الفصل التاسع: حساب النفقة
رابعاً: استجابة الإنسان
لقد بحثنا فيما سبق بعض البراهين والأدلة على لاهوت يسوع الناصري، كما رأينا خاصة الإنسان الماسة كخاطىء، وغريب عن الله، وعبد لنفسه وأنانيته، غير منسجم أو متفق مع أقرانه ورفاقه، كما لخصنا وجوه الخلاص الرئيسية، الخلاص الذي أعده لنا المسيح، وأعطاه لنا.. وخليق بنا بعد ذلك، أن نقدّم نفس السؤال الشخصي، الذي سأله شاول الطرسوسي ليسوع المسيح، وهو في طريقه إلى دمشق قائلاً: "يا رب ماذا تريد أن أفعل؟" أو ذات السؤال الذي سأله حافظ السجن في فيلبي: "ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟" (أعمال 22: 10، 16: 30) ومن الواضح، أنه يجب أن نعمل شيئاً، فالمسيحية ليست مجرد تسليم سلبي، ولا مجموعة من النظم أو الاقتراحات، نقبلها على علاتها، مهما بلغت صحتها.. جميل أن نؤمن بلاهوت وخلاص المسيح، ونعترف بأننا خطاة، في حاجة ماسة إلى خلاصه، ومع ذلك فإن هذه لن تصيّرنا مسيحيين.. وعلينا واجب شخصي عملي، وهو موقفنا نحن إزاء يسوع المسيح، واستجابتنا له معطين له أنفسنا، مخلصاً ورباً، بدون تحفظ.. وسوف نتناول كيفية إتمام هذه الخطوة في الفصل التالي، على أن نركز اهتمامنا في هذا الفصل، على بعض مشتملاتها العملية.
لم يخفِ يسوع الحقيقة القائلة بأن في دينه طلباً كما فيه عرض، وفي الواقع أن الطلب مكلف، بينما العرض سخن، ومع أنه أعطى البشرية خلاصه، إلا أنه طلب منهم خضوعاً وتسليماً.. ولم يقدّم أي نوع من التشجيعات أو المغريات، للذين طلبوا أن يتبعوه ويصيروا له تلاميذ، كما أنه لم يجبر أحداً أو يضغط على أحد ممن اتصلوا به، وصرف الغيورين المتحمسين اسماً، من اللا مبالين، فارغين.. ويحدثنا لوقا عن ثلاثة رجال ممن تطوعوا من تلقاء أنفسهم وجاءوا لكي يتبعوا يسوع.. ولكن ما من واحد منهم، جاز امتحان الرب (لوقا 9: 57 – 62) وهاكم الشاب الغني أيضاً، وكان مثال الأدب والغيرة والجاذبية، وقد جاء يطلب الحياة الأبدية، بحسب الشروط التي وضعها هو، لكنه مضى حزيناً لأنه كان ذا أموال كثيرة، بقيت له.. ولكن بدون حياة أبدية، وبدون مسيح.
وحدث مرة أن تبعته جموع كثيرة، ومَن يدري ربما كانوا يهتفون للسيد، منادين بحبهم وولائهم لشخصه، في شكل ظاهر سطحياً أما المسيح الذي عرف ما كان في قلوبهم وأفكارهم، عرف كم كان تعلقهم به واهياً ضعيفاً.. فوقف والتفت نحوهم وخاطبهم بمثل صريح واضح، في صفة سؤال قائلاً: "مَن منكم وهو يريد أن يبني برجاً لا يجلس أولاً ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمّل" (لوقا 14: 25- 30).
وألسنا نرى الميادين المسيحية وقد امتلأت بالأبراج المهملة الخربة، التي لم تتم بعد، خرائب أولئك الذين بدأوا ولم يقدروا أن يكملوا.. وهناك آلاف من الناس، رجالاً ونساء، يطلبون كل سنة أن يتبعوا المسيح، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة إلقاء نظرة على حساب النفقة والنتيجة طبيعية، فقد وصلت المسيحية إلى أكبر مهزلة اسمها "المسيحية بالاسم". وفي الأقطار التي انتشرت فيها المسيحية يحاول عدد كبير من الناس، أن يغطوا أنفسهم بقشرة جميلة، لكنها قشرة خفيفة مزيفة من المسيحية.. وقد سمحوا لأنفسهم أن يندمجوا فيها قليلاً، ليكونوا موضع احترام، دون أن يتحملوا مسؤولية أو مشقة، إذ يحسبون دينهم، وسادة ناعمة، تحميهم من مكدرات الحياة وقسوتها، وهم يغيّرون مكانها وشكلها، لتلائم أهواءهم، فلا غرابة أن نرى المتهكمين الساخرين يتحدثون عن المرائين في الكنيسة، وقد صرفوا النظر عن الدين، كمخرج من الحقيقة.
وقد اختلفت رسالة يسوع كل الاختلاف، فما حاول أن يحقّر المقاييس التي وضعها، أو يملي شروطه التي فرضها لقبول دعوته، وقد طلب من تلاميذه الأولين، كما طلب من تلميذ آخر فيما بعد، أن يضعوا أنفسهم عن – تفكير ورويّة – بين يديه مسلّمين له الكل..
وقد بلغنا الآن درجة، معها يمكننا أن نبحث بدقة ما قاله "ودعا الجمع مع تلاميذه وقال لهم من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه. لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطي فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين" (مرقس 8: 34 – 38).
- عدد الزيارات: 15169