كسر الخبز
والآن لنقل كلمة عن كسر الخبز وسنكتفي فيه بإيراد بعض فصول كتابية نحن نعلم أن الرب كان قد أعلن لبولس كل ما يختص بالعشاء – لا بالمعمودية – كما هو وارد في الإصحاح الحادي عشر من الرسالة الأولى لأهل كورنثوس التي كنا قد اقتبسنا منها أقوالاً كثيرة فيما سبق. ومن ذلك الإصحاح ندرك أن عشاء الرب – تلك الفريضة المقدسة – مرتبط ارتباطاً دقيقاً بوحدة جسد المسيح، وهو الدليل الظاهر الملموس لتلك الوحدة التي كان على بولس خصوصاً أن يوضحها. وبالنسبة لهذا الارتباط الدقيق الكائن بين العشاء ووحدة الجسد تنازل الرب فأعلن لبولس التعليم الخاص بتلك الفريضة لأجل خاطره من جديد. فهو له المجد لم يرسل بولس ليعمّد (كاعتراف بولس نفسه) بل ليكرز بالإنجيل، مع أنه لا شك في أنه عمّد ولا شك أيضاً في أنه كان مصيباً في ذلك. على أن المعمودية – وواضح أنها سُلِّمَت للأحد عشر بعد قيامة الرب – ليست فقط فريضة أولية لا تتكرر كما قيل "معمودية واحدة" بل هي لكل فرد علامة على اعترافه بالحق الأساسي – حق موت المسيح وقيامته. فالشخص المتعمد يظهر بين الناس بصفته قد آمن بذاك الذي مات وقام، ولم يعد يهودياً أو وثنياً بل معترفاً بالمسيح. أما عشاء الرب فهو من الجهة الأخرى خاص بالجماعة – وليس بالفرد كالمعمودية – ويُكَوّن موضوعاً مؤثراً مهماً في سجود القديسين لله. وهو في الأصل، وفي حقيقة معناه، العلامة الثانية لأساسنا الوحيد، والشهادة الصريحة بمحبة ربنا العزيز – تلك المحبة التي قادته للموت – وبعمله العظيم الأمرين (أي المحبة والعمل) اللذين بسببهما استطاع أمثالنا أن يقدموا السجود. فلا عجب إذن أن نرى الرسول بولس يوضح لنا المركز الخطير المبارك الذي يشغله عشاء الرب في إعلاناته له المجد لعبده بولس. يقول الرسول "لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أُسلِم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعد ما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء" (1 كو 11: 23 - 27) ومن هذه الأقوال تتضح لنا عظمة وأهمية المركز الذي يشغله موت الرب في عشائه. فلا الغبطة التي نالتنا من الرب، ولا ضياء رضى الله في السماء، ولا الشركة المترتبة على خدمات الرب، ولا آمال بالسعادة الدائمة مع شخصه العزيز ليس لهذه ولا تلك أن تلهينا لحظة واحدة عن موت الرب أو تحجبه عنا. بل بالعكس فإنه كلما كان لموت الرب قيمته الخاصة العظيمة في نظر المسيحي، كلما أضاءت له هذه الأمور جميعها، ليس فقط بأكثر لمعاناً بل بأكثر حلاوة وأعظم تأثراً على القلب. ونفس الشخص الذي استخدمه الله آلة مباركة لإيضاح كمال امتيازات المسيحي (أي بولس) هو ذاته الذي نراه يجمعنا، بهذا التعليم، حول موت ربنا الكريم كأمر من شأنه على الدوام أن يجذب كل قلب يحب اسمه العزيز ويملأه سروراً وفرحاً.
يتضح لنا من (أع 20: 7) أن القديسين كان عليهم أن يكسروا الخبز في أول الأسبوع، وليس في أول الشهر ولا في يوم موت الرب كأننا مدعوون لنكون في الاجتماع حزانى من أجل الأموات. فالرب قد قام ولذلك فنحن بغبطة عظيمة وعرفان للجميل نتناول العشاء في اليوم الذي يُحدثنا عن قوة قيامته. ولا يسعني إلا أن أعتقد أن الروح القدس قد سجل لنا القول "أول الأسبوع" لصالح تعليمنا، كما أنه يخبرنا عن الغاية الأصلية التي دعت أولئك المؤمنين للاجتماع. لا شك أن الرسول، إذ كان مجتازاً بالقديسين في ترواس بعد أن صرف عندهم وقتاً قصيراً خاطبهم حتى منتصف الليل، إلا أن غرض اجتماعهم لم يكن لسماع خطابه بل لكسر الخبز. فهل نسلّم بآراء وترتيبات أخرى؟ أم علينا أن نتصرف كأناس يؤمنون أن الروح القدس يعرف ويوضح أحسن الترتيبات وأصدقها، وأقدس وأسعد الطرق لإرضاء الله وتمجيد المسيح؟ وموت الرب يضع أمام نفوسنا على الدوام حاجتها القصوى كمن كنا قبلاً خطاة وقد دينوا بالصليب، ويذكرنا بكمال محو خطايانا بدم الحبيب، وبأنه قد مجد الله في كل شيء لاسيما في الموت نفسه، وبإعلان النعمة المطلقة وعدالة الله في تبريرنا، ومجد المخلص بكماله – كل هذا وكثير غيره تستحضره أمامنا وتحفظه لدى قلوبنا تلك الجملة البسيطة العجيبة "موت الرب".
إذن: فالغاية التي تجمعنا معاً، كقِبلة آمالنا، هي أن نصنع العشاء لذكرى الرب، لنخبر بموته. ومع أنه لا يوجد للريب مجال في مقصد كلمة الله التي تسجل لنا هذا لتعزيتنا وبنياننا، ولكن كيف يتأتى لنا – إذا ما ألقينا نظرة إلى ما يمارسه المسيحيون اليوم – أن نستدل على أن مشيئة الله كانت ولا تزال أن نصنع الذكرى كترتيبه الإلهي بينما أولئك المسيحيون لا يصنعون تلك المشيئة؟ قارن يا رعاك الله بين ما يصنعونه في يوم الرب باطراد وبين نصوص الكتاب الجلية وقصد الرب من إعلانه لنا فكره في تلك النصوص، وقل لنا إذا لم تكن هذه الذكرى البسيطة المؤثرة قد أصابها الاستخفاف، في معظم الأحيان، من قديسين حقيقيين، وإذا لم تكن صفة تلك الذكرى قد تغيرت تغيراً كلياً بين المسيحيين!! ولست أتكلم عن الأوضاع والمظاهر التي تشكل بها مبدأ التداخل في طريقة الاحتفال بتلك الذكرى، بل عن المبدأ ذاته الذي كانت نتيجته أن لم تبق بالكاد ناحية واحدة، من عشاء الرب، بحسب تعليمه له المجد.
وأرجو أن يحرص القارئ من أن يفتكر أن هناك أمراً يعادل في خطورته مسألة التخبير بموت الرب. فعشاء الرب يجب أن يشغل المكان الأول في سجود القديسين. وأنه لأمر عجيب في الحقيقة أن الروح القدس قد تجنّب أن يسن قوانين العشاء (وهذا التجنب من ناحية الروح القدس في سن القوانين يصدق على المسيحية بصفة عامة، أي أن الروح لم يشأ أن يسن قوانين للمسيحية) وذلك خيفة أن يستغل غير الأمناء فرصة سن القوانين فيفسدونها. ونقدر أن نقول عن يقين أننا عندما نجتمع لنكسر الخبز فإن النقطة التي تكون أمامنا في تلك الفرصة ليست هي نقطة زمان تناول العشاء (أي في أول الاجتماع أم في منتصفه أم آخره) إذ أن الأمر المهم هو أن عشاء الرب يجب أن يكون الفكر الذي يملك على مشاعر القديسين عندما يجتمعون لغرض الاحتفال به في يوم الرب، وإن الخدمة مهما كانت روحية فهي على أي حال تعطي للإنسان مركزاً. أما عشاء الرب ففيه (إذا احتُفِل به قانونياً) يتعظم ويتمجد شخص ربنا المزدرى من العالم. أما عن زمان ممارسة العشاء (الذي أشرنا إليه هنا فقد تعرض بعض ظروف يرى فيها الروح القدس بحسب إرشاده الصريح أن نمارس العشاء في أول الاجتماع أو نؤجله لآخره. على أن أي قانون وضعي يُلزِمنا بأن نحتفل بذلك العشاء في بدء الاجتماع أو منتصفه أو آخره إنما هو تعدي بشري على ذاك الذي له وحده القدرة على أن يقرر – في كل ظرف، وعلى الدوام – ما هو صواب).
أي أن وقت ممارسة العشاء موكول إلى حرية الروح القدس. وقد تبدو هذه الحرية غريبة في نظر الذين قد تعودوا الأوضاع الجافة، وحتى في نظر الذين لا يعوّلون على التقاليد المخطوطة. على أن تلك الغرابة الصريحة تُعزى على الأكثر إلى نقصهم المعتاد في معرفة حضور الروح القدس وسط الجماعة حضوراً فعلياً وقيادته لهم. أما حيثما تُرِك المجال لعمل الروح القدس بحسب الكتاب، وحيث تحس الجماعة إحساساً صادقاً بما قد غُمِرَت به من إحسان القدير، فإن روح الله يعرف – حسب حقيقة الأمور في نظره الإلهي – كيف يرتب الوقت اللائق، كترتيبه لكل شيء آخر، ويعطينا العزاء الحقيقي الناتج من صادق إرشاده. كل ذلك على شرط أن يكون الرب هو متكل نفوسنا.
- عدد الزيارات: 3997