Skip to main content

الخدمة: منبعها وقنواتها وامتدادها

إن الأساس الذي عليه تُمنح مواهب الخدمة من المسيح هو الفداء. هذا الذي تممه بسفك دمه، ثم ارتفع إلى السماوات. لقد قام منتصراً ظافراً، وصعد كالمخلص، الذي سحق كل قوة العدو، ودحر الشيطان الذي كان قد أسر الإنسان. إنه المسيح الذي أحب الكنيسة، والذي يعتني بكل عضو فيها, واهباً عطايا للناس لتكميل الخدمة المسيحية, حتى تخلص النفوس, ويُبني شعبه ويتأسسوا ويُطعموا ويكملوا, وهكذا يصلون إلى قياس قامة ملء المسيح.

فالخدمة المسيحية تنبع إذاً من السيد الممجد عن يمين الله, ذاك الذي هو الرأس والمصدر لكل البركات. لذلك فلا توجد خدمة حقيقية في الكنيسة أو بواسطتها بعيداً عن معرفة المسيح, والاستناد عليه كالرأس والمصدر لكل الخدمات.

ويجب ملاحظة أن هناك تمييزاً واضحاً بين الخدمة وبين الكهنوت المسيحي والعبادة, فلا يجب الخلط بينهما. فمن المعروف أن كل المؤمنين – رجالاً ونساء – هم كهنة من حيث اقترابهم إلى محضر الله, وبذلك فإنهم قادرون على العبادة وتقديم الشكر والتسبيح لله. فالكهنوت للجميع, إذ يتجه من الإنسان لله, بينما الخدمة تتم بواسطة الإنسان, وتتجه من الله للناس. إنها خدمة مختلفة يقوم بها بعض أعضاء الجسد, فمن خلالهم يعمل المسيح لفائدة الجميع. إنهم قلائل من بين الكثيرين, وهم الذين يُدعون بحق ويسميهم الكتاب خداماً للكلمة أو خداماً للمسيح. ونحن لا نتكلم هنا بالطبع عن الخدمة, في صورتها العامة, والتي تعني أن الجميع يجب أن يخدموا المسيح كل أيام حياتهم, ولكن الموضوع المطروح أمامنا الآن هو عن الخدمة الصحيحة للكلمة, لأنه من الواضح أن ليس لكل المسيحيين القدرة على التبشير بكلمة الله لربح نفوس الآخرين.

وطبقاً للمكتوب فإن الخدمة الروحية للكنيسة يجب أن تتم بواسطة عطايا المسيح للكنيسة – وهم أولئك الموهوبين والمزوّدين منه بقوة لتتميم هذا العمل. لكن لا تتم هذه الخدمة عن طريق أولئك الذين اختاروها كمجرد وظيفة، أو الذين يدّعون بحقهم في الخدمة لأنهم تَعّلموها

في الكليات ومدارس اللاهوت، ثم أقيموا رسمياً من الناس، لممارسة ما يسمونه بالرعاية والخدمة في كنيسة طائفية معينة، إلى آخر هذه الأشياء التي أصبحت شائعة حولنا الآن. والتي قد يُنظر إليها على أنها الطريق الصحيح فقامة الخدمة في الكنائس، ولكنها في الحقيقية بخلاف المكتوب تماماً، ومضادة لإرادة الله، الذي حدد لكنيسته الطريق وأسلوب الخدمة الذي تتبعه، كما أعلن في كلمته.

وإذا فتش المرء في الكتاب المقدس، ليتطلع إلى الكنيسة كيف كانت صورتها في العصر الرسولي، ثم يقارن بينها وبين النظام المرتب للخدمة في الكنيسة في العالم اليوم. فإنه لا بد أن يصل إلى النتيجة أنها بدون أساس كتابي، وأنها من اختراعات الناس. وسنتكلم عن هذا بأكثر تفصيل فيما بعد.

وفضلاً عن ذلك، نلاحظ أن ما جاء في الفقرة الواردة في أفسس 4 يقول، أن مواهب الخدمة التي أعطاها المسيح هي لتكميل القديسين وبنيان جسد المسيح. فمعني ذلك أنه، إذا ما أعطى الرب شخصاً موهبة تعليم، أو تبشير، أو رعاية للقطيع، فإن أي موهبة من هذه المواهب ستصبح للكنيسة كلها، ويجب أن يمتد أثرها إلى كل قديسي الله، لجسد المسيح، وليس لمجرد جماعة تتسمى بأسماء طائفية معينة.

ولعله من الملاحظ أن الله يتكلم في العهد الجديد عن جسد احد للمسيح، كنيسته التي تضم المؤمنين الذين ولدوا ثانية. فهذه هي الكنيسة التي منحها الرب المواهب، والتي يجب أن يخدمها ويسعى لبنيانها كل خادم حقيقي للمسيح. وهكذا فإن المواهب والخدام الحقيقيين هم عطايا المسيح لصالح كنيسة الله كلها، سواء كانت هي الكنيسة المحلية، وغيرها في الأحياء المجاورة، بل وفي المحافظات داخل القطر، وتتعداها إلى الأقطار الأخرى، حتى إلى كل العالم. وفي رسالة بطرس الأولى 5: 2 يقول "ارعوا رعية الله التي بينكم". فهي رعية الله وليست رعية الناس، وهي تضم كل شعبه حولنا.

ولم يقتصر المسيح على إعطاء المواهب عند صعوده فقط، ولكنه مستمر وباق في السماوات كرأس للكنيسة، وكالمعطي لكل ما يلزم من المواهب لاستمرار كنيسته في هذا العالم. فهو لا يزال يمنح المواهب للناس، فيدعو هذا أو ذاك، معطياً لهم قوة لم تكن لديهم من قبل، وذلك للتأثير بها على نفوس الآخرين لإيقاظهم وتنقيتهم وتثبيتهم في نعمة الله، أو لتوصيل الحق بإقناع إلى المؤمنين. وسيستمر ذلك "إلى أن ننتهي جميعاً إلى وحدانية الإيمان" حسبما جاء في الفقرة المشار إليها.

أما الخدمات اللازمة لجمع النفوس والاعتناء بها. فهي خدمات نتوقع لها الاستمرار حتى يأتي المسيح، كما كانت في العصر الرسولي قبلاً، وهي متدفقة من نفس المنبع، فيتم بذلك "تكميل القديسين".

وإذا أردنا تحديد معنى الموهبة بأكثر دقة نقول بأنها روحية من الأعالي، ينالها الشخص ليتمكن بها من التأثير على النفوس، فهي أكثر من مجرد الإمكانيات الطبيعية للكلام أو التعليم. وإن كان المسيح هو الذي يمنح الوزنات لكل "على قدر طاقته" (مت 25: 15). وعليه فإن الرب في مطلق سلطانه، يوزع مواهب الخدمة مع الوزنات، بمعنى أن الرب يأخذ في الاعتبار هذه الإمكانيات الطبيعية، ولكن الوزنة أي الإمكانيات الطبيعية بمفردها لا تجعل الشخص خادماً لكلمة الله، بل يلزم أن ينال الموهبة من المسيح.

وفي 1 كورنثوس 12 يتكلم الرسول عن المواهب المختلفة، باعتبارها "إظهارات الروح"[1]. وينظر إلى هذه المواهب كأعمال الروح القدس "ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء" (ع 11). فيمكن إذاً أن يقال أن الرب هو المعطي الحقيقي والصحيح، وأن روح الله هو الواسطة الوحيدة لنقل هذه المواهب وتوزيعها وتنميتها، إنه القوة التي بها يعمل الرب.


[1] يرد النص في 1 كورنثوس في الأصل اليوناني بما ترجمته الحرفية كالآتي: "وأما من جهة الروحيات"، أي "الظهورات الروحية"، وهي كل ما ظهر في مؤمني كورنثوس من القوة الروحية. وترد هكذا في ترجمة داربي But concerning Spiritual Manifestations (المعرب).

  • عدد الزيارات: 3742