الفصل السادس عشر: الخلاص بالنعمة
يهبنا السيد المسيح جميع فوائد عمله الكفّاري على الصليب نظراً لنعمته ولا لأي سبب فينا. فنحن لم نستحق أن نكون موضوع عمل المسيح الخلاصي, ولكن الله هو الذي أحبّنا وأرسل لنا ابنه ليموت عنا على الصليب. كل شيء في الخلاص – من ألفه إلى يائه – هو من الله ولمجد اسمه القدوس.
كتب الرسول إلى أهل الإيمان في مدينة أفسس بآسيا الصغرى قائلاً عن هذا الموضوع: "فإننا نحن صنعه مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد أعدّها الله من قبل لكي نسلك فيها". (الرسالة إلى أفسس 2: 10). نلاحظ هنا أن الرسول بولس لا يقول أن هذا التغيير الجذري في حياتنا حدث لأننا قد عملنا أعمالاً صالحة, بل ينسب الرسول العمل لله ويقول أن المؤمنين هم مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد أعدّها الله من قبل لكي نسلك فيها. فهذه الأعمال لا تنبع منا بل من الله وعلينا أن نسلك فيها بنفس المعنى في حالة الشجرة الجيدة التي تعطي ثمراً صالحاً. فأعمال المؤمنين الصالحة هي ثمار الخلاص العظيم الذي أتمّه الله فيهم ولهم, ولا أساس هذا الخلاص.
أما في الرسالة إلى أهل الإيمان في غلاطية, فقد كتب الرسول بولس: "لأنه لو أُعطي ناموس قادر أن يحيي لكان الحقيقة البر بالناموس". (3: 21). "لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذن مات بلا سبب". (2: 21). يُعلّمنا الرسول في ما تقدّم أنه من المستحيل للإنسان تخليص نفسه بواسطة الأعمال حتى ولو كانت هذه الأعمال واردة في نص شريعة موسى التي يسمّيها الكتاب باسم ناموس. هذا لا يعني مطلقاً وجود خلل في شريعة الله ولكن الشريعة في ذاتها عاجزة عن إعطاء الإنسان القوة والمقدرة على التخلّص من الخطية الكامنة في حياته. لو كنا قادرين أن نُخلّص أنفسنا بأنفسنا لما كانت هناك حاجة لمجيء المسيح ولآلامه ولموته الكفّاري على الصليب.
وهكذا نَخلُص إلى القول بأن الفداء والخلاص المقدّمان في الكتاب المقدس هما من الله تماماً. فقبول الإنسان لدى الله غير مبني على أساسين بل على أساس واحد, وهذا الأساس هو عمل السيد المسيح الكفّاري على الصليب. وهذا ما دفع كتّاب أسفار العهد الجديد بان يقولوا: بالنعمة لا بالأعمال!... وحتى الإيمان الذي بواسطته ننال هذه العطية المجانية, هذا الإيمان هو عطية الله. وقد ورد في رسالة بولس الرسول إلى الإيمان في أفسس: "فإنكم بالنعمة مُخلَّصون, بواسطة الإيمان, وهذا ليس منكم, بل هو عطية الله. وليس هو من أعمال صالحة, كي لا يفتخر أحد". (2: 8 و9).
وورد في رسالة بولس إلى رومية: "مُتبررين مجاناً بنعمته". (3: 24) وكتب النبي العظيم أشعياء عن بر الإنسان الذاتي بأنه: "كثوبٍ نجسٍ (أو كخِرقٍ قدرةٍ)" في نظر الله. (64: 4). وكتب بولس إلى ابنه الروحي تيطس قائلاً: "لا بأعمال في بر عملنا نحن, بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس". (الرسالة إلى تيطس 3: 5)
وحسب تعاليم الرسول بولس, السيد المسيح هو الكل في الكل في جميع أمور الخلاص (الرسالة إلى أهل كولوسي 3: 11). أما الإنسان فهو لاشيء من جهة ذلك العمل الإلهي الجبار وليس عنده في ذاته ما يستحق الخلاص. لسنا نحن بني البشر إلا من آخذي الخلاص, نحن نتناول الخلاص بالنعمة, وحياتنا من أولها إلى آخرها هي بالنعمة وسنظل هكذا إلى أبد الآبدين. ليست الأعمال الصالحة أساس الخلاص بل إنما هي ثمرة وبرهان على أن الإيمان هو إيمان حي وليس بمجرد اعتقاد عقلي محض. فالأعمال الصالحة هي نتيجة ذلك العمل العظيم الذي يقوم به الروح القدس في قلوبنا (أي ما يُسميه الكتاب في كثير من الأحيان باسم الولادة الثانية أو التجديد). وما يُنتظر منا تجاه جميع هذه الأمور العظيمة والباهرة هو أن نشكر الله ونحمده في جميع أمور وأحوال حياتنا ونُسبّح اسمه العظيم ونُكيّف حياتنا بمقتضى مطاليب وصاياه وأحكامه. ولو لم يكن الخلاص بالنعمة المجانية لما كانت التوبة ممكنة على فراش الموت ولما أكد المسيح المصلوب خلاص المُجرم الذي كان قد صُلب بالقرب منه والذي استنجد به في الساعة الأخيرة من حياته.
وإذ كنا ذكرنا مراراً في هذه الدراسات الكتابية عن طاعة المسيح الإيجابية والسلبية فإنه لا يجوز لنا مطلقاً أن نفصلهما عن بعضهما البعض ضمن حياته له المجد. علينا أن نذكر أن المسيح كان مطيعاً أثناء حياته إطاعة تامة للشريعة الأدبية (الأخلاقية) في كل ما افتكر به أو قاله أو عمله. وكذلك وبدرجات متنوعة وفي كل لحظة من حياته على الأرض إتضعَ المسيح أو تألم. وقام بذلك بشكل يفوق طاقتنا إدراكه لأنه له المجد ملك العالمين وخالق الأكوان وقدوس ومُبارك وقدير وغني ومع ذلك وُلِدَ من العذراء مريم كطفل عاجز وأخضع ذاته كإنسان لحدود طبيعته البشرية لمدة 33 سنة. فاحتمل التجارب التي قام بها إبليس وكان يحيا – وهو ذو الطبيعة الطاهرة والحسّاسة – بالقرب من الخطاة واختبر تعبيرات الناس ولعناتهم وجحودهم ومقاومتهم وبغضهم. واختبر السيد المسيح الإعياء والجوع وكان يعلم كل العلم أثناء حياته الجهارية على الأرض أن موت الصليب اللعين كان بانتظاره.
وعلى الصليب قاوم المسيح كل تجربة تقوده للشك في الله أو لبغض أعدائه أو لارتكاب أقل إساءة ضد أولئك الذين عاملوه بكل احتقار. فمع أننا نُميّز وجهي طاعة المسيح, إلا أنهما متحدان معاً في شخصه العظيم وكلاهما أدّيا إلى الخلاص العظيم والعجيب الذي يمنحنا إياه الله بنعمته المجانية الجبّارة.
- عدد الزيارات: 3486