الفصل الثالث: طبيعة المسيح وسجاياه - ماذا فكّر المسيح نفسه
1-ماذا فكّر المسيح نفسه:
صرّح المسيح أكثر من مرة، تصريحات مباشرة، فحواها أنه بلا خطية، ففي حادثة المرأة التي أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، عندما أحضروها إلى يسوع، تحدّى المشتكين عليها وأخجلهم بقوله: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر" فخرجوا واحداً فواحداً، وبقي يسوع وحده، والمرأة واقفة في الوسط (يوحنا 8: 1-11).
ويعود يسوع في ذات الإصحاح، ليتحداهم مرة ثانية قائلاً: "من منكم يبكتني على خطية؟" (ع 46) ولم يجرؤ أن يجيبه أحد، وانسحبوا من قدامه عندما اتهمهم، ولما تحداهم لكي يبكتوه على خطية، وقف أمامهم بثبات وجرأة منقطعة النظر، ذلك لأنهم خطاة، وأما هو بلا خطية، وعاش عيشة الطاعة الكاملة لمشيئة أبيه كما قال: "لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (ع 29) ولم تكن كلماته للافتخار، لكنه تكلم طبيعياً...
كذلك بالنسبة لطبيعة تعاليمه، وضع يسوع نفسه في رتبة أدبية فريدة وهذا نفس ما فعله الفريسي في الهيكل، في شكره الذي يكاد يكون تجديفاً إذ قال: "اللهم أنا أشكرك إني لست مثل باقي الناس..." (لوقا 18: 11) أما يسوع فقد نسب لنفسه التفرد، دون ما افتخار ذاتي، لأنها كانت حقيقة واضحة لديه، بدرجة أنها لم تكن في حاجة إلى أي توكيد، أما البشر فإنهم خرافٌ ضالة، ويسوع هو الراعي الصالح الذي جاء لكي يطلبهم ويخلصهم... وإنهم مرضى بالخطية، ويسوع هو الطبيب الذي جاء ليشفيهم، وأنهم غارقون في ظلمة الجهل والخطية، ويسوع هو نور العالم. إنهم جميعاً خطاة، أما هو فقد وُلد لكي يكون مخلصاً لهم، وأن يسفك دمه على الصليب، ويموت لغفران الخطية. كلهم جياع، أما هو فإنه خبز الحياة... كلهم أموات في الذنوب والخطايا أما هو فإنه الحياة لهم الآن، والقيامة في المستقبل... نطق يسوع بهذه الحقائق الجوهرية، بكل اتضاع وبساطة، لا لكي يفرض تأثير عظمته عليهم، بل لينهض بالإيمان قلوبهم، فيستطيع أن يملأ كل احتياجهم.
وليس من الغريب، إذاً، أننا ونحن نسمع عن تجارب يسوع، لا نسمع شيئاً عن خطاياه، فلم يحدث أنه اعترف بخطاياه أو طلب غفراناً، مع أنه كثيراً ما أمر تلاميذه أن يفعلوا ذلك. إن يسوع لا يظهر أي تقصير أدبي، ولم يكن عنده إحساس بالإثم أو بالبعد عن الله الآب في أي وقت... ولو أن يوحنا عمدّه بما أسماه "معمودية التوبة" لكنه تردد كثيراً قبل عماد المسيح، وقبل المسيح ذلك لا اعترافاً منه بأنه خاطئ ولكن "لكي يكمّل كل بر" (متى 3: 15) ولكي يعرف خطايا العالم، وكانت له شركة دائمة نقية مع الله الآب...
إن نقاوةحياته، وعمق شركته مع أبيه، لجديران بالاعتبار لسببين:
1) أنه كانت ليسوع مَلَكة الحكم والتمييز كما تقول الرسالة إلى العبرانيين: "مميزاً أفكار القلب ونياته" (4: 12) ولم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان، وقد سجلت عنه الأناجيل مراراً أنه كان يعلم ما في قلوب الناس وأفكارهم من تساؤل وارتياب (يوحنا 2: 25) وقد حفزّته معرفته الثاقبة، أن يوبخ رياء الفريسيين ويمقت ازدواج موقفهم، وقد صبَّ عليهم جام غضبه، في الويلات التي نطق بها بصوت كالرعد، كصوت أنبياء العهد القديم، كما سفّه الغرور والكبرياء، إلاّ أنّ هذه العين النقية الفاحصة، لم ترَ فيه شراً، كما أنه وبَّخ البر الذاتي، الذي ظهر في غيره، وهو الذي جاهر أنه بار...
2) ثمّة سبب آخر، جعل شعوره بالطهارة الشخصية عجيباً، هو أنه يختلف تمام الاختلاف عن اختبار غيره من القديسين والمتصوفين، فالمسيحي يعلم أنه كلما ازداد تقرباً من الله، كلما ازداد شعوره بالخطية ومرارتها. والقديس في مثل هذه الحالة يشبه رجل العلم العصري، كلما زادت اكتشافات العالم، كلما تاقت نفسه إلى اكتشافات وأسرار جديدة، أما القديس فكلما ازداد تشابهاً للمسيح، كلما أدرك مدى المسافة التي تفصل بينه وبين مثله العليا. ولو ألقى القارئ نظرة، على حياة أحد المسيحيين، لاقتنع في قرارة نفسه بصدق هذه الحقيقة، إذا لم يكتفِ باختباره الشخصي، وهاكم مثلاً لذلك عن داود برينارد، المرسل بين الهنود، في أوائل القرن التاسع عشر، وقد كشفت مذكراته اليومية ورسائله، عن عمق ولائه للمسيح، وبالرغم من آلامه المبرحة وضعفاته الجثمانية، التي كانت سبب موته، وهو في التاسعة والعشرين من عمره.. فإنه كرّس نفسه تماماً لعمله– وكان رغم ذلك يسافر على ظهر جواده، وسط الغابات الكثيفة، يعلّم ويكرز بدون هوادة، ينام في الخلاء، قانعاً بمثل هذا العيش، دون أن يفكر في بيت يأويه أو عائلة تضمه.. وقد فاضت يومياته بعبارات الحب والحنان نحو "أحبائه الهنود الأعزاء".. كما أنها غنية بالصلوات والتسابيح للفادي.. وبالطبع أنّ مثله يُعَدّ قديساً من الطراز الأول، لم تلوث الخطية، حياته وعمله كثيراً، ولكن بالنظر إلى يومياته، نراه مراراً وتكراراً، يندب فساده الأدبي، ويشكو من افتقاره إلى الصلاة والمحبة للمسيح، ويدعو نفسه "الدودة الحقيرة" –"الكلب الميت" –"الشقي البائس التعس".. ذلكم لأنه رأى نفسه على حقيقتها، في نور المسيح الذي عاش معه.
أجل! عاش المسيح أقرب، من أي إنسان آخر، إلى الله، ومع ذلك لم يكن لديه أي إحساس بالخطية..
- عدد الزيارات: 10481