2- الحجج الخاصة بالتذكار والشركة والأسرار
1 – عندما قدم المسيح العشاء الرباني لتلاميذه قال لهم "اصنعوا هذا لذكري"، فهو لم يقل لهم "افعلوا" أو "اعملوا"، بل قال لهم "اصنعوا" – ومن هذا نستنتج أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه، وذلك بصناعة روحية (الافخارستيا ص 87).
الرد (أ): إن كلمة "اصنعوا" مسستعملة هنا بمعنى "افعلوا"، فهي في اللغة اليونانية "بويو" أي "افعلوا".
فضلاً عن ذلك فإن كلمة "اصنعوا" نفسها، كثيراً ما تعني القيام بأمر لا يستلزم صناعة من الصناعات. فقد قال المسيح "لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي" (مرقس 3:35)، كما قال "طوبى لصانعي السلام" (متى 5: 9), وغنى عن البيان أن كلا من صنع مشيئة الله وصنع السلام بين الناس، لا يستلزم صناعة من الصناعات التي يتحول بها شئ إلى شئ آخر، أو يحل بها شيء في شئ غيره.
(ب) كما أننا إذا تأملنا الآية الواردة في الحجة التي نفحصها، نجد أن المسيح لم يقل "اصنعوا جسدي ودمي لذكري"، حتى كان يجوز القول بحدوث استحالة أو حلول في الخبز والخمر. بل قال "اصنعوا هذا لذكري" (لوقا 22: 19). وكلمة "هذا" هنا، لا يقصد بها ذات الخبز والخمر اللذين قال المسيح عنهما إنهما جسده ودمه، بل يقصد بها العشاء الرباني كتذكار ديني يجب ممارسته بالطريقة التي وضعها المسيح نفسه. وهذه الطريقة تنحصر في إحضار خبز وخمر، لكي يكون الأول تذكاراً لجسده والثاني تذكاراً لدمه، ثم رفع القلب بالشكر لله من أجل عمل الفداء الكريم (كما فعل المسيح من قبل)، مرة قبل التناول من الخبز وأخرى قبل التناول من الخمر، متذكرين في قلوبنا أثناء تناولها مقدار ما تحمله المسيح من آلام في سبيل التكفير عن خطايانا، وجعلنا واحداً مع شخصه المبارك.
2 – إن المسيح وإن لم يعلن لنا أنه حوّل العشاء الرباني إلى جسده ودمه، لكن قوله لتلاميذه أن يصنعوا هذا العشاء لذكره، دليل واضح على أنه يتحول فعلا إلى ذات جسده ودمه. لأن التذكار أربعة أنواع: فهو إما صورة، أو خبز، أو أثر، أو عين الشئ المطلوب تذكره. وبما أن العشاء الرباني ليس صورة للمسيح، أو خبزاً عنه، أو أثراً من آثاره، إذاً فهو عين ذاته. مثله في ذلك مثل "المن" الذي أمر الله موسى أن يحتفظ به في التابوت، تذكاراً للمن الذي أعطاه تعالى للشعب القديم (خروج 16: 23). فهذا المن كان تذكاراً، وفي الوقت نفسه كان عين "المن" الذي أعطاه الله لهذا الشعب (الدرة البهية ص 21 – 23).
الرد (أ): إن المن الذي كان في التابوت يعتبر تذكاراً عينياً، لأن موسى أخذه من عين المن الذي أعطاه الله للشعب القديم. ثم وضعه هو بذاته في التابوت. وعلى هذا القياس نقول: لو كان يوحنا الرسول (الذي كان واقفاً بجوار المسيح أثناء صلبه) احتفظ لنا في وعاء بشئ من الدم الذي سال من جسم المسيح وقتئذ، لجاز لنا أن نسمي هذا الدم تذكاراً عينياً، لأنه يكون في هذه الحالة، هو دم المسيح بعينه. أما العشاء الرباني فلا يجوز أن يسمى تذكاراً عينياً على الاطلاق وذلك لسببين: (الأول) إنه لم يؤخذ من جسد المسيح، بل من نباتين من نباتات الأرض، هما القمح والعني. و (الثاني) إن الخبز والخمر المصنوعين من هذين النباتين والمستعملين في العشاء الرباني، لا يطرأ عليهما أي تغيير في المظهر أو الجوهر، يدل على أنهما أصبحا لحماً ودماً أو شبه لحم ودم.
(ب) أما من أي نوع من التذكار يكون العشاء الرباني، فهذا لا يهمنا أو يعنينا، إذ يكفينا أن المسيح قال لنا "اصنعوا هذا لذكري"، ونحن ننفذ وصيته ونصنع هذا العشاء لذكراه بالطريقة التي وضعها لنا. لكن لكي لا ندع للشك مجالا إلى أي إنسان راغب في معرفة الحق نقول: إن لم يكن أمامنا من أنواع التذكار سوى الأربعة التي ذكرها صاحب هذه الحجة, فإن العشاء الرباني يكون تذكاراً تصويرياً، لأنه يصور أمامنا جسد المسيح ودمه، حال كونهما منفصلين أحدهما عن الآخر بالصليب كما ذكرنا.
3 – قال الرسول "إذاً أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرماً في جسد الرب ودمه" (1 كورنثوس 11: 27) – فهذه الآية تدل على أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه، لأنه ليس من المعقول إطلاقاً أن يعطينا المسيح خبزاً عادياً وخمراً عادية، ويعتبرون الذين يتناولون منه بدون استحقاق مجرمين في جسده ودمه (الافخارستيا ص 43).
الرد (أ) نظراً لأن العشاء الرباني ليس تذكاراً لموت المسيح على الصليب، فإن الاستهانة به تعتبر في الواقع إهانة للمسيح نفسه. ولا غرابة في ذلك، فكلنا يعلم أن احتقار صورة إنسان أو تذكاره، هو في الواقع احتقار لشخصه. والكتاب المقدس يعلن لنا هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء. فهو ينبئنا أنه عندما مدّ أحد اليهود يده إلى تابوت الله، مات في الحال (2 صموئيل 6: 6-7)[20]. لأن التابوت كما يتضح من الكتاب المقدس كان رمزاً للمسيح[21]، الذي لم يكن لأحد أن يلمسه أو يدنو إليه قبل التجسد، وذلك لوجوده وقتئذ في حالة اللاهوت المطلق. فقد قالوا "أما التابوت فكان كشخص الله" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 564)، مع أن التابوت لم يخرج عن كونه صندوقاً ليست له في ذاته قيمة، غير قيمته المادية.
(1) أما الطريقة التي أمر الله مراعاتها في حالة نقل التابوت من مكان إلى مكان، فكانت حمله بواسطة العصوين اللتين كانتا على جانبيه (خروج 25: 10 – 15).
(2) كان تابوت العهد يوضع في قداس الأقداس، وكان يوجد في داخله لوحا العهد، وقسط المن، وعصا موسى التي أفرخت، ومن على غطائه كان الله يكلم موسى. ولذلك كان رمزاً للمسيح بوصفه القائم في أقداس الله، وللحافظ للشريعة في قلبه، والذي فيه غذاء البشرية،والذي على أساس قيامته المعجزية له حق الكهنوت، والوساطة بين الله والناس.
(ب) فضلا عن ذلك، فإننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نجد أن الرسول قال قبل الآية الواردة في الحجة التي نفحصها وبعدها "فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز... إذاً أي من أكل هذا الخبز... وهكذا يأكل من الخبز" (1 كورنثوس 11: 26 – 28).
ومن هذه الآيات يتضح لنا أن العشاء الرباني لا يتحول إلى جسد المسيح، أو يحل ذات جسد المسيح فيه. لأنه لو كان الأمر كذلك، لما كان الرسول قد دعا الخبز المستعمل في العشاء الرباني، خبزاً وخبزاً فحسب، وذلك كيلا يتسرب الشك إلى أحد من جهة الاستحالة أو الحلول، إن كانت تحدث استحالة أو يحدث حلول.
(ج) أما الاعتراض بأن قول الرسول عن خبز العشاء الرباني إنه خبز، لا ينبغي كونه ذات جسد المسيح، لأن الرسول أطلق عليه هذا الاسم باعتبار ما يبدو عليه بعد الشكر، أو باعتبار ما كان عليه قبله. ومثل الخبز في الحالة الثانية مثل لعازر، فقد قال الوحي عنه عندما أقامه المسيح من الموت "فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطتان"، مع أنه لم يكن ميتاً عندما خرج بل كان حياً (الافخارستيا ص 54، 95)، فلا يجوز الأخذ به، لأننا نعلم أن الحقيقة أسمى من الشكل، وأن الجوهر أفضل من العرض، وأن ما آل إليه الشيء أحق بالذكر مما كان عليه من قبل. ولذلك لو كان الخبز يتحول فعلاً إلى ذات جسد المسسيح، أو أن ذات جسد المسيح يحل فيه، لما كان الرسول قد أعلن بعد تسجيل قول المسيح عنه أنه جسده، إنه خبز وخبز فقط، ليس مرة واحدة بل ثلاث مرات متتالية. أما من جهة لعازر، فإن قول الوحي عنه عندما أقامه المسيح من الموت "فخرج الميت"، لا يمكن أن يفهم منه إنسان عاقل أن لعازر عندما خرج من القبر كان ميتاً، لأن كلمة "خرج" وحدها،تدل بوضوح على أنه أصبح حياً. وإذا كان الأمر كذلك. فإن خبز العشاء الرباني، بعد قيام المسيح بالشكر (لوقا 22:19 و1 كورنثوس 11: 24)، لا يكون جسداً بالمعنى الحرفي، بل يكون خبزاً فحسب كما كان من قبل. لأنه لم يطرأ عليه تغيير يصبح به شيئاً غير الخبز.
4 – قال الرسول "كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد" (1 كورنثوس 10: 15 – 16). ولما كان الاشتراك في الشيء هو الحصول عليه، يكون اشتراكنا في دم المسيح هو حصولنا عليه، واشتراكنا في جسد المسيح هو الحصول عليه أيضاً – وحصولنا على هذا وذاك يدل على أن الخبز والخمر المستعملين في العشاء الرباني يتحولان إلى ذات جسد المسيح ودمه (الافخارستيا ص 93).
الرد (أ) حقاً إن الشركة في الشئ هي الحصول عليه، أو بتعبير أدق هي الحصول على نصيب فيه. لكن يجب ألا يفوتنا أن هذا الحصول يكون بمعنى مادي ويكون أيضاً بمعنى روحي، وذلك تبعاً للقرينة. والقرينة هنا تدل على أن اشتراكنا في جسد المسيح ودمه هو بمعنى روحي، لأن علاقتنا مع المسيح هي علاقة روحية لا مادية، ولذلك فالمراد بالآيات المذكورة هنا، هو أن تناولنا من الخبز والخمر دليل على أن لنا شركة ونصيباً في جسد المسيح ودمه، أو بالحري في الفوائد التي نتجت من موته على الصليب كفارة عنا. وهذه الفوائد هي التبرير والحياة الأبدية، وصيرورتنا أعضاءً بصفة روحية في جسده القدوس الطاهر (رومية 5:1، يوحنا 3:16، أفسس 5: 20).
(ب) ومما يثبت أيضاً أن هذه الآيات لا تدل على أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات جسد المسح ودمه، أو أن ذات جسد المسيح ودمه يحلان فيه، أن الرسول أعلن مرتين في الآيات الواردة في هذه الحجة، أن الخبز الذي نكسره ونتناوله هو أيضاً خبز وخبز فحسب، وغنى عن البيان أنه لو كان الخبز المذكور يتحول إلى ذات جسد المسيح أو أن ذات جسد المسيح يحل فيه، لما دعاه الوحي خبزاً على الإطلاق، بل لدعاه جسداً ولنبّر أيضاً على أنه جسد، وذلك كي لا يتسرب إلى أحد شك من جهة الاستحالة أو الحلول، إن كانت تحدث استحالة أو يحدث حلول، كما ذكرنا في الرد على الحجة السابقة.
5 – كيف يكون العشاء الرباني خبزاً وخمراً عاديين، وقد قال الوحي عن الكأس المستعملة فيه إنها كأس البركة وإننا نباركها؟!
الرد (أ): القول "كأس البركة" لا يعني أن هذه الكأس فيها بركة بمعنى "نعمة خاصة"، بل يعني أنها "كأس الشكر" أي الكأس التي شكر المسيح عندما أعطاها لتلاميذه، ونشكر نحن أسوة به عندما نتناولها. ولا مجال للاعتراض على ذلك لأن الوحي لا يذكر أن المسيح بارك الخبز أو الكأس.بل ذكر فقط أن المسيح بارك بدون أي مفعول بعد ذلك.
والفعل "بارك" بدون أي مفعول بعده، يراد به "بارك الله"، لأن حذف المعلوم جائز. ومما يثبت أن البركة هنا يراد بها "الشكر"، أن لوقا البشير وبولس الرسول عند تسجيلها حديث المسيح عن العشاء الرباني، ذكرا أن المسيح "شكر" عوضاً عن "بارك" (لوقا 22: 16 – 21،1 كورنثوس 11: 24، 25). واستعمال كلمة "بارك" بمعنى "شكر" كثير في الكتاب المقدس، فقول المرنم "باركي يا نفسي الرب" (مزمور 103: 1) معناه اشكريه. وقد شهد بهذه الحقيقة علماء اللغات فقالوا إن الشكر في اليونانية تقابله المباركة في العبرانية (Ency.Britan, v. 8, p. 793).
(ب) كما أن العبارة التي "نباركها" ليس معناها التي نودع فيها بركة (بمعنى نعمة روحية)، أو التي يودع الله فيها بركة بهذا المعنى بسبب الصلاة التي نرفعها إليه (لأن المسيحية لا تعلمنا أن البركة (بالمعنى المذكور) تحل في المادة، ثم تنتقل من هذه المادة إلى نفس من يستعملها. لكنها تعلمنا أن البركة (بهذا المعنى) تنتقل مباشرة من الله إلى النفوس المتصلة به والمقدسة له) بل معناها "التي نشكر الله من أجلها"، أو بالحري" من أجل ما تدل عليه من معنى". ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن الرسول خصّ الكأس دون الخبز بالبركة، فقال "الكأس التي نباركها... الخبز الذي نكسره"، وليس من المعقول أن تكون الكأس فيها بركة (بمعنى نعمة روحية) دون الخبز، لأن الاثنين معاً تذكار واحد للمسيح. هذا وقد ذهب إلى أن "نباركها" هنا معناها "نشكر الله من أجلها" كثير من المفسرين، وفي مقدمتهم الأستاذ اترمبلاس أحد علماء الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، فقال في تفسيره الكتاب المقدس (ج1 ص 218) "لانباركها، أي نقدسها[22] بصلاة الشكر".
(ج) فضلا عن ذلك فإننا إذا وضعنا أمامنا أن "المباركة" تأتي أيضاً بمعنى "المدح": (Greek-EnglishExhaustive Analytical Concordance Lexicon) وأن الوحي نفسه استعملها بهذا المعنى في قوله "مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأول"، (رؤيا 20:6)، أدركنا أن القول "الكأس التي نباركها"، يمكن أن يكون المراد به أيضاً "التي نشيد بها لما تدل عليه من معنى"، وهذا المعنى كما تعلم هو الفداء الكريم الذي نعتز به جميعاً.
6 – قال الرسول "هكذا فليحسبنا الإنسان خدام المسيح ووكلاء سرائر لله" (1 كورنثوس 4: 1) – هذه الآية تدل على أن في العهد الجديد أسراراً، وهذه الأسرار هي الأسرار السبعة التي من بينها العشاء الرباني. وكونه سراً دليل على أنه يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه (الأسرار السبعة ص 11).
الرد: إن الأسرار أو السرائر، كما نعلم جميعاً، هي أمور عند البعض لا يعرف البعض الآخر عنها شيئاً. لذلك فالأسرار أو السرائر التي كان الرسول وكيلا لها، هي أمور لم يكن يعرف هو أو غيره عنها شيئاً، ومن ثم فإن الله بإعلانها له، قد أعلن لنا ما نسميه أسراراً أو سرائر. وهذه الأسرار أو السرائر، كما يتضح من الكتاب المقدس، تشمل ثلاثة أنواع رئيسية:
(النوع الأول) متعلق بالله، مثل: (أ) سر الله الآب والمسيح، وهو الخاص بالمسيح بوصفه الذي حل فيه كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2: 2 – 9). (ب) سر التقوى، وهو الخاص بظهور الله في الجسد (1تيموثاوس 3: 16). (ج) سر مشيئة الله، وهو الخاص بجمع كل شئ في السماء والأرض في المسيح (أفسس 1:9). (د) سر المسيح، وهو الخاص بجعل المؤمنين الحقيقيين به شركاء في الميراث السماوي لا فرق في ذلك بين جنس وآخر (أفسس 3:1 – 11). (هـ) سر الإنجيل، وهو الخاص بأن الخلاص (الذي كان يتطلع إليه أبناء العهد القديم وغيرهم من القديسين في هذا العهد) هو بالفداء الذي عمله المسيح على الصليب (أفسس 6: 19). (و) سر الإيمان، وهو الخاص بالحقائق المسيحية (الدينية منها والروحية)، التي كانت في طيّ الكتمان قبل إعلانها (1 تيموثاوس 3: 9). (ز) أسرار ملكوت السماوات، وهي الخاصة بتدبيرات الله الأزلية من جهة ملكوته في العالم (متى 13: 3 – 5).
(النوع الثاني) متعلق بالمؤمنين مثل: (أ) سر اقتران المسيح بالمؤمنين الحقيقيين، وجعلهم كعروس له (من جهة محبته لهم) وأعضاء له (من جهة علاقته بهم) (أفسس 5: 28 – 32). (ب) سر وجود المسيح في المؤمنين، وهو الخاص بجعل هؤلاء المؤمنين رجاء المجد المنتظر (كولوسي 1: 26 – 27). (ج) سر السبعة الكواكب، وهو الخاص بالمسؤلين عن الكنائس السبع، التي ترمز الكنيسة في كل أدوارها على الأرض (رؤيا 1: 29). (د) سر اختطاف المؤمنين الحقيقيين، وهو الخاص بتغيير أجساد الذين سيكونون منهم على الأرض عند مجئ المسيح في المرة الثانية، واختطافهم إليه دون أن يذوقوا الموت الجسدي (1 كورنثوس 15: 51 – 52، 1 تسالونكي 4:14 – 17).
(النوع الثالث) متعلق بغير المؤمنين مثل: (أ) سر قساوة قلوب اليهود، وهو الخاص برفضهم للمسيح على الرغم من شهادة التوراة التي بين أيديهم عن شخصه (رومية 11: 25). (ب) سر الإثم، وهو الخاص بالشر الدفين الذي يعمل الآن في أبناء المعصية ضد الله (2 تسالونيكي 2: 7) (ج) سر بابل، وهو الخاص بالتمرد على الله الذي سيظهر في الأزمنة الأخيرة (رؤيا 17: 5 – 7). ونظراً لأن هذه الأسرار قد أُعلنت لنا في العهد الجديد، لذلك لم تعد أسراراً بالنسبة لنا.
أما الأسرار السبعة التي يقول عنها المؤمن بالاستحالة، فليس لها أساس في الكتاب المقدس كأسرار. حقاً إن الرب أمر الخطاة بالتوبة والعماد، وأعطى الروح القدس للمؤمنين الحقيقيين، وعينهم كهنة لله الآب، وأمرهم بممارسة العشاء الرباني، وسمح لهم بالزواج، وأوصاهم أنه إذا مرض أحدهم فعليه أن يدعوا شيوخ الكنيسة (أو قسوسها) ليصلوا لأجله ويدهنوه بزيت باسم الرب، وأعلن لهم أن صلاة الإيمان تشفي المريض. لكن ليست هناك آية واحدة في الكتاب المقدس تنص على أن هذه الأعمال تدعى أسراراً – فضلا عن ذلك فإن معظم هذه الأعمال كانت تمارس قبل المسيحية بواسطة رجال العهد القديم، فقد كانت لهم زوجات (تكوين 24: 67)، وكان من يسقط في خطية منهم يعترف بها الله ويتوب عنها (مزمور32: 5)، وكان الله يقيم من بينهم كهنة، وكان هؤلاء الكهنة يمسحون بدهن المسحة رمزاً لحلول الروح القدس عليهم (خروج 28: 41، 1 يوحنا 2:20)، ولذلك ليس من الصواب في شئ أن يقال إن الزواج والتوبة والكهنوت الطقسي أو بالحري الظاهري أو الشكلي) ودهن المسحة (إن كان للإثنين الأخيرين أساس في العهد الجديد) هي أسرار أتت بها المسيحية.
7 – إن الدسقولية (التي وضعها الرسل الإثني عشر عندما اجتمعوا مرة هم وبولس الرسول ويعقوب أخو الرب في أورشليم، كما جاء في (أعمال الرسل 15: 1 – 32) قد أعلنت عن وجود الأسرار السبعة في الكنيسة – وكفى بذلك دليلا على أن هذه الأسرار من تعليم الرسل أنفسهم.
الرد: (أ) إن القول بأن الإثني عشر رسولا وضعوا الدسقولية هم وبولس الرسول ويعقوب أخو الرب، ليس بصواب للسببين الآتيين.
(الأول) إن يعقوب أخا يوحنا (أحد الإثني عشر رسولا (متى 10: 2)) كان قد قتل قبل هذا الاجتماع بواسطة هيرودس الملك (أعمال 12:2)، ولذلك فالرسل، عدا بولس الرسول ويعقوب أخا الرب، كانوا عند الاجتماع المذكور أحد عشر رسولا فقط.
(الثاني) إن قرارات الرسل في هذا الاجتماع كانت خاصة بالقضايا التي قامت بين اليهود واليونانيين، وكانت تنحصر في وجوب الإمتناع عما ذبح للأوثان وعن الدم والمخنوق والزنا (أعمال 15: 20 و 29)،
(ب) أما المؤرخون العالميون فقد ذهبوا إلى أن الدسقولية لم تكتب بواسطة الرسل، بل كتبت بواسطة بعض رجال الدين فيما بين القرنين الثاني والرابع، ولذلك تكون قد نسبت (مثل بعض الكتب الدينية القديمة) إلى الرسل لتكون لها أهمية خاصة[23]. ولا شك عندي في صدق هؤلاء المؤرخين، لأن الدسقولية أتت لنا بأمور تتعارض مع الكتاب المقدس كل التعارض، وبأمور أخرى لم يكن وجود لها على الإطلاق في العصر الرسولي. فمن جهة الأمور الأخرى، قالت إن الأسقف هو إله المسيحيين على الأرض بعد الله الإله الحقيقي (ص 65)، وأنه ملكهم الذي يجب أن يقدموا له الجزية (ص 73)، وألا يحاسبوه عن أي عمل من أعماله (ص 75) – وهذا ما يتعارض مع الكتاب المقدس كل التعارض (اقرأ: متى 23: 8 – 11، تيطس 1: 3 – 12، بطرس 1: 10)
ومن جهة الأمور الثانية أشارت إلى تقسيم الإنجيل إلى فصول (ص 12) وإلى وجوب ممارسة صوم الأربعين (ص 130)، وإلى وقتي عيد الميلاد والقيامة (ص 130)، مع أن العمل الأول قام به عمونيوس الشماس الإسكندري في القرن الثالث (مرشد ص 35)، وصوم الأربعين لم يصبح فرضاً دينياً إلا في القرن الرابع (ريحانة النفوس ص 50)، وتحديد يوم لعيد القيامة كان بواسطة ديمتريوس بطريرك الاسكندرية.
في القرن الرابع أيضاً (تاريخ الأمة القبطية ص210)، وظهور عيد الميلاد كان في القرن الرابع كذلك (اللالئ النفسية ج1 ص 505، وريحانة النفوس ص 1 – 15).
(ج) ومما يثبت أيضاً أن الدسقولية لم تعمل بواسطة الرسل، أن الذين يعتمدون عليها يجهلون المكان الذي ظهرت فيه أول الأمر (الدسقولية ص 8)، كما يجهلون اسم الشخص الذي كتبها (تاريخ كنيسة أنطاكية ص 45). فضلا عن ذلك لو كان الرسل قد عملوا الدسقولية، لكانت أرفقت بالكتاب المقدس منذ القرن الأول وظلت مرافقة له منذ هذا القرن، ولما كانت تختفي تبعاً لذلك فترات طويلة. فقد سجل المؤرخون السابق ذكرهم أن أول إشارة إلى وجود الدسقولية بعد القرن الخامس، كانت بواسطة شخص يدعى نيسيفوروس عاش في القرن التاسع، وأنها لم تعد للظهور بعد ذلك إلا في القرن السادس عشر، وذلك في دار الكتب البطريركية بالقسطنطينية بواسطة شخص يدعى برنيوس. ثم اختفت بعد هذا القرن ولم تكتشف إلا سنة 1873 بواسطة شخص يدعى فيلوثيوس، الأمر الذي يدل على أنه لم يكن موجود منها في العالم سوى نسخة أو نسخ قليلة جداً يحتفظ بها بعض الأفراد أو الكتبات.
(د) أما من جهة إعلان الدسقولية عما يدعونه أسراراً، فكل ما جاء بها هو القول "نأمر جملة بألا يعمل أحد من العلمانيين (أو بالحري العامة بالنسبة إلى رجال الدين) شيئاً من أعمال الكهنوت التي هي (1) القربان (2) التعميد (3) وضع اليد أو الميرون (4) قسمة الكهنة أو إقامتهم في وظائفهم (ص 144).
ومن هذه العبارة وغيرها من العبارات التي وردت في الدسقولية يتضح لنا وإن كانت قد دعت القربان "سرا"، غير أنها لم تدع الأعمال الباقية أسراراً، كما أنها لم تذكر ما يسمى "سر الاعتراف" أو "سر الزواج" أو "سر مسحة المرضى". والقائلون بالإستحالة مع معرفتهم بهذه الحقيقة يقولون إن ذكر أربعة أسرار فقط في الدسقولية، ليس هو على سبيل الحصر بل على سبيل المثال. ولكن العبارة التي اقتبسناها من الدسقولية لا تدل على أن ما ذكرته هو على سبيل المثال بل الحصر، لأنها لا تقول "أعمال الكهنوت مثل"، بل تقول أعمال الكهنة التي هي.."، الأمر الذي يدل على أن الأمور التي كانت تسمى أسراراً، كانت لغاية القرن الرابع أربعة فقط.
فضلاً عن ذلك فإننا إذا درسنا الدسقولية من أولها إلى آخرها لا نجد بها أية عبارة تدل على أن هذه الأسرار هي علامات منظورة تعطي بواستطها بركات غير منظورة، أو أن العشاء الرباني يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته، أو أنه من الواجب على المؤمنين أن يسجدوا له سجودهم لله. بل كل ما يستنتج من الدسقولية أن الأعمال المذكورة كانت وقتئذ مجرد رموز لحقائق روحية، كما سيتضح من البند التالي.
8 – إن كان الأمر كذلك، فكيف دخلت الأسرار إلى الكنائس المسيحية؟
الرد: (أ) إذا رجعنا إلى تاريخ القرن الثاني للميلاد[24]، نجد أن كلمة "سر" بجانب استعمالها بالمعنى المادي، كانت تستعمل بمعنى "العهد المقدس". فمن المأثور عن بليني الأصغر أنه قال "إن مسيحيي بيت عنيا ربطوا أنفسهم بسر ألا يرتكبوا إثماً". كما كانت تستعمل عند المسيحيين في هذا القرن للتعبير عن الأمور السامية، مثل "الفداء بالصليب" و"قيامة المسيح" و"الحياة المسيحية" و"البر" و"الخلاص" و"الصلاة" و"القسم على الشيطان". وأيضاً للتعبير عن بعض الرموز المستخدمة لديهم مثل "الملح الذي كانوا يعطونه للموعوظين"، كعلامة على أنهم أصبحوا مثل الملح الذي يصلح المجال الذي يوضع فيه. وبعد ذلك استعملت لديهم للتعبير عن الأشياء المخصصة لخدمة الله مثل "الأموال التي كانت تجمع للفقراء أو لخدام الإنجيل"، ولعل السبب في تسمية هذه الأموال سراً، أنها كانت تُعطى للأشخاص المجموعة لهم، دون أن يعلم غيرهم بشيء عنها.
(ب) وفي أواخر القرن الثاني استعمل بعض رجال الدين كلمة "السر" بمعنى "العلامة المنظورة التي تدل على حقيقة غير منظورة". وقد أطلق هذا المعنى على المعمودية والعشاء الرباني وزيت المسحة، فأطلق على المعمودية بمعنى أنها علامة للموت مع المسيح والقيامة معه (كولوسي 2: 12)، وعلى العشاء الرباني بمعنى أنه علامة للإشتراك في جسد المسيح ودمه (1 كورنثوس 10: 15)، وعلى زيت المسحة بمعنى أنه علامة لحلول الروح القدس.
وفي أواخر القرن الثالث أطلق بعض رجال الدين كلمة "سر" على أمر آخر قالوا إنه "الكهنوت" أو بالحري الكهنوت الطقسي أو الشكلي. وبذلك أصبحت الأمور التي تدعى عندهم أسراراً (بمعنى علامات خارجية لحقائق روحية)، أربعة فقط، وظل الأمر على هذه الحال حتى القرن الرابع كما ذكرنا في حديثنا عن الدسقولية.
أما الدكتور أسد رستم فقال في كتابه (تاريخ كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى: ج 1 ص 51)، "إن الأسرار في القرن الأول كانت ثلاثة هي المعمودية ووضع الأيدي (الذي يسمى أيضاً زيت المسحة) وكسر الخبز". وإن كان هذا المؤرخ قد قال الصدق، فلم يذكر أن الأسرار كانت سبعة في القرن الأول (كما يقول بعض رجال الدين، غير أنه لم يقل الصدق كله، لأن الأمور الثلاثة التي ذكرها – وإن كان المسيحيون قد استعملوها في القرن الأول – لكنها لم تكن معتبرة وقتئذ لديهم أسراراً، والدليل على ذلك أن الكتاب المقدس الذي كُتِبَ جزء منه في أواخر القرن الأول لم يطلق عليها هذا الاسم. ومع كل فقد ذكر رستم في كتابه المذكور عبارة لها قيمتها. فقال في (صفحة 46) "إن المسيحيين كانوا يعتبرون ماء المعمودية رمزاً للضمير الصالح بناء على ما جاء في (رسالة بطرس الأولى 3: 21)". ومن هذا يتضح لنا أنهم لم يعتبروا المعمودية سراً بمعنى علامة منظورة ينال بها المؤمن بركة غير منظورة، كما يقول المؤمنون بالاستحالة الآن في تعريف الأسرار.
(ج) وبعد القرن الرابع، أخذت الأمور التي يُقال إنها أسرار بالمعنى السابق ذكره، تزداد شيئاً فشيئاً، ويرجع السبب في ذلك (كما أرى) إلى أن بعض رجال الدين الذين أرادوا أن يحيطوا بعض الأمور الدينية (كالتوبة) والاجتماعية (كالزواج)، بشيء من الهيبة حتى يوقرها المسيحيون ويقبلوا عليها بتدقيق وإخلاص، ولذلك أطلقوا عليها أسراراً. فقد قال فم الذهب "ولتظهروا الأدب اللائق والورع والسكينة والاعتبار للأسرار الإلهية، فهي لا تُدعى أسراراً إلا لكونها كذلك. وحينما كانت الأسرار فهناك الهدوء والسكينة" (مواعظه 204).
غير أن بعض المؤرخين ذهبوا إلى أن زيارة عدد الأسرار ترجع إلى أن اليونان وأهل الشرق (لا سيما الغنوسيين منهم)، لم يكن لديهم شئ أقدس مما يدعونه "الأسرار". فإذا أراد المسيحيون الأوائل أن يخلعوا عظمة خارجية على ديانتهم الجديدة، أطلقوا على بعض الأمور الواردة بها أسراراً (موسهيم ص 73و1: 11).
(د) وسواء أكان الرأي الأول هو الصواب، أم كان الثاني هو الصواب، فإنه لم ينتهي القرن التاسع حتى كانت الأسرار قد بلغت اثني عشر سراً.. ثم أخذت أيضاً تزداد وتزداد حتى بلغت في أواخر القرن العاشر ثلاثين سراً. وبعد ذلك رأى القائلون بالأسرار أن يكتفوا بسبعة منها، باعتبار أن السبعة عدد كامل. وكان أول من نادى بذلك، هو الراهب بطرس لمبارد سنة 1164 م. ومما يجدر ذكره أن في هذا العام جاهر الكسندر هالس بخطأ الاعتقاد بسبعة أسرار، وأثبت من الكتاب المقدس ومن أقوال أغسطينوس أنه لا يوجد في المسيحية سوى سرين بمعنى علامتين لحقيقتين روحيتين، هما المعمودية والعشاء الرباني. وحذا حذوه في ذلك كثير من العلماء، في مقدمتهم بطرس وولد (الذي ترجم الكتاب المقدس وغيره من الكتب الدينية إلى الفرنسية)، فسمع بعض المسيحين لهم ولم يسمع البعض الآخر.
(ه) وفي مجمع فلورنسا سنة 1439، وليس قبل هذا التاريخ على الاطلاق، عرف بعض رجال الدين "السر" بأنه علامة منظورة ينال بواستطها الإنسان نعمة غير منظورة – وهذا التعريف ليس له أساس في الكتاب المقدس، لأن هذا الكتاب لا يعلمنا أن النعمة تحل في المواد (مثل الماء والزيت والخبز والخمر)، ثم تنتقل إلى نفس الشخص الذي يستعمل المواد المذكورة، بل تعلمنا أن النعمة تنتقل مباشرة من الله إلى النفوس المؤمنة به والمقدسة له، وذلك باتصالها الروحي به.
أما قول المؤمن بالإستحالة (إنهم جميعاً يشعرون بالحصول على بركة خاصة عند ممارسة الأسرار، فلا يجوز الأخذ به، إذ فضلاً عن أن الشعور ليس أساساً للحكم (فقد يشعر المرء بسرور دون أن يكون هناك ما يوجب السرور، ويشعر بالخوف دون أن يكون هناك ما يوجب الخوف)، فانه لا يمكن أن يحصل إنسان على بركة ما، لمجرد ممارسته واحداً من الأمور التي تدعى الأسرار، لأنه ليس لها أساس في الكتاب المقدس كأسرار على الإطلاق.ولذلك فان البركة التي يقولون (إن جاز أن تسمى بركة) لا تكون صادرة من الله، بل من اعتقادهم بأن هذه الأمور فيها بركة، أو بالحري من إيحائهم لأنفسهم أن فيها بركة.
وإننا بقولنا هذا، لا ننكر أن هناك بركة في ممارسته العشاء الرباني، بل إن ما ننبر عليه هو أن المؤمنين الحقيقيين وحدهم هم الذين يحصلون على بركة عند ممارسة هذا العشاء، وأن هذه البركة هي التمتع بمحبة المسيح الغنية التي تجلت في موته نيابة عنهم، الأمر الذي يملؤهم بالفرح الروحي ويقودهم إلى التعبد القلبي للمسيح والتفاني في خدمته وإكرامه.
(ز) أخيراً نقول إن كلمة "السر" بالمعنى المعروف عند القائلين بالإستحالة. والتي يقابلها في الأصل اللاتيني كلمة: "sacramentum – ساكرمنتم" ومعناها "شيء مقدس"، ليس لها أساس في الكتاب المقدس، بل كانت تستعمل عند الرومان للتعبير عن أمرين رئيسيين:
(الأول) قَسَم الطاعة الذي كان ينطق به الجنود عند التحاقهم بالجيش.
و(الثاني) التعهد الذي كان يقوم به الوثنيون بينهم وبين آلهتهم قديماً. فاقتبس القائلون بالإستحالة (كما يبدو لي) هذه الكلمة، واستعملوها للتعبير عن الأسرار التي اصطلحوا عليها، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم اعتبروا الأسرار المذكورة أشياء مقدسة سرية يقوم بها الكهنة بينهم وبين الله.
أما الكلمة المستعملة في الكتاب المقدس عن "السر" فهي "مستريون"، وهذه الكلمة يونانية ويُراد بها معنيان.
(الأول) الأمر الذي لم يكن معروفاً من قبل، وهذا هو المعنى العادي للسر.
(الثاني) الشرح الذي يكشف الأمر الغامض ويفسره.
ومن المواضع التي استُعمِلت فيها كلمة "سر" هذا بالمعنى الأول، الآية الواردة في (1 كورنثوس 15: 51). وبالمعنى الثاني، الآية الواردة في (رؤيا 1:20). فقد جاء في الآية الأولى "هو ذا سر أقوله لكم. لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير، في لحظة في طرفة عين، عند البوق الأخير". وجاء في الآية الثانية "سر السبعة كواكب التي رأيت عن يميني، (تفسيره هكذا) السبعة كواكب هي ملائكة السبع الكنائس". وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأسرار بالمعنى المعروف لدى القائلين بالإستحالة، ليس لها أساس في الكتاب المقدس على الإطلاق كما ذكرنا.
[20] أما الطريقة التي أمر الله مراعاتها في حالة نقل التابوت من مكان إلى مكان, فكانت حمله بواسطة العصوين اللتين كانتا على جانبيه (خروج 25: 10- 15).
[21] كان تابوت العهد يوضع في قدس الأقداس, وكان يوجد في داخله لوحا العهد, وقسط المن, وعصا موسى التي أفرخت؛ ومن على غطائه كان الله يكلم موسى. ولذلك كان رمزاً للمسيح بوصفه القائم في أقداس الله, والحافظ للشريعة في قلبه, والذي فيه غذاء البشرية, والذي على أساس قيامته المعجزية له حق الكهنوت, والوساطة بين الله والناس.
[22] والغرض من التقديس (كما يتضح من قواميس اللغة اليونانية وغيرها من اللغات الأجنبية) ليس "إيداع نعمة خاصة"، بل "التطهير أو التخصيص لعمل من الأعمال الدينية".
ونظراً لأن الخبز والخمر ليست بهما نجاسة ما حتى نسعى إلى تطهيرهما إذ أن النجاسة ليست في المواد بل في الناس الذين يفعلون الخطية، لذلك يراد بالتقديس هنا التخصيص وحده.
وللايضاح نقول إن أواني الهيكل في العهد القديم كانت مقدسة (خروج 40: 9)، ليس بمعنى أنها كانت مطهرة من خطية أو بها نعمة خاصة، بل بمعنى أنها كانت مخصصة لخدمة الله في العهد المذكور. وأن المسيح قدس نفسه لأجلنا (يوحنا 17: 19)، ليس بمعنى أنه طهرها أو أودع فيها نعمة خاصة لأجلنا، بل بمعنى أنه خصصها لرعايتنا والاهتمام بنا.
ولذلك فإن المراد بتقديس الكأس بصلاة الشكر، هو تخصيصها بهذه الصلاة لتكون تذكاراً لدم المسيح، الأمر الذي يجعل التناول من الكأس (والخبز أيضاً) باعثاً على تذكر آلام المسيح بالهيبة اللائقة به، كما ذكرنا في الرد على الحجة الثالثة.
- عدد الزيارات: 4261