الفصل الخامس: مجد المسيح
جواباً على السؤال: "على أي أساس يقوم ارتفاع السيد المسيح؟" يقول كتاب أصول الإيمان: "إن مجد السيد المسيح يقوم على أساس قيامته من الأموات في اليوم الثالث وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الله الآب، وعودته لدينونة العالم في اليوم الأخير".
ارتفاع السيد المسيح لا يتعلّق بطبيعته الإلهية، التي هي الآن، والتي كانت دائماً مباركة وممجدة، بل إن التمجيد يتعلق بطبيعته البشرية لأن طبيعته الإلهية لا تتغير ولذلك فهي غير قابلة للزيادة أو النقصان. إن اتضاعه كان مؤقتاً وقد ابتدأ بولادته وتمّ بدفنه ولا يمكن تكرار هذا على الإطلاق. أما ارتفاع السيد المسيح فإنه مستمر وقد ابتدأ بقيامته وصعوده وما زال قائماً حتى الآن، وهو جالس عن يمين الله الآب ويدير أمور ملكوته بصورة مستمرة. إن هذا سيكشف عنه بصورة كاملة عند نهاية العالم حين يأتي بمجد أبيه ومع الملائكة القديسين ليدين الأمم ويعين لكل فرد مصيره الأبدي.
لم تكن قيامة السيد المسيح مجرد خطوة أولية لتمجيده بل إنها أيضاً واحدة من عظائم حقائق الإنجيل. بهذا العمل انتصر السيد المسيح على الموت وخرج حيّاً من القبر. هذا هو البرهان على أن عمله الفدائي كان ناجحاً تماماً وانتصاره انتصاراً تاماً على الموت. وقد أظهرت أيضاً بأن عمله هذا قد أنجز كامل مطاليب الشريعة الإلهية التي سنّها الله عند الخليقة الأصلية بأن النفس التي تخطئ يجب أن تموت. لذلك فإن الموت لم يعد له أي حكم عليه ولا على أي من الذين مات عنهم وافتداهم. لقد برهنت أيضاً على أنه كان كما قال تماماً، أي ابن الله، مساوٍ لله الآب، الذي ظهر في الجسد. وبما أنه تألم ومات ليس بسبب أي خطية له بل كالقائد الذي ينوب عن شعبه، فإن قيامته هي الضمان على أنه في الوقت المعين سيقيم أيضاً شعبه المنتسب إليه انتساباً حياً في قيامة مجيدة. ذلك يعني أن الإنجيل هو حق، وأنّ الشيطان قد دحر نهائياً. انتصرت الحياة على الموت والحق على الباطل والخير على الشر والسعادة على البؤس. كل تلك الانتصارات هي أبدية دائمة كما أبرز الرسول بولس أهميتها الحقيقية القصوى حينما قال: "وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم... وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم. إذاً الذين رقدوا في المسيح أيضاً هلكوا. إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس. ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين فإنه إذا الموت بإنسان فبإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع. ولكن كل واحد في رتبته. المسيح هو الباكورة ثم يتبعه الذين له والذين سيقيمهم عند مجيئه الثاني". (1كورنثوس 15: 14-23).
النتيجة الأولى والأكثر تأثيراً للقيامة ظهرت في التغيير التام الذي حدث في عقول وقلوب التلاميذ. فمع أنهم بعد الصلب كانوا مثبطي العزم تماماً ومع أنهم ظهروا على وشك فقدانهم الإيمان بالمسيح كالمسيّا الحقيقي المنتظر، فإنهم على ضوء القيامة أصبحوا مقتنعين اقتناعاً كاملاً بأن مسيحهم الذي قام من الأموات هو ابن الله، المسيّا الموعود به، مخلّص العالم. ومنذ ذلك الحين لم يزحزحهم شيء عن اعتقادهم هذا، فخرجوا وصاروا يبشرون في كل مكان وأظهروا بأنهم كانوا مستعدين لأن يتألموا وحتى أن يموتوا إذا دعت الضرورة لأجل الإنجيل. إننا نعلم بأن البعض منهم قد استشهدوا في معرض خدمتهم له، والتاريخ يخبرنا بأن أكثر تلاميذ السيد المسيح انتهت حياتهم الأرضية بالاستشهاد لأجل مسيحهم.
الخطوة الثانية في ارتفاع السيد المسيح كانت صعوده. يذكر البشير مرقس بشكل موجز أنه بعد أن تكلّم مع التلاميذ "ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله" (مرقس 16: 19)، ويمين الله هو بالطبع مركز الإكرام والتأثير والقوة والجلال. يقول البشير لوقا بأن المسيح "أخرجهم (أي التلاميذ) خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء" (24: 50و51). أما سرد حادثة الارتفاع سرداً وافياً فقد قام به لوقا في سفر الأعمال. فبعد تدوين كلمات يسوع الأخيرة للتلاميذ يصف الوحي الإلهي: "ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض وقالا أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء" (أعمال الرسل 1: 9-11).
بهذا الخصوص قال أحد مشاهير اللاهوتيين:
1- إن صعود المسيح كان بكل أقنومه، كالإله المتجسّد. ابن الله المتسربل بطبيعتنا ذات جسد حقيقي ونفس ناطقة، هو الذي صعد.
2- إن صعود المسيح كان منظوراً. فالتلاميذ شاهدوا كل هذه العملية. قد رأوا شخص المسيح يرتفع تدريجياً عن الأرض و"يصعد" حتى حجبته سحابة عن مرآهم.
3- لقد كان الصعود انتقالياً محلياً لشخصه من مكان إلى آخر، من الأرض إلى السماء، فالسماء هي إذاً "مكان". أما مكان وجود السماء بالنسبة للأرض فلم يكشف عنه الوحي الإلهي، ولكن حسب عقيدة الكتاب المقدس، السماء هي مكان محدد أو معين من الوجود حيث يظهر حضور الله بطريقة خاصة وهو محاط بملائكته الأبرار... وبأرواح قدّيسيه الأبرار الذين ماتوا على رجاء قيامته.
السماء هي موطن السيد المسيح وهي عرشه وهيكله. فالصعود أو الارتفاع شكّلا الوجه المقابل لنزوله إلى الأرض. في فصل سابق كنا قد بحثنا في موضوع وجوده السابق ورأينا بأنه قد "أتى" أو"أرسل" في مهمة خاصة للفداء. وإذ أتمّ ذلك العمل بنجاح تام فإنه عاد إلى موطنه السماوي لاسترداد مكانته الأصلية العليا. هذا وإن عالمنا الحاضر بما فيه من معالم الشر ليس بالمكان الملائم لوجود الفادي في حالة مجده الكامل ولا يمكن أن يصلح لإضافة دائمة للمسيح العلي إلاّ بعد أن يكون قد تعرّض هذا العالم لعملية تطهير وإعادة خلق تجعل من العالم الحاضر هذا سماء جديدة وأرضاً جديدة. ثم بما أن السيد المسيح قد جهّز كفّارة فعلية وأوفى كل المتطلبات القانونية المترتبة على شعبه فإنه قد كان من الضروري أن يضع موضع التنفيذ في حياة من خصّتهم تلك الكفّارة وذلك بواسطة عمل الروح القدس. فالروح القدس هو الذي يجدد نفوس البشر ويعدّهم إعداداً كاملاً للوطن السماوي. ولكي ينجز ذلك فإنه يقوم بإنارة ألبابهم الروحية وحثّهم وتوجيههم إلى الإيمان والتوبة ومن ثم يدفع بهم في مسيرة مطردة نحو التقديس. هذا وإنه بدون قوة الروح القدس المجددة والخلاّقة يبقى البشر جاثمين تحت عبء خطاياهم دونما الانتفاع فعلاً من عمل المسيح الخلاصي. ولكن مباشرة الروح القدس لعمله الجليل هذا تفترض أن تسبقها عودة المسيح المخلّص لمجده الأصلي مع الآب. لقد أفهم المسيح تلاميذه بالقول: "الحق... إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم" (يوحنا 16: 7). فالبركة العظيمة الخاصة التي تنبأ عنها الأنبياء وقالوا بأنها من ميزات عصر المسيّا، هي بركة الروح القدس. أما منح تلك البركة الخاصة بالكنيسة فكان مرتبطاً بصعود الفادي. لقد تمجّد لكي يمنح التوبة ومغفرة الخطايا ولكي يجمع شعبه من كل الأمم وفي كل العصور ليصبح عمله الخلاصي فخراً في حياة المؤمنين. وكان عرشه السماوي أنسب مكان للكشف عن كمال عمله الكفّاري. من المفيد بهذه المناسبة أن نشير أيضاً إلى أن معاملات الله مع البشر في هذا العالم تشتمل على ثلاثة أشكال متميزة، لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس صلة خاصة بأحدها. في تدبير الله الأبدي كان يوجد ما يمكننا أن ندعوه بتقسيم العمل بين أقانيم اللاهوت وترتيب معين للحوادث كان يجب أن يتبع. كان عمل الآب في الخلق والعناية الضابطة لكل شيء. وقد امتّد عبر حقبة العهد القديم وحتى ولادة يسوع المسيح في بيت لحم. أما عمل الابن فقد اختص بعملية الفداء وقد ابتدأ بولادته في بيت لحم واستمر حتى يوم الخمسين. ففي أثناء ذلك الوقت قام بتجهيز كفارة عملية وأنجز كل المطاليب الشرعية عن شعبه، بحيث يمكن أن يُنقلوا من حالتهم في الخطية والشقاء إلى حالة الخلاص. إن عمل الروح القدس يختص بتطبيق عملية الخلاص الكفارية التي حضّرها الابن، وترسيخها في حياة المؤمنين، وقد بدأ عمل الروح القدس هذا بشكله الكامل والواضح في يوم الخمسين عندما تأسست كنيسة العهد الجديد. ويمتد هذا العمل الخاص للروح القدس حتى النهاية وحتى اكتمال عملية الخلاص وتجميع الكنيسة.
الخطوة الثالثة في ارتفاع المسيح هي جلوسه عن يمين الله. من هناك يوجّه أمور ملكوته المتقدم ويحافظ على نظامه الكامل. ولكي يكون حكم وساطته ناجحاً بالكلية كان من الضروري أن يعطى حكماً مطلقاً حيث قال: "دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28: 18). هذا ما قاله عندما عهد إلى تلاميذه تبشير العالم أجمع، ولقد سجّل الوحي الإلهي على لسان بولس قوله: "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه". الذي أردف قائلاً أيضاً: "آخر عدو يبطل هو الموت" (كورنثوس الأولى 15: 25و26). وقد أمر المسيح تلاميذه بأن يذهبوا وأن "يتلمذوا جميع الأمم" (متى 28: 19). ويؤكد من انتماء تلك الشعوب للإله الحقيقي بواسطة المعمودية "عمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"، والرسالة التي يجب أن يتضمنها ذلك التبشير العام هي بالطبع اللب الحيوي للإنجيل "وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28: 20). هذا وسنبحث في الموضوع مليّاً عندما ندرس موضوع "المسيح كملك".
الخطوة الرابعة والأخيرة في ارتفاع المسيح ستكون مجيئه الثاني بقوة ومجد عظيم ليكون الديّان النهائي للعالم أجمع. فسيظهر حينئذٍ في جسد قيامته محاطاً بالملائكة وسيجلس على عرش مجده. (متى 25: 31). "وستراه كل عين" (سفر الرؤيا 1: 7).هذا هو يسوع ذاته الذي حينما كان على الأرض رُفض من شعبه وحوكم كمجرم أمام محكمة بيلاطس ودين بظلم وجلس مع الأثمة. وسينال الناس من شفتي السيد خبر ثوابهم أو عقابهم النهائي. وحينئذٍ إذ يكون عهد وساطته قد تمّ وتوّج بالنجاح الكامل فإنه يسلّم الملكوت للآب ويستعيد علاقته الأصلية بأقنومي الثالوث الآخرين. ويشترك تماماً بالمجد الذي كان له مع الآب قبل إنشاء العالم. وسيملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد على المفديين، "ومتى أخضع له الكل فحينئذٍ الابن نفسه سيخضع أيضاً للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل" (1كورنثوس 15: 28).
هذا إذاً ما نعنيه بارتفاع المسيح، ويجب أن نعيد إلى ذاكرتنا أنه لم تكن طبيعة يسوع الإلهية بل طبيعته البشرية التي ارتفعت، أي أن الإنسان يسوع المسيح هو الذي أخذ جسد القيامة وصعد إلى السماء والذي يشترك في حكم الوساطة، والذي ستراه كل الشعوب حينما يأتي ثانيةً إلى العالم في اليوم الأخير.
- عدد الزيارات: 3548