الفصل التاسع عشر: المبدأ التمثيلي
عندما نقوم بدراسة عميقة للوحي الإلهي نجد أن الله تعالى خلق الإنسان ووضع في حياته مبدأ التمثيل أو النيابة. فعندما نعود إلى بداية الجنس البشري نجد أن آدم (وهو الإنسان الأول) لم يُمِّل نفسه فقط, بل كان رأس وممثِّل الجنس البشري بأسره. هذا الذي يُفسّر لنا أن ما صار في حياة آدم إنما أثّر على حياة البشرية كلها وهذا الذي يُفسّر لنا أيضاً أن آدم الثاني (وهو السيد المسيح) كان أيضاً بمقدوره أن يُمثّل سائر الذين كانوا له (أي المؤمنين به وبعمله الفدائي).
ومن المهم جداً أن نرى أن الكتاب المقدس ينظر إلى الجنس البشري كوحدة واحدة وكعائلة كبيرة منحدرة من إنسان واحد ومرتبطة معاً برباط القرابة والدم. هناك تكاثف وترابط في جسم البشرية أكثر بكثير مما تُعلِّمُهُ فلسفات بني البشر والتي هي في كثير من الأحيان مدفوعة من قِبَل دوافع عنصرية ذات الآفاق الضيقة. ولكن ما نلاحظه مع الكتاب عن موضوع التكاتف والترابط ضمن البشرية لا ينطبق على الملائكة إذ أنهم خُلِقوا لا كجنس أو سلالة, بل مستقلّين الواحد عن الآخر وخُلقوا جميعاً في نفس الوقت. وعندما امتحِنَ الملائكة بخصوص طاعتهم وولائهم لله تعالى اسمه, فإن كل واحد منهم اُمتُحِنَ فردياً وشخصياً.
وهكذا إذ نأخذ وحدة الجنس البشري بعين الاعتبار نستطيع أن نفهم كيف أن الله تقدّم من أبينا آدم وقطع معه عهداً ندعوه باسم "عهد الأعمال". وكان آدم (وهو رأس البشرية وممثلها) يقوم بتمثيل جميع أفراد البشرية عندما دخل في ذلك العهد مع الله. فالامتحان الذي جرى لآدم إنما كان معه كممثل للبشرية وليس فقط معه كفرد. فلو نجح آدم في ذلك الامتحان أي لو أطاع الله طاعة تامة لكان نصيبه (ونصيب ذريته) الحياة الأبدية السعيدة. ونحن نعلم بكل أسف وحزن أن آدم لم يثبت في ولائه لله ولم يبقَ مطيعاً للكلمة الإلهية التي خرّمت الأكل من الشجرة المحرّمة, ولذلك سقط آدم وسقط معه الجنس البشري بأسره.
وعندما خلق الله الإنسان خلقه إنساناً كاملاً من نوعه وهو يتمتع بميل إيجابي نحو الخير والفضيلة – ولكنه (أي الإنسان) كان قابلاً لسقوط. كان آدم كاملاً كما أن البرعم هو كامل وقابل بأن يتطور إلى زهرة جميلة, أو نظير البلوطة في كمالها وهي أهل بأن تتطور وتصبح شجرة سنديان كبيرة. لم يخلق الله الإنسان مثل آلة صمّاء تدور من نفسها بدون تفكير أو وعي. لقد خلق الإنسان شخصاً حراً أخلاقياً قادراً أن يختار الشر ويغوص فيه ويتحمّل سائر النتائج الصادرة عن ذلك. وقد كتب عن هذا الموضوع أحد علماء الدين الأتقياء قائلاً: "يمكن التوصّل إلى الكمال الأخلاقي, ولكن لا يمكن لهذا الكمال بأن يُخلق. لقد خلق الله كائناً قادراً على القيام بأعمال أخلاقية لكنه تعالى لم يخلق كائناً فيه مخزونة جميع ثمار هذه الأفعال الأخلاقية .. .
لو اختار آدم الخير لكان في نفس الوقت قد أنتج صلاحاً أخلاقياً ولكان الله قد ثبّته في حالة الخير والصلاح كما أنه تعالى ثبّت الملائكة الأخيار في صلاحهم.
وعندما نأتي الآن إلى الكتاب المقدس نجد ي سفر التكوين (وهو سفر موسى الأول) والفصل أو الأصحاح الثالث سرداً لحادثة السقوط بلغة يفهمها الأولاد ولكنها في نفس الوقت ذات معنى عميق جداً. كان آدم يتمتع بفرصة حسنة جداً للنجاح وكان محيطه في جنّة عدن محيطاً ملائماً للاختيار الحسن. وبالرغم من التحذيرات الربّانية التي استلمها الإنسان الأول وبالرغم من وضوح الإنذار الإلهي من جهة عواقب العصيان المخيفة, نجد أن آدم اختار الشر عوضاً عن الخير. يُؤكد الكتاب المقدس بأن آدم هو سقط منذ تلك اللحظة ي فجر التاريخ, سقط آدم هو ونسله في حمأة الخطية وجلب على البشرية بأسرها الانحطاط الأخلاقي الناتج عن السقوط. واختيار البشرية عبر العصور يدعم هذا التفسير الكتابي لأن جميع الناس باختلاف مذاهبهم يُقرّون بوجود خلل في حياة الإنسان وأنه لابد من عمل شيء حاسم للتخلّص من هذا الخلل الروحي والأخلاقي.
لكن الكتاب لا يُعلِّم وحدة الجنس البشري فقط فيما يتعلق بالسقوط في الخطية وبتأثير آدم على حياة سائر أفراد نسله من بني البشر, بل يُعلّم الكتاب أيضاً هذه الوحدة الأساسية للجنس البشري لكي يُظهِر لنا أهمية مبدأ التمثيل في موضوع خلاص وفداء البشرية من الموت. فقد دخل السيد المسيح في عهد فداء مع الله الآب والذي يتعهد بواسطته بأن يفدي شعبه من الخطية ومن عواقبها الكثيرة. وقد تمكن السيد المسيح من القيام بذلك نظراً لكون مبدأ التمثيل أو النيابة ساري المفعول في البشرية ليس فقط فيما يتعلق بعلاقتها مع آدم الأول بل أيضاً فيما يتعلق بالذين يُمثّلهم المسيح من أفراد البشرية. ولذلك ينظر الكتاب إلى المسيح – كآدم الثاني الذي قام بعملية فداء وإنقاذ وتحرير المؤمنين به والذين هم خاصته.
فجميع ما قام به السيد المسيح من آلام وموت على الصليب ومن طاعته التامة والكاملة لجميع مطاليب الشريعة الإلهية, كل هذه الأمور بأجمعها وهي عظيمة وباهرة للغاية, صارت لحساب أولئك الذين هم في المسيح أو للمسيح – أي جميع الذين يتّحدون معه بالإيمان والذين ينظرون إليه كممثلهم ونائبهم. وهكذا نرى أن مبدأ التمثيل يساعدنا على فهم موضوعين حيويين لهما علاقة وثيقة بصميم حياتنا: أولاً موضوع وجودنا نحن البشر في حمأة الخطية والشر, فإن ذلك يعود إلى أن أبانا الأول آدم فشل في البدء في العيش حسب مطاليب العهد الذي قطعه الله معه, وثانياً موضوع خلاصنا من حمأة الخطية والشر وذلك يعود إلى المسيح يسوع رئيس البشرية الجديدة الذي يُنقذ ويُخلّص ويُحرر إلى التمام جميع الذين يؤمنون به إيماناً قلبياً وصادقاً, وذلك لأنه مثّلهم وناب عنهم في عمله الفدائي والكفّاري في ملء الزمن أي في بدء القرن الأول من الميلاد.
- عدد الزيارات: 3421