مريم تقف عند صليب يسوع
(يوحنا 19: 25 - 27)
عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع على ذراعيه قال لمريم "ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، (وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف) لتعلن أفكار في قلوب". وقد كتبنا الكلمات التي تشير بصفة خاصة إلى مريم في شكل مائل، وقد وجدت تتميمها في المشهد لذي يحويه هذا الكتاب. لم يقال أنها تبعت يسوع إلى الصليب أو إذا كانت شهدت التعبير والإهانات واللطم الذي لحقه قبل محاكماته. ولقد أسدل الستار على مشاعر مريم وقلقها وألمها الشديد طوال الليل المظلم الكئيب لتسليمه، وإن كان لا بد أن السيف كان قد أترق أعماق نفسها طوال الليل والنهار عقب الفصح. غير أن روح الله يهتم هنا بالسيف الذي تسلط على الرب وليس على مريم. وقد دعينا لكي نتأمل اتجاهه مسلكه ووداعته وصبره واتضاعه وكلماته، والآن إذا تقترب أحزانه وآلامه من النهاية فإن الستار يرتفع إلى لحظة قصيرة حتى يمكننا أن نرى مريم عند الصليب أو بالحري أن ننظر إلى كمال يسوع في اهتمامه بمريم – بعدما تمم إرادة الله بخدمته على الأرض. كان آخرون مع مريم، ومريم أختها زوجة كليوباس، ومريم المجدلية. ولكن لمريم وللتلميذ المحبوب الذي كان واقفاً كانت كلمات الرب. لا يمكننا أن نخمن حيث صمتت كلمة الله ولكننا لا نزال نكرر ونؤكد أن مريم لم تستطع أن تتفرس في صليب ابنها القدوس بدون ألم لا ينطق به وبدون أن يتمزق قلبها بهذا المشهد المروع. لقد شاهدته لأكثر من ثلاثين عاماً ولم تستطع إلا أن تكون حساسة لشذاه الأدبي الفائق وجمال حياته المكرسة، ولا بد أنها قد رأت على الأقل بعض اللمحات من مجد شخصه. والآن صار من نصيبها أن تنظره مرفوضاً ومهاناً ومنبوذاً ومصلوباً! لقد نالت بكل تأكيد مؤزارة إلهية وهي تعبر هذه التجربة النارية. ولم يطن قلبها أقل من كونه ينفطر حزناً وهي تراه معلقاً على الصليب وتجد ابتهاج أعدائه بحقدهم الشيطاني وقد بلغوا غايتهم الشريرة.
لا يمكننا مهما كان أن نتوانى في تأملات كهذه، ولا نتجاسر فنجعلها إلا لتزيد من تقديرنا لعطف وحنان يسوع لمريم في أحزانها. كانت كأسه على وشك أن تفرغ إذ نقرأ في الحال "رأي يسوع أن كل شيء قد كمل" وكان عالماً بما يدور في قلب مريم، وقد أنهى عمله، فتوجه إلى مريم بكلمات التعزية والمواساة. أكانت هي في ظلام رأسي في لحظات تجربتها المرة؟ كان النور يقترب ليبدد لظلمة ويؤكد لها أن الشخص الذي كانت تنظر إليه بأسى وحزن لا يوصف يفهم حزنها، فقد فتح شفتيه وقال عندما رأى أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً "يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته".
عندما التأمل في هذه الكلمات يلفت انتباهنا تلك الحقيقة بأن الإنجيلي بالوحي يكتب كلمة "أم"بينما خاطبها يسوع "امرأة"، كانت مريم هي أم يسوع – هذه النعمة من الله قادت جبرائيل أن يعطي التحية لها كالمباركة بين النساء. ولكن كما رأينا أن الروابط الطبيعية لا يمكن الاعتراف بها أنها تشكل أي مطلب من حياة نذير ومكرس كامل والآن بما أن موت الرب صار وشيكاً وهذه الرابطة الحميمة والعاطفية ستنتهي برحيله من هذا المشهد – وحتى تلك اللحظة فإن الروح القدس يذكرنا بأنها أم يسوع. وبلا جدال فإننا نتعلم أن الكرامة التي منحها الله لمريم في دائرتها الخاصة لن تنتزع منها. إن الخطأ، بل الخطأ القاتل، كان في نقل الكرامة من الأرض إلى السماء، ونتيجة ذلك أنها نالت مجداً أعلى مما لابنها الحبيب.
وفي كلمات ربنا هذه يمكننا أن نفهم بوضوح شيئين. ففي المكان الأول يعطي لمريم في حرمانها تعزية وغرضاً. إن التلميذ المحبوب الذي عرف فكر الرب أكثر مما عرفه أحد آخر (إذ كان يتكئ رأسها على صدر الرب) كان عليه أن يصبح ابناً لمريم، وكان على مريم أن تأخذه في عواطفها كابنها بطريقة جديدة كما أعطي لها من الرب نفسه. وفي الحقيقة لقد كان ميراثاً ثميناً لعواطف قلبه واستطاع أن يمنحها أعظم تعزية لها في تلك الظروف. وثانياً أنه نقل علاقته الأرضية إلى يوحنا عندما قال له "هوذا أمك". وهكذا خصص للتلميذ الذي كان يحبه تتميم كل المسؤوليات الحبية والمرتبطة بعلاقات القرابة. وبإيجاز فإن مريم سلمت من الرب لعناية يوحنا واهتمامه، الذي كان عليه أن يحنو عليها ويمنها عواطفه البنوية. لقد عرف الرب ما في قلب كل منهما التي كانت بحسب معرفته ومحبته لكل منهما حتى أنه استودعهما بعضهما لبعض وهكذا ربط قلبيهما معاً في الزمان الباقي لغربتهما على الأرض.
- عدد الزيارات: 3945