الفصل الخامس عشر: الفلك المدهش
عندما كنت فتى، سمعت قصة الطوفان من الكتاب المقدس. ومحاولتي تخيّل نوح وفلكه مع جميع تلك الحيوانات لم تخَْلُ من عنصر الإثارة. وفي الوقت عينه كان يروعني التفكير في الذين بقوا خارجاً عندما أغلق الله الباب وابتدأ الله الطوفان.
كنت كفتى أصدّق هذه القصة. لكن مع ارتقائي أدراج النضج، ودخولي المدرسة ومن ثم الجامعة والحقبة التالية، راح معظم التلاميذ والمعلمين يستهزئون بهذه القصة ويتهمونني بضرب العلم الحائط في تبنّي هذا الموضوع.
لقد أفضى بي هذا الأمر إلى الانطلاق في رحلة أبحاث طويلة. وإذا ابتغيتُ معرفة الحق، تقصيتُ رأي العلم الحقيقي في هذه القضية. فمن هو الذي غُسِلَ دماغه؟ وهل يُعقل أن طوفاناً كونياً قد حصل فعلاً؟ وهل الفلك حقيقة أم خرافة؟
فبعد السنوات الطويلة التي قضيتها في بحث هذا الموضوع وقعت على هذا الاستنتاج الواضح: الأدلة كلّها تؤيد رواية الطوفان كما وردت في سفر التكوين.
عندما كنت أدرس في الجامعة موضوعاً حول الهندسة المائية، طُلب إلينا، أنا وزملائي، القيام بالأبحاث الضرورية للتوصل إلى أفضل المقاييس التي يجب توافرها في جسم موضوع في الماء لتأهيله للصمود أمام أعنف حالات البحر وأقساها. أتينا بتصاميم متنوعة؛ ولكن ، ذُهلتُ حين خاطبنا الأستاذ غير المؤمن بالقول:
"كنت أودّ ألا أقول لكم باستطاعتكم العثور على أفضل المقاييس داخل الكتاب المقدس. إنها المقاييس التي وردت في فلك نوح، ذلك الفلك الذي ما كان ليغرق". أثار مشاعري هذا التعليق، ودفعني إلى طرح السؤال الذي لم يتجرأ أحد على الإجابة عنه: من لقّن نوحاً تصميمَ مركب غير قابل للغرق؟
دعا الله نوحاً إلى بناء فلك: "اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه: ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كواً للفلك وتكمّله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله" (تكوين 6: 14- 16).
قام أخصائيون في حقل الهندسة المائية بتحليل مقاييس هذا الفلك. وهكذا فإن الدكتور هنري موريس (D. r Henry Morris) الذي ترأس دوائر الهندسة المدنية في أعظم الجامعات الأمريكية، أقدم على تحليل هذه المقاييس بكل دقة، فكان استنتاجه كالتالي: كان من المستحيل قلب ذلك الفلك[1].
جرى تحليل ثبات الفلك بأخذ مقطع منه، ثم إخضاعه لقوى العواصف العنيفة العاملة على إحنائه. وهكذا تبين أن قوة الطفو العاملة على إبقاء الفلك في الوضع المستقيم الطبيعي، تعمل دائماً وأبداً خارج نطاق القوة الناتجة من الوزن والميالة إلى قلبه. والنتيجة هي أن الفلك يستعيد دائماً وضع الطفو الطبيعي.
إلى ذلك، فإن النسبة بين طول الفلك وعرضه (300 ذراع مقابل 50 ذراعاً أو 6 على 1) تميل إلى حفظه من التعرض على مدى طوله لأمواج من القوة نفسها، إذ أن الأمواج تميل على الظهور بأشكال متقطعة ومتفاوتة، عوضاً عن تكوين مجموعة تعلو وتنخفض بانتظام. كما أن هذه النسبة بين طول الفلك وعرضه تساعده على مقاومة وتهدئة أية دوامة قد يتعرض لها من حين إلى آخر.
إذا كانت النسب المختصة بالفلك كما أعطاها الله لنوح، هي أفضل النسب الضامنة لثبات هذه المركبة بشكل يؤهله للتمايل مع الأمواج واستمراره غائصاً في الماء. والفلك لم يصمم للسير بسرعة، لأن نوحاً لم يكن مستعجلاً لبلوغ هدف معين. لكنه كان، في الواقع، يرغب في المكوث قدر المستطاع على مقربة من الأرض التي عرفها.
والجدير ذكره أن برونل (Brunel)، المكتشف الإنكليزي العظيم، كان قد صمم مركبه الشهير عام 1844، أي بعد نوح بنحو 4000 سنة، وأسماه "بريطانيا العظمى" [4] مراعياً نسبة المقاييس عينها تقريباً المعمول بها في فلك نوح: (98 متراً × 5,15 متراً، 10 أمتار). كان باستطاعة برونل أن ينهل من خبرة أجيال عديدة من صانعي المراكب؛ أما الفلك فكان الأول في نوعه.
كان بإمكان الفلك استيعاب جميع "الركاب" التي كان عليها الله قد دعا نوحاً إلى إدخالها معه في الفلك، وبقي أيضاً متسع من المكان الفارغ. إن بعض الحسابات البسيطة جداً تثبت هذه الحقيقة: [4].
مقاييس الفلك: 300 ذراع ×50 ذراعاً ×30 ذراعاً. وعلى اعتبار أن الذراع يساوي 5,17 إنشاً أو 5,44 سنتيمتراً، ستصبح مقاييس الفلك على النحو التالي:
133 متراً × 22 متراً × 5,13 متراً.
حجمه= 500,39 متر مكعب أو 000,693,1 قدم مكعب.
هذا يوازي 522 عربة ماشية أمريكية من القياس المألوف، والتي تبلغ سعة كل واحد منها 2670 قدماً مكعباً. وهكذا يمكن احتواء 200 خروف على طبقتي المركب.
كان الفلك كافياً ليحمل على متنه أكثر من 000,125 حيوان من حجم الخروف.
هناك نحو000,18 نوع من الحيوانات الأرضية العائشة اليوم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار جميع الأنواع المنقرضة إلى جانب أية حيوانات أخرى فاتنا أن نحسبها مع المجموعة؛ وإذا تناولنا اثنين من كل منها وسبعة من بعضها كما أعطى الله تعليماته لنوح، نجد أن المجموع العام لهذه الحيوانات لن يتعدى 000,50. وهكذا يبقى هناك متسع من المكان الفارغ للطعام. وربما خصص الطابق الثالث بأكمله لنوح ولأفراد عائلته للعيش فيه مع متسع من المكان لمباريات كرة القدم أو لأية ألعاب مسلية أخرى تروقهم!
لا يذكر الكتاب المقدس كم استغرق بناء فلك نوح؛ ولكن ليس ثمة ما يمنع من اعتماد الرقم 100عام، والذي يشكل الفرق بين عمر نوح 500 سنة ، المدون في تكوين 5: 32 وعمره البالغ 600سنة في ابتداء الطوفان بحسب تكوين 7: 11. فهذه الفترة الزمنية معقولة لبناء مركب ضخم، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التقنية والتجهيزات المحدودة التي كانت متوافرة لديهم في ذلك الوقت ،وهذا يلاءم أيضاً، تفسير 1 بطرس 3: 20 حول أناة الله التي كانت تنتظر في أيام نوح، إبان بناء الفلك. وأما موت لامك، والد نوح، قبل الطوفان بخمس سنوات، فهذا لا يسمح بحصر عملية البناء ضمن خمس سنوا فهذه الفترة القصيرة مستحيلة حتى باعتماد تجهيزات حديثة في أيامنا الحاضرة .ويظهر من السرد تدخل الله في الطوفان من عدة أوجه .فهو تعالى الذي صمم الفلك لكنه أوكل على نوح وصحبه مسؤولية التنفيذ. والكتاب المقدس لا يدون كلما قاله الله لنوح ؛فربما يكون تعالى قد أخبر نوحاً أن أباه يموت قبل حصول الطوفان .
References in English
1. Morris, H. M. The Biblical Basis For Modern Science, Baker Book House, Michigan, 1993, p. 295.
2. ibid. pp. 293- 295.
3. whitcomb, J. C. The world that perished, Baker Book House,
Michigan 1993, p. 22.
4. Morris (Ref. 1) pp. 291- 292.
- عدد الزيارات: 3361