الفصل التاسع: حساب النفقة - الدوافع والمحفّزات
3ـ الدوافع والمحفّزات
إن المطالب التي يطلبها يسوع ثقيلة صعبة، ولكن الأسباب التي أدلى بها ملزمة جداً، وفي الحقيقة إذا راعينا بعين الجد والاهتمام ما يتطلبه منا تسليم تام فإننا نحتاج إلى هذه المحفّزات القوية:
أولاً: الدافع الأول لتسليم أنفسنا للمسيح هو لأجل خاطر أنفسنا:
"فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه.. يخلصها .. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه" (مرقس 8: 35 – 37) إن كثيرين يتملكهم الخوف والفزع، بأنهم إذا سلموا أنفسهم ليسوع المسيح سيخسرون خسارة كبيرة.. وينسون أو يتناسون قول الرب يسوع "أتيت إلى العالم لتكون لهم حياة ويكون لهم أفضل" (يوحنا 10: 10) وغايته أن يسعد ويغني جميع الذين له دون أن يفقرهم وإن خدمته حرية كاملة، وبالطبع لا بد من خسائر تلحق بنا عندما نسلّم أنفسنا للمسيح، وقد نخسر بعض الأصحاب ولكن التعويض الغني المشيع يفوق كل خسارة، فإذا أهلكت نفسك بتسليمها للمسيح فإنك ستجدها وتخلّصها، وهنا نرى التناقض العجيب في الاختبار المسيحي ألا وهو أن إنكار النفس الحقيقي معناه وجود النفس الحقيقي، وكوننا نعيش لأنفسنا، ضرب من الجنون والانتحار، ولكن أن يحيا لله وللإنسان حكمة وحياة في الواقع، ولن نجد أنفسنا ما لم نكن على أتم الاستعداد لأن نهلكها في خدمة المسيح وخدمة إخوتنا من بني جنسنا.
ودعماً لهذه الحقيقة، قارن يسوع بين "العالم كله" وبين "نفس الفرد الواحد" ومن ثم سأل ما يمكن أن يسأله رجل الأعمال عن الربح والخسارة، فلنفرض أنك ربحت العالم كله وخسرت نفسك فماذا ربحت؟ وكان يحاجّ في الواقع أنه حتى في أدنى المقاييس البشرية، وأعني بها المصلحة الشخصية، حتى في هذه فإن إتباع يسوع ينفع تابعه، لأنك إذا لم تتبعه أهلكت نفسك وفقدت حياتك الأبدية، مهما بلغت أرباحك المادية في ذلك الوقت. فلماذا هذا؟ أجل، لأنك إذا لا تقدر أن تربح العالم كله من ناحية، ومن ناحية أخرى لو فرضنا أنك ربحت العالم كله، فإنه ربح لا يدوم، ولو دام فإنه لا يشبع "ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟" لا شيء يستحق أن يعوض عن خسارة النفس، وبالطبع أن تكون مسيحياً أمر مكلف ولكنك تتكلف أكثر لو لم تكن مسيحياً.
ثانياً: الحافز الثاني لتسليم النفس للمسيح هو لأجل خاطر الآخرين:
يجب أن نخضع للمسيح لا بسبب ما نناله منه فحسب، بل بسبب ما يمكن أن نعطي، لنكن معطائين.. "لأن من يهلك نفسه.. من أجل الإنجيل يخلصها"، والعبارة "من أجل الإنجيل" تعني "في سبيل نشره والكرازة به للآخرين". وقد أسلفنا فيما تقدم بأنه لا يجب أن نستحي بالمسيح ولا بإنجيله، بل ينبغي أن ننادي به للآخرين بكل فخر واعتزاز.
نعرف بعض الشيء عن مأساة عالمنا المضطرب، مما يكسر القلب حتى أن بقاءنا على قيد الحياة أمر مشكوك فيه، فالمواطن العادي يشعر عادة بأنه ضحية بريئة من ضحايا تقلبات السياسة المتشعبة فماذا عساه يفعل؟ إن الواجب يحتم عليه أن يقوم بدوره في المجتمع كمواطن مسؤول، ولكنه يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك، وإنه لامتياز له أن يعرف في المسيح سر الرجاء والسلام، وسر العلاقات الشخصية، وسر تقلب الناس أيضاً وبذلك يمكنه أن يساهم في نشر السلام والمحبة في العالم بالإتيان برفاقه وأصحابه إلى المسيح، الذي فيه نجد المحبة والسلام، وإن خير عمل يقوم به الإنسان لسد حاجة العالم هو أن يحيا حياة مسيحية وأن يبني بيتاً مسيحياً، وبالتالي أن يعمل على إشعاع نور إنجيل يسوع المسيح..
ثالثاً: وأعظم حافز هو لأجل خاطر المسيح:
"من يهلك نفسه من أجلي.. فهو يخلصها"، لو طلب منا القيام بعمل صعب فإن درجة رضانا واستعدادنا تتوقف إلى حد كبير على شخص مَن يطلب منا ذلك، فلو جاء الطلب من صاحب فضل علينا ندين له بالكثير، فإننا نندفع إلى العمل عن طيب خاطر ولهذا السبب نشعر أن طلب المسيح منا، طلب جميل ومقنع مشبع فهو يطالبنا بأن ننكر أنفسنا ونتبعه من أجل خاطره هو، ولهذا فإنه بالتأكيد يصف هذا الإنكار بالقول "ويحمل صليبه" فهو لا بطلب منا أكثر مما أعطانا، لأنه يطلب منا حمل الصليب الذي حمله هو قبلنا ولأجلنا، فيجب أن نتبعه لا لمجرد ما نأخذ منه فحسب، ولا بسبب ما يمكننا بذله وإعطاؤه وإنما بسبب ما أعطاه لنا، فقد بذل نفسه، فهل يكلفنا كثيراً؟
لقد كلفه أكثر من ذلك، فقد ترك أمجاد السماء وسجود الملائكة له عندما جاء وأخلى نفسه، آخذاً صورة عبد وولد في مذود حقير واشتغل كنجار بسيط، وأحب الصيادين والعشارين، ومات على الصليب موت المجرمين لكي يحمل خطايا العالم كله.
إن نظرة واحدة إلى الصليب لكفيلة بأن تجعلنا مستعدين أن ننكر أنفسنا وأن نتبعه حيث تختفي صلباننا الصغيرة الحقيرة خلف صليبه، آه! لو استطعنا مرة أن نرى لمحة من عظمة محبته التي جعلته يحتمل العار والآلام من أجلنا نحن المزدرى وغير الموجود الذين لا نستحق سوى الدينونة، لو أمكننا ذلك لانكشفت الأمور وظهر أنه لا يوجد أمامنا إلا طريق واحد لا سواه هو "كيف يمكن أن ننكر أو نرفض مثل هذا المحب العظيم؟"
هل تشكو ضعفاً روحياً أو افتقاراً خلقياً؟
هذا يعني أنك لست مسيحياً.
إن أردت أن تعيش عيشة سهلة تستمتع بالملذات والشهوات، فاعمل ما شئت، ولكن ابعد عن المسيحية..
ولكن إذا رغبت في حياة بها تعرف نفسك وتجدها وتعيش كما يحق لطبيعة الله التي منحك إياها..
إذا أردت أن تحيا حياة المغامرة، حيث تنال امتياز خدمة الله ورفاقك.
إذا قصدت أن تعيش عيشة، بها تعبّر عما يغمرك من شكر وعرفان لذاك الذي مات من أجلك، فإنني أناشدك أمام الله، أن تسلم حياتك لربنا ومخلصنا يسوع المسيح بدون تحفظ ولا تسويف.
- عدد الزيارات: 15177