الفَصلُ الثَّالِث "شُرَكاءُ معَ الله" - مَزيدٌ منَ الاسئِلَة والأجوِبَة
مَزيدٌ منَ الاسئِلَة والأجوِبَة
يختُمُ بُولُس هذا الإصحاحِ العاشِر مَرَّةً أُخرى بإستِباقِ أسئِلَةٍ يتوقَّعُها من قُرَّائِهِ. عندما يُرَكِّزُ على الأهمِّيَّة المَصيريَّة لٍِسَماعِ الكلمة التي من خلالِها يأتي الإيمان، بإمكانِ الرَّسُولِ أن يتصوَّرَ قُرَّاءَهُ وهُم يسأَلُونَهُ، "حسناً، وماذا عن الذين لم يسمَعُوا رِسالةَ الإنجيل؟" بعدَ أن قُمتُ بِمُشارَكَةِ الإنجيل معَ الكثيرِ من طُلاَّبِ الجامعاتِ في إطارِ جامِعَةٍ عِلمانِيَّة، سَمِعتُ طُلاباً يطرَحُونَ هذا السُّؤال مُباشَرَةً عندما كانُوا يسمَعُونَ الإنجيل لأوَّلِ مرَّة: "ماذا عن جميعِ أُولئكَ الذين لم يسمَعُوا الإنجيلَ بتاتاً؟"
يطرَحُ بُولُس السُّؤال ومن ثَمَّ يُجيبُ عليهِ: "لَكِنِّي أقُولُ ألَعَلَّهُم لم يسمَعُوا؟ بَلَى. إلى جَميعِ الأرضِ خرجَ صَوتُهُم، وإلى أقاصِي المسكُونَةِ أقوالُهُم. لَكِنِّي أقُولُ ألَعَلَّ إسرائيلَ لم يَعلَمْ. أوَّلاً مُوسى يَقولُ أنا أُغيرُكُم بما لَيسَ أُمَّة. بأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُم. ثُمَّ إشَعياء يتجاسَرُ ويَقُولُ وُجِدتُ منَ الذين لم يَطلُبُوني، وصِرتُ ظاهِراً لِلَّذينَ لم يَسأَلُوا عَنِّي. أمَّا من جِهَةِ إسرائيل فيَقُولُ طُولَ النَّهارِ بَسَطتُ يَدَيَّ إلى شَعبٍ مُعانِدٍ ومُقاوِم." (رُومية 10: 18- 21؛ مزمُور 19: 1- 4؛ تثنِيَة 32: 21؛ إشَعياء 65: 1)
يقتَبِسُ بُولُس من داوُد، مُوسى، وإشعياء في جوابِهِ على هذا السُّؤال. يُعَلِّمُ داوُد بما يُسمِّيهِ اللاهُوتِيُّون "الإعلان الطَّبيعيّ"، عندما يكتُبُ أنَّ السماواتِ تُحَدِّثُ بِمَجدِ الله، والفَلَكُ يُخبِرُ بِعَمَلِ يديهِ، وأنَّهُ لا يُوجَدُ مكانٌ على الأرض لم يسمَعْ بإعلانِها.
خلالَ أسفارِي لزيارَةِ المُرسَلين في بَعضِ المناطِق النَّائِيَة منَ الأرض، حقَّقتُ إكتشافاً. عندما يَقُومُ البَعضُ منَّا، منَ الذين يعيشُونَ في المُدُنِ الكَبيرَة، بِزِيارَةِ أماكِن في الأدغال، حيثُ لا إنارَة مَدينة، نُصبِحُ أكثَرَ إدراكاً لِوُجُودِ النُّجُوم ولهذا الكَون المُدهِش الذي نعيشُ فيه. ولَرُبَّما قضَى داوُد كراعي غَنَمٍ شابّ، الكثيرَ منَ الليالي مُستَلقِيَاً على ظَهرِهِ، مُحدِّقاً بِنُجُومِ السَّماء. فأَوحَى لهُ الرُّوحُ القُدُس بأن يكتُبَ المَزمُور التَّاسِع عشر، بأنَّ السَّماواتِ والفَلَك يُخبِرَانِ بمجدِ الرَّبّ. ولا تُوجَدُ ليلَةٌ واحِدَةٌ حيثُ لا تكرِزُ السَّماواتُ والفَلَكُ بهذه العِظة. بِحَسَبِ داوُد، حتَّى ولو لم يَكُنْ يُوجَدُ ولا أيُّ صَوت، ولكن لا يُوجَدُ مكانٌ واحِدٌ في العالم لا يُكرَزُ فيهِ بهذه العِظَة.
في الإصحاحِ الأوَّلِ من هذه الرِّسالَة، يُعلِنُ بُولُس أنَّهُ بسببِ الرِّسالَة التي تمَّ إيصالُها من خلالِ مُعجِزَة الخَلق، لذلكَ فالهالِكُونَ هُم بِلا عُذر (رُومية 1: 20). ولكن هل بإمكانِ الهالكينَ أن يعرِفُوا ما يكفي من خلالِ الإعلانِ الطَّبيعي ليَتَبَرَّرُوا بالإيمان؟ الجوابُ الواضِحُ على هذا السُّؤال هُوَ "كلا."
يُعَلِّمُ الكتابُ المُقدَّسُ أنَّهُ إذا أدركَ الخاطِئُ الهالِك الذي يبحَثُ عنِ الحَق، من خلالِ الخليقَة أنَّهُ يُوجَدُ خالِقٌ، فإذا طَلَبَ هذا الخالِقَ تجاوُباً معَ النُّورِ الذي نالَهُ من خلالِ الخليقَة، فإنَّ اللهَ سيُعطيهِ المزيدَ منَ النُّور. هذا مبدأٌ هامٌّ جدَّاً في كَلِمَةِ الله (فيلبِّي 3: 16؛ يُوحَنَّا 9: 40، 41؛ 15: 22). يُخبِرُنا المُرسَلُونَ أنَّهُم عندَما أوصَلوا الإنجيلَ إلى شُعُوبٍ في مناطِقَ بدائِيَّة نائِيَة منَ العالم، كانت هذه الشُّعُوب تُخبِرُهُم بأنَّهُم كانُوا ينتَظِرُونَ ويتوقَّعُونَ أن يأتِيَ أحدٌ ما ويُخبِرهم عن اللهِ الذي كانُوا يطلُبُونَهُ منذُ سنواتٍ طَويلَة.
لدَيَّ إختبارٌ شَخصِيٌّ أكَّدَ لي هذه الحقيقة. فبينما كُنتُ كراعي كنيسة أُعلِّمُ درسَ كتابٍ مُقَدَّس تبشيريّ، سألَتي إمرأَةٌ يابانيَّة ووجهُها يَشُعُّ بالنُّور، إن كانَ بإمكانِها أن تلتَقي بي بعدَ الإجتماع. وعندها أخبَرتني أنَّها بينما كانت تختَبِئُ في ملاجِئِ طُوكيو خلالَ الأشهُرِ الخِتامِيَّة من الحربِ العالميَّةِ الثَّانِيَة، صَلَّت للهِ الذي كُنتُ أُقَدِّمُهُ لَهُم في دراسَةِ الكتابِ المُقدَّسِ تلك. لقد كانت بُوذِيَّةً، ولكنَّها عرَفَت في قَلبِها أنَّهُ يُوجَدُ إلهٌ حَقيقيٌّ قادِرٌ أن يُخَلِّصَها إذا صَلَّت لهُ.
لقد وضَعَت إيمانَها بيسُوع المسيح، فإنفجَرَ النَّهار وطلعَ كَوكَبُ الصُّبحِ في قَلبِها. وهكذا أصبَحَتْ تلميذاً ليسُوع المسيح، والنُّورُ يَشُعُّ من وَجهِها! ففي ملجَأِ القنابِلِ ذاك، تجاوَبَت معَ اللهِ الذي أعطاها النُّور – ولقد أعطاه المَزيد منَ النُّور، فغادَرت المكان تلكَ الليلَة وهِيَ تَقُولُ، "الرَّبُّ نُورِي وخلاصِي." (مَزمُور 27: 1)
ثُمَّ يقتَبِسُ بُولُس عدداً عميقاً من سِفرِ التَّثنِيَة، حيثُ يُعطي مُوس النُّبُوَّةَ التي ستُصبِحُ مَوضُوعَ ما تبقَّى من هذا الإصحاح، وكامل الإصحاح الحادِي عشَر من هذه التُّحفَة اللاهُوتيَّة. يتنبَّأُ مُوسى أنَّ اللهَ سيُثيرُ غَيرَةَ إسرائيل بإختِيارِ أُمَمٍ غير رُوحِيِّين للخلاص.
أشارَ يسُوعُ إلى الأُمَمِ "بالكِلاب"، الأمرُ الذي كانَ يُقصَدُ بهِ أنَّ الأُمَمِي عابِدَ الأوثانِ كانَ تمييزُهُ الرُّوحِيُّ لا يتعدَّى مُستَوى التَّمييز الرُّوحِي لدى الكلاب. فلا بُدَّ أنَّ غيرَة اليَهُودِ ستُثارُ إذا تحوَّلَ اللهُ عنهُم وإختارَ "كِلاباً" ليَكُونُوا شعبَهُ المُختار. يُتابِعُ بُولُس واحدةً من أروَعِ نُبُوَّاتِ الكتابِ المُقدَّس، عندما يُشَدِّدُ على نُبُوَّةِ مُوسى أنَّ اللهَ سيُثيرُ غيرَةَ اليَهُودِ بتخليصِ الأُمَم. ومُوسى أيضاً تنبَّأَ أنَّ اللهَ سيُثيرُ غضَبَ إسرائيل بإختيارِ شعبٍ جاهِلٍ، أو شَعبٍ بِدُونِ فهمٍ، للخَلاص.
هل لاحَظتُم الذَّكاءَ والمَواهِبَ الخارِقَة لدى اليَهُود؟ لاحِظُوا كم من مَشاهير العُلماء، ورابِحي جائِزة نُوبل، والبَحَّاثَة الذَّائِعي الصِّيت، والمُوسيقارِيِّين ومُؤَلِّفي المَعزُوفات الرَّائعة، يتحدَّرُونَ من أصلٍ يَهُودِيّ. فيا لِلسُّخرِيَة أن يختارَ اللهُ شَعباً أقلَّ مواهِبيَّةً وأقلَّ ذكاءً منَ اليَهُود، ليَكُونُوا شعبَهُ المُختار الجديد. يُؤَكِّدُ بُولُس أنَّ الأُممَ الذين إختَارَهُم اللهُ ليسُوا مُختارين لأنَّهُم شُرفاء أو أقوياء أو أذكِياء (1كُورنثُوس 1: 26- 29).
نُبُوَّةُ مُوسى يتبَعُها نُبُوَّتانِ لإشَعياء، تُضيفانِ على ما قالَهُ مُوسى، بأنَّ اللهَ سيُثيرُ غَيرَةَ اليَهُودِ بإختيارِ شَعبٍ لا يَطلُبُهُ البَتَّة. لقد سبق واعتَرَفَ بُولُس بأنَّ اليَهُودَ لديهِم غَيرَةٌ لله، ولكنَّ غيرَتَهُم ليسَت حسبَ المعرِفَة، لأنَّهُم يطلُبُونَ اللهَ بالنَّظَرِ إلى الدَّاخِل، وبكَونِهِم مُعتَمِدينَ على بِرِّهِم الذَّاتِي. اليَهُودُ الذين كانُوا مثل شاوُل الطَّرسُوسِيّ، قبلَ أن إلتَقُوا بالمسيح، كانُوا مُلتَزِمينَ بشدَّةٍ وتعصُّبٍ بذلكَ البِرِّ الذَّاتي كطَريقَةٍ للإقتِرابِ منَ الله.
ولأكثَرِ من خمسَةِ عُقُودٍ، إندَهَشتُ بسماعِ قصَص عنِ الله، أو شهادات مُؤمنين منَ الذي إلتَقيتُهم كراعي كنيسة. بمعنىً ما، لا يُمكِنُ أن نَجِدَ قِصَّتَين مُتَطابِقَتَين من هذه القِصَص عن كيفَ وجدَ المُؤمنُونَ الله، أو كيفَ وجدَهُم اللهُ. هُناكَ نَمُوذَجٌ لاحَظْتُهُ في كُلِّ هذه القِصَص، وهُوَ ما أُسَمِّيهِ "التَّدخُّل الكَبير." هذا التَّدخُّل يُقدَّمُ بطريقَةٍ جميلَةٍ في إستِعارَةٍ يذكُرُها داوُد عندما يُخبِرُنا في مزمُورِ الرَّاعي كيفَ أصبَحَ الرَّبُّ راعِيَهُ. فقالَ: "يُربِضُني."
بينما كُنتُ أُصغِي للنَّاسِ وهُم يُخبِرُونَني كيفَ جاؤُوا إلى الإيمان باللهِ وبالمسيح، أتعجَّبُ كم منهُم لم يَكُونُوا يطلُبُونَ اللهَ بتاتاً. بل كانَ اللهُ يطلُبُهم ويبحَثُ عنهُم. فجعَلَهُم يربُضُون بِضَربِهِم على رُؤوسِهِم بعصا الرَّاعي، الذي ظهَرَ غالِباً بِمظهَرِ مُشكِلَةٍ لا يستَطيعُونَ حَلَّها. ولاحقاً نظَرُوا إلى هذه المُشكِلَة على أنَّها التَّدخُّل المُحِبّ من قِبَلِ راعيهم الله، فشَكَرُوهُ على هذه المُشكِلَة. ويُتابِعُ ليُؤَثِّرَ على هذه التَّدَخُّلات في نُقاطِ تحوُّلٍ مِفصَليَّة في رحلاتِ إيمانِهم. منَ الواضِحِ أنَّ المُبادَرَةَ تأتي منَ اللهِ وليسَ من سَعيِهِم وراء َالله.
قالَ أحَدُهُم، "الدِّيانَةُ هي سَعيُ الإنسانِ وراءَ الله، ولكنَ الكتابَ المُقدَّس يُقدِّمُ اللهَ وهُوَ يسعَى وراءَ الإنسان." يتنبَّأُ بُولُس، مُقتَبِساً من إشعياء، بحدَثٍ غيرِ إعتِيادِيّ، الذي نراهُ اليَومَ في حياتِنا وفي رِحلاتِ الأخرين الإيمانِيَّة. على خِلافِ اليَهُود، الذين كانَت لديهم غيرَة مُمَيَّزَة لله، النَّاسُ الذين لا يسعُونَ وراءَ اللهِ بتاتاً، هَؤُلاء يَجِدُهُم اللهُ، لأنَّهُ يسَعَى هُوَ وراءَهُم. كُلٌّ من مُوسى، إشعياء وبُولُس يُضيفُونَ على هذه الحقيقَة المُدهِشَة عنِ الحياةِ الرُّوحيَّة، التَّعليمَ أنَّ اللهَ سيعمَلُ هذا للأُمَم ليدفعَ اليَهُود للتَّوبَةِ الرُّوحِيَّة.
- عدد الزيارات: 7940