Skip to main content

الجزءُ الأول

الفصل الأول

في لقب الكتاب المقدس

          ان الكتاب المقدس يُطلّق على مجموع الأسفار المتضمنة مكتوبات أناسٍ أطهار كانوا يُلهَمون بكتابتها من الله في أزمنة مختلفة لأجل اشهار وصاياهُ ومواعيدهِ وتذكار مراحمهِ وقضاياهُ لتهذيب جنس البشر وخلاصهِ. وتُسمَّى أيضاً عند العامَّة التوارة وهي كلمة عبرانية معرَّبة معناها الناموس. وكانت اليهود تسمى أسفار موسى بهذا الاسم لأنهما تشتمل على الشرائع والطقوس التي أعطاهم الله إياها عن يد موسى في طور سينا. وهذا الكتاب ينطوي على جزءَين يُدعيَان العهد القديم والعهد الجديد 2 كو 3: 6 و14. والتسمية بالعهد فيهما لأنهما يحويان عهد الله وميثاق رحمتهِ في افتداء الخطاة بواسطة ابن الله الرب يسوع المسيح الوسيط الواحد بين الله والناس

الفصل الثاني

في قدمية الكتاب المقدس

ان الكتاب المقدس قد وُجد منذ أجيال بعيدة جدّاً. وذلك أمرٌ مسلَّمٌ لا ينكرهُ إلا من كان في غاية الجهل والحماقة. وبراهين قِدميتهِ أكثر عدداً وأقوى إثباتاً من كل ما يمكن تَقْديمهُ عن كل كتاب آخر في الوجود. ولم يخلُ قط من شهادة الحكماء ومحافظة ذوي الغيرة مع ان منهم أناساً كانوا من أعظم المفسدين لقواعدهِ الخاصة وأشدّ الأعداء للديانة المسيحية

          وقد كان العهد القديم محفوظاً عند اليهود في كل زمان بحرص وثيق واحترام عظيم لكلماتهِ وحروفهِ أيضاً. وبذلك أظهروا اعتبارهم إياهُ كتاباً موحىً بهِ من الله. وكان العبرانيون إذا استنسخوا كتبهم المقدسة وقابلوها يحترسون في ذلك غاية الاحتراس بحيث كان يمكنهم ان يقولوا كم مرَّةً تكرر كل حرف في كل سفر من أسفار العهد القديم وهكذا كانوا يعرفون عدد الأسطر والكلمات والأحرف من كل نوع في كل الكتاب

          أما مشتملات العهد القديم فهي أخبار أجيال العالم القديمة وشرائع اليهود الأدبية والدينية وتواريخ شعوبهم والنبوات التي تدل على أزمنة مختلفة من سقوط الإنسان إلى نهاية العالم

          إن تسيطوس المورخ الروماني المشهور الذي كان في أيام الرسل يقول عن كتب اليهود إنها كانت قديمةً في زمانهِ انتهى. وهذه الكتب قد تُرجِمت من اللغة العبرانية إلى اليونانية نحو ثلاث مئَة سنة قبل المسيح وكانت مكتوبة عند اليهود باللغتين فكانت تُقرَأُ باليونانية عند اليهود المتغربين بين الروم كل سبت وبالعبرانية عند اليهود المستوطنين. وقد كُتبت عليها شروح من علمائهم وكانت تُنشَر نسخٌ منها إلى كل طائفةٍ حيثما تشتت اليهود. وهكذا كانت الكتب المقدسة كثيرة لا يُحصَى عددها. وقد كُتبت أسفار موسى التي هي التكوين والخروج واللاويون والعدد والتثنية منذ أكثر من ثلثة آلاف وثلاث مئَةسنة وذلك قبل التاريخ المسيحي بنحو ألف وخمس مئَةسنة. وكثير من الأسفار الأخرى اشتهر قبلهُ أيضاً بأكثر من ألف سنة. وإسفار الأنبياء الأقدمين بنحو ثمان مئة سنة

وإما تصانيف الناس غير الملهمين فهي مستجدَّة بالنسبة إلى الكتب المقدسة لأن أقدم التواريخ الأجنبية تاريخ هيرودوتوس وهو لم يُكتَب إلا في زمان ملاخي الذي هو آخر كتبة العهد القديم. وإما اشعار أومبروس وهسبودوس فهي قبل ذلك بمدة لا يمكن التحقيق عليها بالصواب. ولكن الذين جعلوها في زمان أقدم جعلوا أوميروس في أيام اشعيا النبي وهسبودوس في عصر ايليا. على ان العلماء لم يتفقوا بالحقيقة على وجود هسيودوس. وعلى كل حال نجد هذه الأقوال مغابرة جدّاً لفحوى الكتب المقدسة لأنها مملؤَة من الخرافات الهزلية والأدناس. ومع كونها تتضمن كثيراً من الأمور الدينية ليس فيها كشفٌ عن صفة الله الخالق. وإما تاريخ هيرودوتوس فهو يحوي كثيراً من الخرافات والمستحيلات ولكن كل ما يذكرهُ من تصرُّفات جيلهِ والأمور الواقعة تحت ملاحظتهِ والحوادث التي كان يعلمها بالصواب يثبت صحة الأخبار المحوية في كلمة الله المقدسة الموحى بها

الفصل الثالث

في فضل الكتاب المقدس

          إن الكتاب المقدس أفضل الكتب جميعها وذلك يتضح جليّاً من فاعليتهِ التي تقدّس وتغيّر قلوب كل الذين يقرأُونهُ من الأتقياء وعلى الخصوص لكونهِ موضوعاً من الله المحيط علماً بكل شيءٍ. كما يتضح من تعاليمهِ التي ترشد كل أحد إلى ما يطلبهُ الله منهُ من المعرفة والإيمان والعمل لكي ينجو من غضب وينال لطفهُ الإلهي ويقيم إلى الأبد متمتعاً بسعادة حضرتِه الذاتية. فإن هذا الكتاب يكشف لنا أولاً سرَّ الخليقة. ثانياً طبيعة الله والملائكة والناس ثالثاً خلود النفس. رابعاً الغاية التي خُلِق الإنسان لأجلها. خامساً أصل الشر والمقارنة غير المنفصلة بين الخطية والشقاوة. سادساً أباطيل هذا العالم والمجد المُعَدَّ في الملكوت للأبرار. وبالتالي أننا نتعلم منهُ أخصَّ الأدبيات وأفضلها مطابقةً غاية المطابقة لما يقتضيهِ العقل السليم ومُثَبَّتَةً بشهادة ضمائرنا

التي وضعها الله نائبةً عنهُ في قلوبنا. ونرى فيهِ أيضاً صفة كل أعمال الفكر البشري الخفية بنوع يدلُّ على الهام فاحص القلوب وهو يخبرنا بنوع خصوصي عن جميع علل الإنسان الروحية ودلائلها المختلفة وقوانين معالجتها. ومن هذا الينبوع تفيض مجاري المعرفة الصافية الشافية الروحية ليتبارك بها جنس البشر وينهض من سقوطِه إلى الخلاص الأبدي

          لا يخفى ان العلماء والفلاسفة قد كتبوا ألوفاً من الكتب في أزمنة مختلفة وفنونٍ شتى ولكن أفضل هذه الكتب لا يحتمل المقابلة مع الكتاب المقدس ان كان في أمور الدين أو الآداب أو التاريخ أو نقاوة التركيب وسموّهِ. وقد صرح في ذلك أحد أفاضل العلماء حيث يقول إني قرأت الكتاب المقدس بمواظبةٍ واجتهادٍ فرأيت أنه فضلاً عن أصلهِ الإلهي يشتمل على جلالٍ وجمال وأدب وتاريخ وفكاهة في النظم والبلاغة أصحّ وأعذب وأنقى وألطف مما يستطاع جمعهُ لهذه الغاية من جميع الكتب التي صُنِّفَت في كل زمان وملَّةٍ. وقدمية وضع هذا الكتاب لا يرتاب فيها أحدٌ. ومقابلة نبواتِه البسيطة مع الحوادث التي اشتهر وقوعها في زمان طويل هي أساس متين للاعتقاد بصحتها والوحي بها

          والمديح الذي أثنى بهِ بعضهم على كتاب الزبور يحقُّ ان يثني بهِ على كل الكتاب المقدس كلُّ من يستطيع ان يلحظ فضلهُ من المسيحيين الأتقياءِ. وهو قولهُ انهُ إذ كان قد كُتِب بأمداد مَن تختص بهِ معرفة جميع القلوب ومن إليهِ وحدهُ يُنسَب كشف الأسرار كلها كان لائقاً لجميع الناس ومناسباً لهم في جميع الأحوال كمثل المنّ الذي نزل من السماءِ وكان مطابقاً لكل ذوق وإما التصانيف البشرية فانها بعد مطالعةٍ قليلة تصير كالزهور المجموعة التي تذبل في أيدينا ويفقد طيب رائحتها بخلاف هذه الزهور الفردوسية النضيرة التي تزداد بهجةً بقدر اعتيادنا عليها وتزيد بهجتها كل يوم وتنتشر منها اعطار سَحَرية نجتني منها حلاوات جديدة. فمن ذاق فضائلها مرة يعود إليها ثانيةً وكلما تناول منها أكثر يجد طعمها أحلى

الفصل الرابع

في الوحي بالكتاب المقدس

          إن كتب العهد القديم كما هي عندنا الآن في عددها وترتيبها كانت الكنيسة اليهودية تعدُّها مقدسة وإياها يعني بولس الرسول بقولهِ كل الكتاب هو موحىً بهِ من الله 2 تي: 3: 16. وبطرس الرسول يشهد لذلك بقولهِ لأنهُ لم تأتِ نبوة قط بمشيئَة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس 2 بط 1: 21

          ومعنى الوحي بها من الله هو تحريك روحهِ القدوس إليها بما يفوق الطبيعة وعلى هذا يقال ان الأنبياءَ الأولين كانوا يتكلمون بوحي إلهي. فالوحي إلى الكاتبين الأطهار يتضمن أولاً ان الله قد حرَّك عزائمهم إلى تلك الكتابة. ثانياً أنهُ قد ساعدهم بإلهام خاص في معرفة ما لم يكونوا يعرفون قبلاً. ثالثاً أنهُ قد أرشدهم إلى استحضار الألفاظ الموافقة الدالة على مقاصدهم. رابعاً أنهُ قد هداهم في جميع الأمور إلى ان يكتبوا بحسب مشيئَتِه تعالى

          ويُظهر برهانَ الوحي بهذه الكتب أولاً الصفاتُ المجيدة التي بها تصف الله القدير. ثانياً نقاوة آدابها ورصانتها. ثالثاً بساطة عباراتها الجلية. رابعاً غلبتها العجيبة على عقول المؤمنين. خامساً أمانة الكاتبين وعدالتهم. سادساً المعجزات التي بها أثبتوا تعاليمهم. سابعاً بقاءُ هذه الكتب الكثيرة إلى عصرنا هذا. ثامناً تمام نبوأتها العديدة بالفعل

          ان الوحي الذي نريد إثباتُه يعمُّ كل أسفار الكتاب المقدس وجميع كاتبيها والمتكلمين العظماء المذكورين فيها وإن كان قد وقع في هذه الكتب ما ليس من الله أو بوحيٍ منهُ كالعبارات المأخوذة من كتب الوثنيين وكلام الشيطان وأحاديث الناس الأشرار بل بعض الأبرار أيضاً مثل أيوب وأصحابهِ الثلثة إذ قالوا ما لا يليق بالله فإن كل هذه وإن لم تكن من الله إلا ان الذين كتبوها

كانت كتابتهم بإلهام الله وإرشادهِ ليكون بعضها تحقيقاً للحوادث التاريخية وبعضها لإظهار خبث الشياطين والناس الأشرار وضعف الأبرار وسقوطهم. وكل ذلك لتحذيرنا وتهذيبنا

          وكما قال بعضهم ان الوحي إنما يختص بالنسخ الأصلية ولا بدَّ عيَّن أحد بالوحي لأحد من النساخ في أي وقت من الأوقات وإنما سلمت نسخهم من الغلط لسبب أمانة حفظة الكتب المقدسة ولسبب المضادة من أناس يكمن بعضهم لبعض كاليهود والنصارى وفرق متنوعة ولسبب كثرة النسخ والترجمات إلى لغات عديدة منذ زمن قديم فاتفاق النسخ القديمة في العهدين القديم والجديد قد تحقق بعد الفحص الكلي أنهُ في غاية الضبط

الفصل الخامس

في قصد الكتاب المقدس

          من حيث ان الكتاب المقدَّس موضوعٌ من الله وقد أُعطِي بإلهام الروح القدس لا بد ان يكون قد كُتِب لأغراضٍ مهمة. والظاهر أنهُ قصد بهِ ان يعطينا خبراً صحيحاً عن خلق جميع الكائنات بكلمة الله القديرة. وأن يعرّفنا حال برارة أَبوَينا الأولين وسعادتهما في الفردوس وسقطتهما الهائلة من تلك الحالة بعصيانهما على الله الأمر الذي هو أصل كل خطيتنا وشقائنا. وأن يُرِينا الواجبات التي نحن مديونون بها لله خالقنا القدير وقاضينا العادل والقانون الذي بهِ نستطيع ان ننال محبتهُ الأبدية ونستعدَّ لامتلاك منازل خالدة في ملكوتهِ السماوي. وأما القصد الأخصُّ في الكتب المقدّسة فهو ان تجعلنا حكماءَ للخلاص بالإيمان بيسوع المسيح. وذلك أنها أولاً تكشف لنا رحمة الله. ثانيا تصيّر عقولنا مشابهة لله مخلصنا. ثالثاً تؤَسّس أنفسنا في الحكمة والإيمان والمحبة والقداسة. رابعاً تهيّئنا لأفعالٍ صالحة نقدر بها ان نمجد الله على الأرض.

          خامساً ترشدنا إلى ميراثٍ عتيد بين أرواح الصالحين الكاملين لكي نتمجد

أخيراً مع المسيح في السماء وإذا كان هذا غرض الكتاب المقدَّس فكم يجب على كل أحدٍ ان يبذل جهدهُ في التأَمل بما يكشفهُ لنا من الفوائد. ان كلمة الله تنادي تأملاتنا التقوية بعبارات مبهجة مختتمة بقولها من يرد فليأخذ ماءَ حيوةٍ مجاناً رؤ 22: 17. فإن رقة رحمة الله التي لا تُحَدُّ تفيض في أقوال الكتبة الملهمين التي يخاطبون بها أبناءَ البشر. ومواعيد رب المجد العظيمة تَصحُب المناداة الإلهية

          وأما الذين يقاومون مقاصد الكتاب المقدس المملؤَة من الرحمة مع كل نعمتهِ العجيبة فإنهم لا يُحسَبون أزكياءَ في يوم الرب العظيم. قال الرسول فكيف ننجو نحن ان أهملنا خلاصاً هذا مقدارهُ عب 2: 3. ولو سُومِح المسيحيون بإهمال الكتاب المقدَّس لكان ذلك إهانةً لرحمة الله وبركات ميثاقهِ. والرسول قد احتجَّ بالروح القدس على المتغافلين بهذه الكلمات المنبهة تنبيهاً مزعجاً إذ يقول من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلثة شهود يموت بدون رأفة فكم عقاباً أشرَّ تظنون أنهُ يحسب مستحقّاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّس بهِ نجساً وازدرى بروح النعمة عب 10: 28 و29. وربنا ومخلصنا الرحيم نفسهُ قال ومن لم يؤمن يُدَنْ مر 16: 16

 

الفصل السادس

في صحة الكتاب المقدَّس

          ان لنا أجلى البراهين وأشدَّها إقناعاً على ان الأسفار المحوية في الكتاب المقدَّس هي بغاية الصحة ولا يوجد فيها أدنى خللٍ. فإن أسفار العهد القديم قد أُلِّفت وكملت باعتناءٍ بليغ من الأنبياء الملهمين. والعناية الإلهية ظاهرةٌ في ترجمة العهد القديم إلى اليونانية قبل ميلاد المسيح بنحو ثلاث مئَة سنة لإفادة اليهود الساكنين في المدن التي كانت هذه اللغة مستعملة فيها. والشهادة التي شهد بها مخلصنا للعهد القديم الجاري بين اليهود في اليهودية والاقتباسات التي

 

صحة الكتاب المقدس                                           11

 

اقتبستها كتبة العهد الجديد من أسفارهِ ولاسيما من الترجمة اليونانية تثبت صحتهُ وتؤَيد ما سبق من الكلام في قدميتهِ. ويزيد وضوح ذلك بالنظر إلى ان اليهود كانوا يحفظون العهد القديم الذي كان كتابهم الأقدس مع ما فيهِ من النبوات الغريبة على كفر أمَّتهم وتقدم النصرانية وانتشارها وغلبتها الواسعة. وبالنظر أيضاً إلى كونهم باقين على عداوةٍ شديدة لدعاويها وإلى كون عداوتهم قد تُنُبّي عنها

          ان جميع الأسفار التي تخبرنا عن وقائع العهد الجديد قد كُتبت ونُشِرت عن أشخاصٍ كانوا في زمان تلك الوقائع. وتسمَّت هذه الأسفار بأسمائهم. وبرهان ذلك بتحققٍ أولاً بتواتر مصنفين مسيحيين متواصلين من أيام الرسل إلى عصرنا هذا. ثانياً بالاعتقاد الأكيد المُتَّفَق عليهِ من جميع طوائف المسيحيين.

          ثالثاً بالإقرار الصريح الذي أقرَّ بهِ أعداءُ الديانة المسيحية من العلماءِ ذوي العقول

          ولا يقدر العقل الصحيح الرأي ان يجحد كون الكتب التي عندنا المعروفة بإنجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا قد كتبها هؤلاءِ الأشخاص المنسوبة إليهم. لأنها من حينما اشتهرت نسبها إليهم كل المؤرخين النصارى بالاتفاق. وعندنا حججٌ متينةٌ للاعتقاد بأن كل الأمور المذكورة في تلك الكتب وجميع الأخبار المذكورة فيها عن أفعال السيد المسيح وأقوالهِ هي صحيحةٌ بالحق. فإن متى ويوحنا كانا من رسل المخلص وكانا ملازمين لهُ على الدوام مدة خدمتهِ كلها ومشاهدَين بأعينهما ما ذكراهُ من الحوادث وسامعين بآذانهما ما ذكراهُ من المخاطبات. وأما مرقس ولوقا فلم يكونا من الرسل الاثني عشر بل كانا صاحبين للرسل ولهما ألفةٌ مع الذين شاهدوا الأمور التي ذكراها. وكثيرون يظنون ان لوقا كان أحد السبعين رسولاً الذين رسمهم السيد ليبشروا بإنجيلهِ. فإن كان كذلك فلا بد ان تكون معرفتهُ بالمسيح في أكثر الأمور تساوي معرفة الاثني عشر وعلى كل حال قد كان رفيقاً أميناً لبولس الرسول عدَّة سنين ويعرف جيداً ما ذكرهُ من

الأمور كما يبان من كلامهِ في ابتداءِ إنجيلهِ حيث يقول إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصةٍ في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كلَّ شيءٍ من الأول بتدقيق ان أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمت بهِ لو 1: 1 إلى 4

          وبما ان لوقا هو كاتب سفر أعمال الرسل أيضاً ينتج ان الذين كتبوا هذه الكتب الخمسة أناسٌ يعرفون حق المعرفة كل الأشياء المذكورة فيها إما بمشاهدتهم إياها وإما بواسطة التصاقهم بأولئك الذين سمعوها وعاينوها. فإذاً كانوا غير مخدوعين ولم يريدوا ان يخدعوا أحداً بل كانوا ذوي أمانةٍ وعدالةٍ واستقامةٍ وإخلاصٍ. وهذه الصفات شديدة الوضوح في كل مكتوباتهم. وأكبر أعدائهم لم يجسروا ان يعيبوا حسن صفاتهم بأدنى شيءٍ. والتعاليم التي بَثُّوها قد أثبتوها أخيراً بدمائهم

          وما عدا هذه الأوصاف قد كتب هؤلاءِ الرسل تلك المصنفات المحتوية إنجيل خلاصنا محركين من الروح القدس الذي سلَّمهم من كل زلل ونقصٍ في كتابة هذه الأسفار الصالحة لتعليم كل الملل والأجيال المتتابعة وتقديسهم

          وبوحي هذا الروح نفسهِ قد تحرك الرسل إلى كتابة رسائلهم إلى الكنائس المستجدَّة مطابقةً لمواعيد المسيح معلمهم. وفي أوائل الجيل الثاني ضُمَّ أكثر أسفار العهد الجديد في مجلد واحد. وفي الأول كانت الرسائل والأناجيل بأيدي كنائس مختلفة بعيدة فلم تكن معروفةً حقَّ المعرفة. وبما ان كتباً كثيرة نُسِبت إلى الرسل زوراً وانتشرت في أماكن شتَّى شكَّكت بعض الكنائس في قبول رسالة بولس إلى العبرانيين ورسالة بطرس الثانية ورسالتي يوحنا الثانية والثالثة ورسالة يهوذا وسفر الرؤْيا. ومن ثَمَّ وقع الفحص عليها بالتدقيق فاتضح جليّاً انها كانت من تصانيف رسل المسيح الموحى بها. ولذلك قُبِلت باتفاق كل الكنائس كباقي كتب العهد الجديد

          وإما صيانة الكتب المقدسة إلى يومنا فإنهُ وإن كانت النسخ الأصلية قد ضاعت لكن كتب العهد الجديد قد حُفِظت بلا تحريفٍ ولا خللٍ جوهري وهي مثلما صدرت أولاً من أيدي كاتبيها في جميع الظروف المعتبرة. ومن المعلوم أنهُ في نساخة هذه الكتب خطّاً من زمانٍ إلى زمانٍ لعدم معرف صناعة الطبع يومئذٍ ربما يوجد حذفٌ أو تغيير أو خلل في الحروف أو الكلمات في بعض النسخ ولكن لا يوجد خللٌ في أحد التعاليم الضرورية ولا في سنَّةٍ ولا في نبذةٍ من التواريخ لا عمداً ولا سهواً. وذلك لأنهُ عند إشهار النسخ الأصليَّة نُقِل عنها نسخٌ كثيرة فحمل بعضها القسوس السوَّاح الإنجيليون حيثما ذهبوا وأُرسِل بعضها إلى كنائس شتَّى. وأخذوا حالاً في ترجمتها إلى لغاتٍ غريبةٍ وتوزعت في الأطراف البعيدة وأدمن المسيحيون على قراءَتها في محافلهم حتى حفظ بعضهم جملة كتبٍ منها غيباً. واقتبس منها مؤرخون كثيرون واستند عليها شيع عديدة كتعاليم مُلهَم بها. وإذ كانوا مغايرين بعضهم لبعض في مسائل كلية كانوا يحافظون بغيرة على أقل عزم يعزم بهِ سواءٌ كان من جهة تزوير كلام الله الموحى بهِ أو من جهة تحريفهِ

          فمن ذا يظنُّ ان الله الذي أرسل ابنهُ ليشهر هذا التعليم وأعطى رسلهُ ان يكتبوهُ بروحهِ القدوس ويثبتوهُ بالمعجزات الكثيرة يدع الأشرار يحرفون ويفسدون شيئاً من هذه الوسائط المتوقفة عليها سعادة جنس البشر. لا ريب أنهُ من السفاهة ان نقول ان الله ندم على إرادتهِ الصالحة وإحسانهِ إلى الجنس البشري الذي أنعم عليهِ الإنجيل. أو حقد على الأجيال المستقبلة حتى ترك الأشرار يسلبون منهم الخيرات الناتجة من إعلان مشيئَتهِ المقدَّسة

          وأما وقوع بعض اختلافاتٍ في نسخ الكتب المقدَّسة فليس بمستغرَبٍ عند من يتذكر أنهُ قبل اختراع صناعة الطبع في الجيل الخامس عشر كانت كل الكتب تُنسَخ بخط القلم ولا بد ان يكون بعض النُسَّاخ جاهلاً وبعضهم غافلاً فلا يمكن ان يسلموا من وقوع الزلل ولو كانوا ماهرين في صناعة الكتب.

ومتى وقعت غلطةٌ في النسخة الواحدة فلا بد ان تقع أيضاً في كل النسخ التي تُنقل عنها. وربما يوجد في كل واحدة من النسخ غلطاتٌ خاصة بها لا توجد في الأخرى. وعلى هذا تختلف الصُوَر في بعض الأماكن على قدر اختلاف النسخ. وفضلاً عن ذلك ربما جعل بعض النسَّاخ بجهالتهم حرفاً مكان آخر أو كلمةً مكان أخرى أو أسقطوا بغفلتهم شيئاً من ذلك. وإذا نظرنا إلى هذه الاختلافات اليسيرة يحصل من ذلك ألوف قراآت مختلفة في مئَات النسخ الموجودة من الكتب المقدسة

          ان نسخ الكتب المقدسة خطّاً توجد في كل خزانة كتبٍ قديمة في بلاد النصارى جميعها وتبلغ في العدد إلى ألوفٍ كثيرة. والعلماءُ قد فحصوا مقدار خمس مئَة منها وقابلوها بتدقيقٍ بليغ. ونسخٌ كثيرة منها قد كُتِبَت في الجيل الثامن والسابع والسادس حتى الرابع أيضاً. وهكذا تنتهي إلى زمان الرسل الذي انتشرت فيهِ. فكثرة هذه النسخ وتباعد البلدان التي جُمِعت منها ومطابقة معانيها لمعاني الآيات التي اقتبستها الآباءُ منها في أزمنةٍ مختلفة تُثبِّت صحة هذه الكتب. وقد قال بعض العلماءِ لو كان العهد الجديد قد فُقِد لكانت معانيهِ تُجمَع ثانيةً من الاقتباسات المأخوذة منهُ الموجودة في كتب آباءِ الأجيال الأربعة الأولى من أجيال الكنيسة المسيحية. وسيأتي الكلام عن عدد هذه النسخ وأنواعها وتاريخ كتابتها بالتفصيل في الفصل الآتي

 

الفصل السابع

في نُسَح الكتب المقدسة المخطوطة

 

أولاً في نسخ العهد القديم العبرانية المخطوطة

          انهُ منذ عصر أفلاطون (ق م 429) وبناءً على ما ذكرهُ هذا الفيلسوف في بعض مؤلَّفاتهِ قد جرت العادة عند المؤَرخين ان ينسبوا اختراع الخط إلى المصريين القدماءِ. ولكن أوضح الدلائل المستفادة من أقدم الخطوط نفسها

مع شهادات المؤَرخين القدماءِ الذين يوثق بكلامهم تشير إلى ان القبائل المستوطنة في غربي آسيا هم مخترعو صناعة الكتابة ولهم يُنسَب أقدم أشكال الخط. وقد اختلفت الآراءُ من جهة القبيلة الخصوصية التي لها أصل هذا الاختراع فمنهم من قال هي الآشُّوريَّة ومنهم انها البابليَّة ومنهم انها الآراميَّة ومنهم انها الفينيقيَّة ومنهم انها العبرانيَّة وليس لنا برهان قاطع يثبت هذا الرأي أو ذاك إلا ان الأصح هو ما ينسب هذا الاختراع إلى إحدى القبائل الساميَّة الساكنة في غربي آسيا وهذا حدُّ معرفتنا بهذا الأمر

          الأمر واضح ان صناعة الخط كانت معروفة عند العبرانيين قبل عصر موسى. ومن مجاورة العبرانيين والكنعانيين والفينيقيين صقعاً ولغةً فكلُّ صناعةٍ معروفة عند إحدى هذه القبائل امتدَّت بسهولةٍ إلى الآخرَيين. وإذ قد أنبأَنا كاتب الأسفار الخمسة بأسماءِ مخترعي بعض الصنائع تك 4: 17 و21 و22 فنظنُّ لو عرف اسم مخترع صناعة الكتابة لأَخبرَ بهِ. وذُكِر في قصة يهوذا وثامار تك ص 28 ان يهوذا كان لهُ خاتم. ونقش الخواتم صناعة معروفة عند العبرانيين في البريَّة خر 28: 11 و21 و26 وحيثما كانت هذه الصناعة فلا بد من وجود صناعة الكتابة أيضاً هناك. ولم تكن هذه الكتابة عند العبرانيين على هيئَة صُوَر وأشكال طبيعية مثل كتابة الكهنة المصرية السرّية بل بأحرف هجائية كما يتضح من عد 5: 23 حيث يُؤْمَر بكتابة اللَّعَنَات في كتابٍ ومن لاويين 26: 1 وعد 33: 52 حيث يُنهَى عن كتابة الإشارات والصُوَر على حجارة كعادة المصريين لَئلاَّ يُقادوا بها إلى العبادة الباطلة. والشريعة الموسوية نفسها كُتِبَت بأحرف هجائية وكانت هي أكبر واسطة لإشاعة تلك الأحرف

          ان موادَّ الكتابة القديمة منها الحجارة خر 24: 12 و31: 18 و34: 1 وتث 1: 1 و27: 1 الخ وقلم حديد أي 19: 24 وار 17: 1 والمعادن خر 28: 36. والخشب عد 17: 17 الخ. والأكثر استعمالاً قبل اختراع القرطاس هو الرقُّ أي جلود بعض الحيوان ومنها لفظة سِفْر اسماً للكتاب وهو مشتقٌ من السَفْر أي

الكشط لأن الجلد مكشوطٌ أي مسلوخٌ عن لحمٍ غشَّاهُ. وكُتب عليها بمدادٍ أي بحبرٍ 5: 23 وإن كان السفر طويلاً لُفَّ على شكل دَرْجٍ مز 40: 7 واش 34: 4 وار 36. وفي حز 9: 3 لنا ذكر دواة الكاتب. وفي ار 36: 23 ذُكِرت مبراة الكاتب أي السكين لبري الأقلام. فمن هذه الدلائل نستنتج ان صناعة الكتابة في تلك الأيام لم تختلف كثيراً عن حالتها الحاضرة إلاَّ بتبديل الرقوق بالقرطاس

          إن أقدم الخطوط الباقية أثارها إلى أيامنا هو الخط الفينيقي ثم السامري ثم العبراني المربَّع الذي منهُ السرياني المسمى أسطرانجيليو (أي الخط الإنجيلي) والعربي الكوفي. وقد حُفِظَت إلى الآن عند السامريين في مدينة نابلس نسخ من الخمسة الأسفار في الخط السامري القديم وهم يدَّعون بأنهُ عندهم نسخةٌ باقية بخط فينحاس بن اليعازار بن هرون. وقد نُسِخ عنها نسخة أخرى استولى عليها الدكتور ﻟﭭيسون والدكتور كراوس وطبعا بعضها في مدينة أورشليم في سنة 1863 على هيئَتها الأصلية. أما ادّعاؤُهم بقدمية هذه النسخة ففارغ لأنهُ قد صحََّ وثبت عند فحول العلماء بهذه الأمور ان التوراة السامرية إنما هي مأخوذة عن الترجمة الإسكندرية المعروف بالسبعينيّة مع بعض التغييرات الموافقة للمعتقد السامري كما في تث 27: 3 حيث بدلوا لفظة عيبال بلفظة جرزّيم

          أما اليهود القاطنون في فلسطين وفي بابل فكانوا محافظين على النسخ العبرانية بغاية التدفيق والحرص ولما أكمل ايرونيموس ترجمتهُ اللاتينية عن اليونانيَّة السبعينيَّة صحَّح بعض قراآتها على العبرانيَّة الفلسطينيَّة لزيادة اعتمادهِ عليها كما يشهد هو نفسهُ في تفسيرهِ رسالة تيطس ص 2 حيث أشار إلى النسخة العبرانية التي اعتمد عليها اورجانس في عملهِ الَهكْسْأَﭙﻼ أي مجموع خمس ترجماتٍ مع الأصل العبراني في كتابٍ واحد. فالأمر ظاهر أنهُ في أيام المسيح أو قبل أيامهِ كانت عند اليهود في فلسطين وبابل وبابل نُسَخٌ عبرانية عليها الاعتماد النسخ عنها. ومن تلك الأيام أُبتدِئَّ بوضع الحركات على متن الكتب المقدَّسة لزيادة

الضبط وبجمع كتاب التلمود الدالّ على شدَّة الحرص في الاحتفاظ على كل نقطةٍ من الكتب المقدَّسة لازمة كانت أو غير لازمة وهكذا انتهت إلينا النسخ التي طُبِعَت عنها التوراة العبرانية المطبوعة والتي بُنِيَت عليها الترجمات إلى لغاتٍ مختلفة

          انهُ بين القرن السادس والقرن العاشر للتاريخ المسيحي كانت لليهود مدرستان شهيرتان إحداهما في بابل وسُمّيَت الشرقية والأخرى في طبرية وسُمّيَت الغربيَّة وفي تمادي الأجيال حدث اختلاف في بعض القراآت بين النسخ الشرقية والغربية أي المستعملة في هاتين المدرستين وفي أوائل القرن الحادي عشر أخذ هرون بن اشير رئيس مدرسة طبرية يقابل النسخ الغربيَّة ويعقوب بن نفتالي رئيس مدرسة بابل بابل أخذ يقابل النُسَخ الشرقيَّة وقيَّدا القراآت على حواشي نسختيهما وكانت هذه القراآت جميعها متعلقةً بالحركات إلاَّ قراءة واحدة

          ثم ان اليهود الذين انتقلوا من الشرق إلى بلاد أوروبا في القرن الحادي عشر بعد المسيح احضروا معهم نُسَخاً عديدة من الكتب المقدَّسة المشكلة بالعبرانية ونُسِخ عنها بغاية التدقيق نسخٌ كثيرة يُعتَمد عليها ومن هذه النسخ

1 المعروفة بنسخة حِلَيل وُجِدَت في اسبانيا في القرن الثاني عشر

2 نسخة ابن اشير المشار إليهِ قبل

3 نسخة ابن نفتالي المشار إليهِ قبل

4 المعروفة بنسخة اريحا وهي أصحُّ نسخ الشريعة الموسوية

5 النسخة المعروفة بالسينائية وهي حاوية الأسفار الخمسة فقط

6 النسخة الهنديَّة وُجِدَت عند اليهود السود القاطنين في بلاد الهند الشرقية وأُحضِرَت إلى أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر

          ونُسَخ أُخر عديدة منها 694 نسخة بعضها كاملة وبعضها ناقصة قابلها المعلم كنيكوت وطبع قراآتها بين سنة 1776 وسنة 1780 ونحو 160 نسخة غير هذه قابلها المعلم دي روسي وأضاف قراآتها إلى قراآت كنيكوت وطبعها في

مدينة ﭙﺎرما من بلاد إيطاليا بين 1784 و1788 وزاد عليها مضافاتٍ في سنة 1798 وهذه النسخ محفوظة في مكاتب أوروبا ولبست بينها نسخة أقدم من القرن الثامن. أما النسخة العبرانية المحفوظة في الَهكْسْأَﭙﻼ لاورجانوس المشار إليها سابقاً فهي من القرن الثاني والآيات المذكورة في كتاب التلمود هي أقدم من الكل فمن مقابلة هذه جميعها نرى ان نسخ الكتب المقدَّسة العبرانية قد حُفِظَت بغاية التدقيق والصحة وأن اختلاف القراآت لا يمسّ عقيدةً أو عملاً ما بل يلاحظ تهجي كلمة أو ضبط حركاتها أو مبادلة لفظة بما يرادفها معنىً وما شاكل ذلك

 

ثانياً في النُسَخ اليونانيَّة المخطوطة

          النسخ اليونانية هي ثلاثة أقسام. الأول النسخ الحاوية العهد القديم والعهد الجديد. والثاني الحاوية العهد القديم فقط. والثالث الحاوية العهد الجديد فقط. أما القسم الأول فمنهُ

          1 المعروفة بالنسخة الإسكندرية أحضرها من اسكندرية مصر إلى القسطنطينية البطريرك كيرُلُّوس لوكارِس الكريدي وأرسلها إلى الملك كارلس الأول الإنكليزي عن يد السفير الإنكليزي سنة 1628 وهي الآن محفوظة في الموسيوم البريطاني (أي محل التُحَف) في لندن والمتفق عليهِ هو انها خُطَّت في أوائل القرن الخامس للتاريخ المسيحي

          2 المعروفة بالنسخة اﻟﭭﺎتيكانية وهي عدد 1209 في المكتبة اﻟﭭﺎتيكانية خُطَّت في مصر في أوائل القرن الرابع وقد طُبِعَت عن يد الكردينال انجيلو ماي سنة 1843 ولكن لم تأذن لهُ حكومة رومية بإشهارها فمات الكردينال ماي سنة 1854 ثم أُشهر عملهُ هذا سنة 1858 في خمسة جلود أربعةٌ للعهد القديم الترجمة السبعينية وواحد للعهد الجديد

          3 المعروفة بالنسخة السينائيَّة(1). ان العلاّمة تيشندُرْفْ الجرماني في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      (1) تُسمَّى هذه النسخة بالسينائية نسبةً إلى سيناءَ حيث وُجدَت. فإن موجدها تيشندُرف الجرماني من سكسونيا من الطائفة الإنجيلية قد سافر إلى جبل سينَاء أول مرَّة في أيار سنة 1844

سياحتهِ في بلاد مصر وفلسطين سنة 1859 وجد نحو مئَة نسخة من الكتب المقدسة مخطوطة بعضها كاملة وبعضها ناقصة هي محفوظة في المكتبة الملكيَّة في بطرس برج واجلُّ هذه النسخ وجدها في دير طور سيناءَ وهي منسوبة إلى القرن الرابع من التاريخ المسيحي في عصر الملك قسطنطين وقد طَبع منها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبينما هو يتفرس في الكتب الموجودة هناك رأى بالقرب منهُ سلَّة كبيرة مملؤَة من قطع أوراق ورقوق عتيقة. فانعطف نحوها وصار يتأمل بها فأخبرهُ وكيل المكتبة بأنهم من برهةٍ أحرقوا بالنار سلتين مملؤَتين من قطعٍ نظير هذه. (وهذه السلة أيضاً كانت معدَّة للحريق مع أنها أثمن من الذهب) وبينما هو يفتش بها ويتعجب من قدميتها وجد بعض قطع من التوراة باليونانية واستنتج من منظرها أنها من أقدم ما يوجد. فسمحوا لهُ بثُلث هذه وكان ذلك ثلاثاً وأربعين قطعة من رق. وأما البقية فلم يسمحوا لهُ بها لكنهُ قبل ان يتركها نسخ منها سفرَي اشعيا وارميا. فحرَّصهم على حفظ هذه الأوراق وما أشبهها ورجع إلى أوروبا وطبع هذا الجزءَ من التوراة طبعاً جميلاً جدّاً على هيئَة أحرفهِ الأصلية في مطبعة الحجر. وفي هذه البرهة كتب إلى بعض أصحابهِ في مصر من المتوظفين عند الحكومة مستعيناً بهم على جلب الباقي. فأجابوهُ أنهُ بعد رجوعهِ انتبه الرهبان من غفلتهم وعرفوا بأن عندهم كنزاً ثميناً ولذلك أبوا بالكلية ان يبيعوهُ

            وفي سنة 1853 سافر أيضاً إلى هناك لأجل هذه الغاية وبعد التفتيش وجد أشياءَ ثمينة جدّاً ونظراً لكثرتها كانت أثمن من التي رآها أولاً. وإما تلك القطع من التوراة فأخفوها عنهُ إلا أنهُ وهو يفتش في كتابٍ ما عثر على قطعة صغيرة لم يرَها قبل معلق عليها أحد عشر سطراً من سفر التكوين فاستنتج أنهُ لا بدَّ من ان هذه الأوراق مقطوعة من نسخة كاملة من التوراة

            وفي شباط سنة 1859 رجع أيضاً إلى هناك بأمر من إمبراطور المسكوب ولذلك ترحبوا بهِ جدّاً وبقي عندهم عدة أيام لكنهم أخفوا عنهُ تلك الأوراق بالكلية. وقبل سفرهِ من هناك بوقت وجيز دعاهُ حارس الدير إلى حجرتهِ وقدَّم له نسخةً من التوراة ففتحها وإذا هي تلك الأوراق التي رآها أولاً منضمة إلى النسخة الأصلية التي كانت قد قطعت منها. وكانت محتوية على جزء كبير من العهد القديم وعلى العهد الجديد كلهِ. ولكنهم لم يسمحوا لهُ بها البتة ولم يرتضوا بثمن مهما كان. فأخذ يستعمل الوسائط لتحصيل هذه النسخة مستعيناً بإمبراطور المسكوب وبالبعض من بطاركة وأساقفة الروم. وبعد مكابدة مصاريف وأتعاب جزيلة جدّاً استلمها منهم في 28 أيلول تلك السنة عينها وكان هو حينئذٍ في مصر. وفي أول تشرين الأول سافر إلى بطرس برج وبعد ان مثل بحضرة الإمبراطور توجه إلى ليبسك وشرع بطبعها حالاً وأكمل ذلك سنة 1862. ولما شاع خبر ما عملهُ هذا الشهير والجهد الذي بذلهُ ونجاحهُ أخيراً أُرسِلت لهُ مكاتيب التهاني مقرونة بالاعتبار والمديح والتعجب من أقدامِه على الأمور من بابا رومية وملوك أوروبا والمدارس الجامعة ومن كثيرين من مشاهير العلماء

المومى إليهِ في مدينة لَيْبْسِك من أعمال جرمانيا في سنة 1862 بنفقة ملك روسيا ثلاث مئَة نسخة فقط في أربعة جلود كبيرة طبعاً جميلاً وهذه النسخ الثلاث مئَة أهداها الملك المشار إليهِ إلى بعض أصحابهِ وإلى بعض المكاتب الشهيرة في أوروبا وطُبِع منها العهد الجديد في مدينة ليبسك للبيع العمومي

          أما القسم الثاني فمنهُ

          1 المعروفة بالنسخة القطونية وهي من أقدم النسخ القديمة الباقية إلى أيامنا وأصحّها أحضرها من مدينة فيلبي أسقفان من أساقفة الروم إلى انكليترَّا وأهدياها إلى الملك هنريكوس الثامن وفي سنة 1731 احترقت المكتبة التي كانت موضوعة فيها فاحترق جانب كبير من هذه النسخة الثمينة. خُطَّت في أواخر القرن الرابع أو في أوائل القرن الخامس وما بقى منها فمحفوظٌ في الموسيوم البريطاني

          2 و3 نسختان معروفتان إحداهما بالنسخة السروانيَّة والأخرى بالنسخة الكلبرتيَّة وهما محفوظتان في المكتبة الملكية في باريس خُطَّتا في القرن السادس أو السابع وهما حاويتان الأسفار الخمسة وسفر يشوع وسفر القضاة

          4 النسخة القيصرية وسُمِّيَت أيضاً النسخة الفِضِّيَّة والنسخة الفِضِّيَّة الأرجوانية لأنها مكتوبة بأحرف فضية على رقٍّ من اللون الأرجواني وهي محفوظة في المكتبة الملكية في ﭭينَّا قصبة مملكة أوستريا وهي 26 صحيفة فقط 24 منها حاوية بعض سفر التكوين واثنتان حاويتان قطعةً من إنجيل لوقا. خُطَّت في أواخر القرن الخامس أو في أوائل القرن السادس

          5 النسخة الامبروسية وهي محفوظة في المكتبة الامبروسية في ميلان من أعمال إيطاليا. خُطَّت في القرن السابع

          6 النسخة الكويسلية خُطَّت في القرن السادس أو السابع وهي محفوظة في المكتبة الملكية في باريس

          7 النسخة الباسيلية اﻟﭭﺎتيكانية المحفوظة في المكتبة اﻟﭭﺎتيكانية في رومية

خُطَّت في القرن التاسع

          8 النسخة النورية وهي حاوية سفر المزامير فقط كُتِبَت على رق أرجواني بأحرف فضيَّة والحرف الأول من كل مزمور مذهَّب. خُطَّت في القرن الحادي عشر وظن البعض أنها قبل ذلك

          أما القسم الثالث فمنهُ

          1 النسخة الافرايمية المحفوظة في المكتبة الملكية في باريس خُطَّت في القرن الخامس

          2 نسخة بيزا وهبها العلاَّمة بيزا لمكتبة مدرسة كمبريدج في انكلترَّا سنة 1581 خُطَّت في أواخر القرن الخامس أو في أوائل القرن السادس

          3 النسخة الكلرمونتية وهي محفوظة في مكتبة دير كلرمونت في فرانسا خُطَّت في القرن السابع

          4 النسخة الباسيلية خُطَّت في أواسط القرن الثامن وهي حاوية الأناجيل الأربعة فقط

          5 النسخة اللاوديَّة حاوية سفر أعمال الرسل في اليوناني واللاتيني وهي محفوظة في مكتبة مدرسة اوكسفرد

          6 النسخة السنجرمانيَّة حاوية رسائل الرسول بولس في اليوناني واللاتيني وهي محفوظة في باريس

          7 النسخة البوريليَّة محفوظة في مكتبة أوترخت في هولاندا خُطَّت في القرن التاسع

          8 النسخة الأوجية حاوية رسائل الرسول بولس في اليوناني واللاتيني وهي محفوظة في مكتبة كمبريدج

          9 النسخة البورنريَّة حاوية رسائل الرسول بولس في اليوناني واللاتيني وهي محفوظة في مكتبة درسدن من أعمال سكسونيا خُطَّت بين القرن الثامن والقرن العاشر

          10 النسخة الهرلانية أو الولفية الأولى حاوية قُطَعاً من الأناجيل الأربعة وهي محفوظة في الموسيوم البريطاني

          11 النسخة الولفية الثانية مثل 10 هي محفوظة في مكتبة همبرج

          12 النسخة القطونية المحفوظة في الموسيوم البريطاني وهي مكتوبة بأحرف فضية على رقٍّ أرجواني حاوية قُطَعاً من الأناجيل الأربعة خُطَّت في أواخر القرن السادس

          13 النسخة القبرسية المحفوظة في المكتبة الملكية في باريس حاوية الأناجيل الأربعة أُحضِرَت من جزيرة قبرس سنة 1637 خُطَّت في القرن التاسع

          14 النسخة الملكية الباريسية عدد 62 حاوية الأناجيل الأربعة خُطّت في القرن الثامن

          15 النسخة الملكية الباريسية عدد 48 حاوية الأناجيل الأربعة خُطَّت في أواخر القرن التاسع

          16 النسخة القيصرية المحفوظة في المكتبة الملكية في ﭭينَّا بأحرفٍ فضية على رقٍّ أرجواني حاوية قُطَعاً من سفر التكوين ومن الأناجيل خُطَّت في أواخر القرن السادس

          هذه أشهر النسخ المخطوطة وقد حُفِظ في مكاتب أوروبا أكثر من 600 نسخة مخطوطة غير هذه منها كاملة ومنها ناقصة وقد قابلها العلماءُ وقيدوا قراآتها في عدَّة طبوع من الكتب المقدَّسة وأشهر هذه القراآت مذكورة في الحاشية السفلى من التوراة والإنجيل بالشواهد المطبوعة عربيّاً في بيروت

 

الفصل الثامن

في ترجمة الكتاب المقدَّس

          ان ممَّا يؤكد صحة التوراة أكثر تأكيداً اعتبار ترجماتها. فنقول اننا لا نعرف

ترجمةً قبل الترجمة المعروفة بالسبعينية المنقولة من العبرانية إلى اليونانية في مصر سنة 280 ق م لمنفعة اليهود الذين كانوا يسكنون مصر ويتكلمون باللغة اليونانية. وقيل ان ذلك كان بأمر الملك بطليموس فيلادلفوس ولعلها سُمِّيت بذلك لأن مترجميها كانوا سبعين نفراً أو لأن مجمع اليهود العظيم الملتمْ لختم صحة هذه الترجمة كان اثنين وسبعين شخصاً وهذه هي الترجمة الأولى

          الثانية الترجمة السريانية. والمظنون أنها تُرجِمت في آخر الجيل الأول أو في أول الجيل الثاني بعد المسيح. والعهد القديم منها مترجم من العبرانية والجديد من اليونانية. ويقال لها الترجمة البسيطة لبساطتها ووضوحها

          الثالثة الترجمة المصرية. وكان أهل مصر لقربهم من اليهودية قد سمعوا الإنجيل بعد المسيح بزمانٍ يسير وكانت اللغة المُستعملة حينئذٍ في مصر هي اللغة القبطية. وهي مركبة من اللغة المصرية القديمة واليونانية. ويُظَنُّ ان العهد القديم تُرجِم إليها من الترجمة السبعينية في الجيل الثاني أو الثالث بعد المسيح وعلى كل حالٍ لا بد ان يكون ذلك قبل الجيل الخامس. والعهد الجديد بين الجيل الثالث والخامس

          الرابعة الترجمة الحبشية. وقد تُرجِم العهد القديم إلى هذه اللغة من الترجمة السبعينية. ونحن لا نعلم شيئاً عن المترجم ولا عن زمان الترجمة لكننا نستنتج من علامات واضحة أنها تُرجِمت في الجيل الرابع بعد المسيح. ويُظَنُّ ان مترجم العهد الجديد فرومنتيوس الذي بشَّر في تلك البلاد نحو سنة 330 بعد المسيح

          الخامسة اللاتينية. وذلك ان كل التوراة تترجمت في نحو نصف الجيل الثاني إلى هذه اللغة من اليونانية. وفي بداية الجيل الخامس ترجم ايرونيموس ترجمة جديدة من العبرانية واليونانية إلى اللاتينية وهي التي تُعرَف بالدارجة والمعتمد عليها في الكنيسة الرومانية إلى الآن

 

السادسة الترجمة العربية

          انهُ في سنة 96 للهجرة الموافقة سنة 718 للمسيح تغلَّبت العرب على سورية

ومصر والجزء الشمالي من افريقية مملكةً في أسبانيا فامتدَّت العربية إلى كل البلاد التي غلبت عليها العرب فاحتاجت النصارى ان تترجم الكتاب المقدس إلى اللغة العربية

          أننا لا نسمع بترجمة عربية قبل الترجمة التي ترجمها يوحنا أسقف سفيل من أعمال أسبانيا سنة 750 بعد المسيح عن ترجمة ايرونيموس اللاتينية التي درجت في اسبانيا من الجيل السابع فصاعداً فإن المذكور ترجم كل التوراة وماريانا اليسوعي وجد جملة نسخٍ منها في أيامهِ والظاهر أنها لم تُطبَع قط ولم تعرف في سورية

          والحاخام سَعَد جَدغاون المعلم الشهير في مدرسة بابل ترجم من العبرانية كل العهد القديم أو أكثرهُ في الجيل التاسع لمنفعة اليهود الذين كانوا يتكلمون بالعربية. فطُبِع جزءٌ من هذه الترجمة وهو الأسفار الخمسة في القسطنطينية سنة 1546 بالأحرف العبرانية. ثم طُبِع في باريس سنة 1645 وفي لندن سنة 1657 بالأحرف العربية

          ثم ان رجلاً يهوديّاً من افريقية ترجم الأسفار الخمسة أيضاً في الجيل الثالث عشر وطُبِعَت في أوروبا سنة 1622. وقد ترجمها أيضاً رجلٌ سامريٌّ يقال لهُ أبو سعيد بين الجيل العاشر والثالث عشر ولم تُطبَع. لكن يوجد نسخٌ منها في انكليترا وباريس وأماكن أخرى من أوربا وفي سوريا أيضاً

          وقد طُبِع أيضاً في باريس سنة 1645 وفي لندن سنة 1657 ترجمة النبوات التي ترجمها من السبعينية رجلٌ يهودي اسكندري في أثناء الجيل العاشر

          قيل من المُحتَمل ان أكثر كتب العهد القديم التاريخية تُرجِمَت من اللغة السريانية نحو الجيل الثالث عشر أو الرابع عشر. ثم طُبِعت في باريس سنة 1645 وفي لندن سنة 1657

          وقـد تُرجِم الزبور ترجماتٍ عديدة. فالترجمة التي في أيدي الملكيين الآن ترجمها عبد الله بن الفضل من اليونانية قبل الجيل الثاني عشر ثم طُبِعت في

حلب سنة 1706 وفي لندن سنة 1725 وطُبِع ترجمةٌ أخرى في جَنَوا سنة 1516 وفي رومية سنة 1614 وطُبِع أيضاً ترجمةٌ ثالثة مطابقة للسريانية في الشوير من جبل لبنان سنة 1610

          أنهُ لا يمكننا ان نتحقق الزمان الذي تُرجِم فيهِ العهد الجديد إلى العربية. ولعل الأناجيل الأربعة تُرجِمت منذ الجيل السابع والبقية في الجيل الثامن أو التاسع. ثم تُرجِم ترجمات عديدة أما كل العهد الجديد أو البعض منهُ. وبعض هذه الترجمات كان من اليونانية وبعضها من السريانية والبعض من القبطية. فطُبِعت الأناجيل الأربعة أولاً في رومية سنة 1591 وطُبِع كل العهد الجديد في هولاندا سنة 1616 وفي باريس سنة 1645 وفي لندن 1657. ويظنُّ ان الأناجيل الأربعة في الثلاث طبعات الأخيرة تترجمت من اليونانية والبقية من السريانية أو اليونانية

          ان الترجمة التي كانت دارجة من عهدٍ قريب ليست بحديثة لأنهُ في أوائل الجيل السابع عشر استأذن سركيس الرزّي مطران دمشق من البابا في تحصيل نسخةٍ مضبوطة من الكتب المقدسة لأن النُسَخ التي كانت حينئذٍ عندهم كانت مشحونةً بالغلط. فأذن لهُ البابا بذلك. وفي سنة 1620 شرع المطران المذكور مع جملةٍ من العلماء في جمع عدَّة نسخ عربية وقابلوها مع العبرانية واليونانية ولا سيما مع النسخة اللاتينية المعروفة بالدارجة فنقَّحوا النسخة المطبوعة في رومية سنة 1671 في ثلثة مجلدات كبيرة مع الترجمة اللاتينية وهي كانت تُطبَع بكثرة في لندن بدون الأسفار غير القانونية قبل ظهور الترجمة الجديدة في مدينة بيروت

          وفي سنة 1727 طُبِع العهد الجديد في لندن على نسخة من هذه الأخيرة بعد ان طبَّقها سليمان نقري على اليونانية. وفي سنة 1816 طُبِع العهد الجديد في لندن على ترجمة جديدة ترجمها القسيس الإنكليزي هنري مرتين وناثانائيل ساباط في الهند. وقيل ان محمداً الثاني الذي افتتح القسطنطينية أمر ان تترجَم التوراة

من اليونانية إلى العربية لنفسهِ ولا نعلم الآن شيئاً عن ذلك

          وقد ترجم الكتاب كلهُ المعلم فارس الشدياق بعناية ونفقة الجمعية الإنكليزية المعروفة بجمعية ترقية المعارف المسيحية وطُبِع العهد الجديد عن هذه الترجمة سنة 1851 ثم طُبِع العهدان أيضاً سنة 1857 وذلك في مدينة لندن

          وأما الترجمة الجديدة التي قد تُرجِمت حديثاً في مدينة بيروت فنذكرها هنا بأكثر تفصيلٍ نظراً لمعرفتنا بالأشخاص الذين باشروها والوسائط التي استعملوها بذلك. فنقول انهُ بعد الفحص والتدقيق وُجِدَت جميع الترجمات العربية المذكورة آنفاً غير مضبوطة على الأصل وناقصة باعتباراتٍ كثيرة بعضها أكثر من بعض وأكثرها لم يكن مترجماً من لغات الكتاب المقدّس الأصلية. فلذلك قرَّ الرأْي على ترجمة الكتاب كلّهِ العهد القديم من العبرانية والجديد من اليونانية. فشرع في هذا العمل القس عالي سميث المرسَل الأميركاني سنة 1837. وكان في ابتداءِ عملهِ أنهُ صنع قوالب حروفٍ عربية موافقة لذوق أفضل علماء العصر في هيئَتها وترتيبها وأنشأَ من ذلك مطبعة شهيرة وجمع أيضاً مكتبة ثمينة. وذلك استعداداً لترجمة الكتاب وطبعهِ. وهذا العمل اقتضى لهُ عدَّة سنين. وفي سنة 1848 باشر القس سميث المذكور بالترجمة بمساعدة المعلم بطرس البستاني اللبناني وبقيا معاً في هذا العمل إلى ان تُوفِّي القس سميث في 11 ك 2 سنة 1857. وكانا قد أنجزا في هذه البرهة ترجمة أسفار موسى الخمسة والعهد الجديد مع أجزاءٍ مختلفة من أسفار الأنبياءِ وابتدأَا في طبع العهد القديم. وبعد موت القس سميث المذكور أخذ بإتمام هذا العمل القس كرنيليوس ﭭﺎن دَيْك وهو أيضاً أحد المرسلين الأميركانيين. فأولاً راجع جميع الأسفار التي كان قد ترجمها القس سميث والمعلم بطرس البستاني ثم ترجم الباقي. وكان النجار من ترجمة الكتاب كلهِ في 23 آب سنة 1864 ومن الطبعة الأولى منهُ في 29 آذار سنة 1865. غير ان العهد الجديد كان قد أُكمِل قبل ذلك وطُبِع عدَّة مرَّات. والطبعة الأولى منهُ كانت في آذار سنة 1860

          وبما انّ المعوَّل عليهِ في هذا العمل كان أولاً القس سميث ثم القس ﭭﺎن دَيْك فهما اللذان قد كابدا في ذلك أشدَّ العناء لأجل كمال الترجمة وضبطها ومطابقتها للأصل غاية المطابقة. ولأجل هذه الغاية كانا يرسلان نحو ثلاثين نسخة من كل كرّاس قبل ان يُطبَع إلى مشاهير العلماءِ من مسلمين ونصارى وطنيين وأجانب في جهات مختلفة من سوريا ومصر وأحياناً إلى جرمانيا لأجل انتقاد اللغة والترجمة وتقييد كل ما يفتح الله عليهم بهِ من الآراء الحسَنة على الحاشية وبعد إرجاع هذه المسودَّات أي النسخ الموزَّعة إلى بيروت مركز هذا العمل كانت تُراجَع بكل دقَّةٍ وكل التنكيتات والاستحسانات التي تُوجَد أنها موافقة وفي محلها كانت تُقَبل ويُعمَل بموجبها وهكذا عقول كثيرة من الوطنيين والأجانب كانت تساعِد حقَّ مساعدة في هذا العمل المهمّ

          ومن الذين كان الاعتماد عليهم بنوعٍ خصوصي في ضبط الترجمة على قواعد اللغة العربية وفصاحتها هما الشيخ ناصيف اليازجي اللبنانيُّ والشيخ يوسف الاسيرالأزهري

          وحيث ان الأشخاص المارّ ذكرهم الذين قد أنشأُوا هذه الترجمة جمعيهم أحياءٌ إلا واحداً منهم عدلنا عن وصفهم وذكر معارفهم ولغاتهم البارعين بها وإمانتهم في هذا العمل لأن شهرتهم تغني عن ذلك. ولكن نقول بالاختصار لأجل إفادة البعيدين أنهم من أشهر علماء العصر الحاضر وقد كابدوا في هذا العمل أتعاباً جزيلة سنيناً عديدة فلذلك لنا أساس للاعتقاد بأن هذه الترجمة هي من أصح وأضبط الترجمات وسيكون المعوَّل عليها فيما بعد. فنسأل الله ان يجعل نفعها يعمُّ الجميع

          أخيراً نقول ان الكتب المقدَّسة قد تُرجِمَت إلى اللغة الأرمنية في أوائل الجيل الخامس. وإلى الفارسية منذ زمنٍ قديم كما يشهد يوحنا فم الذهب. وإلى الفرنساوية نحو سنة 1160 وإلى الاسبانيولية نحو سنة 1380 وإلى النمساوية نحو سنة 1460 وإلى الإنكليزية نحو سنة 1380

          وبذلك نرى ان رأفة العناية الإلهية قد ظهرت جليّاً في إقامة أناسٍ علماءَ ليترجموا الكتب المقدَّسة حتى أنهُ الآن يوجد نحو مئَتي لغة تقرأُ بها أوامر الله أكثر من مئَة وخمسين منها قد تُرجِم الكتاب إليها في جيلنا الحاضر

 

الفصل التاسع

في كيفية قراءَة الكتب المقدّسة

          من الناس من يطالع الكتاب المقدَّس كأنهُ من كتب الملاهي. ومنهم من يطالعهُ مطالعة أخبارٍ قديمة عن تاريخٍ أمين صحيح. ومنهم من يطالعهُ للنظر في لغتهِ لفصيحة وحسن تركيبهِ. ومنهم من يطالعهُ بالاحترام والوقار لاستمداد نور الروح القدس ونعمتهِ الإلهية. وهذا هو الوجه الذي كُتِب لأجلهِ هذا الكتاب. وبناءً على ذلك نقول

          أولاً يجب ان تكون قراءة هذا الكتاب الإلهي بالخشوع والهيبة وان يعتبر كل من طالعهُ في نفسهِ انهُ وحي الرب الإله ويجعل قلبهُ مستعدّاً لقبول ما فيهِ من الفوائد. إلا ان كثيرين في هذه الأيام يغفلون عن هذه الواجبات حتى من الأتقياء أيضاً. وهذا من النقائض المحذورة. فيجب علينا كلما طالعناهُ ان تُؤَثّر هيبتهُ في قلوبنا كأنهُ معجزةٌ من صنائع الرحمة الإلهية كما قال النبي من كلامك جزع قلبي مز 119: 161

          اننا نرى ختم الله على مضمون هذا الكتاب العظيم الذي ظهرت فيهِ قدرتهُ الإلهية. وهو القاعدة الوحيدة للفروض الواجبة علينا في هذه الحيوة والشريعة التي سوف يُقضَى علينا بها في اليوم الاخير. وقد قال اشعيا النبي 66: 2 إلى هذا انظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي ولا ريب أنهُ لا يوجد أجهل ممَّن يقرأُ كلمة الله القدير بعينٍ ساهية وقلبٍ فاتر عن اجتناءِ فوائدها الخلاصية

          ثانياً يجب الخضوع والوداعة على من يقرأُ الكتب المقدَّسة قراءةً مفيدةً لأنها

أقوال الله العزيز فمن أراد مطالعتها على سبيل التهذيب والخلاص يجب ان يقبل تعاليمها بالخضوع والوداعة اللائقة بها. قال داود النبي مز 25: 9 و14 يدرّب الودعاءَ في الحق ويعلّم الودعاءَ طرفهُ. سرُّ الرب لخائفيهِ وعهدهُ لتعليمهم. ولذلك يجب ان تُرفَع الوساوس والأوهام المقبولة عند أربابها وتلين الضمائر لقبول كلام الله وتأثيره فيها كما يلين الشمع لنقش الخاتم وتُنكَر كل شهوةٍ لذيذة وتُرفَض كل خطيةٍ محبوبة. وقد نصحنا يعقوب الرسول 1: 21 هذه النصيحة المُلهَم بها من الله قائلاً لذلك اطرحوا كلَّ نجاسةٍ وكثرة شرٍّ فأقبلوا بوداعةٍ الكلمة المغروسة القادرة ان تخلص نفوسكم. وكيفية اعتبار الكتب المقدَّسة عند المسيحيين الأولين تبيّن لنا الاحترام والخضوع اللائقين بها. قال بولس الرسول لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبرٍ من الله قبلتموها لا ككلمة أناسٍ بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله التي تعمل أيضاً فيكم أنتم المؤْمنين 1 تس 2: 13

          ثالثاً يجب على قارئ الكتاب المقدَّس لكي يستفيد منهُ الاعتماد الصحيح على فاعليَّة الروح القدس. فإن الإنسان إذا كان لطيف الأخلاق ثاقب العقل لكنهُ قليل الصلوة فإنهُ لا يقبل ما لروح الله لأنهُ عندهُ جهالةٌ ولا يقدر ان يعرفهُ لأنهُ إنما يُحكَم فيهِ روحيّاً 1 كو 2: 14. وقد وعد الله بروحهِ القدوس لكل من طلب إنارة هذا الكتاب وتقديسهُ. وذلك لكي يهيئَ ضمائرنا للاعتناء بالكتب المقدسة التي تعيننا على الخلاص. ولذلك قال يعقوب الرسول 1: 5 وإنما ان كان أحدكم تعوِزُه حكمةٌ فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاءٍ ولا يعيّر فسيُعطَى لهُ. وقال المخلص أيضاً فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون ان تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونهُ 11: 13

          ويوجد كثيرٌ من الأشياء المنتسبة إلى الله في الكتب المقدَّسة غامضاً جدّاً بحيث لا يستطاع كشفهُ إلا بمساعدة روح الله. ولكن الطريق الأعظم لمن يريد هذا الكشف ان يكون راغباً مجتهداً حارّاً في صلواتِه وتضرعاتهِ إلى الله لكي يرسل

روحهُ القدوس حسب وعدهِ الصادق فيرشدهُ ويفتح ذهنهُ لكي يفهم الكتب كما صنع السيد المسيح لتلاميذهِ. وإلا فكل أتعابنا باطلة والويل لمن يتَّكل على فطنتهِ في هذا الشأن

          رابعاً يجب ان تكون قراءَة الكتاب المقدس بحرارة وشوقٍ إلى إحراز فوائدهِ وإطاعة أوامرهِ. وإذا كان هذا الكتاب قد أُعطي لنا بوحيٍ إلهي وكان مقصودهُ ان يحكّم الخطاة للخلاص بالإيمان بيسوع المسيح وكان قادراً على ان يؤَسّسنا في الإيمان والقداسة ويؤَهّلنا للشركة مع الله على الأرض ويهبنا ميراثاً بين الذين تقدَّسوا بالإيمان فكم يجب ان تكون مطالعتهُ بضميرٍ خاشعٍ وصلواتٍ حارَّة لأجل اكتساب فهمهِ والاستنارة بتعاليمهِ. وكم ينبغي ان تطاع أوامرهُ المقدَّسة القائدة إلى سبيل الخلاص الأبدي. وقد كان المرنم قدوةً لنا إذ تعلَّم كلمة الله وعرف بركاتها الإلهية فكان يقول نحوهُ تعالى اكشف عن عينيَّ فأرى عجائب من شريعتك. شريعة فمك خيرٌ لي من ألوف ذَهَبٍ وفضةٍ. ليكن قلبي كاملاً في فرائضك لكيلا أخزى. ورثتُ شهاداتك إلى الدهر لأنها هي بهجة قلبي مز 119: 18 و72 و8 و111. وقال الرب ان شاءَ أحدٌ ان يعمل مشيئَتهُ يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلَّم أنا من نفسي يو 7: 17

ثم ان جميع الكتب المقدَّسة هي بوحيٍ من الله وقد كُتِبَت بواسطة الروح القدس لكي تكون خزانةً لأدوية الأرواح بحيث يختار منها جميع الناس الدواءَ المناسب لعلاج أمراضهم. فهي تفحص قلوبهم وتكشف أفكارهم وتعطي قوانين لضمائرها وتدين أفعالهم وتعزي نفوسهم وتنير أذهانهم وتهديهم إلى الرجاءِ بالله والمحبة لهُ والاتكال عليهِ وترشدهم في اشتراكهم معهُ وطاعتهم لهُ وتقودهم إلى التمتع بهِ. هذا فعل الروح القدس في الكتاب المقدَّس وبهِ يختم فاعليتهُ الإلهية لهم حتى يجدوا فيهِ راحةً وشبعاً روحيّاً وثباتاً عظيماً. وإذا اقتنوا ذخيرة قوتهِ الإلهية واختبروا ما فيهِ من الحكمة الباهرة لا تقدر الناس ولا الشياطين ان يقاوموا سلطانهُ بمنافراتهم واعتراضاتهم الباطلة

الفصل العاشر

في قوانين مفيدة لقراءَة الكتاب المقدَّس

          قد تقدَّم الكلام على كيفية قراءَة كلمة الله والآن نذكر للقارئ بعض قوانين مفيدة تجب مراعاتها لاكتساب الفائدة التامة من هذه المطالعة

          الأول المواظبة يوميّاً على قراءَة الكتاب المقدَّس بحسب الاستطاعة. فإن جميع الناس لا يقدرون على مطالعة جزءٍ معينٍ منهُ كل يومٍ. وقد قيل عن رجلٍ فاضلٍ من المبشرين المشهورين في بلاد الإنكليز أنهُ كان يقرأُ كل يومٍ خمسة عشر اصحاحاً. والذهبي الفم أسقف الدهر الرابع كان يقرأُ رسالة الرومانيين كل ستَّةٍ مرتين ما عدا نُبَذاً أخرى من الأسفار المقدَّسة. ولكن مثل هذا لا يمكن كل أحدٍ استعمالهُ بل من المُحتَمل أنهُ يُوجَد قليلٌ من الناس من لا يقدر ان يقرأَ أكثر من اصحاحٍ في الصباح واصحاحٍ في المساءِ ففي هذا القدر كفايةٌ حتى أنهُ إذا لم يكن إلا آيةً فقط يقرأها صباحاً أو مساءً ويجعل جزءاً معتبراً ليوم الرب كان في ذلك فائدةٌ عظيمةٌ للمؤمن المتأَمل فيما يطالعهُ. وعلى هذه الممارسة اليومية يحثُّ النبي بقولهِ لكن في ناموس الرب مسرَّتهُ وفي ناموسهِ يلهج نهاراً وليلاً مز 1: 2. وقال سليمان الحكيم طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهراً كل يومٍ عند مصاريعي حافظاً قوائِم أبوابي 1 م 8: 34

          الثاني مطالعة كل سفر منهُ بتمامهِ. لأن قراءَة أي كتاب كان قطعةً بعد أخرى من أماكن مختلفة غير متتابعة لا تفيد فائدة تامة ولا تعطي القاري روح الكتاب. ولا يخفى ان ذلك أشبه بالتفرج وهو لا يليق بكتاب الله ولا يجري على النَّهجْ الموافق لفهم معانيهِ واعتبارها. ولا سيما ان أسفاراً كثيرة منهُ ليس لها علاقة خصوصية بغيرها كسفر التكوين والأناجيل الأربعة وكتاب أعمال الرسل ورسالة الرومانيين ورسالة العبرانيين. فإن هذه المكتوبات لا تُفهَم جيداً بقراءَة أقسام منها فقط بل يجب ان يقرأَ كل واحد منها بتمامهِ قبل الانتقال إلى غيرهِ لكي يُفهَم المقصود منهُ بالتمام

          ثم انهُ ولو كانت الكتب المقدسة جميعها ضرورية لنا والمقصود بها تهذيبنا إلا أنها ليست كلها مفيدة فائدةً واحدة ولا سيما للساذجين. أما الزبور الذي كل مزمور منهُ غير متعلق بالاخر والأناجيل والرسائل فتقتضي انصباب كافة المسيحيين من الخاصة والعامة عليها لأنها أُلِّفت لتعليمهم وتقديسهم وتعزيتهم في سياحتهم ولكن قوة معانيها ومقاصدها ومنافعها لا تُفهَم فهماً جيداً إلا بمطالعة كل جزء منها على التمام

          الثالث يجب ان يُراعَى مقصد كل سفرٍ منهُ. فإن المقالات المفردة في الكتاب المقدس تُفهَم أحياناً بالغلط وتفسَّر بغير المعنى المقصود بها. وقد يفعل ذلك الصالحون أيضاً لغفلتهم عن قصد الروح المُلهِم بها. والأشرار مراراً كثيرة يحرّفون كلمة الله كما فعل الشيطان عندما جرَّب السيد المسيح مت 4: 6. وبطرس الرسول قد حذَّر اخوتهُ من مثل هذه العثرة ولا سيما بالنظر إلى الأقوال العسرة الموجودة في رسائل بولس الرسول فقال يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم 2 بط: 3: 16. ومضمون كلامنا هذا يتضح من النظر إلى رسالتَي بولس الرسول إلى الرومانيين والعبرانيين اللتين كل واحدة منهما تحوي عين ما في الأخرى من التعاليم الإلهية عن الخلاص إلا ان كيفية توضيحهِ إياهما متباينة جدّاً. فإن الرسالة إلى الرومانيين كُتِبَت لتعليم المؤمنين عامةً. والرسالة إلى العبرانيين كُتِبَت إلى اليهود خاصةً. وكان المراد بها إظهار ان القوانين والطقوس التي رسمها موسى إنما وُضِعت لزمنٍ ما وإن خِدَم الكهنوت المتنوعة والذبائح والتطهيرات كانت رمزاً على كهنوت المسيح وكفارة دمهِ التي عليها اعتمادنا وتقديس الكنيسة ببركات نعمتهِ

          الرابع يجب ان يُعتَبر الكتاب المقدس أنهُ كامل متفق لا نقص فيهِ ولا تناقض. فإن كاتبيهِ يوضحون بأجلى بيانٍ أنهم لم يكتبوا ما كتبوهُ من تلقاء ذواتهم بل كانوا مُحرَّكين من الروح القدس. لأنهم وإن كانوا قد عاشوا في أجيال مختلفة وفي أماكن شتَّى وكانوا في أحوال متباينة لكنهم لم يزالوا ذوي رأي واحد

يتكلمون ويكتبون شيئاً واحداً ويخبرون بحقائق وتعاليم واحدة ويأمرون بفروضٍ ووصايا واحدة على حسب مقتضى العواطف الإلهية التي صرَّفتهم في الكتابة. ويذكرون حوادث تاريخية واحدة لا خلاف فيها فيما بينهم ولا مناقضة ولا شقاق لكنهم متحدون بعضٌ ببعض على حدٍّ سوى. وإما ما يتراءَى كأنَّ فيهِ مناقضة فذلك يكون بحسب الظاهر فقط بأدنى تأمل تتضح موافقتهُ

          الخامس يجب ان نُتأَمَّل شهادة الأنبياءِ القدماءِ للمسيح. فإن روح كل الكتاب المقدس هو إرشاد المطالعين إلى معرفة يسوع المسيح. وقد بين الملاك ليوحنا ان شهادة يسوع هي روح النبوة رؤ 19: 10 وهكذا قال السيد لهُ المجد فتشوا الكتب هي التي تشهد لي يو 5: 39. وبعد قيامتهِ خاطب اثنين من تلاميذهِ في هذا الشأن إذ ابتدأَ من موسى ومن جميع الأنبياءِ يفسر لهما الأمور المختصة بهِ في جميع الكتب ثم قال لتلاميذهِ هذا هو الكلام الذي كلمتكم بهِ وأنا بعدُ معكم أنهُ لا بد ان يتمَّ جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياءِ والمزامير لو 24: 27 و44. وقال بطرس الرسول لهُ يشهد جميع الأنبياء ان كل من يؤمن بهِ ينال باسمهِ غفران الخطايا أع 10: 43. ولا يخفى أنهُ ليس المراد بذلك ان كل فصلٍ أو آيةٍ يرجع إلى يسوع المسيح بل ان روح تعليم كل الكتاب يشهد بافتضاءِ الوسيط بين الله والناس ومقالات كثيرة منه تدلُّ على مجد يسوع المسيح ووظائفهِ ونعمتهِ بأنهُ المخلص الوحيد للخطاة

          السادس ان يُوخَذ شرح الكتاب المقدس من نفسهِ أي من مقابلة أجزائهِ بعضها معَ بعض. فإننا نربح فائدةً عظيمةً من مقابلة المقالات المتماثلة بعضها ببعضٍ لأنهُ إذ كان مطلوباً منا ان نفتش الكتب يجب ان نقابل الروحيات بالروحيات 1 كو 2: 12. قال أحد المسيحيين لا شك ان المسيحي مهما كان بسيطاً بحيث يستطيع ان يقرأَ الكتاب المقدس على هذا الأسلوب يصير ببركة الله عالماً بكل ما يتعلق بديانتهِ حتى أنهُ لا يكون في خطر الضلال من أولئك الذين يسعون في تأييد آرائهم على أقوال الله. ولعلهُ يكون في أمان إذا ترك كل الفلسفة

واعتمد على ما يتعلمهُ من الكتب المقدسة فإنهُ يكتسب أفضل فلسفةٍ سهلة المأْخذ يدركها أضعف الأذهان. وربما لا يكون في خطر الجهالة لهُ إذ جهل كل تاريخ سوى تاريخ أوائل دهور كنيسة اليهود والنصارى الذي يُجمَع من الكتب القانونية في العهد القديم والجديد. فليطالعها على الوجه الذي وصفتهُ ولا يكف عن الصلوة لاستمداد ذلك الروح الذي بإمدادهِ كُتِبت هذه الكتب. وحينئذٍ كل فلسفةٍ باهرة لا تستطيع ان تقدّم حجةً تزعزع إيمان هذا المسيحي البسيط

          السابع ان يكون لهذا القارئ أفكارٌ صحيحة في القانون الذي بهِ يستطيع الخاطي ان يتزكَّى أمام الله ويكون أهلاً للحصول بحضرتهِ في السماءِ. وهذا القانون المشار إليهِ هو أننا لا نُحسَب متزكَّين أمام الله إلا من قِبَل استحقاق ربنا ومخلصنا يسوع المسيح بالإيمان لا باستحقاقنا وأعمالنا فإن التبرير هو فعل نعمة الله المجَّانيَّة التي بها يغفر جميع خطايانا ويحسبنا كأبرارٍ أمامهُ لأجل مجرَّد برّ المسيح الذي يُنسَب إلينا ونقبلهُ بواسطة الإيمان فقط انظر اش 53: 10 إلى 12. ورو 5: 17 إلى 19 و2 كو 5: 21

          ثم ان تعليم الكتب المقدسة في ما يلاحظ القداسة هو أهمُّ ما يجب الانتباه إليهِ والحرص على فهمهِ جيداً. فإن الخاطئَ لا يستعدُّ لملكوت الله إلا بتجديد قلبهِ والولادة من الروح القدس والقلب النافر المتدنس بأَدران هذا العالم يتجدَّد ويتطهر بالروح القدس لأنهُ لا بأعمالٍ في برٍ عملناها نحن بل بمقتضى رحمتهِ خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبهُ بغنىً علينا بيسوع المسيح مخلصنا تي 3: 5 و6. فإذا استحكمت هذه الأصول المرشدة في العقل تُفهَم بواسطتها جُمَلٌ كثيرة من الكتب المقدَّسة مما يتبين من وجهٍ آخر أنهُ مشكلٌ غامض

          الثامن ان يذكر القارئُ أنهُ يوجد أشياءُ كثيرة في العهد القديم أراد الله ان تكون رموزاً عن يسوع المسيح ونسبتهِ إلى كنيستهِ. فقد قال الرسول ان الناموس كان لهُ ظلُّ الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياءِ وأنهُ كان رمزاً عن

أشياء كثيرة تختصُّ بتوسط المسيح وتخلصيهِ عب 8: 5 و9: 8 و9 و10: 1. ولا ريب أنهُ يجب الاعتناءُ الكلي في تمييز الأشخاص والأشياء في العهد القديم التي يجب ان تعتبر كرموز. لأن كثيرين بسوءِ تصرُّفهم وقصور تمييزهم شرحوا تعليم الرموز شرحاً يُسخَر بهِ ولكن مخلصنا ورسلهُ قد أعطونا إرشاداً كافياً من جهة هذا الموضوع

          فإن أشخاصاً كثيرة كانت رمزية مثل آدم وملكي صادق وموسى وداود. وكذلك أشياءُ رمزية كتابوت نوح والمنّ والمظلَّة. وأمكنة رمزية أيضاً مثل كنعان أورشليم ومدن الملجأ. ورسوم رمزية كالفصح والذبائح لتكفير الخطايا والتطهيرات. وقد شُرِحَت هذه المذكورات في الرسالة إلى العبرانيين وسيأتي الكلام على ذلك بالتفصيل ان شاءَ الله في الجزء الثالث من هذا الكتاب

          التاسع ان يُعتبَر بالصواب معنى كلمة عهد في الكتب المقدسة. فإن العهد بطريق العموم يدل على معنى المعاقدة الواقع الاتفاق عليها بين اثنين فصاعداً. وإما في الكتب المقدسة فإنها تُطلَق غالباً على وعدٍ جليلٍ قد وعد الله بهِ شخصاً أو أشخاصاً معلومة لمقاصد مهمَّة. وهذه العهود كثيرة في الكتاب المقدَّس ومن جملتها العهود الآتي ذكرها الأول عهد الطاعة المدعوُّ عهد الأعمال الواقع بين الله وأبوينا الأولَين وكل جنس البشر بواسطتهما. وكانت شجرة الحيوة علامةً سريَّة لهذا العهد تك 2: 9 و3: 22 إلى 24 الثاني عهد الأمان مع نوح لكل جنس البشر وكان قوس السحاب علامةً لهُ تك 9: 9 إلى 17 الثالث عهد التمليك مع إبراهيم وزرعهِ الذي تجدد مع بني إسرائيل في جبل سينا وكان ختم هذا العهد الختان تك 17: 1 إلى 13 وخر 19: 1 إلى 7 وتث 9: 5 إلى 11 الرابع عهد المُلْك مع داود 2 صم ص 7 ومز 98: 19 إلى 35 الخامس عهد الفداءِ والنعمة مع المسيح وهو كفيلهُ. ومن ثَمَّ قال الرسول ان الله خلصنا ودعانا دعوةً مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعلِنت لنا من المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزليَّة 2 تي 1: 9. وعهد النعمة هذا هو من مُجرَّد رحمتهِ وبهِ يتخذ الله الخطاة في نسبةٍ جديدة بحيث يكونون شعباً

مختصّاً بهِ ويواثقهم ببركاتٍ ونِعم ويعطيهم سُنناً ورسوماً تكون قاعدةً لطاعتهم لهُ ودستوراً لمعاملتهم إياهُ وكل هذا الميثاق يثبت بدم الذبيحة وقد أُعلِن هذا العهد لجنس البشر في الأزمنة السالفة بواسطة ذبائح الحيوانات وخُتِمَت شروطهُ الرهيبة بدم المسيح. والآن لهُ تذكارٌ بين شعب الله في تناول عشيَّة الرب. وقد قابل الرسول هذا العهد مع العهد الذي كان لموسى وذكر ان شروطهُ التي كلها رحمةٌ تفوق في الفضل على الرسوم اللاوية بما لا يُحَدُّ حيث يقول ولكنهُ الآن قد حصل على خدمةٍ أفضل بمقدار ما هو وسيطٌ أيضاً لعهدٍ أعظم قد تثبَّت على مواعيد أفضل. لأن هذا هو العهد الذي أعهدهُ مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب اجعل نواميسي في أذهانهم واكتبها على قلوبهم وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً ولا يعلِّمون كل واحدٍ قريبهُ وكل واحد أخاهُ قائلاً أعرف الرب لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم. لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدّياتهم فيما بعد عب 8: 6 و10 إلى 12

          العاشر ان يُعتَبر بالصواب معنى الناموس المذكور في الكتب المقدسة. فإن لفظ الناموس مستعملٌ لمعانٍ عديدة في الكتاب المقدَّس فيدل في العهد القديم على قوانين اللاويين التي كان جزءٌ منها سياسيّاً وجزءٌ أدبيّاً وجزءٌ دينيّاً أما المومنون بالمسيح فقد خلصوا منها جميعها وإما في العهد الجديد فيراد بهِ قاعدة فرضنا الواجب علينا لله وللناس وهي التي أعلنت لموسى مندرجة في الوصايا العشر. وقد جمعها السيد لهُ المجد في هاتين الوصيتين المختصرتين وهما ان تحب الرب إلهك من كل قلبك وتحب قريبك كنفسك. ولا بد من كون هذه القاعدة فرضاً على كل نفسٍ عاقلة. ومع ان المؤمنين بالمسيح لا يعدُّون الالتزام بها وجهاً للتبرير والحيوة هي لازمةٌ لكل الناس إلى الأبد

          الحادي عشر ان يكون لهُ معرفةٌ صحيحة بالوظائف العبرانية والأعياد المقدسة

          الثاني عشر ان يكون للقارئ معرفةٌ بجغرافية الكتاب المقدس بحيث

يتصور مواقع المدن العظيمة والأقاليم المذكورة فيهِ

          الثالث عشر ان يعتبر علم تواريخ الكتاب المقدَّس الذي بهِ ينحدر نورٌ عظيمٌ على أجزاء كلمة الله وإن يعرف تواريخ الأزمنة المشهورة وهي هذه

(1) خليفة العالم سنة 4004 ق م

(2) الطوفان سنة 2348 ق م

(3) دعوة إبراهيم سنة 1921 ق م

(4) خروج بني إسرائيل سنة 1491 ق م

(5) بناءُ هيكل سليمان سنة 1012 ق م

(6) أسر يهوذا سنة 588 ق م

(7) ختام العهد القديم سنة 400 ق م

(8) خراب أورشليم سنة 70 ب م

(9) ختام تاريخ العهد الجديد سنة 100 ب م

الفصل الحادي عشر

في وظائف العبرانيين

          إن الآراء الصحيحة بالنظر إلى وظائف العبرانيين المتنوعة تفيد قارئَ الكتاب المقدَّس نفعاً جزيلاً. ولذلك أردنا ان نذكر من هذا القبيل ما يليق بهذا الكتاب فنقول

          أولاً ان الآباءَ أو البطاركة هم الذين عاشوا في الدهور السالفة واشتهروا لطول حياتهم. فآدم وشيث واخنوخ وغيرهم كانوا مشهورين قبل الطوفان. ونوح وبنوهُ اشتهروا بعدهُ. وأيوب وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأولادهُ كانوا أيضاً من أشهر آباءِ العهد القديم. وكانوا أصولاً لشعوبٍ عظيمة. ثم ان هؤلاءِ الآباءَ كانوا يسوسون عيالهم كأمراءَ وكهنة فإننا نرى في أيوب وإبراهيم مثالاً حسناً للسياسة الأبوية

          ثانياً ان الأنبياء كانوا أناساً أفاضل أقامهم الله بين الإسرائيليين ليكونوا خداماً لتدابيرهِ الإلهية وقد عاشوا واحداً بعد آخر في مدةٍ تنيف على ألف سنة. وكان أولهم موسى وآخرهم ملاخي. وجميعهم كانوا يسعون باتفاقٍ واحدٍ في مقاصد واحدة. وكانوا متحدين بروحٍ واحد ليعلّموا تعاليم واحدة ويتنبَّأُوا ببركاتٍ واحدة

لجنس البشر

          ثالثاً ان الكهنة كانوا معيَّنين لتقدمة الذبائح لله والتشفع إليه في الشعب. وقبل دعوة هرون كان الآباءُ والاخوة الأبكار والأمراءُ يقدمون الذبيحة أو كان كل واحدٍ منهم يقدّم عن نفسهِ كما يبان من تاريخ هابيل وقايين ونوح وأيوب وإبراهيم. وأما بعد خروج الإسرائيليين من مصر فكان الكهنوت بينهم مختصّاً بسيطٍ على ثلث درجات عظماءِ كهنة وكهنة ولاويين

          وكان عظيم الكهنة أعظم الأشراف بين الإسرائيليين لأنهُ بواسطتهِ كان يعلن الله إرادتهُ لبني إسرائيل. وكانت رتبتهُ ميراثاً في آل هرون والبكر ان لم يكن فيهِ عيب كان دائماً الكاهن العظيم وكان يتكرَّس باحتفالٍ عظيم ويخدم في الذبيحة اليومية بحللٍ فاخرة وعلى الخصوص في يوم الكفَّارة لأنهُ كان يلبس فيهِ صُدرةً ثمينة مرصَّعة بجواهر. وعلى تلك الجواهر قد نُقِشت أسماءُ أسباط بني إسرائيل الاثني عشر تنبيهاً لهُ بأنهُ يحمل على قلبهِ كل الجمهور لأن الزينة المقدسة كانت تذكاراً لهم قدام الرب. وكان الكاهن العظيم رمزاً عن المسيح وذلك بتعيينِه لوظيفتهِ وتقديسهِ وذبيحتهِ وشفاعتهِ في الشعب خر ص28 وص29 ولا ص16 وعب ص3 وص5 إلى ص10. والكهنة العوام كانوا كنايةً عن خدام الإنجيل

          وكان الكهنة أيضاً من عائلة هرون وكانوا خداماً من العامَّة للدين وفروضهم تقديم الذبائح اليومية وغيرها تحت مباشرة الكاهن العظيم والقيام بخِدَم الخيمة العديدة وترتيب رسوم الشعب الدينية كلها وتهذيبهم في سنَّة الله. وكانوا منقسمين إلى أربع وعشرين فرقةً تخدم في الهيكل أسبوعاً 1 أي ص24

          رابعاً ان اللاويين كانوا من نسل لاوي لا من آل هرون وكانوا ذوي درجة في الكهنوت أدنى من الكهنة ومساعديهم في أدنى قسمٍ من الخدمة المقدسة. وكانوا يومئذٍ في درجة شمامسة الإنجيل الآن. وهذه المرتبة السُفلى كان يتقلدها كل سلائل موسى. وهذا يدل على أنهُ لم يطلب الافتخار بل كان محركاً بالهداية

الإلهية. ثم ان اللاويين كانوا يتفرقون في البلاد معلمين وضُبَّاطاً للشعب. ولم يكن لهم من البلاد عقار إلاَّ ثمان وأربعين مدينة لأن الله كان ميراثهم وقد عيَّن لهم عشور أثمار الأرض جزاءً لخدمتهم بين الشعب عد 18: 2 إلى 22 و35: 1 إلى 8

          خامساً ان النثينيم أي الموهوبين كانوا خداماً متسلمين خدمة خيمة الاجتماع والهيكل وكانت وظيفتهم شاقَّةً لأنهم كانوا يجمعون الحطب ويستقون الماءَ. ويظن ان هؤلاءِ هم الكنعانيون الذين عُفِي عنهم ولم يُقتَلوا يش ص9 وعز 8: 20

          سادساً ان الناذرين كانوا منذورين لعبادة الله الخاصة على مدَّة أسبوع أو شهر أو سنة أو كل العمر. وقد كان شمشون ويوحنا المعمدان منذورَين منذ مولدهما والآخرون نذورا أنفسهم اختياراً عد ص6 واع 18: 18 و21: 23 إلى 26. والركابين كانوا أناساً من هذه الطبقة ار ص25

 

الفصل الثاني عشر

في أزمنة العبرانيين وأعيادهم

          ان من الضرورة اللازمة لقاري الكتاب المقدَّس المعتني بهِ ان يعرف أزمنة العبرانيين وفصولهم ولذلك يليق بنا ان نذكرها هنا فنقول. ان الإسرائيليين كان لهم يومان مختلفان أحدهما اليوم الطبيعي وهو من شروق الشمس إلى غروبها في اليوم الواحد ويُسمَّى عندنا نهاراً وقد قسمتهُ اليهود المتأخرون إلى اثنتي عشرة ساعة كما يظهر من يوحنا 11: 9. والثاني اليوم السياسيّ وكان يُحسَب عندهم من غروب الشمس إلى غروبها في اليوم التالي وهو المسمَّى عندنا يوماً. وفي أيام السيد المسيح كان يُقسَم الليل عندهم إلى أربعة أقسام متساوية كل قسم منها يسمَّى محرساً. فالمحرس الأول كان كناية عن الثلاث ساعات الأولى بعد المغرب. والثاني كان يبتدئُ من نهاية الأول وينتهي نصف الليل. والثالث كان يبتدئُ من نصف الليل وكان يقال لهُ

صياح الديك. والرابع كان يبتدئُ من نهاية الثالث وينتهي عند شروق الشمس. وكان يقال لهُ محرس الصباح

          وكان لهم أيضاً سنتان متغايرتان إحداهما للأمور السياسيَّة وهي الأصل عندهم. والأخرى للأمور الدينية. فالسنة السياسيَّة تبتدئُ من شهر ايثانيم الموافق شهر تشرين الأول. وقد أجمع رأي المدققين بأن هذا الحساب ابتدأَ منذ خلق العالم ودام إلى حين خروجهم من أرض مصر حينما أمرهم الله ان يحسبوا ابيب أو نيسان الشهر الأول تذكاراً لوقت خروجهم من العبودية خر 12: 2 و13: 4 ومن ثمَّ صار يُحسَب هذا الشهر رأس سنتهم الدينية

          وطريقة حساب الأشهر عند العبرانيين بخلاف طريقتنا لأنها بحساب الهلال تدقيقاً. ولذلك لا يمكن ان توازي شهورنا بالضبط لأن فيها شهراً تسعة وعشرون يوماً وشهراً ثلثون وهكذا على التوالي. وكانوا كل ثلاث سنين يضيفون شهراً إلى آذار يسمونهُ آذار الثاني وذلك لكي يساووا سنتهم بالسنة الشمسيَّة. وهذا جدولٌ في أسماء شهورهم الدينيَّة والسياسيَّة والأعياد الواقعة فيها وفي ما يوافقها من الأشهر العربيَّة

أشهر السنة الدينية عند العبرانيين والأعياد الواقعة فيها

ما يوافقها من أشهر سنتهم السياسية

ما يوافقها من الأشهر العربية

فصول السنة

(1) ابيب أو نيسان خر 12: 2 و18. و13: 4 واس 3: 7 ـ اليوم 14 منهُ ذبح خروف الفصح. و15 الفصح. و16 باكورة حصاد الشعير تُهدَى للرب. و21 نهاية الفصح

السابع

نيسان

ربيــــــع

(2) زيو 1 مل 6: 1

الثامن

أيار

(3) سيوان اس 8: 9 ـ اليوم 6 منهُ عيد الخمسين. وفيهِ تُهدَى للرب باكورة القمح

التاسع

حزيران

صيــــــف

(4) تموز حز 8: 14

العاشر

تموز

(5) آب

الحادي عشر

آب

(6) أيلول نح 6: 15

الثاني عشر

أيلول

خــريـــف

(7) ايثانيم 1 مل 8: 2 اليوم 1 منهُ عيد الأبواق. و10 يوم الكفارة. و15 عيد المظالّ. و22 نهاية هذا العيد

الأول

تشرين 1

(8) بُول 1 مل 6: 38

الثاني

تشرين 2

(9) كسلو زك 7: 1 ـ اليوم 25 منهُ عيد تكريس الهيكل

الثالث

كانون 1

شــــتاء

(10) طيبيت اس 2: 16

الرابع

كانون 2

(11) شباط زك 1: 7

الخامس

شباط

(12) آذار اس 3: 7 ـ اليوم 14 و15 منهُ عيد الفوريم اس 9: 18 إلى 21. ويتلو هذا الشهر كل ثالث سنة آذار الثاني

السادس

آذار

ربيـــع

وأما من حيث بقيَّة الرسوم والعوائد فنقول ان ذبائح العبرانيين كانت لمقاصد عديدة. والحيوانات التي عينها الله لذلك كانت خمسة أنواع البقر والغنم والمعزى والحمام واليمام

          وكانت الذبيحة اليوميَّة مشهورةً جدّاً وهي خروفٌ بلا عيب يُقدَّم وقوداً لله كفَّارةً عن الخطايا. وذلك كل يومٍ صباحاً ومساءً طول السنة. وقبل ذبح الخروف كان الكاهن يعترف بخطايا الشعب كلهِ فوق الخروف وينقل الخطيَّة إليهِ بواسطة وضع وكلاءِ الشعب أيديهم على رأسهِ ثم يذبحهُ ويقرّبهُ وقوداً عنهم. وفي أثناء ذلك تسجد الجماعة في الدار وتبخّر الكهنة على المذبح الذهبي ويقدّمون الطلبات لله عن الشعب

          وأما الأعياد والمواسم الاحتفالية فهي أولاً يوم السبت الذي كان عندهم أعظم الأعياد المقدَّسة. وهو اسمٌ عبرانيٌّ لليوم السابع من السُبَّة معناهُ الراحة لأن الله استراح فيهِ من جميع عملهِ. وهذا اليوم كان منذ بدءِ العالم مُفرَزاً للعبادة ثم اعتُبِر عند اليهود بأمرٍ خصوصي يوماً مقدساً يعيدون فيهِ لله. وقد أُمِروا ان يقدسوهُ لمقاصد مقدسة كرامةً لله خالقهم وتذكاراً لعتقهم من عبودية أُمِروا ان يقدسوهُ لمقاصد مقدسة كرامةً لله خالقهم وتذكاراً لعتقهم من عبودية المصريين. وكانت تتضاعف فيهِ الذبيحة فيهِ الذبيحة اليومية فيقرّبون كل دفعة خروفين خر 29: 38 إلى 42 ولا 6: 9 وعد 28: 3 إلى 10

          ثانياً الفِصح وهو أول الأعياد السنوية اليهودية. وقد عُيِّن تذكاراً لحفظ العبرانيين ليلة خلاصهم من العبودية عندما قتل الملاك بكر كل بيتٍ من المصريين وتجاوز عن بيوت إسرائيل إذ كانت أساكف أبوابهم مضرَّجة بدم خروف الفصح الذي ذُبح مساءً. وتلك الليلة كانت ختام الأربعمائة والثلثين سنة لسكنى العبرانيين في مصر من زمان إبراهيم تك 15: 13 و14 وخر 12: 41 و42 وكانت ليلة اليوم الرابع عشر من شهر أبيب أي نيسان العربي. خر 12: 2 إلى 18 و23: 15

          وقد كان الفصح رمزاً عن مخلصنا لهُ ولذلك يقول الرسول قد ذُبح

المسيح فصحنا 1 كو 5: 7 خروف الفصح السالم من العيوب كنايةً عن طهارة قلبهِ وسيرتهِ الخالية من الدنس. فإذاً افتُدِي المسيحيون لا بأشياءَ تفنى بفضة أو ذهب بل بدمٍ كريمٍ كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح 1 بط 1: 18 و19 فكما ان الإسرائيليين عُفِي عنهم وخلصوا برشاش الدم وأكل خروف الفصح هكذا يغتنم المسيحيون الخلاص بأكل لحم ودم المسيح بالإيمان يو 6: 52 إلى 62

          ثالثاً ان عيد البندِيكُستي أي الخمسين الذي كان يُعيَّد في اليوم الخمسين بعد ثاني الفصح. وكان يُدعَى أيضاً عيد الحصاد لأنهُ كان عند نهاية حصاد القمح الذي كانت باكورة للرب رغيفين من أنقى الدقيق مع ذبائح وشكر وسرور. وأما الذبيحة في هذا العيد فكانت سبعة حملان حوليَّة وعجلاً وكبشين مُحرَفة وخروفين ذبيحة سلامة وماعزاً ذبيحة خطيَّة لا 23: 15 إلى 17

          انهُ لمستحق الاعتبار ان هذا العيد وقع في يوم الرب من السنة التي صُلِب فيها المخلص عندما حلَّ الروح القدس على التلاميذ وجهزهم تجهيزاً عجيباً لتقرير ملكوت المسيح واهتدى بواسطتهم ثلثة آلاف في وقتٍ واحد إلى كنيستهِ

          رابعاً عيد المظالّ الذي كان يُعيَّد عند نهاية اجتناءِ كل الأثمار في آخر السنة تث 16: 13 وذلك للاعتراف بوجود الله الفائض في تتويجهِ السنة ببركاتِه. وكان المقصود بهِ تذكار رحمة الله في حمايتهِ للإسرائيليين في البرية. ولذلك كانوا يسكنون في هذا العيد سبعة أيامٍ في خيامٍ من أغصان الشجر تذكاراً لسكن آبائهم الأولين في البرية. وكان الشروع بهذا العيد من اليوم الخامس عشر من شهر ايثانيم الموافق تشرين الأول وهو أول شهرٍ من شهور السنة السياسيَّة. وفي غرّة هذا الشهر تعيَّن لهم عيدٌ يقال لهُ عيد الأبواق أو الانتصار وأصوات الفرح. واليوم العاشر منهُ يوم الكفارة لا 23: 27 و34 إلى 43 وتث 16: 13 إلى 15. وهذا العيد كان واحداً من الثلثة أعياد التي كان كلّ ذكَرٍ فوق الاثنتي عشرة سنة من عمرهِ ملتزماً بالحضور فيها أمام الرب وهي الفصح والبنديكستي والمظالُّ في هيكلهِ تث 16: 16

          خامساً رؤُوس الشهور أو الأهلَّة وهذه كانت تُحفَظ بتعييدٍ حافل وقد عُيّن لها ذبائح خصوصية كانت تُصحَب بتبويق الكهنة بأبواق الفضة عد 10: 10 و28: 11 إلى 15

          سادساً يوم الكفارة وهو اليوم العاشر من شهر ايثانيم الموافق تشرين الأول وهذا اليوم كان ممتازاً بالذبيحة السنوية الشريفة جدّاً. وذلك أنهُ بعد ان يقرّب الكاهن ثوراً كفارة لخطايا عائلتهِ يقرب ماعزين كفارةً لخطايا الشعب. وكانت كيفية الذبيحة فيهِ ان الكاهن العظيم بعد اعترافهِ بخطايا الشعب فوق رأس الماعزين بذبح أحدهما ويقربهُ وقوداً كما في الذبيحة اليومية وأما الآخر فيُؤْخَذ حاملاً خطايا الشعب إلى البرية ولا يعود يُرَى لا ص16. وصورة الاعتراف يوم الغفران على حسب استعمال المعلمين عند العبرانيين كانت هكذا. يا رب ان شعبك بني إسرائيل قد فعلوا السوءَ وأخطأُوا أمامك فألتمس منك الآن ان تعفو عن الخطايا والآثام والذنوب التي ارتكبها وأساءَ واثم بها أمامك الشعب بيت إسرائيل كما هو مكتوبٌ في ناموس عبدك موسى أنهُ في ذلك اليوم يقيم لكم كفَّارةً لينقيكم ولتطهروا من جميع آثامكم أمام الرب. وقيل ان رسم الاعتراف عند تقديم الذبائح الخاصة كان هكذا يا رب إني أخطأْت واثمت وعصيت ولكني راجعٌ بالتوبة إليك وعسى ان يكون ذلك كفارةً لي

          سابعاً سنة العُطلة وهي كل سنةٍ سابعة عندهم ويقال لها سنة الإطلاق أيضاً. وكما كان السبت يدل على ان الشعب شعب الله فكانوا يمتنعون عن أعمالهم ليعملوا ما يختص بالله هكذا كانت سنة العُطلة عندهم لتنبّههم أنهم هم وأرضهم للرب. وكان حفظ هذا العيد محصوراً في أمرين أحدهما ان لا تُحرَث الأرض ولا يُقضَّب الكرم. ومن ثَمَّ كان يقال انهُ سبت الأرض لا 25: 6. والثاني العفو عن المديونين وترك الديون لهم تث 15: 2 إلى 9. ولذلك كان يُسمَّى ابراءً للرب. ولأجل نزع الخوف من الجبان وعد الله ان يفيض خيراتهِ في السنة السادسة فتثمر الأرض غلَّة ثلث سنين لا 25: 20 إلى 22. وكانت التعاليم الدينيَّة

تُعلَّم للخُدَّام والمساكين خاصةً في هذه السنة. وذلك لكي تدوم معرفة الله وخشيتهُ بين الشعب تث 31: 10 إلى 13

          ثامناً اليوبيل ومعناهُ الهُتاف وهذا كان عندهم عام الراحة الأكبر وقد تعين تعييدهُ كل خمسين سنة بعد مضي سبع سنين من سنوات العُطُلة المذكورة. وكان في هذا العيد إطلاق عامٌّ ليس للديون فقط بل للعبيد والأسارى والأراضي والأملاك المبتاعة أو المرتهنة. وكانت البشارة بهذه المدَّة المفرحة تُطلَق مساءَ يوم الكفارة. وقد عُيّن هذا الزمان بغاية الحكمة حتى ان الأغنياء والمظلومين كانوا يستعدُّون ليغفروا كل ذنوب اخوانهم ويتركوا ديونهم بعد ان يلتمسوا لأنفسهم الغفران من الله. وكان بعد ان يحصل الصلح مع الله بذبائِح الاستغفار يُستحسَن اشهار الحرّية والفرح في البلد. والقصد بهذا التعيين كان سياسيّاً ورمزيّاً. أما كونهُ سياسيّاً فلأنهُ قُصِد بهِ منع ظلم المساكين وعتقهم من العبودية المستمرة. وبهذه الواسطة كانت تمتنع الأغنياء من امتلاك كل الأملاك العقارية فيحصل نوع مساواة بين عشائرهم جميعها. وبهذه الواسطة أيضاً كان يُحفَظ امتياز الأسباط بالنظر إلى املاكهم وعيالهم. ومن هذا تَحقَّق جليّاً من أي سبطٍ وعشيرةٍ تسلسل المسيح. وإما كون هذا اليوبيل رمزيّاً فذلك يظهر من نبوة اشعيا بصفة المسيح ووظيفتهِ ص61 ولو 4: 17 إلى 21. فإن كل العبارات التي يقولها النبي في هذا الشأن يشار بها ظاهراً إلى بركات اليوبيل. وأما معناها الباطن التام فإنهُ يعود إلى بركات الإنجيل الواسعة التي تعلن إطلاقاً روحيّاً من رباط الخطية والشيطان جميعاً وحرّيةً في الرجوع إلى ميراثنا السموي بيسوع المسيح وسنداً لاستغنائنا بكنوز نعمتهِ على الأرض استعداداً لإحراز المجد العلويّ

الفصل الثالث عشر

في جغرافية الكتاب المقدَّس ولا سيما العهد القديم

ان أكثر البلاد المذكورة في العهد القديم ما عدا مصر واقعةٌ في الحد الغربي من برّ أَسيَّا. وفي هذا الرُبع من العالم خُلِق الإنسان وفيهِ سكنت الآباءُ الأولون الذين كانت أعمارهم طويلة. وكذلك سلائل نوح إلى زمان طويل بعد الطوفان. وفيهِ تأَسست وزهت ممالك آشُّور وبابل وفارس. وفيهِ أيضاً توجد خرائب القصورِ العظيمة وآثار الأبنية المنيعة التي لا تزال تُرَى في بلاد الممالك الآشُّوريَّة والبابليَّة والفارسيَّة والسوريَّة وهي تشهد شهادةً صريحة لكثرة سكانها القدماءِ وعظمة غناهم وتؤَيّد الاخبار العجيبة المنقولة لنا عنهم من مؤرخين قدماءَ مختلفين

          ان الفردوس أو جَنَّة عدن يقال أنهُ كان في بلاد الأرمن بالقرب من نهر الفرات المشهور. والبلدان الكبيرة المذكورة في كتب العهد القديم هم فلسطين أو أرض اليهودية. والشام ومن داخلها فينيقية. وآسيَّا الصغرى وتُدعَى الآن أناضول. وما بين النهرين. وبابل أو كلدية أي أرض الكلدانيين. وآشُّور. وبلاد العرب. ومصر وهي في افريقيا

          وآسيَّا مشهورةٌ بأنها أفضل من افريقية كثيراً بل من أوروبا أيضاً بصفاءِ هوائها وصحتهِ وطيب أرضها وجودة تربتها فإنها تثمر ألذَّ الفواكه وتنبت أحسن النباتات البَلَسانية والصموغ والعطور لكن الكتب المقدسة تذكر غالباً الحوادث التي جرت في فلسطين لأن فيها زهت مملكة إسرائيل ويهوذا وفيها بني سليمان هيكل الله وفيها كُتِب أكثر الكتب المُلهَم بها. وفيها أكمل يسوع المسيح كل الأمور الضروريَّة لخلاص البشر. ومنها انطلق رسل المسيح بحسب أمرهِ إلى جميع الأمم لكي يبشروا بإنجيل الخلاص ويهدوا الخطاة من كل سبطٍ إلى ملكوتهِ السماوي

          ويقال لهذه الأرض كنعان أيضاً تسميةً باسم كنعان بن حام بن نوح الذي

سكنها أولاً هو ونسلهُ. وحدودها شمالاً جبل لبنان وشرقاً نهر الأردن والبحر الميت. وجنوباً برية صين وغرباً بحر الروم وكان يتبعها بلاد حوران وهي إلى الشرق منها حيث كان يسكن سبطان ونصف من الإسرائيليين وطولها مقدار مئَة وخمسين ميلاً. وعرضها من شطوط بحر الروم إلى الحد الشرقي نحو خمسين ميلاً. وقد تُسَمَّى هذه الأرض بأسماءِ أُخر ذات معانٍ هي علَّة التسمية فتُدعَى أرض الميعاد لأن الله وعد بها إبراهيم وزرعهُ. وفلسطين من الفلسطينيين الذين سكنوا ساحل البحر إلى الجنوب من مدينة يافا. واليهودية لأن سبط يهوذا كان ممتلكاً أكبر قسمٍ فيها. وتدعى أحياناً الأرض المقدسة بسبب الأمور المذكورة لها في الكتب المقدسة ولا سيما أنها محلُّ خدمة المسيح وخضوعهِ وموتهِ وقيامتهِ لخلاصنا الأبدي

          وقد انقسمت هذه الأرض بين أسباط إسرائيل الاثني عشر. فامتلك رأُويين وجاد ونصف منسَّى الجزءَ الواقع إلى شرقي الأردن وهو يمتدُّ من جنوبي بحر لوط إلى جبل الشيخ شمالاً. وبقية الأسباط الأرض الواقعة إلى غربي الأردن وكان نصيب يهوذا الجزءُ الجنوبي منها. وهو يمتدُّ من بير سبع إلى مدينة أورشليم طولاً ومن بحر الروم إلى بحر لوط عرضاً. وإلى الشمال منهُ سبط بنيامين. وإلى الشمال من بنيامين سبط افرايم ويُعرَف الآن بجبل نابلس. وإلى الشمال من افرايم كان نصف منسَّى ويسَّاكر والأرض المعروفة الآن بمرج ابن عامر كانت القسم الأكبر من ملكها. وعلى الطرف الشمالي من الأرض كان اشير وتُعرَف أرض ملكهِ الآن ببلاد بشاره. وإلى الشرق منهُ نفتالي وأرضهُ تسمَّى الآن بلاد صفد ومرج عيون. وبينهُ وبين يسَّاكر كان زبلون وتُعرَف بلادهُ الآن ببلاد الناصرة. وإما سبط شمعون فكان متفرّقاً في سبط يهوذا. وسبط دان قسم منهُ سكن في يافا ونواحيها وقسم في الحولة ونواحيها

          وعند استتمام عمل الفداءِ انطلق الرسل إلى العالم أجمع ليبشروا كل الخليقة بالإنجيل. وتمام خدمتهم يفتح لنا باباً جديداً في الجغرافية كما سيأتي الكلام في الجزءِ

الثالث من هذا الكتاب

 

جدول يتضمَّن مقدار وارتفاع أو انخفاض بعض الأماكن من الأرض

المقدسة عن بحر الروم من الأقدام

 

 

 

 

 

 

 

 

أسماءٌ

أقدام

 

أسماءٌ

أقدام

 

جبل حَرْمون وهو جبل الشيخ

9500

 

دمشق

2400

 

فم الميزاب

9500

 

أورشليم

2400

 

صنين

8500

 

وادي قدرون

2100

 

جبل القديسة كاثرين أو جبل موسى وهو بالقرب من طور سينا

8500

 

برية فاران

2000

 

جبل سينا

7000

 

شكيم

1750

 

جبل هور

5000

 

جبل تابور

1700

 

جبال موآب

3000

 

جبل الكرمل

1500

 

حبرون

2600

 

الناصرة

800

 

جبل الزيتون

2550

 

قيصرية فيلبس وهي بانياس

500

 

جبل جرزِّيم

2500

 

سهل يزرعيل وهو مرج ابن عامر

400

 

بيت لحم

2500

 

مياه ميروم وهي بحرة الحولة

100

 

صفد

2500

 

 

 

 

 

 

 

الأماكن التي هي أخفض من بحر الروم

 

 

 

 

بحر الجليل

300

 

 

 

 

بحر لوط

1300

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع عشر

في مختصر تاريخ الكتاب المقدَّس وقد قسمناهُ إلى تسعة أقسام

 

القسم الأوّل

في ما جرى بين خَلْق العالم والطوفان

          اعلم ان خلق العالم تك ص1 كان أربعة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح. والمدَّة التي بها أبدع الله جميع المخلوقات التي فيهِ كانت ستة أيام. أما اليوم الذي بهِ خُلِق آدم الإنسان الأول فكان اليوم السادس. وقد صنعهُ الله على صورتهِ تعالى وأعطاهُ سلطاناً على سائر المخلوقات ووضعهُ في الفردوس الأرضي الذي يُدعَي أيضاً جَنَّة عدن مع حوَّاءَ امرأتهِ التي كانت قد صُنِعت من ضلع من أضلاعهِ تك ص2. ولو أنهما ثبتا في برارتهما وحفظا شريعة الله التي أعطاهما إياها لكانا قد عاشا هناك بالسعادة الفائقة ولكنهما قد سقطا في العصاوة تك ص3 بواسطة تجربة الشيطان وكسرا وصية الله لهما بأن لا يأكلا من ثمر الشجرة التي في جنة عدن التي تُسمَّى في الكتاب المقدس شجرة معرفة الخير والشر. ففقدا بهذا السقوط برارتهما وسعادتهما معاً وصارا تحت طائلة الموت فطردهما الله من الفردوس الأرضيّ. ودخل إلى العالم بسبب هذا السقوط الخطية والموت. ولولا حنو الله على الجنس البشريّ لكان دام في حالة الشقاوة إلى الأبد. لكن الله حالاً وعد ان نسل المرأَة يسحق رأس الحيَّة أي ان البشر يُنقَذون من الخطية والموت وسلطان الشيطان بواسطة يسوع المسيح الذي سيُولَد من عذراءَ

          ان موسى يخبرنا في سفر التكوين ص4 و5 عن أولاد آدم ونسلهِ ونرى من تاريخ هذه الاعصار ان حيوة البشر كانت حينئذٍ أطول ممَّا هي الآن إذ كانوا يعيشون عدة مئَات من السنين. ونتعلم أيضاً من هذا التاريخ ان الخطية ابتدأَت ان تتسلط في العالم حالاً بعد الخليقة. فإن قايين بن آدم قتل أخاهُ هابيل وكان لهُ نسل شرير. ومع ذلك كان يوجد قوم يعرفون الله ويعبدونهُ

خصوصاً في عائلة شيث أحد أولاد آدم. وكان من هؤلاءِ البطاركةُ الذين كان أحدهم اخنوخ الذي تخبرنا عنهُ الكتب المقدسة بأن الله قد نقلهُ من هذا العالم بدون ان يرى الموت مظهراً بذلك سرورهُ بهِ لأجل تقواهُ ومعطياً برهاناً للعالم بأنهُ توجد مكافأة بعد هذه الحيوة للذين يعيشون لمجدهِ. غير أنهُ على كرور الزمان فسد نسل شيث أيضاً تك ص6 وص7 واختلطوا مع الأشرار. فامتلأَت الأرض من الجرائِم. وطمى الفساد وعمَّ وجه الأرض حتى أرسل الله الطوفان وأهلك جميع العالم بهِ ما عدا نوحاً وعائلتهُ لأنهُ كان يخاف الله. وكانت نجاتهُ من هذه الداهية بواسطة فُلك كان قد بناهُ بأمرهِ تعالى وأوى إليهِ حين أتى الطوفان. وإما تاريخ هذا الطوفان فإنهُ محفوظ ليس في الكتب المقدسة فقط بل بين طوائف العالم المتنوعة وقد ترصعت بهِ تواريخ قديمة كثيرة العدد. وقد كانت هذه الحادثة في سنة ألف وستماية وست وخمسين بعد خلق العالم

 

القسم الثاني

في ما جرى بين الطوفان ودعوة إبراهيم

          ولمّا خرج نوح من الفلك بعد الطوفان تك 8 و9 أقام الله معهُ عهداً وثبَّت أيضاً ناموس الطبيعة لإرجاع البشر من الشر والفساد. وكان لنوح ثلاثة أولاد تك 9 و10 سام وحام ويافث الذين منهم كانت فيما بعد جميع قبائل الأرض. فنسل سام استقرَّ خصوصاً في آسيا ونسل حام تشتت في أفريقيا ونسل يافث في أوروبا. وهذا هو أصل كل الشعوب على وجه الأرض كما يُرَى ذلك بالتفصيل من الاصحاح العاشر من سفر التكوين

          ثم انهُ بعد الطوفان ببرهةٍ من الزمان تك ص11 عزم نسل نوح على بناءِ برج بابلٍ غير ان الله بلبل ألسنتهم حتى صاروا غير قادرين ان يفهم أحدهم لغة الآخر فتبدَّدوا إلى أقاليم شتَّى. وفي نحو هذا الوقت انتشرت الديانة الوثنية في العالم حتى عمَّت وجه الأرض فشاءَ الرب ان يختار لهُ شعباً لأجل حفظ الديانة

الحقيقة بينهم. ولأجل هذه الغاية دعا إبراهيم الذي كان ساكناً في مدينة أور الكلدانيين وأمرهُ ان يترك أرض ميلادهِ. واصطفاهُ لكي يعبدهُ ويخافهُ وأمرهُ ان يذهب إلى أرض كنعان واعداً إياهُ بأنه يكثر نسلهُ ويعطيهِ إياها ميراثاً وان المسيح سيولد من ذريتهِ. ودعوة إبراهيم هذه كانت نحو أربعماية وسبع وعشرين سنة بعد الطوفان

 

القسم الثالث

في ما جرى بين دعوة إبراهيم وخروج بني إسرائيل من أرض مصر

          وبعد ما أتى إبراهيم إلى أرض كنعان تك ص12 الخ مكث هناك مدَّة من الزمان مع لوط ابن أخيهِ ولم يكن لهُ ولد. وكان يسكن الأرض في ذلك الوقت قبائل الكنعانيين الذين كانوا وثنيين وإشراراً للغاية وعلى الخصوص سكان سدوم حيث سكن لوط تك ص19. وقد توغل هؤلاءِ في ارتكاب المعاصي والذنوب التي هي أقبح وأسمج ما يكون حتى ان الباري سبحانهُ وتعالى أخرج من بينهم لوطاً وامرأتهُ وبناتِهِ وأنزل ناراً من السماءِ على سدوم وعمورة وأحرقهما مع سكانهما وجميع الأراضي المجاورة وصير الكلَّ رماداً وجعل تلك الدائرة بحراً لم يزل موجوداً إلى يومنا هذا وهو المعروف ببحر لوط

          ولما صار إبراهيم ابن ماية سنة ولد ابنهُ اسحق بقوةٍ فائقة الطبيعة تك ص21. واسحق ولد يعقوب. ويعقوب كان لهُ اثنا عشر ابناً الذين صاروا رؤَساءَ أسباط إسرائيل الاثني عشر. وقد اشتهر بين هؤلاءِ الأسباط سبط لاوي الذي كان منهُ الكهنة وخدام الأمور الدينية. وسبط يهوذا الذي كان أشدَّ بأساً من الجميع وقد صار صاحب السلطة الملوكية زماناً طويلاً. وقد حفظهُ الله إلى مجيءِ الرب يسوع المسيح الذي وُلِدَ منهُ

          أما يوسف أحد أولاد يعقوب فقد حسدهُ اخوتهُ وأبغضوهُ وباعوهُ للاسمعيليين وهؤلاء أنزلوهُ إلى مصر وباعوهُ هناك عبداً لكن الله قد رفَّعهُ إلى

أعلى منصب في تلك البلاد بواسطة ملكها وبعد ذلك بمدَّةٍ من السنين اضطرَّ يعقوب أبوهُ بسبب الجوع الذي حدث في أرض كنعان ان ينزل إلى مصر ويتغرَّب هناك مدَّةً من الزمان مع عائلتهِ وقد ظنَّ البعض أنهُ في هذا الوقت عاش أيوب الذي قد اشتهر في تقواهُ وصبرهِ في البلايا

          وبعد موت يعقوب ويوسف نما بنو إسرائيل في أرض مصر وتكاثروا جداً خر ص1 الخ حتى ان الملك فرعون امتلأَ غيرةً عليهم واجتهد على إبادتهم. وفي تلك الأثناء قام موسى بأمر الله لخلاصهم وبعد ان عمل عجائب كثيرة وضرب المصريين بعشر ضَرَباتٍ جعل فرعون يطلق بني إسرائيل. فخرجوا حينئذٍ من أرضهِ وكان ذلك في سنة أربعماية وثلاثين من دعوة إبراهيم

 

القسم الرابع

في ما جرى بين خروج بني إسرائيل من أرض مصر وبناء هيكل سليمان

          ولمَّا خرج بنو إسرائيل من أرض مصر عبروا البحر الأحمرَ كما في أرضٍ يابسة خر ص12 وص14. وأما فرعون فاتَّبعهم وحاول ان يعبر وراءَهم فغرق في البحر هو وكل جيشهِ. وبعد نجاتهم من أرض مصر بخمسة وأربعين يوماً وصلوا إلى جبل سيناءَ وهناك أعطاهم الله الوصايا العشر خر ص20 الخ. ثم أعطاهم عن يد موسى الشرائع السياسية ثم الطقسية لكي يمارسوها ويسلكوا بموجبها. ولم يدع الله الإسرائيليين ان يدخلوا أرض كنعان حالاً بل بقوا في البرية أربعين سنة وكان موسى قائداً لهم طول هذه المدَّة

          وبعد انقراض هذه الأربعين سنة مات موسى وخلفهُ يشوع بن نون يش ص1 الخ. وهو حارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان وتغلَّب عليهم وأعطى أرضهم ملكاً للإسرائيليين. ثم مات يشوع وانتقل الحكم إلى القضاء الذين كان الله يقيمهم من وقت إلى آخر إلى ان أفرز لهم شاول بن قيس ملكاً عليهم عن يد صموئيل النبيّ الذي كان القاضي الأخير. وبعد موت شاول

الملك الأول ملك داود بن يسى الذي كان نبيّاً أيضاً. ولما مات داود خلفهُ ابنهُ سليمان الذي بنى هيكل أورشليم في سنة أربعماية وثمانين من خروج بني إسرائيل من أرض مصر أي نحو ألف سنة قبل مجيء يسوع المسيح

 

القسم الخامس

في ما جرى بين بناء هيكل سليمان وسبي بابل

          وبعد موت الملك سليمان جلس ابنهُ رحبعام على تخت المملكة 1 مل ص12 الخ. غير ان عشرة أسباط عصوا عليهِ وخلعوا طاعتهُ واستقلوا بذواتهم وبقي تحت سلطتهِ سبطان فقط وهما يهوذا وبنيامين وهكذا انشقت مملكتهُ إلى اثنتين إحداهما تُدعَى مملكة إسرائيل وهي المؤَلفة من العشرة أسباط الذين عصوا والأخرى تُدعَى مملكة يهوذا وهي المؤَلَّفة من السبطين اللذين بقيا خاضعين لرحبعام

          أما مملكة إسرائيل فدامت نحو ميئَتين وخمسين سنة وكان أول ملوكها يربعام. وإذ خاف هذا الملك من ان رعاياهُ يرجعون إلى طاعة رحبعام ملك يهوذا إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفاليَّة ليعبدوا الله في الهيكل وليقربوا ذبائحهم هناك أقام عبادةً كاذبة في مملكتهِ. فصنع للشعب عجلين من ذهب وعبدوهما تحت اسم إله إسرائيل. ورتب لهم أيضاً أعياداً احتفاليَّة وكهنةً وهكذا صارت ديانة مملكة إسرائيل وثنيَّة. ودامت هذه الديانة مدَّة حكمهِ وحكم خلفائهِ. فكان كل ملوك إسرائيل وثنيين متمسكين بالديانة الكاذبة التي أسسها يربعام. فأرسل الله إليهم أنبياءَ كثيرين لكي يرجعهم عن خطاياهم وليبقي بينهم معرفة ذاتهِ الحقيقية. وكان أعظم هؤلاءِ الأنبياءِ ايليَّا الذي تنبأَ في أيام اخآب الذي كان من أشر ملوك إسرائيل. ثم خرجت هذه المملكة وأُسلِمَت قصبتها مدينة السامرة في أيام هوشع آخر ملوكها بيد شلمناصر ملك آشُّور الذي سبى العشرة أسباط إلى مملكتهِ 2 مل ص17 ومن هناك تبدَّدوا إلى ممالك شتَّى ولم

يعودوا يتوطنوا أيضاً في أرضهم البتة

          وأما مملكة يهوذا فدامت مئَة وثلاثين سنة بعد انقراض مملكة إسرائيل وكانت قاعدتها أورشليم التي كان فيها هيكل سليمان المُقام لعبادة الإله الحقيقيّ. غير ان العبادة الوثنيَّة قد دخلت إلى هذه المملكة أيضاً ولذلك أقام الله لهم أنبياءَ من وقت إلى آخر لكي يوبخوهم على هذه الأضاليل والخطايا ويتهددوهم بقصاصهِ المريع ويتنبأُوا لهم بمجيءِ المخلص الرب يسوع المسيح وكان إِشَعْيَاء أعظم هؤلاءِ الأنبياء. وقام أيضاً بينهم عدة ملوك صالحين كيهوشافاط وحزقيَّا ويوشيَّا وغيرهم وكانوا يجتهدون على ملاشاة الديانة الوثنية غير ان الشعب لم يرجعوا عن خطاياهم 2 مل ص25. وبعد ان تهددهم الله زماناً طويلاً وأدَّبهم بضَرَباتٍ شتَّى بأيدي الملوك الذين حولهم أباد أخيراً مملكتهم. وكان ذلك بيد نبوخذناصَّر ملك بابل الذي أتى وحاصر أورشليم في أيام صدقيَّا آخر ملوك يهوذا وتغلَّب عليها. وأحرق المدينة والهيكل بالنار وسبي الشعب إلى بابل. وكان ذلك في سنة أربع مئَة وعشرين من تأسيس هيكل سليمان وخمس مئَة وثمانين قبل ميلاد مخلصنا

 

القسم السادس

في ما جرى بين سبي بابل وميلاد المسيح

          ان سبي بابل دام سبعين سنة كما تنبَّأَ عنهُ إِرْمِيَا النبي انظر ار 25: 11 و12 وبعد انقراض هذه المدَّة رجع اليهود إلى أوطانهم بأمر كورش ملك الفرس تحت يد زربَّابل القائد د1 9: 2 وعز ص2 الخ ورخَّص لهم هذا الملك بإعادة بناءِ هيكل أورشليم غير أنهم انعاقوا عن ذلك لسبب التعرُّض الذي حصل لهم من الأمم التي حولهم وتأَخَّر هذا العمل إلى أيام داريوس ملك الفرس الذي أصدر أمراً بإعادة بناءِ الهيكل وممارسة عبادة الله. وفي هذا الوقت قام النبيَّان حجي وزكريَّا وكان يحثانهم على العمل. وبعد مضي عدَّة سنين قدم نحميا

إلى اليهودية بأمر الملك ارتحشستانح ص1 الخ وسعى ببناءِ أسوار أورشليم ورتب أمورها السياسية. وكانت المدَّة من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها في ملك ارتحشستا إلى موت المخلص سبعين أسبوعاً من السنين وذلك كناية عن أربع مئَة وتسعين سنة وهذا كان طبق نبوة دانيال النبي انظر دا 9: 24 ومت 24: 15 ولو 21: 20

          وبعد رجوع اليهود إلى بلادهم خضعوا مدَّةً إلى ملوك الفرس ثم إلى ملوك سوريَّا. وكانوا عُرضةً لمظالم شتى. والظلم الأخير والأشدُّ الذي أصابهم كان من الملك انطيوخوس الذي سلب الهيكل ودنسهُ وكان يعذب اليهود ويغتصبهم على ترك ديانتهم واتَّباع مذهبهِ كما نتعلم عن ذلك من كتب التواريخ. وهذا الملك هو الذي اضطرَّ متاثياس مقابيوس وكثيرين من اليهود ان يتعاهدوا معاً على الجهاد لأجل حفظ ديانتهم وحريتهم. وقد ظفروا مرات كثيرة بواسطة شجاعة القائدين يهوذا وأخيهِ يوناثان ابني متاثياس. وبعد ان استرجعوا حرّيتهم وأعادوا ممارسة طقوس ديانتهم خضعوا زماناً طويلاً لحكم الكهنة الذين خلفوا يهوذا ويوناثان وكانوا يُلقَّبون ملوكاً وهؤلاءِ هم المعروفون بالاسمونيين. وأخيراً تغلَّب عليهم الرومانيون وأقاموا هيرودس ملكاً على اليهودية وفي أيام ملكهِ أتى المخلص يسوع المسيح إلى العالم

 

القسم السابع

في ميلاد ربنا يسوع المسيح وحياتهِ وموتهِ وقيامتهِ وصعودهِ إلى السماءِ

          ولمَّا جاءَ ملءُ الزمان المعين عند الله أرسل ابنهُ يسوع المسيح إلى العالم مولوداً من مريم العذراء في بيت لحم اليهودية. وقد جرت حينئذٍ حوادث كثيرة جعلت ميلادهُ عجيباً. ولكن لم يُظهِر نفسهُ حالاً لليهود ولم يشرع في ممارسة خدمتهِ قبل ان بلغ ثلاثين سنة من العمر وتعمد من يوحنا المعمدان سابقهِ. والبشائر الأربع المعروفة بالأناجيل تحتوي على تاريخ حياتهِ. وهذا التاريخ يتضمن ثلاثة أمور

ينبغي التأمل بها بنوعٍ خصوصي وهي تعليم يسوع المسيح وعجائبهُ وطهارة حياتهِ

          أما التعليم الذي بشَّر بهِ فقد كان بغاية القداسة ومتَّجهاً بالكليَّة نحو مجد الله وخير الجنس البشري. وأما العجائب التي صنعها فهي كثيرة العدد وقد أظهر بها جودتهُ وقوتهُ غير المتناهية وجعلها برهاناً قاطعاً على أنهُ ابن الله وان تعليمهُ هو حقٌّ. وإما حياتهُ فكانت كلية الطهارة ويمكننا ان نرى فيها نَمُوْذج كل نوعٍ من الفضائل. ولا يستطيع أحد ان يدرك عظم محبتهِ وتواضعهِ الفائقين الوصف وغيرتهُ الحارَّة وعدم اهتمامهِ بأمور العالم

          وبعد ان عاش الرب يسوع نحو أربع سنين في هذه الحالة بين اليهود أماتوهُ مصلوباً في عيد الفصح لكنهُ قد قام في اليوم الثالث وأظهر نفسهُ لتلاميذهِ مراتٍ عديدة. وبعد قيامتهِ بأربعين يوماً صعد إلى السماءِ وجلس عن يمين الله الآب. ومن هناك أرسل الروح القدس إلى تلاميذهِ في يوم الخمسين

 

القسم الثامن

في وعظ الرسل وقيام الديانة المسيحية

          وبعد حلول الروح القدس على الرسل في مدينة أورشليم طفقوا يبشرون هناك بالإنجيل ويثبتون تعاليمهم بالمعجزات. وكانوا أولاً يبشرون اليهود الذين في اليهودية فقط. ولما أعلن لهم الله ان الديانة المسيحية ينبغي ان يُنادَى بها للجميع ذهبوا وبشروا بالإنجيل في كل العالم. وحيثما كانوا يتوجهون كانوا يصادفون قوماً من اليهود لأن هذه الطائفة كانت قد تشتت من زمانٍ طويل في بلدان عديدة. وكان الرسل يخاطبون أولاً هؤلاءِ اليهود المتشتتين كما نرى في سفر الأعمال وقد كتبوا إليهم أيضاً رسائل عديدة. على أنهم كانوا يدعون الأمم أيضاً إلى الإيمان بالإنجيل كما كانوا يدعون اليهود وعمدوا كلَّ الذين قبلوا هذه البشارة باسم الآب والابن والروح القدس. وإما جوهر التعليم الذي بشر بهِ الرسل وغيرهم من خدام يسوع المسيح فهو أنهُ يوجد إلهٌ واحد حقيقيّ فقط وهو

الذي خلق السموات والأرض. وان ذلك الإله الذي كان لم يزل غير معروف معرفةً حقيقية قد أعلن ذاتهُ للعالم في ذاك الوقت بواسطة يسوع المسيح ابنهِ. وإن يسوع المسيح قد مات مصلوباً بأيدي اليهود وقام من بين الأموات. وإنهُ هو مخلِّص العالم الوحيد وديَّان الجميع وكل الذين يؤْمنون بهِ ينالون السعادة الأبديَّة. وقد نجح هؤلاءِ الرسل بهذا التبشير نجاحاً عظيماً حتى أنهُ بسنين وجيزةٍ غُرِسَتْ الديانة المسيحيَّة في أكثر بلدان الدنيا

          وأما اليهود فهلكوا وطُرِدوا من أرضهم بعد موت مخلصنا بنحو أربعين سنة وأخذ الرومانيُّون مدينة أورشليم وهدموها مع الهيكل كما أنبأَ عن ذلك يسوع المسيح. وحلَّ على اليهود انتقام الله العادل وتبدَّدوا إلى كل العالم وما زالوا على هذه الحالة من ذاك الوقت إلى يومنا هذا

 

القسم التاسع

في جوهر الديانة المسيحية بالاختصار

          أنهُ لأجل التوصل إلى معرفة حقيقة هذه الديانة التي بشر بها الرسل يقتضي أولاً معرفة ما قد طلبوهُ من البشر وما قد وعدوا البشر بهِ

          أما الذي طلبوهُ من البشر فهو أمران وهما الإيمان وإصلاح السيرة أي أنهُ يجب على البشر أولاً ان يؤْمنوا بالله ويسوع المسيح وأن الأمم يتركون ديانتهم وعبادة آلهتهم الباطلة ويعبدون الإله الحقيقي وحده الذي خلق العالم وأن اليهود يقرُّون بيسوع المسيح أنهُ هو مسيَّا الموعود بهِ في الأنبياءِ وأن اليهود والأمم معاً يؤْمنون بأن يسوع المسيح أتى إلى العالم لأجل خلاص البشر بواسطة تكفيرهِ عن خطاياهم لكي ينقذهم من الدينونة والموت ويشتري لكل المؤمنين بهِ نصيباً في الحيوة الأبدية وأن يقبلوا تعاليمهُ بما أنها هي الحق ويثبتوا في الاعتراف بهِ. وثانياً ان الذين قد صرفوا حياتهم بالخطيَّة يجب ان يصلحوا سيرتهم وينبذوا خطاياهم التي كان أخصها الدعارة والنجاسة والسكر والقساوة والطمع والظلم

والكبرياء والنميمة ومحبة العالم ومحبة الذات. فجميع الذين صاروا مسيحيين رفضوا هذه الخطايا عند قبولهم المعموديَّة واعدين بأن يعيشوا بالطهارة وممارسة الفضائل والطاعة لوصايا الرب يسوع المسيح التي تتعلق على سبيل الاختصار في ثلاثة أمورٍ. أولاً تقوى الله. ثانياً العدل والمحبة للقريب. ثالثاً عفة النفس

          وكان الوعد من الرسل بأمرين أيضاً للذين يقبلون على أنفسهم الأمرين الأولين المشار إليهما آنفاً ويتممونهما. الأول ان كل خطاياهم السالفة التي ارتكبوها في زمن الجهل تُغفَر لهم. والثاني ان الله يدخلهم في عهدهِ ويمنحهم الخلاص والحيوة الأبدية وقد أثبتوا لهم هذين الأمرين بواسطة المعمودية

          وقد تهدَّدوا الذين أبَوا ان يصيروا مسيحيين والذين صاروا مسيحيين ولكن لم يعيشوا بمُقتضَى وصايا المسيح وتبشير الرسل بأنهم سيُحرَمون من الخلاص ويكونون تحت طائلة الدينونة والهلاك الأبديّ

          هذه هي خلاصة الديانة المسيحية كما بشر بها الرسل القديسون. فيجب علينا ان نتمسَّك بها ونحبها ونعمل كلَّ ما تأمرنا بهِ ونعيش بتقوى الله في هذا العالم وننتظر خلاص نفوسنا من رحمتهِ تعالى حتى متى جاءَ يسوع المسيح في اليوم الأخير ليجازي كلَّ واحدٍ حسب أعمالهِ ننجو من الانتقام الذي تتهدَّدُ بهِ هذه الديانة الأشرار ونشترك في ذلك المجد وتلك السعادة الأبدية التي تَعِد بهما كلَّ المؤمنين

 

الفصل الخامس عشر

في تقسيم الكتاب المقدَّس

          ان المزامير كانت من أولها تراكيب مفصَّلة. وأما بقية الأسفار فكان كل واحدٍ منها كفصلٍ واحد من الأول إلى الآخر. ولم يكن يوجد في الكتب المقدَّسة فسحةٌ في الخط ولا محطٌّ بين الجملتين بل كانت الكلمات كلها ملتصقة بعضها ببعض حتى كان كل سطرٍ منها ككلمةٍ واحدة. ولأجل ذلك مسَّت الحاجة إلى وضع

علاماتٍ للتقسيم بين الفصول والاعداد فشرعت اليهود من قديم الزمان بتقسيم أسفار العهد القديم إلى أجزاء صغيرة فانقسمت أسفار موسى مثلاً إلى 669 جزءاً. وزعم البعض من اليهود ان عزرا قسم هذا التقسيم وقال آخرون بل موسى

          وفي الجيل الثالث بعد المسيح قسم الأناجيل الأربعة عمونيوس الشماس الاسكندري إلى 1164 جزءاً. منها إنجيل متى 355 ومرقس 235 ولوقا 342 ويوحنا 233

          وتوجد الآن نسخة من الترجمة اللاتينية التي تُسمَّى العامة أو الدارجة نُسِخَت في أثناءِ سنة 800 بعد المسيح وهي أيضاً مقسَّمة تقسيماً آخر. فسفر التكوين مقسَّمٌ إلى 82 فصلاً. وسفر الخروج 139 وسفر العدد 74 وتثنية الاشتراع 45 وإنجيل متى 81 ومرقس 46 ولوقا 73 ويوحنا 35 والأعمال 74 والرؤْيا 22

          ولما الذي قسَّم الكتاب المقدس إلى ما هو عليهِ الآن من الاصحاحات فهو الكردينال هوجو الذي كان في أثناءِ سنة 1240 بعد المسيح. وأما تقسيم الاصحاحات إلى أعداد فأول من باشرهُ في العهد القديم الراهب بجنينوس الذي ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية وطبعهُ في فرانسا سنة 1527 بعد المسيح. وفي سنة 1545 قسم اصحاحات العهد الجديد إلى اعداد كما هي الآن روبرت استفانوس العالم الفرنساوي الذي كان طباع ملك فرنسا

          وهذه التقاسيم صُنِعت لسهولة الوقوف على الشواهد المطلوبة من الكتب المقدسة وهي مفيدة لنا كثيراً إلا أنها في بعض الأحيان تفصل من العبارات ما حقهُ ان يُوصَل. ولذلك ينبغي ان يلاحظ تمام قصد المصنف من القرائن

  • عدد الزيارات: 88