن لا نَكبُتَ حُزنَنا.

كتبَ بُولُس يَقُولُ أنَّنا عندما نفقُدُ أشخاصاً مُؤمنين مَحبُوبين، علينا أن لا نحزَنَ كَغَيرِ المُؤمنين الذين لا رَجاءَ لهُم بأن يَرَوا فقيدَهُم المحبُوب ثانِيَةً (1تسالونيكي 4: 13). عندما فَقَدَ داوُد طِفلاً، عبَّرَ عن الرَّجاء والألم الذي يشعُرُ بهِ الحَزينُ التَّقِيُّ عندما قالَ: "أنا سأذهَبُ إليهِ ولكنَّهُ هُوَ لن يرجِعَ إليَّ." (2صَمُوئيل 12: 23) رَجاؤُنا هُوَ أنَّنا سنرَى في السَّماء فقيدَنا المَحبُوب، الذي سبقَ وتعرَّفَ على يسُوع المسيح كَرَّبٍّ ومُخَلِّصٍ لهُ. ولكنَّ حُزنَنا المَشرُوع مُؤَسَّس على الحقيقَةِ التي لا تُدحَض بأنَّنا سنقضِي بَقِيَّةَ حياتِنا بِدُونِ أن نرى مُجَدَّداً فقيدَنا المَحبُوب.

إذا أرَدنا أن نكتَشِفَ البَرَكَة والتَّعزِيَة اللَّتَينِ وعدَ بهما يسُوع في إختِبارِ حُزنِنا، علينا أن ندعَ اللهَ يستَخدِمُ حُزنَنا ليُحَرِّكَنا بِثلاثَةِ طُرُق: أوَّلاً، علينا أن ندعَ حُزنَنا يأتي بنا إلى المكان حيثُ نطرَحُ فيهِ الأسئِلَةَ الصَّحيحة – لَرُبَّما للمَرَّةِ الأُولى في حياتِنا – علينا أن نطرَحَ الأسئِلَةَ الصَّحِيَحة. كثيرُونَ يقضُونَ حياتَهُم بِدُونِ أن يطرَحُوا بتاتاً الأسئِلَةَ الصَّحيحة. ولكن هُناكَ أسئِلَةٌ يُريدُنا اللهُ أن نطرَحَها عندما نحزَنُ.

أيُّوبُ هُوَ أفضَلُ مثَلٍ على ذلكَ. فلقد فقدَ أولادَهُ العَشرَة، وكُلَّ مُقتَنياتهِ التي إقتَنى، ومن ثَمَّ فقدَ صحَّتَهُ. عبرَ إختبارِ أيُّوب للحُزنِ النَّاتِج عن فُقدانِهِ كُلَّ شَيء، سمحَ أيُّوبُ لِحُزنِهِ بأن يَقُودَهُ إلى المكان الذي طرحَ فيهِ الأسئِلَةَ الصَّحيحَة. طرحَ سُؤالاً عظيماً مثل: "أمَّا الرَّجُل فيَمُوتُ ويَبلَى. الإنسانُ يُسلِمُ الرُّوحَ فأينَ هُوَ؟ إن ماتَ رَجُلٌ أَفَيَحيَا؟" (أيُّوب 14: 10- 14). هُناكَ أمثِلَةٌ عنِ الأسئِلَةِ الصَّحيحة التي يُريدُنا اللهُ أن نَطرَحَها.

الطَّريقَةُ الثَّانِيَة التي يُريدُنا اللهُ أن نتحرَّكَ بإتِّجاهِها عندما نحزَنُ، هي أنَّنا نُحِبُّ أن يَقُودَنا حُزنُنا إلى ذلكَ المكان الذي نستطيعُ فيهِ أن نُصغِيَ إلى أجوِبَةِ اللهِ على الأسئِلَةِ الصَّحيحَة. لقد حصَلَ أيُّوبُ على جوابٍ عظيمٍ على سُؤالِهِ، في أسوأِ مرحَلَةٍ من آلامِهِ، عندما حصَلَ على الإعلانِ المَسيَاوِيّ. فصرخَ قائِلاً، "أمَّا أنا فقَد عَلِمتُ أنَّ وَلِيِّي حَيٌّ والآخَرُ على الأرضِ يَقُوم." (أيُّوب 19: 25).

قد لا يُعطينا اللهُ إعلاناتٍ خارِقَة للطَّبيعَة كما فعلَ معَ أيُّوب، ولكنَّ الكتابَ المُقدَّس مَليءٌ بأجوِبَةِ اللهِ على الأسئِلَةِ الصَّحيحة. المَزمُورُ المُفَضَّلُ عندِي هُوَ مَزمُورُ الرَّاعِي لِداوُد (مَزمُور 23)حيثُ أجِدُ الكثيرَ منَ الأجوِبَة.

أعطانا يسُوعُ جواباً عَظيماً عندما حضَرَ تلكَ الجنازَة التي بكى فيها كثيراً. فإلى جانِبِ القَبر، تحدَّى إمرأَةً محزُونَةً على أخيها الفقيد المَحبُوب، بقَولِهِ لها: "أنا هُوَ القِيامَةُ والحياة. من آمنَ بي وإن ماتَ فسَيَحيا. وكُلُّ من كانَ حَيَّاً وآمنَ بي فلن يَمُوتَ إلى الأبد. أتُؤمِنينَ بهذا؟" (يُوحَنَّا 11: 25، 26)

سُؤالُ يسُوع في نهايَةِ ذلكَ التَّحدِّي الذي قدَّمَهُ قُربَ قَبرِ لعازار، يَقُودُنا إلى الطَّريقَةِ الثَّالِثَة التي بها يُريدُ اللهُ أن يَنقُلَنا بإتِّجاهِ البَرَكة التي وعدَ بها يسُوعُ عندما نَكُونُ حَزانى: إذا أرَدنا أن نكتَشِفَ البَرَكة والتَّعزيَة اللَّتَينِ وعدَ بِهِما يسُوعُ للحَزَانَى، علينا أن ندعَ حُزنَنا يأتي بنا إلى ذلكَ المكان حيثُ نُؤمِنُ ونَثِقُ بأجوِبَةِ اللهِ على الأسئِلَةِ الصَّحيحَة.

عندَما نُؤمِنُ بأجوِبَةِ اللهِ عل الأسئِلَةِ الصَّحيحَة، سنُحَقِّقُ الإكتِشاف أنَّ البَرَكَة والتَّعزِيَة اللَّتَين وعدَ بهما يسُوعُ للحَزانى، هُما ما يُسَمِّيهِ الكتابُ المُقَدَّسُ "بالخَلاص". هذه الكلمة تعني بِبَساطَة "التَّحرير". بإمكانِنا أن نختَبِرَ التَّحريرَ الأساسِيّ للخَلاص أو التَّحريرَ الذي نحتاجُهُ منَ الحُزنِ والإكتِئاب. بإمكانِنا أن نمُرَّ في أهمِّ إختِباراتِ حياتِنا عندما يَدفَعُنا حُزنُنا لنسأَلَ، نُصغِيَ ونُؤمِن.

يكشِفُ إطارُ هذا التَّعليم تفسيراً وتطبيقاً آخر لهذه التَّطويبَة الثَّانِيَة. ستراتيجيَّةُ يسُوع في هذه الخُلَوة هي: "أنظُرُوا إلى أسفَلِ الجَبَل. هل تَرَونَ كُلَّ أُولئِكَ الجُمُوع هُناك؟ تلكَ الجُمُوع المُتألِّمَة. هل تَظُنُّونَ بإخلاصٍ أنَّهُ بإمكانِكُم أن تَنزِلُوا إلى هُناكَ وتَكُونُوا جُزءاً منَ حَلِّهِم وجُزءاً منَ الجوابِ على مشاكِلِهِم المأساوِيَّة، بِدُونِ أن تُعَرِّضُوا أنفُسَكُم للأذَى؟" إنَّ كَلِمَة "عَطف" تعني "الشُّعُور مع." فكيفَ بإستِطاعَتِكُم أن تَشعُرُوا معَ المُتأَلِّمينَ إن لَم تتألَّمُوا أنتُم بأنفُسِكُم؟

قالَ أحدُهُم، "المُبَشِّرُ هُوَ مُتَسَوِّلٌ يُخبِرُ المُتَسَوِّلينَ الآخرينَ عن مكانِ وُجودِ الخُبز." فالشَّافِي المَجرُوح، الذي سبقَ وتألَّمَ وتعزَّى من قِبَلِ اللهِ، هُوَ، "قَلبٌ مُتألِّم يُخبِرُ قَلباً مُتألِّماً آخر عمَّن وأينَ هُوَ المُعَزِّي." كَثيرُونَ سيَقُولُونَ أنَّهُم آمنُوا باللهِ وعرفُوا عنِ الله، ولكنَّهُم لم يَعرِفُوا اللهَ حتَّى إختَبَرُوا مُستَوَىً منَ الألم وحدَهُ اللهُ يستَطيعُ تعزِيَتَهُ. عندما يُدفَعُونَ لإكتشافِ المُعَزِّي، يكُونُونَ قد أسَّسُوا علاقَةً معَ الله.

تُعَبِّرُ جُملَةٌ شَعبِيَّةٌ بفصاحَةٍ عن هذه التَّطويبَة الثَّانِيَة بالقَول: "أنتُم مُبَارَكُونَ عندما تشعُرُونَ أنَّكُم فقدتُم أعَزّ ما هُوَ لدَيكُم. فقط عِندَها بإمكانِكُم أن تشعُروا بأنَّ اللهَ الذي ينبَغي أن يَكُونَ أعَزّ ما لَديكُم، يغمُرُكُم بحنانِهِ. "(متَّى 5: 4)

نكتَشِفُ أيضاً نظرَةً أُخرى على هذه التَّطويبَة الثَّانِيَة، عندما ندمُجُها بالتَّطويبَةِ الأُولى. غالِباً ما نحزَنُ عندَما نعلَمُ أنَّنا مساكين بالرُّوح. فالخَوفُ منَ الفَشَل يُطارِدُ ويُحَرِّكُ الكثير منَ النَّاس، لأنَّ الفَشَلَ مُؤلِمٌ جِدَّاً. فنحنُ نحزَنُ عندما نفشَل. ولكنَّ الفَشَلَ الشَّخصِيَّ هُوَ بالحقيقَةِ الأداة المُفَضَّلة التي يستَخدِمُها اللهُ ليُقنِعَنا بأنَّنا لن نستَطيعَ أن نعمَلَ شَيئاً بِدُونِهِ. فمُوسى وبُطرُس عانَيا من إختِباراتِ الحُزن المُؤلِمَة النَّاتِجَة عنِ الفَشَل، بينما كانَا يتعلَّمانِ أنَّهُما كانا مِسكِينَينِ بالرُّوح، قبلَ أن يستَخدِمَهُما اللهُ بِقُوَّة. 


الوُدَعاء

المَوقِفُ المُبارَكُ التَّالِي الذي يضَعُهُ يسُوعُ أمامَنا، لهُ علاقَةٌ معَ ما نُريدُهُ: "طُوبَى للوُدَعاء، لأنَّهُم يَرِثُونَ الأرض." ما هي الوَداعَة؟ الوَداعَةُ لَرُبَّما هي أكثَرُ تطويبَةٍ أُسيءَ فهُما وتطبيقُها بينَ التَّطويباتِ الثَّمانِي. فالوَداعَةُ ليسَت ضَعفاً. نسمَعُ يسُوعَ يَقُولُ، "لأنِّي وَديعٌ." (متَّى 11: 29) عندما تتعرَّفُونَ على يسُوع المسيح الذي نراهُ في أسفارِ الكتابِ المُقدَّس، ستُدرِكُونَ أنَّهُ لم يَكُنْ وديعاً بمعنى أنَّهُ كانَ رَجُلاً ضَعيفاً هَزيلاً.

يَصِفُ العهدُ القَديمُ مُوسى بأنَّهُ كانَ "حَليماً جدَّاً أكثَر من جميعِ النَّاس الذين على وجهِ الأرض." (عدد 12: 3) بينما تقرأُونَ العهدَ القَديم وتتعرَّفُونَ على مُوسى، هل تُكَوِّنُونَ عنهُ إنطِباعاً بأنَّهُ كانَ ضَعيفاً؟ يسُوعُ لم يَكُنْ ضَعيفاً ولا مُوسى كذلكَ، بل كانَا وَديعَين.

بإمكانِنا أن نحصَلَ على فهمٍ أعمَق لِمَعنى الكلمة الكِتابِيَّة "وديع،" إذا تأمَّلنا بِحصانٍ جبَّارٍ لم يَتِمّ ترويضُهُ بعد. إنَّهُ حيوانٌ قَوِيٌّ جدَّاً، ولديهِ إرادَةُ جَبَّارَة. الأشخاصُ الخُبراء في هذا المجال، سوفَ يضَعُونَ بتَسَلُّلٍ لجاماً على رَأسِ هذا الحصان ورسغاً بينَ فَكَّيهِ. ثُمَّ يَضعُونَ سَرجاً على ظهرِهِ. وعندما يَصِلُونَ إلى مرحَلَةِ قبُولِ الحِصانِ باللجامِ والرَّسغِ والسَّرج والخَيَّالِ الذي يمتَطيهِ، بكلامٍ آخر عندما يَتِمُّ ترويضُ هذا الحصان، سوفَ يبقى قَوِيَّاً وجبَّاراً، ولكنَّهُ سيُصبِحُ وَديعاً.

عندما إلتَقى شاوُل الطَّرسُوسِيّ بالمسيحِ المُقام على طريقِ دمشق، قد يَكُونُ هذا تفسيراً لما سألَهُ الرَّبُّ يسُوعُ لشاوُل: "لماذا تضطَّهِدُني؟ لماذا ترفُضُ الرَّسغَ؟ هل هُوَ قاسٍ عليكَ؟" (أعمال 9: 4، 5).

ولكن عندما سأَلَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ، "يا رَبّ، ماذا تُريدُ منِّي أن أفعَلَ؟" كانَ قد قَبِلَ بِوَضعِ الرَّسغِ، الذي إلى جانِب أشياء أُخرى، كان مشيئة المسيح المُقام لحياتِهِ. في هذه المرحلة أصبَحَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ وَديعاً، وهذا هُوَ بالتَّحديد ما هي الوَداعَة.

لقد صَرَّحَ يسُوعُ قائِلاً: "لأنِّي وَديعٌ" عندما كانَ يُقدِّمُ إحدى أعظَمِ دعواتِهِ: "تعالَوا إليَّ أيُّها المُتعَبينَ والثَّقِيليّ الأحمال، وأنا أُريحُكُم. إحمِلُوا نيري عليكُم وتعَلَّمُوا منِّي، لأنِّي وَديعٌ ومُتواضِعُ القَلب. فتَجِدُوا راحَةً لِنُفُوسِكُم. لأنَّ نيري هَيِّن وحِملي خفيف." (متَّى 11: 28- 30).

اللُّغَةُ الأصليَّة التي سُجِّلَت فيها هذه الدَّعوَة تُشيرُ إلى أنَّ هذه الكلمات كانت مُوجَّهَةً إلى أشخاصٍ كانُوا يعمَلُونَ لدرجَةِ الإنهاكِ ليقُومُوا بأعباءِ الحياة الثَّقيلَة.

في دَعوَتِهِ هذه، يدعُو يسُوعُ النَّاسَ ذَوي الأحمال الثَّقيلَة ليأتُوا ويتعلَّمُوا عن حملِهِ الثَّقيل، عن قلبِه وعن نيرِهِ. لقد أرادَهُم أن يتعلَّمُوا أنَّ حملَهُ خفيف. (هذا مُدهِشٌ، لأنَّ المسيحَ كانَ لديهِ حمل ُالعالم على مَنكِبَيهِ). أرادَهُم أن يتعلَّمُوا أنَّهُ وديعٌ ومُتواضِعُ القَلب، وأنَّهُ يُريدُ أن يُعَلِّمَهُم أنَّ نيرَهُ هُوَ الذي يجعَلُ حِملَهُ خفيفاً وحياتَهُ سَهلَة.

فالنِّيرُ ليسَ حِملاً. النِّيرُ هُوَ أداةٌ تُمَكِّنُ حَيواناً كالثَّورِ مَثَلاً بأن يُحَرِّكَ حِملاً ثَقيلاً. كَثِيرُونَ منَّا رأَوا عرَباتٍ يجُرُّها ثَورٌ، مُحَمَّلَةً بأكوامٍ منَ الأحمال. نِيرُ الثَّورِ هُوَ الذي يُمَكِّنُ هذا الحَيوان القَوِيّ من وَضعِ قُوَّتِهِ تحتَ السَّيطَرة بطريقَةٍ تُسَهِّلُ عليهِ نقلَ الحملِ الثَّقيل.

هذه الإستِعارَةُ العميقَةُ والبَسيطَة تُعَرِّفُ الوَداعَة. التَّطويبَةُ الثَّالِثَة عن الوَداعَة تعني: القُوَّةُ تحتَ السَّيطَرَة. جَوهَرُ ما يُعَلِّمُهُ يسُوعُ هُو: "أنا أحمِلُ نيرَ مَشيئَة أبي السَّماوِيّ كُلَّ يَومٍ." تَذَكَّرُوا أنَّهُ قالَ، "لأنِّي في كُلِّ حِينٍ أفعَلُ ما يُرضِي الآب." (يُوحَنَّا 8: 29) هذا كانَ الحملُ الذي وضَعهُ يسُوع على نفسِهِ. فلقد إستَسلَمَ لِنيرِ الآب، وكانَ تحتَ سيطَرَةِ الآبِ كُلِّيَّاً وطِوالَ الوقت. هذه هي تطويبَةُ الوَداَعة التي علَّمَها يسُوعُ لتلاميذِهِ.

النِّيرُ الذي كانَ يُناسِبُ الحيوانَ تماماً، لأنَّ النَّجَّارَ يكُونُ قد سبقَ وصنَعَهُ بدقَّةٍ ونُعُومَة، كانَ يجعَلُ من حياةِ الحَيوانِ الذي يَضَعُهُ سهلَةً وهَنِيَّة؛ وجعلَ هذا النِّيرُ الهَيِّنُ الحِملَ خفيفاً. نجَّارٌ كيَسُوع لا بُدَّ أنَّهُ جعلَ أنياراً تُلائِمُ الحيوانات التي تَضَعُها تماماً، ولا سِيَّما بِصِناعَتِها ناعِمَةً منَ الدَّاخِل لكي لا تتَسَبَّبَ بجرحِ عُنقِ وكَتِفَي الحيوان. علَّمَ يسُوعُ بتطويبَةَ الوَداعَة، لأنَّهُ كانَ يعرِفُ أنَّ النِّيرَ الذي كانَ يضَعُهُ كُلَّ يَومٍ سيجعَلُ الأحمالَ خفيفَةً، والحياةَ سَهلَةً لأُولئِكَ الذين يُصارِعُونَ ويعانُونَ الأمَرَّين لأنَّهُم لا يحمِلُونَ نيراً.

عندما يُعَلِّمُ يسُوعُ التَّطويبَةَ الثَّالِثَة، يَقُولُ ما معناهُ: "تُوجَدُ طريقَةٌ صحيحَةٌ لعَيشِ حياتِكُم. فإن كُنتُم ستعيشُونَ حياتَكُم كما أعيشُها أنا، ستَجِدُونَ أنَّكُم لن تتعَبُوا ولن تنُوؤُوا لدَرَجَةِ الإستِسلامِ والإرهاقِ تحتَ أعباءِ مشاكِل الحياة." كانَ يسُوعُ يَقصُدُ القَولَ أيضاً، "عِيشُوا الحياةَ كما أعيشُها أنا. فإذا قَبِلتُم نيري الذي هُوَ نير الوَداعَة، ستكتَشِفُون أنَّهُ قد يجعَلُ حملَكُم خفيفاً، وحياتَكُم سَهلَةً مهما كانت التَّحدِّياتِ التي تُواجِهُونَها صَعبَةً."

بالإختِصار، يُعَلِّمُ يسُوعُ تلاميذَهُ على قِمَّةِ جبلِ الجليلِ ما جوهَرُ معناهُ: "أُولئكَ النَّاس القابِعُونَ عندَ سَفحِ الجبل، يُعانُونَ من الآلامِ، لأنَّهُم لا يعرِفُونَ كيفَ يَجرُّونَ أثقالَ الحياة. وهم غَيرُ قادرينَ على نقلَ أحمالِ الحياة لأنَّهم ليسَ لديهم نير. ولكن إذا آمنتُم بِقِيَمي، وإذا عِشتُم حياتَكُم بحَسَبِ مواقِفي، وإذا تمرَّستُم بالمبادِئ الرُّوحِيَّة التي سأُظهِرُها لكُم خلالَ إتِّباعِكُم لي، سوفَ تتعلَّمُونَ شَيئاً عن حِملي، عن قَلبي وعن نيري، الذي سيُعطي راحَةً لِنفُوسِكُم."

الوَداعَةُ هي مبدَأُ إنضِباطِ إرادَتِنا أو مَشيئَتِنا. كَلِمَةُ "تلميذ" وكلمة "إنضِباط" تأتِيانِ من الجذرِ نفسهِ. وَعدُ يسُوع الذي يُرافِقُ هذا المَوقِف المُبارَك هُوَ أنَّ التِّلميذَ الوَديع سيَرِثُ الأرض. هذا يعني بِبساطَة أمرَين: (1) علنا أن نتوقَّعَ من تلميذِ يسُوع أن يَكُونَ مُنضَبِطاً، و (2) تلميذ يسُوع المُنضَبِط يربَحُ كُلَّ شَيءٍ عندما يَضَعُ نيرَ يسُوع ونيرَ الآبِ السَّماوِيّ على حياتِهِ طِوالَ اليَومِ وكُلَّ يَوم.


الجِياعُ والعِطاشُ إلى البِرّ

المَوقِفُ الرَّابِعُ المُبارَك هُوَ: "طُوبى لِلجِياعِ والعِطاشِ إلى البِرّ لأنَّهُم يُشبَعُون." (متَّى 5: 6) عندَما نَكُونُ وُدَعاء، أو بكلامٍ آخر عندما يَكُونُ يسُوعُ رَبَّنا ونُسَلِّمُ حياتَنا لسيطَرَتِهِ، يُعلِّمُ يسُوعُ أنَّهُ ينبَغي علينا عندَها أن نَجُوعَ ونعطَشَ للبِرّ.

الآن نرى نمُوذَجاً يظهَرُ، أنَّ التَّطويبات تأتي إثنين إثنين، أو زوجينِ زوجين. فنحنُ نحزَن ُعندما نتعلَّمُ كيفَ نَكُونُ مساكين بالرُّوح، وعندما نُصبِحُ وُدعاء نجُوعُ ونعطَشُ للبِرّ. البِرُّ هُوَ بِبَساطَةٍ الإستِقامة، أو عمَلُ ما هُوَ مُستَقيم. أن نَجُوعَ ونعطَشَ للبِرّ يعني أن نَجُوعَ ونعطَشَ لمعرِفَةِ الصَّواب – خاصَّةً أن نعرِفَ ما هُوَ مُستَقيمٌ أو صَوابٌ بالنِّسبَةِ لنا.

سُرعانَ ما أصبَحَ بُولُس وَديعاً على طَريقِ دِمَشق، أصبَحَ يُريدُ أن يعرِفَ ما هُوَ صَوابٌ ومُستَقيمٌ بالنِّسبَةِ لَهُ. عندما نادَى يَسُوعَ قائِلاً، "يا رَب، ماذا تُريدُ مِنِّي أن أفعَلَ؟" لم يَكُن يُقدِّمُ لنا مِثالاً عن الوداعَةِ فحَسب. بل وكانَ أيضاً يُقدِّمُ إيضاحاً عمَّا يعنيهِ أن يكُونَ لدَينا جُوعٌ وعَطَشٌ للبِرّ.

إنَّ تَفسيرَ الإستِنكار أو الغَضَب البارّ المُقدَّس الذي أظهَرَهُ يسُوعُ، والذي نقرأُ عنهُ في الأناجيل، هُوَ أنَّ ما كانَ رِجالُ الدِّين يعمَلُونَهُ في هَيكَلِ اللهِ، كانَ مُناقِضاً لما هُوَ صوابٌ ومُستَقيم. لاحِظُوا غَيرَةَ يسُوعُ لعَملِ مَشيئَةِ أبيهِ السَّماوِيّ. ثُمَّ لاحِظُوا أنَّ الغَيرَةَ لِعَمَلِ ما هُوَ صَوابٌ، تتضمَّنُ غيرَةً لمُواجَهةِ وتصحيحِ ما هُوَ مُعوَجٌّ بِوُضُوح.

في هذه المَوعِظَة على الجَبَل، لاحِظُوا تشديدَ يسُوع على الأهمِيَّةِ الحَيويَّةِ للبِرّ: فالتَّطويبَةُ الأخيرَةُ هي، "طُوبَى لِلمَطرُودِين من أجلِ البِرّ، لأنَّ لَهُم مَلَكُوت السَّماوات." (متَّى 5: 10) إثنانِ من التَّطويباتِ الثَّمانِي تتكَلَّمانِ عنِ البِرّ والإستِقامَة. وسيُعلِّمُ يسُوعُ لاحِقاً في هذا الإصحاح قائِلاً: "فإنِّي أقُولُ لكُم إنَّكُم إن لم يَزِدْ بِرُّكُم على الكَتَبَةِ والفَرِّيسيِّين لن تدخُلُوا ملكُوتَ السَّماوات." (متَّى 5: 20) أيضاً في بِدايَةِ الإصحاحِ السَّادِس، علَّمَ يسُوعُ قائِلاً: "إحتَرِزُوا من أن تصنَعُوا صَدَقَتَكُم قُدَّامَ النَّاس لِكَي ينظُرُوكُم. وإلا فَلَيسَ لكُم أجرٌ عندَ أبيكُم الذي في السَّماواتِ." (متَّى 6: 1) في النِّصفِ الثَّانِي من الإصحاحِ السَّادِس، علَّمَ يسُوعُ عن القِيَم. ووَصَلَ في خاتِمَةِ تعليمِهِ عنِ القِيَم، عندما نصَحَ بالقِيمَةِ ذاتِ الأولوَيَّة قبلَ كُلِّ رَفيقاتِها منَ القِيم الأُخرى: "أطلُبُوا أوَّلاً ملَكُوتَ اللهِ وبِرَّهُ..." (متَّى 6: 33)

الوعدُ الذي يُرافِقُ هذه التَّطويبَة هي أنَّ التِّلميذَ سيمتَلِئُ حتَّى الفَيض منَ البرِّ الذي إليهِ يجُوعُ ويعطَشُ. تُشيرُ اللُّغَةُ اليُونانِيَّةُ الأصليَّة إلى أنَّ التِّلميذَ سوفَ يمتَلئُ بالبِرِّ إلى دَرَجَةِ التُّخمَة أو الإختِناق. هذا يعني أيضاً أنَّهُ سيمتَلِئُ إلى التَّمامِ برُوحِ اللهِ القُدُّوس البارّ، وسوفَ يمتَلئُ بجُوعٍ وعَطَشٍ لمَعرِفَةِ ما يُريدُهُ اللهُ أن يعمَلَ.

لاحِظُوا أنَّ التَّطويبَةَ هُنا ليست "طُوبَى للجِياعِ والعِطاشِ إلى السَّعادَةِ لأنَّهُم سيفرَحُون." وليسَت، "طُوبَى لِلجياعِ والعِطاشِ إلى المِلءِ أو الكَمال." وليسَت، "طُوبَى للجِياعِ والعِطاشِ إلى الإزدِهار، لأنَّهُم سيزدَهِرُونَ." ليسَ هذا ما نَجِدُ بهِ وعداً هُنا. بل التَّطويبَةُ هي، "طُوبَى للجِياعِ والعِطاشِ إلى البِرّ." والوَعدُ هُوَ أنَّهُم سيُشبَعُونَ منَ البِرِّ أو الإستِقامَةِ، ومنَ الغَيرَةِ لعمَلِ المُستَقيم في عَينَي الرَّبّ.

مشاهِيرُ الأبطالِ الذين حارَبُوا الظُّلمَ – كأُولئكَ الذين حقَّقُوا إلغاءَ الرَّقيق والعُبُودِيَّة – كانُوا تلاميذَ مُخلِصينَ ليَسُوع المسيح. معَ الجُوعِ والعَطَشِ لما كانَ مُستَقيماً، كانَ لديهم أيضاً غَيرَةٌ لمُهاجَمَةِ ما هُوَ مُعوَجّ وغَير مُستَقيم. أُولئِكَ الذين يربَحُونَ جائزَةَ نُوبل للسَّلام، أمثال مارتن لُوثر كنغ ونلسُون مانديلاَّ، أظهَروا جُوعَهُم وعَطَشَهُم للبِرّ، بصرخَتِهم المُسالِمَة ضدَّ الظُّلمِ و التَّمييزِ العُنصُرِيّ. إذا تتبَّعتُم آثارَ كلمة "بِرّ" عبرَ الكتابِ المُقدَّس، ستَرَونَ أنَّ يسُوعَ كانَ مُنسَجِماً معَ كلمةِ اللهِ عندما شدَّدَ على مَفهُوم كَونِ التَّلميذ المُمتَلئ بالبِرّ يُواجِهُ الإثم أو عدم البرّ وعدَم الإستِقامَة.

أحدُ الأعدادِ المُفضَّلَة عندي عنِ البِر هُو: "إذبَحُوا ذَبائِحَ البِرِّ وتَوَكَّلُوا على الرَّبّ." (مزمُور 4: 5). فالمُرَنِّمُ لم يَكُنْ قادِراً على النَّوم، لأنَّهُ كانَ رَجُلاً رُوحِيَّاً، ولكنَّهُ عَمِلَ ما هُوَ لِمصلَحَتِهِ وليسَ ما هُوَ مُستَقيم. فقَرَّرَ أن يُقَدِّمَ ما يلزَمُ منَ الذَّبائِحِ والتَّضحِيات ليعمَلَ ما هُوَ مُستَقيم. عندَها وعندَها فقط إختَبَرَ السَّلام، ونامَ بأمانٍ. كانَ دافِعُهُ لهذا القَرار أنَّهُ علِمَ أنَّهُ مُحاطٌ بأشخاصٍ كانُوا يبحَثُونَ عن شَيءٍ صالِحٍ ومُستَقيم. كانُوا يبحَثُونَ عن شَخصٍ يعمَلُ المُستَقيمَ بدَلَ أن يعملَ مصلحَتَهُ.

بينما يُشَدِّدُ يسُوعُ على الكَمال والبِرّ الشَّخصِيَّين الذي ينبَغي أن يتحلَّى بهما تلاميذُهُ، يُصَرِّحُ أنَّ أحد أسباب كَون هؤُلاء النَّاس عندَ سَفحِ الجَبل بُؤساء وحزانى، هُوَ أنَّهُم كانُوا يعمَلُونَ ما يعمَلُه النَّاسُ جميعاً. أي أنَّهُم كانُوا يعمَلُونَ مصلَحتَهُم، وما هُوَ نافِعٌ لهُم، بدَلَ أن يعمَلُوا ما هُوَ مُستَقيم.

عددٌ آخر ينبَغي أن أُشيرَ إليهِ، من بينِ العشرات منَ الأعدادِ عن البِرّ، يُعلِنُ أنَّ شعبَ اللهِ "يُدعَونَ أشجارَ البِرِّ غَرسَ الرَّبِّ لِلتَّمجيد." (إشعياء 61: 3)

إنَّها خُطَّةُ اللهِ – ولهذا فهي ستراتيجيَّةُ يسُوع في هذه الخُلَوة – أن يُجَنِّدَ تلاميذَ سيَكُونُونَ قنواتِ بِرٍّ، عِندَما يرجِعُونَ إلى تلكَ الجُمُوع منَ النَّاسِ القابِعينَ عندما أسفَلِ الجَبل، الذي يُمَثِّلُونَ الهالِكينَ في هذا العالم. خُطَّتُهُ هي أنَّهُ ينبَغي أن يُغرَسَ التَّلاميذُ في هذا العالم كأشجارٍ منَ البِرِّ لمَجدِ الله.

  • عدد الزيارات: 11951