Skip to main content

الفصل التاسع: حساب النفقة

رابعاً: استجابة الإنسان

لقد بحثنا فيما سبق بعض البراهين والأدلة على لاهوت يسوع الناصري، كما رأينا خاصة الإنسان الماسة كخاطىء، وغريب عن الله، وعبد لنفسه وأنانيته، غير منسجم أو متفق مع أقرانه ورفاقه، كما لخصنا وجوه الخلاص الرئيسية، الخلاص الذي أعده لنا المسيح، وأعطاه لنا.. وخليق بنا بعد ذلك، أن نقدّم نفس السؤال الشخصي، الذي سأله شاول الطرسوسي ليسوع المسيح، وهو في طريقه إلى دمشق قائلاً: "يا رب ماذا تريد أن أفعل؟" أو ذات السؤال الذي سأله حافظ السجن في فيلبي: "ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟" (أعمال 22: 10، 16: 30) ومن الواضح، أنه يجب أن نعمل شيئاً، فالمسيحية ليست مجرد تسليم سلبي، ولا مجموعة من النظم أو الاقتراحات، نقبلها على علاتها، مهما بلغت صحتها.. جميل أن نؤمن بلاهوت وخلاص المسيح، ونعترف بأننا خطاة، في حاجة ماسة إلى خلاصه، ومع ذلك فإن هذه لن تصيّرنا مسيحيين.. وعلينا واجب شخصي عملي، وهو موقفنا نحن إزاء يسوع المسيح، واستجابتنا له معطين له أنفسنا، مخلصاً ورباً، بدون تحفظ.. وسوف نتناول كيفية إتمام هذه الخطوة في الفصل التالي، على أن نركز اهتمامنا في هذا الفصل، على بعض مشتملاتها العملية.

لم يخفِ يسوع الحقيقة القائلة بأن في دينه طلباً كما فيه عرض، وفي الواقع أن الطلب مكلف، بينما العرض سخن، ومع أنه أعطى البشرية خلاصه، إلا أنه طلب منهم خضوعاً وتسليماً.. ولم يقدّم أي نوع من التشجيعات أو المغريات، للذين طلبوا أن يتبعوه ويصيروا له تلاميذ، كما أنه لم يجبر أحداً أو يضغط على أحد ممن اتصلوا به، وصرف الغيورين المتحمسين اسماً، من اللا مبالين، فارغين.. ويحدثنا لوقا عن ثلاثة رجال ممن تطوعوا من تلقاء أنفسهم وجاءوا لكي يتبعوا يسوع.. ولكن ما من واحد منهم، جاز امتحان الرب (لوقا 9: 57 – 62) وهاكم الشاب الغني أيضاً، وكان مثال الأدب والغيرة والجاذبية، وقد جاء يطلب الحياة الأبدية، بحسب الشروط التي وضعها هو، لكنه مضى حزيناً لأنه كان ذا أموال كثيرة، بقيت له.. ولكن بدون حياة أبدية، وبدون مسيح.

وحدث مرة أن تبعته جموع كثيرة، ومَن يدري ربما كانوا يهتفون للسيد، منادين بحبهم وولائهم لشخصه، في شكل ظاهر سطحياً أما المسيح الذي عرف ما كان في قلوبهم وأفكارهم، عرف كم كان تعلقهم به واهياً ضعيفاً.. فوقف والتفت نحوهم وخاطبهم بمثل صريح واضح، في صفة سؤال قائلاً: "مَن منكم وهو يريد أن يبني برجاً لا يجلس أولاً ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمّل" (لوقا 14: 25- 30).

وألسنا نرى الميادين المسيحية وقد امتلأت بالأبراج المهملة الخربة، التي لم تتم بعد، خرائب أولئك الذين بدأوا ولم يقدروا أن يكملوا.. وهناك آلاف من الناس، رجالاً ونساء، يطلبون كل سنة أن يتبعوا المسيح، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة إلقاء نظرة على حساب النفقة والنتيجة طبيعية، فقد وصلت المسيحية إلى أكبر مهزلة اسمها "المسيحية بالاسم". وفي الأقطار التي انتشرت فيها المسيحية يحاول عدد كبير من الناس، أن يغطوا أنفسهم بقشرة جميلة، لكنها قشرة خفيفة مزيفة من المسيحية.. وقد سمحوا لأنفسهم أن يندمجوا فيها قليلاً، ليكونوا موضع احترام، دون أن يتحملوا مسؤولية أو مشقة، إذ يحسبون دينهم، وسادة ناعمة، تحميهم من مكدرات الحياة وقسوتها، وهم يغيّرون مكانها وشكلها، لتلائم أهواءهم، فلا غرابة أن نرى المتهكمين الساخرين يتحدثون عن المرائين في الكنيسة، وقد صرفوا النظر عن الدين، كمخرج من الحقيقة.

وقد اختلفت رسالة يسوع كل الاختلاف، فما حاول أن يحقّر المقاييس التي وضعها، أو يملي شروطه التي فرضها لقبول دعوته، وقد طلب من تلاميذه الأولين، كما طلب من تلميذ آخر فيما بعد، أن يضعوا أنفسهم عن – تفكير ورويّة – بين يديه مسلّمين له الكل..

وقد بلغنا الآن درجة، معها يمكننا أن نبحث بدقة ما قاله "ودعا الجمع مع تلاميذه وقال لهم من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه. لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطي فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين" (مرقس 8: 34 – 38).


1- الدعوى لإتباع المسيح

كانت دعوة المسيح غاية في البساطة وهي "اتبعني"، وقد طلب من الجميع – نساء ورجالاً – ولاءهم الشخصي، ودعاهم أن يتعلموا منه وأن يطيعوا كلامه، وأن يلموا بدعواه وحركته.

ولكن لا أتباع، بدون ترك شيء آخر، وأتباع المسيح معناه التنكر لكل عهود الولاء التي تقل قيمة، وقد قصد به يسوع حرفياً لما كان على الأرض بيننا، ترك البيت والعمل، فقد ترك سمعان وأندراوس شباكهما وتبعاه، أما يعقوب ويوحنا "فتركا زبدي مع الاجرى وذهبا وراءه". وها متى لما سمع دعوة المسيح عندما كان جالساً في مكان الجباية.. "ترك كل شيء وقام وتبعه" (مرقس 1: 16 – 20، لوقا 5: 27 – 28).

ومن حيث المبدأ، فإنه لم تتغير دعوة الرب يسوع حتى اليوم فلا يزال يقول "اتبعني" ويضيف أيضاً: "فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذاً" (لوقا 14: 37) وإن أغلبية المسيحيين لا يمارسون عملياً هذا القول بمعنى الترك الفعلي المادي، والتخلي عن بيوتهم وأعمالهم، ولو أنه يتضمن تسليماً داخلياً - للبيت والعمل - مع تصميم تام بعدم السماح للعلاقات العائلية أو المطامع الدنيوية، أن تحتل المقام الأول في قلوبنا.

واسمحوا لي أن أتكلم بأكثر صراحة ووضوح عن الترك الذي لا يمكن أن تفصله عن أتباع يسوع المسيح.

أولاً: يجب ترك الخطية :

وبعبارة أخرى هذا ما نسميه: "التوبة" وهو الجزء الأول من التجديد أو التغيير المسيحي، ولا يمكن التغاضي عنه بتاتاً، فالتوبة والإيمان يسيران جنباً إلى جنب، فلن نستطيع أن نتبع يسوع دون أن نترك الخطية.. وزد على ذلك فإن التوبة هي رجوع أكيد عن كل تفكير أو كلام أو عمل أو عادة خاطئة.. فلا نكتفي بالشعور بوخزات الضمير أو طلب الغفران من اللّه، وإنما في الأساس، التوبة أمر لا علاقة له بالعاطفة ولا بالكلام ولكنها تغيير داخلي في الفكر والموقف إزاء الخطيئة، يقودنا إلى التغير في التصرف والسلوك، ولا مجال للتساهل و المساومة هنا، فقد توجد في حياتنا خطايا، نظن لا يمكن التخلي عتها أو تركها أبداً، ولكن ينبغي أن نكون مستعدين لتركها، ونحن نصرخ إلى اللّه طالبين النجاة و الخلاص منها، فإن كنت في ريب عما هو صواب وعما هو خطأ ، وما يجب أن نتركه، و ما يلزمنا إبقاؤه. فلا تتقيد كثيراً بمعتقدات

و عادات رفاقك المسيحيين، بل اتبع تعليم الكتاب المقدس الواضح، و اسمع صوت ضميرك و بالطبع سيقودك المسيح في طريق البر، وإذا طلب منك أن تتخلى عن أي شي، اتركه في الحال، وقد يكون هذا الشيء، صداقة أو تسلية أو نوعاً من الكتب التي تقرؤها أو موقف كبرياء أو حسد أو كره أو روح عدم التسامح.. كن حازماً في موقفك، وتذكّر ما علّم به المسيح قائلاً: "إن أعثرتك عينك فاقلعها.. وإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها".

وقد تتضمن التوبة أحياناً، التعويض أو رد المسلوب، ذلك لأن بعض خطايانا تؤثر على غيرنا من الناس، كما تؤثر على الله، فإن كل خطايانا تجرح الله، لا شيء مما نعمل، يمكن أن يشفي الجرح ولكن موت مخلصنا يسوع المسيح الكفاري فقط يستطيع هذا وفي حال ما إذا كانت خطايانا قد ألحقت أذى بآخرين، يمكننا أن نساعد في إصلاح الضرر، وحيث نقدر، يجب أن نفعل، وهاكم زكا رئيس العشارين، قد ردّ أكثر من الأموال التي سرقها من الناس، ثم وعد أن يعطي نصف ماله للمساكين، حتى يعوض عن السرقات التي ارتكبها، ولم يرجعها.. وجدير بنا أن نتبع مثاله، فقد نكون مدينين بمال أو وقت، أو إشاعات نشرناها أو مقتنيات أخذناها ولم نرجعها، أو اعتذارات أو علاقات محطمة تحتاج إلى إصلاح. ولا أظنه مرضياً أمام الله، أن نسرف في الهواجس والوساوس بهذا الشأن، ونضيع وقتاً في البحث عن أخطاء تافهة في السنين الماضية، لنعتذر عنها الآن، أو عن هفوات وإساءات ضد أناس نسوها، لكن المقصود أنه يجب أن نكون عمليين في هذا الواجب.

أعرف طالبة اعترفت أمام مجلس إدارة الجامعة بأنها "غشّت" في أحد الامتحانات، وآخر أعاد كتباً كان قد أخذها سراً من مكتبة، وضابطاً في الجيش، أرسل إلى مركز قيادته، لائحة من الأشياء التي احتال وأخذها بطريقة غير قانونية، إذا ندمنا وتبنا ينبغي أن نفعل كل شيء لإصلاح كل خطأ وخلل في الماضي، ولن نستطيع أن نستمر نستمتع بأثمار الخطية، التي نطلب غفراناً من أجلها

ثانياً: يجب ترك النفس وإنكارها:

رغبة منا في إتباع المسيح، يجب ألا نترك الخطايا فقط بل يجب أن نتخلى عن مبدأ الأنانية – أنا – التي تكمن في جذور جميع أعمال الخطية، إن إتباع المسيح معناه تسليمه كل الحق للإشراف على حياتنا الخاصة، متنازلين عن عرش قلوبنا، واضعين الصولجان في يده وتاجنا فوق رأسه، ونتوجه ملكاً لنا، وترك النفس هذا هو ما وصفه يسوع في ثلاث عبارات:

1ـ إنكار النفس: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه" والكلمة "ينكر" هي عينها التي ذكرت في إنكار بطرس للرب، في بيت رئيس الكهنة وقت المحاكمة.. يجب أن نتنكر لأنفسنا كما تنكر بطرس لسيده، وأنكره قائلاً: "أنا لا أعرف الرجل"، إنكار النفس لا يعني حرمان النفس من أي شيء، بل حرمان النفس من النفس، أي أن تقول "لا" للنفس و "نعم" للمسيح، أن ترفض النفس وتنكرها، وتعترف بالمسيح.

2ـ والعبارة الثانية هي "ويحمل صليبه" "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني".. لو عشنا في فلسطين، في أيام السيد المسيح، ورأينا إنساناً يحمل الصليب لعرفناه في الحال، سجيناً يقاد إلى مكان الإعدام والموت.. ولعل ما قاله الأستاذ "هـ . ب . سويت"، في تفسيره لإنجيل مرقس عن "حمل الصليب" يلقي ضوءاً لا.. فقد قال: "حمل الصليب معناه أن يضع الإنسان نفسه مكان إنسان مدان، في طريقه إلى الإعدام" فالموقف الذي يجب أن نقفه هو أن نصلب النفس ويستخدم الرسول بولس نفس التشبيه المجازي عندما يقول: "ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غلاطية 5: 24).

وجدير بالذكر أن لوقا يضيف إلى هذه الآية كلمة "كل يوم" بمعنى أنه يجب على المسيحي أن يموت كل يوم، إذ يتنكر لنفسه، ويتنكر لسيادة إرادته النفسانية، وأن يجدد عهد خضوعه وتسليمه ليسوع المسيح، تسليماً بدون قيد ولا شرط.

3ـ إن العبارة الثالثة التي استخدمها يسوع لإنكار النفس هي أن "يهلك نفسه" "من يهلك نفسه .. يخلصها" والكلمة المترجمة "نفس" هنا لا تعني الكيان الجسدي الطبيعي، كما لا تعني أرواحنا لكنها تعني ذاتنا.. "أنا" وهي الشخصية الإنسانية التي تفكر وتشعر وتخطط وتختار، وفي تعبير مشابه ذكره لوقا، نرى يسوع يستخدم الضمير الشخصي ويتكلم عن الغني الغبي الذي خسر نفسه. إذاً فالإنسان الذي يسلّم نفسه للمسيح، هو الذي يهلك نفسه، ليس بذوبان شخصيته بل بإخضاع إرادته لإرادة المسيح سيده.

لكي نتبع المسيح، يجب أن ننكر نفوسنا، أن نصلبها، أن نهلكها، وها يسوع يضع طلبه مكشوفاً صريحاً، فإنه لا يدعونا لنخضع خضوعاً غير كامل، ولكن يدعونا إلى تسليم تام مطلق وأن نجعله رباً. ومن الغرابة بمكان في عصرنا الحاضر، أن البعض يدّعي بأننا نستطيع أن نتمتع بفوائد خلاص المسيح، بدون أن نقبله رباً لنا، إن مثل هذا الرأي، لا وجود له في العهد الجديد إن العبارة "يسوع رب" كانت أقدم قانون إيمان، عرفه المسيحيون وفي الأيام التي فرضت فيها الإمبراطورية الرومانية، على رعاياها أن يقولوا: "القيصر رب" كانت لهذه العبارة خطورتها، أما المسيحيون فلم يرتعبوا أو يتراجعوا، وما كان بإمكانهم أن يعطوا قيصر، المكان الأول في قلوبهم وولائهم، لأنهم كانوا يخدمون الإمبراطور يسوع.. "فوق كل رياسة وسلطان وأعطاه اسماً فوق كل اسم.. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة.. ويعترف كل لسان، أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فيلبي 2: 10، 11).

أن نجعل المسيح ملكاً معناه أن نضع كل ما في حياتنا الخاصة والعامة، تحت سلطانه، وهذا يشمل عملنا ومستقبلنا. لله قصد وغاية لكل حياة، إذاً فليكن شغلنا الشاغل أن نكتشف هذا القصد ونحققه، وقد يختلف قصد الله فينا، عما قصدناه لأنفسنا أو قصده لنا والدونا، وإن كان المسيحي عاقلاً وحكيماً حقاً، فلن يفعل شيئاً عن طياشة أو تهور، سواء أكان في العمل الذي أعدّه الله له، أم الذي أعدّه هو لنفسه له.. وإن كنا قد أخذنا المسيح فعلاً رباً لنا، فينبغي أن يكون لنا الاستعداد لما يجريه في مجرى حياتنا من تغيير، فقد يدعونا للخدمة هنا، أو في حقل أجنبي لذلك وجب أن نكون على استعداد للقبول والطاعة، ولكن لا تتسرع في اكتشاف إرادته، وإنما إذا استسلمت لها، وطلبت من الله، منتظراً أن يكشفها لك، فتأكد أنه سيفعل ذلك في وقته المناسب، ومهما يكن الأمر، فلن يمكن أن يجلس المسيحي عاطلاً بليداً، سواء أكان رب عمل أم عاملاً أم حراً، لأن له سيداً في السماء، وقد تعلّم كيف يرى قصد الله في عمله، فيعمله من كل القلب.. "كما للرب وليس للناس" (كولوسي 3: 23).

ولعل دائرة أخرى من حياتنا، تدخل تحت سيادة يسوع المسيح، وهي بيتنا وحياتنا الزوجية، وقال يسوع مرة: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً" (متى 10: 34) ومن ثم تابع السيد حديثه، عما يحدث في البيوت من تصادم في الإخلاص والولاء، حينما يتبعه أحد أفراد العائلة.. وفي وقتنا الحاضر، نجد مثل هذه المنازعات العائلية وعلى المسيحي أن يبذل قصارى جهده لتجنبها، لأن لديه واجباً مقدساً خاصاً، ألا وهو أن يحب والديه وباقي أفراد العائلة، ويلزمه أن يسعى للسلام، ويذعن لإرضاء الجميع، بشرط ألا يتساهل أو يساوم في واجبه نحو الله، ومع ذلك فلن يستطيع أن ينسى قول المسيح: "من أحب أباً أو أماً.. أو ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني" (متى 10: 37) فضلاً عن ذلك فإن للمسيحي الحريّة أن يتزوج فقط بمسيحية، والكتاب صريح في هذه الناحية فيقول الرسول بولس: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين. لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة" (كورنثوس 6: 14) وقد تسبب هذه الوصية تنغيصاً لشخص ما، سبق وخطب، أو على وشك الخطبة، ولكن يجب أن نواجه الواقع بأمانة، فالزواج هو أعمق علاقة بشرية ممكنة، رسمها الله لتكون اتحاداً وثيقاً، لا جسدياً ولا عاطفياً ولا ثقافياً ولا اجتماعياً بل روحياً، فإذا أقدم المسيحي، رجلاً كان أم امرأة، على الزواج بشخص لا يمكن أن يتحد معه روحياً، فإنه لا يعصي الله فحسب، ولكنه يخسر روعة وجمال قصده، والحق يقال، إن التغيير المسيحي الحقيقي، هو تغيير جوهري، يشمل تغيير موقفنا كله من ناحية الزواج، بل تغيير الغريزة الجنسية، وبدلاً من أن تكون دنيئة منحطة، بسبب كونها أنانية في أساسها وحافزها، تصبح شيئاً حلواً وجميلاً، لأنها مقدّسة في أصلها.

وهناك أشياء أخرى خاصة بنا، يلزم أن تخضع لسيادة يسوع المسيح وسلطانه، إذا سلمنا حياتنا له، ألا وهي المال والوقت.. وقد تكلم المسيح كثيراً عن المال وعن خطر الغنى، حتى أن الكثير من تعاليمه بهذا الشأن يبدو مقلقاً، ونرى المسيح أحياناً كما لو كان يوصي تلاميذه، بتحويل ما عندهم من الممتلكات والمقتنيات إلى نقود وأموال، لتوزيعها كلها على الفقراء، وإنه – بدون جدال – يفعل هذا عينه في وقتنا الحاضر، ويدعو أتباعه لهذا العمل نفسه ولكن الأغلب أن وصيته موجهة إلى قلوبهم وداخلهم، حتى لا يضعوا رجاءهم على يقينية الغنى، لأن تعاليمه لم تكن حرفية، كما أن العهد الجديد لم يذكر أن المقتنيات خاطئة في ذاتها، ولكن المقصود هو أننا نضع المسيح أولاً قبل وفوق المادة والثروة. كما نضعه قبل الروابط العائلية.. فإننا لا نقدر أن نخدم الله والمال.. وزد على ذلك فقد قصد أن نكون حريصين ونصرف أموالنا بسخاء وبضمير حي.. لأن المال الذي في أيدينا، ليس لنا، لكنه لله، وما نحن إلا مجرد وكلاء عن الله.. فالسؤال الذي يتبادر إلى ذهننا، ليس "كم أُعطي للرب من مالي؟" بل "كم من مال الرب يجب أن أحتفظ به لنفسي؟" ولعل الوقت، مشكلة كل إنسان هذه الأيام! ويجب على المسيحي المتجدد أن يعيد ترتيب قائمة أفضلياته في الحياة فإذا كان طالباً، فإن الدراسة ستكون في رأس قائمة الأعمال ولئن كان المسيحي يُعرّف عادة، بالاجتهاد والأمانة في العمل ولكن عليه أن يعطي وقتاً، في برنامجه المزدحم، للصلاة اليومية ودرس الكتاب المقدس.. ولتكريس يوم الأحد للرب، يوم عبادة وراحة، للشركة مع المسيحيين الآخرين، ولقراءة كتب دينية أو للقيام بخدمة مسيحية في الكنيسة أو المجتمع.

إن كل هذه الأشياء تدخل في الحساب، إذا تركنا خطايانا وأنكرنا أنفسنا واتبعنا المسيح.


2ـ الدعوة للاعتراف بالمسيح

قال المسيح: " من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين"، "فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السموات، ولكن من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السموات" (مرقس 8: 38، متى 10: 32، 33) فالأمر الموجه إلينا، ليس أن نتبع المسيح سراً بل أن نعترف به جهراً وعلناً، فلا يكفي أن ننكر نفوسنا سراً إذا ما أنكرناه علناً..

إن الحقيقة الواقعة بأن يسوع أوصانا ألا نستحي به قدام الناس، دليل قاطع على علمه السابق بأننا سنحاول أن نستحي به، وفي إضافته هذه العبارة القائلة: "هذا الجيل الفاسق الخاطىء" يتبين أنه عرف ما سنلاقيه من صعاب في هذا السبيل.. ومن الواضح أن يسوع رأى بثاقب نظره، أن كنيسته سوف تكون أقلية ضئيلة في العالم، ويتطلب الوقوف إلى جانب الأقلية، ومعارضة الأكثرية شجاعة وجرأة، لا سيما إذا كانت الأقلية غير محبوبة أو مقبولة.

أجل! إن الاعتراف العلني بالمسيح ضرورة لا بد منها، وصفه بولس بأنه شرط من شروط الخلاص، فقد كتب أنه لكي ننال الخلاص، ليس علينا فقط أن نؤمن بقلوبنا، بل أن نعترف بشفاهنا أن يسوع رب: "لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت. لأن القلب يؤمن به للبر، والفم يعترف به للخلاص" (رومية 10: 9، 10) وربما كان الرسول يشير إلى المعمودية، وبالتأكيد كان لا بد للمتجدد، أن يتعمد أولاً، حتى أنه – جزئياً – يحصل بواسطة استعمال الماء على علامة وختم تطهيره الداخلي، وأيضاً لكي يعترف علناً بأنه آمن بيسوع المسيح، واتخذه مخلصاً له ورباً، ولكن اعتراف المسيحي الصريح لا يقف عند حد المعمودية، وإنما يجب أن يكون مستعداً، أن يعرّف عائلته وأصحابه بأنه مسيحي، وذلك بالحياة التي يحياها أي بالأعمال ثم بالأقوال كلما سنحت له الفرصة بذلك.. وسيبذل قصارى جهدة، ليكون لبقاً حصيف الرأي، فلا يزج بنفسه في خصوصيات الناس، وفي نفس الوقت ينضم إلى كنيسة من الكنائس ويعاشر غيره من المسيحيين، إن كان في الجامعة أو في مكان عمله غير خائف ولا وجل أن يعترف جهراً بمسيحه ومسيحيته إذا ما تحداه أحد أو دعته ضرورة إلى ذلك، وأن يجدّ بالصلاة والقدوة والشهادة في السعي لربح رفاقه إلى المسيح.


3ـ الدوافع والمحفّزات

إن المطالب التي يطلبها يسوع ثقيلة صعبة، ولكن الأسباب التي أدلى بها ملزمة جداً، وفي الحقيقة إذا راعينا بعين الجد والاهتمام ما يتطلبه منا تسليم تام فإننا نحتاج إلى هذه المحفّزات القوية:

أولاً: الدافع الأول لتسليم أنفسنا للمسيح هو لأجل خاطر أنفسنا:

"فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه.. يخلصها .. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه" (مرقس 8: 35 – 37) إن كثيرين يتملكهم الخوف والفزع، بأنهم إذا سلموا أنفسهم ليسوع المسيح سيخسرون خسارة كبيرة.. وينسون أو يتناسون قول الرب يسوع "أتيت إلى العالم لتكون لهم حياة ويكون لهم أفضل" (يوحنا 10: 10) وغايته أن يسعد ويغني جميع الذين له دون أن يفقرهم وإن خدمته حرية كاملة، وبالطبع لا بد من خسائر تلحق بنا عندما نسلّم أنفسنا للمسيح، وقد نخسر بعض الأصحاب ولكن التعويض الغني المشيع يفوق كل خسارة، فإذا أهلكت نفسك بتسليمها للمسيح فإنك ستجدها وتخلّصها، وهنا نرى التناقض العجيب في الاختبار المسيحي ألا وهو أن إنكار النفس الحقيقي معناه وجود النفس الحقيقي، وكوننا نعيش لأنفسنا، ضرب من الجنون والانتحار، ولكن أن يحيا لله وللإنسان حكمة وحياة في الواقع، ولن نجد أنفسنا ما لم نكن على أتم الاستعداد لأن نهلكها في خدمة المسيح وخدمة إخوتنا من بني جنسنا.

ودعماً لهذه الحقيقة، قارن يسوع بين "العالم كله" وبين "نفس الفرد الواحد" ومن ثم سأل ما يمكن أن يسأله رجل الأعمال عن الربح والخسارة، فلنفرض أنك ربحت العالم كله وخسرت نفسك فماذا ربحت؟ وكان يحاجّ في الواقع أنه حتى في أدنى المقاييس البشرية، وأعني بها المصلحة الشخصية، حتى في هذه فإن إتباع يسوع ينفع تابعه، لأنك إذا لم تتبعه أهلكت نفسك وفقدت حياتك الأبدية، مهما بلغت أرباحك المادية في ذلك الوقت. فلماذا هذا؟ أجل، لأنك إذا لا تقدر أن تربح العالم كله من ناحية، ومن ناحية أخرى لو فرضنا أنك ربحت العالم كله، فإنه ربح لا يدوم، ولو دام فإنه لا يشبع "ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟" لا شيء يستحق أن يعوض عن خسارة النفس، وبالطبع أن تكون مسيحياً أمر مكلف ولكنك تتكلف أكثر لو لم تكن مسيحياً.

ثانياً: الحافز الثاني لتسليم النفس للمسيح هو لأجل خاطر الآخرين:

يجب أن نخضع للمسيح لا بسبب ما نناله منه فحسب، بل بسبب ما يمكن أن نعطي، لنكن معطائين.. "لأن من يهلك نفسه.. من أجل الإنجيل يخلصها"، والعبارة "من أجل الإنجيل" تعني "في سبيل نشره والكرازة به للآخرين". وقد أسلفنا فيما تقدم بأنه لا يجب أن نستحي بالمسيح ولا بإنجيله، بل ينبغي أن ننادي به للآخرين بكل فخر واعتزاز.

نعرف بعض الشيء عن مأساة عالمنا المضطرب، مما يكسر القلب حتى أن بقاءنا على قيد الحياة أمر مشكوك فيه، فالمواطن العادي يشعر عادة بأنه ضحية بريئة من ضحايا تقلبات السياسة المتشعبة فماذا عساه يفعل؟ إن الواجب يحتم عليه أن يقوم بدوره في المجتمع كمواطن مسؤول، ولكنه يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك، وإنه لامتياز له أن يعرف في المسيح سر الرجاء والسلام، وسر العلاقات الشخصية، وسر تقلب الناس أيضاً وبذلك يمكنه أن يساهم في نشر السلام والمحبة في العالم بالإتيان برفاقه وأصحابه إلى المسيح، الذي فيه نجد المحبة والسلام، وإن خير عمل يقوم به الإنسان لسد حاجة العالم هو أن يحيا حياة مسيحية وأن يبني بيتاً مسيحياً، وبالتالي أن يعمل على إشعاع نور إنجيل يسوع المسيح..

ثالثاً: وأعظم حافز هو لأجل خاطر المسيح:

"من يهلك نفسه من أجلي.. فهو يخلصها"، لو طلب منا القيام بعمل صعب فإن درجة رضانا واستعدادنا تتوقف إلى حد كبير على شخص مَن يطلب منا ذلك، فلو جاء الطلب من صاحب فضل علينا ندين له بالكثير، فإننا نندفع إلى العمل عن طيب خاطر ولهذا السبب نشعر أن طلب المسيح منا، طلب جميل ومقنع مشبع فهو يطالبنا بأن ننكر أنفسنا ونتبعه من أجل خاطره هو، ولهذا فإنه بالتأكيد يصف هذا الإنكار بالقول "ويحمل صليبه" فهو لا بطلب منا أكثر مما أعطانا، لأنه يطلب منا حمل الصليب الذي حمله هو قبلنا ولأجلنا، فيجب أن نتبعه لا لمجرد ما نأخذ منه فحسب، ولا بسبب ما يمكننا بذله وإعطاؤه وإنما بسبب ما أعطاه لنا، فقد بذل نفسه، فهل يكلفنا كثيراً؟

لقد كلفه أكثر من ذلك، فقد ترك أمجاد السماء وسجود الملائكة له عندما جاء وأخلى نفسه، آخذاً صورة عبد وولد في مذود حقير واشتغل كنجار بسيط، وأحب الصيادين والعشارين، ومات على الصليب موت المجرمين لكي يحمل خطايا العالم كله.

إن نظرة واحدة إلى الصليب لكفيلة بأن تجعلنا مستعدين أن ننكر أنفسنا وأن نتبعه حيث تختفي صلباننا الصغيرة الحقيرة خلف صليبه، آه! لو استطعنا مرة أن نرى لمحة من عظمة محبته التي جعلته يحتمل العار والآلام من أجلنا نحن المزدرى وغير الموجود الذين لا نستحق سوى الدينونة، لو أمكننا ذلك لانكشفت الأمور وظهر أنه لا يوجد أمامنا إلا طريق واحد لا سواه هو "كيف يمكن أن ننكر أو نرفض مثل هذا المحب العظيم؟"

هل تشكو ضعفاً روحياً أو افتقاراً خلقياً؟

هذا يعني أنك لست مسيحياً.

إن أردت أن تعيش عيشة سهلة تستمتع بالملذات والشهوات، فاعمل ما شئت، ولكن ابعد عن المسيحية..

ولكن إذا رغبت في حياة بها تعرف نفسك وتجدها وتعيش كما يحق لطبيعة الله التي منحك إياها..

إذا أردت أن تحيا حياة المغامرة، حيث تنال امتياز خدمة الله ورفاقك.

إذا قصدت أن تعيش عيشة، بها تعبّر عما يغمرك من شكر وعرفان لذاك الذي مات من أجلك، فإنني أناشدك أمام الله، أن تسلم حياتك لربنا ومخلصنا يسوع المسيح بدون تحفظ ولا تسويف.

  • عدد الزيارات: 15181