الفصل الثاني: دعاوي المسيح
أولاً: شخص المسيح
رأينا- فيما تقدم- كيف من الضروري أن نطلب إذا كُنَّا نريد أن نجد، ولكن من أين نبدأ الطلب؟ ولعلَّ المسيحي يجيب قائلاً: "إنَّ النقطة الوحيدة، التي منها ينبغي أن نبدأ، هي شخص واحد فقط، أعني به يسوع الناصري" لأنَّه ما دام الله قد تكلّم، وقد عمل، فيكون كمال القول والعمل، قد تمَّ في يسوع المسيح... ويواجهنا سؤال خطير دقيق وهو: "هل كانَ نجار الناصرة ابن الله؟" ويقودنا إلى المشكلة القائمة، في المسيحية والتي تتلخص في السؤال: "ماذا تظنون في المسيح؟"
هذا هو أول سؤال، خطر ببال الناس، نتيجة لتعليم وعمل يسوع في أثناء خدمته العلنية، وعندما قال للمفلوج: "أيُّها الإنسان مغفورةٌ لكَ خطاياك"، ابتدأ الكتبة والفريسيُّون يفكِّرون قائلين: "مَن هذا الذي يتكّلم بتجديف؟" (لوقا 5: 20، 21) ثمَّ لما أسكتَ الرياح والبحر، تساءلَ تلاميذه، وقد اعترتهم الدهشة، قائلين: "من هو هذا. فإنّ الريح أيضاً والبحر يطيعانه" (مرقس 4: 41)– كما أنَّ المتكئين معه في بيت الفريسي، ذُهِلُوا وهم يسمعونه يقول للمرأة الخاطئة "مغفورةٌ لكِ خطاياك" وقالوا: "من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟" (لوقا 7: 49)– أمَّا هيرودس رئيس الربع في الجليل، فقد ارتابَ عندما سمعَ بجميع ما كان منه، وقال "يوحنا أنا قطعت رأسهُ، فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا؟" (لوقا 9: 9) وعندما دخلَ يسوع عاصمة مُلْكِهِ، راكباً على جحش، يقول متّى: "وارتجت المدينة كلَّها قائلةً مَن هذا؟" (متّى 21: 10).
ولا يزال هذا السؤال يتردد بين أوساط عديدة في عصرنا الحاضر، ذلك لأنّ شخص يسوع سحر عقول أهل الفكر، ولعلَّ مِن أبرز مظاهر الحياة الفكرية في القرنين الأخيرين، ما بدا مِن اهتمامٍ متزايدٍ، بحياة يسوع وتعليمه، وما يُبْذَل من جهودٍ جبّارة، لاستكشافِ الحقائق، وسبر غورها، وتقدير خطورتها وأهميتها... هذه هي القصة القديمة الجديدة، التي تزداد جدّة، بمرور الأيام والعصور.
هناك سببان رئيسيان، يدعواننا إلى بدء بحثنا في المسيحية بشخص المسيح وهما.
1- إنَّ المسيحية في جوهرها هي المسيح: فإنّ شخص المسيح وعمله، هما الصخر المتين، الذي يرتكز عليه صرح الديانة المسيحية، فإنْ لم يكن المسيح هو هو كما قال عن نفسه، وإنْ لم يتمم ما قال أنَّه جاء لكي يعمله، لانهار بناء المسيحية الشامخ، وأصبح في خبر كان.. لأنَّه لو أخرجنا المسيح من المسيحية، فماذا يبقى؟ إنَّ المسيح هو محور المسيحية وجوهرها، ويهمُّنا بالدرجة الأولى، لا أنْ نبحث فلسفياً في طبيعة المسيح، ولا في قيمة نظامه، ونوعية المستوى الأدبي الذي وضعه، ولكن همُّنا الأول والرئيسي هو ما يتعلَّق بطبيعة شخصه وكمال سجاياه، ولقد أحسن الدكتور غريفيث توماس، رئيس قاعة ويكليف في جامعة إكسفورد سابقاً، أحسن صنعاً، إذ استهلَّ كتابه: "المسيحية هي المسيح" بهذه الكلمات: "المسيحية هي الديانة الوحيدة في العالم، التي ترتكز على شخص مؤسسها".. ثم أردفَ قوله باقتباس نقله عن توماس كارليل، مؤرخ وفيلسوف القرن التاسع عشر وهو: "لو ضاعت عقيدة لاهوت المسيح هذه، لزالت المسيحية كما يزول الحلم".
2- لو ثبت أنّ يسوع المسيح شخص إلهي فريد، لانحلّت مشاكل أخرى كثيرة بطبيعة الحال.. وكون المسيح شخصاً إلهياً، يبرهن وجود الله، ويعلن طبيعة الله، كما نجد فيه الجواب للمشكلات المتعلّقة بواجبات الإنسان، ومصيره، والحياة بعد الموت، وغرض وصحة العهد القديم، ومعنى الصليب، لأنَّ يسوع علَّم عن هذه الأشياء، وكان تعليمه كمن له سلطان، لأنَّ شخصه إلهي.
إذاً لا بدَّ أن يبدأ بحثنا بيسوع المسيح. وللوقوف على حقيقته، لا بدَّ لنا من الرجوع إلى الأناجيل، ويمكننا اعتبارها مصادر تاريخية، إذا غضضنا النظر عن أنَّها كتب سماوية موحى بها من الله، وفيها سجل كامل لحياة وتعليم يسوع.
ونرمي من ذلك إلى بيان الدليل، لكي نبرهن على أنَّ يسوع هو ابن الله الوحيد، ولن نقبل أو نرضى عن قرار يعلن ألوهيته بشكل غامض مُبهم، لكن ينبغي أن نثبت لاهوته الفريد– إنّنا نؤمن بعلاقتهِ السرمدية الجوهرية بالله، والتي ليست لأحد سواه، ولا نحسبه إلهاً متنكراً في هيئةِ إنسان، ولا إنساناً تجلّى في صفاتِ إلهية، لكن نؤمن إيماناً وثيقاً بأنّه إله متجسد، وأنّه شخص تاريخي، عاش فعلاً بين الناس، له طبيعتان كاملتان- اللاهوت والناسوت- وينفرد بهما إلى الأبد، وهذا مما يجعله، ليس فقط جديراً بعظيم إعجابنا، بل بعبادتنا أيضاً.
هذا الدليل مثلث ويتعلّق: (1) بالدعاوى التي جاهر بها المسيح عن نفسه وسجاياه (2) وطبيعته (3) وقيامته من الأموات وسوف يقتصر بحثنا في هذا الفصل والفصلين التاليين، على هذه المواضيع –ولا يكفي أن نأخذ واحداً من هذا الدليل المثلث، حِجة مسلمّة، بل يجب أن تسير الأدلّة الثلاثة معاً، حتى تصل إلى نتيجة واحدة.
فالشهادة الأولى هي شهادة أقوال المسيح نفسه، ومن المسلّم به، أنّ المسيح الذي يشهد له التاريخ، هو شخص حقيقي، وُلِدَ وعاش ومات.. وهو شخص عجيب، ينسب لنفسه مقاماً فريداً، وإنّ تلك الأقوال والدعاوى، لا تقيم في ذاتها حجة أو دليلاً لإثبات ما يقوله المسيح عن نفسه، غير أنّ هناك ظاهرة تتطلب التعليل، ولذلك رأينا أن نقسم الموضوع إلى أربعة أنواع كما يأتي:
- عدد الزيارات: 12301