1- أقوال القديسين القدماء كما يرويها الذين يؤمنون بالاستحالة والذين لا يؤمنون بها
الباب الرابع
تاريخ الاستحالة والحلول
على الرغم من الأدلة الكتابية والعقلية التي تثبت عدم حدوث استحالة في العشاء الرباني, فإن كثيرين لا يزالون على إيمانهم بها, لأنهم يعتقدون أن هذا هو إيمان القديسين القدماء الذين عاشوا في القرون الأولى. وإن كان من الواجب ألا نبني إيماننا على أقوال القديسين. لأنهم على أي حال بشر, والبشر مهما بلغوا أسمى درجات التقوى لا يكونون معصومين من الخطأ, لكن إتماماً للبحث نستعرض فيما يلي أقوالهم عن العشاء الرباني, وبعد فحصها ومعرفة الغرض الحقيقي منها, نأتي بملخص واف عن التاريخ الحقيقي للاستحالة والحلول, جمعناه من أهم المصادر وأصدقها.
أولاً: أقوال القديسين القدماء كما يرويها الذين يؤمنون بالاستحالة[41]:
1- أقوال الذين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى: يذكر الذين يؤمنون بالاستحالة أن اغناطيوس قال "جسد الرب يسوع واحد, ودمه المهرق عنا واحد. هو خبز واحد كسر, وكأس واحدة وزعت على الجميع". وإنه قال "الخبز الذي أريده هو جسد يسوع المسيح ابن الله المسجود له, والمشروب الذي أبتغيه هو دم هذا الإله المتأنس" وقال ايريناوس "المسيح علمنا ذبيحة جديدة للعهد الجديد, وقد تسلمتها الكنيسة من الرسل وتقدمها في كل مكان بحسب نبوة ملاخي النبي". وأنه قال "الخبز يصير إفخارستيا مؤلفة من خبز أرضي وآخر سماوي... ولو كان الوثنيون يتناولون الخمر وهي ممزوجة بالماء, وتصير لهم هكذا شركة الخبز والخمر سر الشكر, جسد المسيح ودمه اللذين يغذيان ويثبتان وجود جسدنا...". وقال يوستينوس "نقدم باسمه ذبيحة أمر الرب يسوع أن تقام, وذلك في شكر الخبز والكأس ذبيحة مقدمة من المسيحيين في كل مكان على الأرض... وأن هناك علاقة بينهما (أي بين الخبز والكأس) وبين جسد المسيح ودمه". وإنه قال: "الغذاء الروحي الذي باركه المسيح وقدسه هو, بحسب الاستحالة, لحم ودم ذلك الإله المتأنس". وقال كبريانوس "دم المسيح لا يقدم ما لم يكن في الكأس خمر, وتقديس ذبيحة الرب لا يتم قانونياً ما لم يكن قرباناً... وإني أتمنى أن تقدم في الكنيسة لله الآب الذبيحة الحقيقية بتمامها, تابعاً في ذلك مثال المخلص نفسه" – ولعل ما دفع كبريانوس للقول: "الذبيحة الحقيقية بتماممها" أن بعض الناس في عصره مارسوا العشاء الرباني بخبز دون خمر, أو بخبز وشيء غير الخمر, أو بخبز وخمر وشيء آخر. ويؤيد التاريخ هذا الاحتمال لأن بعض المسيحيين كانوا يخلطون بين العشاء الرباني ووليمة المحبة التي كانوا يعملونها قديماً.
2- أقوال الذين عاشوا في القرنين الرابع والخامس: قال غرغوريوس النـزيزي "لما منح المسيح تلاميذه أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه, ضحى جسده بوجه لا ينطق به وغير منظور, مدبراً هذا السر كما أرادت سلطته". وقال كيرلس الأورشليمي "لكونه (أي المسيح) قال عن الخبز (هذا هو جسدي), فمن يجسر بعد ذلك أن يرتاب؟ فهو برسم الخبز يعطى الجسد, وبرسم الخمر يعطى الدم. وبالتناول منهما نصير متحدين معه جسداً ودماً, ونصير (أيضاً) مشاركي الطبيعة الإلهية". وإنه قال "بعد أن نتمم الذبيحة الروحية, نضرع إلى الله من أجل سلامة الكنائس". وقال أوغسطينوس "ما نسميه جسد ودم المسيح, هو جوهر مأخوذ (أو بالحري هما جوهران مأخوذان) من ثمار الأرض, لكن إذ يتقدس (أو يتقدسان) بأفشين القداس, يكون (أو يكونان) لخلاص نفوسنا". وقال يوحنا فم الذهب "رئيس كهنتنا العظيم قدم الذبيحة التي تطهرنا. ومن ذلك الوقت إلى الآن نقدم هذه الذبيحة عينها". وإنه قال "أي راع مثل المسيح يغذي خرافه بأعضائه, ويعطينا ذاته لا لنراه فقط, بل وأيضاً لنلمسه ونأكله؟!". وقال مجمع نيقية "على المائدة المقدسة يوضع حمل الله الرافع خطايا العالم, ويذبح من خدام الله ذبيحة غير دموية". وقال أمبروز: "الخبز الذي نقدمه في سر الشكر ورد من البتول, وهو بشرة يسوع المسيح المصلوبة والمدفونة... وإننا كلما تناولنا القرابين التي تتحول سرياً بالكلمة المقدسة إلى جسد المسيح ودمه, نخبر بموته. وقال أفرام السرياني: "جسد الرب يتحد بجسدنا على وجه لا يلفظ به, ودمه الطاهر يصب في شراييننا".
أما يوسابيوس القيصري فقال: "العشاء الرباني هو رمز سري لآلام المخلص". وقد وافقه على ذلك باسيليوس المتوشح بالله فقد قال: "الخبز والخمر رسمان لجسد المسيح ودمه". ولكن يوحنا الدمشقي (في القرن الثامن) علق على هذه العبارة بالقول "إن باسيلييوس لم يدع الخبز والخمر رسمين لجسد المسيح ودمه بعد التقديس بل قبله, لأن الخبز والخمر ليسا رسمين لهما, حاشا. بل إنهما جسد المسيح نفسه متألهاً". كما علق عليها كيرلس الكبير بالقول: "الخبز والخمر ليسا رسمين لجسد المسيح ودمه كما لفق قوم عميان, بل هما جسد المسيح ودمه".
ثانياً: أقوال القدماء كما يرويها الذين لا يؤمنون بالاستحالة أو الحلول[42]:
1- أقوال الذين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى: يذكر الذين لا يؤمنون بالاستحالة أو الحلول أن اغناطيوس قال: "العشاء الرباني هو تقدمة العهد الجديد". وقال ايريناوس:"العشاء الرباني فيه عنصر سماوي وآخر أرضي". وقال: "المسيح علم تلاميذه في العهد الجديد أن يقدموا بشكر قرباناً جديداً. وهذا القربان هو الذبيحة التي تنبأ عنها ملاخي النبي من قبل". وقال يوستينوس "قربان الخبز والخمر مقدم لله تذكاراً لآلام المسيح, وهذا القربان يصير بالصلاة جسد المسيح ودمه". وأنه أيضاً قال "العشاء الرباني هو ذبيحة روحية, وأنه شركة جسد المسيح بسبب الطابع الروحي الذي يكتسبه بواسطة صلاة الشكر". وقال اكليمنضس الاسكندري "الكتب المقدسة دعت الخمر رمزاً سرياً للدم الطاهر, لأن المسيح قال لتلاميذه عنها (خذوا اشربوا, هذا هو دمي), ومن ثم يكزن دم الكرمة, هذا العصير المقدس المفرح, رمزاً لدم المسيح الذي سفك فدية عن كثيرين لمغفرة الخطايا". وقال ترتليان "المسيح ذكر أن الخبز هو جسده بمعنى أنه رمز لجسده", وقال "إن المسيح يوصينا بأن نصدق شهادة حواسنا فيما يقع تحت حكمها من أمور. لأننا إذ شككنا في شهادتها, ربما يصل بنا الأمر إلى القول إن المسيح انخدع عندما رأى الشيطان وهو يسقط إلى الأرض" (لوقا 10: 18), أو حينما سمع صوت الآب وهو شهد له من السماء (متى 3: 17). وأن كبريانوس قال "بواسطة الخبز يشار إلى جسد المسيح, وبواسطة الخمر يشار إلى دمه الكريم". وقال أوريجانوس "الخبز الذي نتناوله في العشاء الرباني لا يختلف عن غيره من الخبز, إلا في كونه رمزاً للمسيح الذي هو الخبز الحي", لأن هذه الحياة تعطى بواسطة الإيمان الحقيقي, كما ذكرنا فيما سلف.
2- أقوال الذين عاشوا في القرنين الرابع والخامس: قال أثناسيوس الرسولي "جسد المسيح لا يُقبل إلا روحياً". وقال غريغوريوس النـزيزي "العشاء الرباني رمز لذبيحة المسيح التي بواسطتها تم الفداء للجنس البشري", وقال "التغيير الذي يحدث للعشاء الرباني, ليس في طبيعته بل في معناه". وقال كيرلس الأورشليمي "الخبز والخمر يتحولان إلى جسد المسيح ودمه, لأنه تحت رسم الخبز يُعطي المسيح جسده, وتحت رمز الخمر يُعطي دمه". وقال أسقف سرابيون في القرن الرابع "الخبز الذي نقدسه في العشاء الرباني, هو مثال لجسد المسيح". وقال أوغسطينوس "إن الرب لم يتأخّر عن القول إن الخبز هو جسده, عندما أراد أن يُعطي علامة لجسده... وكأنه يقول لتلاميذه: افهموا ما قلت لكم على معنى روحي, فإنكم لستم مزمعين أن تأكلوا جسدي الذي ترونه, أو تشربوا دمي الذي سوف يسفكه الذين سيصلبونني, بل إني رسمت لكم (في العشاء الرباني) سراً يحييكم إذا فهمتموه فهماً روحياً. وهذا السر مع أنه يتم على وجه منظور, يجب أن تفهموه على وجه غير منظور". وقال "العشاء الرباني يسمى ذبيحة, بمعنى أنه سر العيد التذكاري لذبيحة المسيح" أو بالحري علامة لهذا العيد[43]. وقال فم الذهب "العشاء الرباني ذبيحة مقدسة رهيبة, وإنه يستحق أن يسمى جسد المسيح ودمه, إذ صارت لنا شركة معه بواسطة تجسده", أي أن شركتنا معه سابقة للتناول من العشاء الرباني. وقال أوستاسيوس الأنطاكي "الخبز والخمر مثال لجسد المسيح ودمه". وقال مكاريوس المصري "الخبز والخمر يشار بهما إلى جسد المسيح ودمه, ونحن لا نأكل منهما إلا روحياً". وقال أوسابيوس القيصري "إن المسيح بقوله لتلاميذه (خذوا كلوا هذا هو جسدي), لم يقصد جسده الذي كان يعيش فيه وقتئذٍ, لأن حديثه عن جسده هنا, هو حديث روحي". وقال ثاؤدوريتوس "الرمزان (يقصد الخبز والخمر المستعملين في العشاء الرباني) لا يفقدان طبيعتيهما الخاصة بعد التقديس, بل يظلان على جوهريهما وشكليهما الأولين". وأن جلاسيوس بابا رومه وقتئذٍ قال "إننا نحتفل في الأسرار المقدسة بصورة جسد المسيح ودمه". وإيرونيموس (جيروم) المؤرخ الكاثوليكي قال "العشاء الرباني مثال لجسد المسيح ودمه".
[41]- عن الكتب الآتية (أ) أسرار الكنيسة السبعة ص 91- 106 (ب) سر العشاء الرباني ص 17- 18, 49- 56 (ج) اللآلئ النفيسة ج1 ص 312- 317 (د) الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة ج1 ص 96- 154 (ه) تاريخ الكنيسة ليوسابيوس ص 441 (و) مواعظ فم الذهب ص 38- 48, 202- 204, 248.
[42]- عن المراجع الآتية: (أ) ريحانة النفوس ص 82- 104 (ب) أصول الإيمان ص 498- 513 (ج) نظام التعليم في علم اللاهوت القويم ص 429- 441 (د) A Text Book Of The History Of Doctrine, p.p. 10 – 72 , وعن شرح كلمات""Sacrament و Eucharist"" و"Lord's Supper" في المراجع الإنكليزية العامة.
[43]لأن كلمة "سر" كانت تستعمل قديماً بمعنى "علامة" كما ذكرنا في الباب الثالث:
- عدد الزيارات: 7034