الفَصلُ الثَّالِث "شُرَكاءُ معَ الله" - سِرُّ الإيمان وعَدم الإيمان
سِرُّ الإيمان وعَدم الإيمان
في عِدَّةِ مُدُنٍ كبيرَة، العمَلُ البَسيطُ بإدارَةِ مفتاحِ الضَّوء لملءِ غُرفَةٍ ما بالنُّور، يتطلَّبُ مصدراً للطَّاقَةِ لا يُمكِنُ رُؤيَتُهُ. فليسَ بإمكانِنا أن نرى الكهرباء أو الكيلومترات الطَّويلَة منَ الأشرطة والكابلات تحتَ الأرض، تلكَ التي أتَتْ بالكَهرباء إلى منطَقَةٍ شاسِعَةٍ تنتَشِرُ فيها منازِلُنا. ونحنُ لا نَنتَبِهُ للمُوَلِّداتِ والمُحَوِّلاتِ الضَّخمَة، وفي بعضِ الحالاتِ لا ننتَبِهُ للسُّدُودِ الكبيرة التي تُولِّدُ الكهرباءَ منَ الماء، لتُوفِّرَ الكهرباء للمدُنِ والأحياء والشَّوارِع والمنازِل التي نعيشُ فيها، ونُضيءُ فيها النُّورَ بكبسَةٍ صغيرَة.
بالطَّريقَةِ نفسِها، يُظهِرُ بُولُس في هذه الإصحاحات عمَلَ الرُّوح القُدُس غير المَنظُور، وسيادَة العنايَة الإلهيَّة، التي لا يُمكِنُنا كذلكَ رُؤيتها. نحنُ لا نستَطيعُ رُؤيَةَ الكهرباء بتاتاً، ولكن بإمكانِنا أن نرى نتائجَ أو مفاعِيلَ الكهرباء عندما نُضيءُ الضَّوءَ في غُرفَتِنا. وكذلكَ، ليسَ بإمكانِنا أن نرى الرُّوحَ القُدُس، ولكنَّنا نستَطيعُ أن نرى بُرهانَ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُس في كُلِّ مَرَّةٍ يسمَعُ فيها الخاطِئُ الإنجيلَ، فيُؤمِنُ ويعتَرِفُ ويخلُص.
يُخبِرُنا كُلٌّ من يسُوع وبُولُس أنَّهُ عندما تُعلَنُ الأخبارُ السَّارَّة للهالكين، بعضُ النَّاسِ يُؤمنُون، ولكنَّ مُعظَمَهُم لا يُؤمِنُون. لِماذا نَجِدُ دائماً هذا التَّجاوُب المُتَناقِض معَ الإنجيل؟ هل لأنَّ أُولئكَ الذين يُؤمِنُونَ ليسُوا بمِقدارِ ذكاءِ الذين لا يُؤمِنُون؟ أم لأنَّ أُولئِكَ الذين يُؤمِنُونَ هُم أكثَرُ ذكاءً من أُولئِكَ الذين يرفُضُونَ أن يُؤمِنُوا؟
جَوابُ بُولُس على هذا السُّؤال هُوَ أنَّ الذَّكاءَ ليسَ التَّفسيرَ لطريقَةِ تجاوُبِ النَّاسِ معَ الإنجيل. يُخبِرُنا يسُوعُ وبُولُس أنَّ أُولئكَ الذين يُؤمِنُونَ يتجاوَبُونَ بهذه الطريقة لأنَّهُم مُنِحُوا عَطِيَّةَ الإيمان (متَّى 13: 11؛ 19: 11؛ فيلبِّي 1: 29؛ 1كُورنثُوس 2: 9- 11)
بِحَسَبِ النَّبِيِّ إشَعياء، هذا التَّجاوُبُ المُتناقِضُ بينَ الإيمانِ أو عَدَمِهِ عندما يُعلَنُ الإنجيلُ، ليسَ شَيئاً حدَثَ فقط في زَمَنِ العهدِ الجديد منَ التَّاريخِ العِبريّ. فلقد أبرَزَ إشَعياءُ نَبَوِيَّاً مجيءَ المَسيَّا، مُعطِياً إيَّانا نُبُوَّاتٍ مَسيَاوِيَّة أكثَرَ من أيِّ نَبِيٍّ آخر في العهدِ القَديم. أكثَر من سبعمائة سنَة قبلَ أن يحدُثَ هذا الأمر، أعطانا إشَعياءُ أحدَ أعظَمِ إصحاحاتِ الكتابِ المُقدَّس وأوضَحِها عن معنى موتِ المسيحِ على الصَّليب (إشَعياء 53).
الأعدادُ السِّتَّةُ الأُولى من هذا الإصحاح هي ستَّةٌ من أهمِّ وأبلَغِ أعدادِ الكتابِ المُقدَّس رُوحيَّاً حولَ معنى موتِ المسيح على الصَّليب: "مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنا ولِمَنِ إستُعلِنَت ذِراعُ الرَّبّ. نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرخٍ وكَعِرقٍ من أرضٍ يابِسَةٍ لا صُورَةَ لهُ ولا جَمالَ فنَنظُرَ إليهِ فَنَشتَهِيَهُ. مُحتَقَرٌ ومخذُولٌ منَ النَّاسِ رَجُلُ أوجاعٍ ومُختَبِرُ الحَزَن، وكَمُسَتَّرٍ عنهُ وُجُوهُنا، مُحتَقَرٌ فلم نعتَدَّ بهِ.
"لكنَّ أحزانَنا حمَلَها وأوجاعَنا تَحَمَّلَها، ونحنُ حَسِبناهُ مُصاباً مَضرُوباً منَ اللهِ ومَذلُولاً. وهُوَ مجرٌوحٌ لأجلِ معاصِينا، مَسحُوقٌ لأجلِ آثامِنا، تأديبُ سلامِنا عليهِ، وبِحُبُرِهِ شُفينا. كُلُّنا كَغَنمٍ ضَلَلنا، مِلنا كُلُّ واحِدٍ إلى طريقِهِ، والرَّبُّ وضعَ عليهِ إثمَ جميعِنا." (إشَعياء 53: 1- 6).
يَحُثُّنا بُولُس لنُلاحِظَ الطريقَة التي بدأَ بها إشعياءُ تلكَ النُّبُوَّة المَسياوِيَّة المُوحاة: "لكنْ ليسَ الجميعُ قد أَطاعوا الإنجيلَ. لأنَّ أشعياءَ يقولُ يا ربُّ مَن صَدَّقَ خَبَرَنا. إذاً الإيمانُ بالخَبَرِ والخبرُ بكلمةِ اللهِ". (رُومية 10: 16- 17)
بِحَسَبِ بُولُس، كما بدأَ إشَعياءُ وصفَهُ النَّبَوِيِّ الرَّائِع لمَوتِ المسيح، ركَّزَ هُوَ إنتِباهَنا على هذا السِّرّ للإيمانِ وعدَمِ الإيمان، بطرحِ ذلكَ السُّؤال. وبِحَسَبِ إشَعياء، الأمرُ المِفتاحِيُّ الذي يَفصِلُ بينَ المُخَلَّصِينَ وبينَ الهالِكين في هذا العالم، هو يسُوع المسيح. فلقد بدأَ إشَعياءُ هذا الإصحاح العَظيم بقَولِ ما جَوهَرُ معناهُ، "لديَّ أعظَمُ نُبُوَّةٍ لأُخبِرَكُم بها، والتي لم يسبِقْ لأيِّ نَبيٍّ آخر أن يُعلِنَها، ولكن من هُوَ الذي سيُؤمِنُ بها يا تُرَى؟"
يُضيفُ بُولُس بعدَ هذا تصريحاً عميقاً يُظهِرُ كيفَ يستَخدِمُ الرُّوحُ القُدُسُ كلمَةَ اللهِ خلالَ جَذبِهِ النَّاس للإيمانِ ولِلمَسيح. يكتُبُ بُولُس الرَّسُول قائِلاً أنَّ الإيمانَ يأتي بِسماعِ كلمَةِ الله. يذكُرُ العددُ حَرفِيَّاً أنَّ الإيمانَ يأتي من سماعِ رسالَةِ المسيح.
هُنا ينضَمُّ بُطرُس لبُولُس مُعَلِّماً الحقيقَةَ نفسَها. فبالنِّسبَةِ لبُطرُس، كلمَةُ اللهِ هي بِذارٌ لا يفنَى، الذي يُوَلِّدُ حياةً رُوحيَّةً في أُولئِكَ الذينَ يتجاوَبُونَ بِطريقَةٍ صحيحَةٍ معَ تلكَ الكلمة، عندما يسمَعُونَها أو يقرَأُونَها (1بُطرُس 1: 22، 23).
يُعَلِّمُ بُطرُس هذه الحقيقَةَ نفسَها مرَّةً ثانِيَة، مُستَخدِماً إستِعارَةً أُخرى جميلَة، عندما يَحُضُّ قُرَّاءَهُ على الإقتِرابِ من كَلِمَةِ الله، وكأنَّها نُورٌ في مَوضِعٍ مُظلِم. بالنِّسبَةِ لبُطرُس، بينَما يقتَرِبُونَ من هذا النُّور، سوفَ يختَبِرُونَ مُعجِزَتَين: ينفَجِرُ النَّهارَ ويطلَعُ كَوكَبُ الصُّبِح في قُلُوبِهم (2بُطرُس 1: 19).
هذا التَّصريح لبُولُس، وهاتانِ الإستِعارتانِ المُستَخدَمتانِ من قِبَلِ بُطرُس اللتانِ تتوازَيانِ معَ هذا التَّصريح لبُولُس، تُشَكِّلُ هدَفَ إرسالِيَّةِ بُولُس، وتُوفِّرُ تعريفاً لِفَلسَفَتِي في الخدمة منذُ العام 1949. لقد أخبَرَنا إشعياءُ في نُبُوَّتِهِ أنَّهُ كرزَ بكَلِمَةِ الله، لأنَّ كَلِمَةَ اللهِ أوصَلت أفكارَ وطُرُقَ اللهِ والإنسان إلى الإنسجامِ (إشعياء 55: 8- 11). لقد إكتَشَفتُ أنَّنا عندما نُدخِلُ النَّاسَ إلى كَلِمَةِ اللهِ ونُدخِلُ كلَمَةَ اللهِ إلى حياةِ النَّاس، عندها يأتي الإيمانُ، ويُولَدُ هؤُلاء من جديد. تلكَ الولادَةُ الجديد مَوصُوفَةٌ بِشَكلٍ جَميلٍ في إستِعارَتَي بُطرُس.
- عدد الزيارات: 7939