Skip to main content

الفصل العاشر: أولية القداسة في صفات الله (1)

عندما نأخذ بعين الاعتبار جميع تعاليم الكتاب بخصوص الله علينا أن نعترف بأن المحبة ليست أعظم صفة أساسية لطبيعة الله. القداسة هي الصفة الأساسية لله: هذا هو تعليم الكتاب. مثلاً عندما رأى النبي العظيم أشعياء الله في رؤياه الواردة في الفصل السادس من نبوته قال: "في سنة وفاة عزّيا الملك, رأيت السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع, وأذياله تملأ الهيكل. السرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة, باثنين يغطي وجهه وباثنين يغطي رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: "قدوس, قدوس, قدوس رب الجنود, مجده ملء كل الأرض". (نبوة أشعياء 6: 1 – 3).

وكتب يوحنا الرسول في سفر الرؤيا وهو آخر سفر من أسفار الكتاب عن عبادة الله في السماء من قبل الملائكة والخالصين من سائر الشعوب والأجيال وقال إنه هناك أربعة كائنات وهي تمثل الجنس البشري والتي تقول ليلاً ونهاراً:

"قدوس, قدوس, قدوس الرب القادر على كل شيء الذي كان والكائن والذي يأتي". (رؤيا يوحنا اللاهوتي 4: 8).

وعندما ظهر الله لموسى ي برّية سيناء قال له: "موسى, موسى! فقال هأنذا. فقال لا تقترب إلى هنا اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة". (سفر الخروج 3: 4 و5). ما الذي جعل الله يقول لموسى بأن تلك الأرض مقدسة؟ أليس لأنه تعالى إله قدوس؟

ويمكننا تعريف قداسة الله بأنه ذلك البر الذاتي الذي بموجبه يريد ويقيم أبدياً كمالياته الأخلاقية الخاصة به تعالى اسمه. وقد نظّم الله الكون والبشرية التي هي جزء منه (أي من الكون), بحيث يُعبّر كل شيء عن قداسته. فمن الناحية الإيجابية جعل السعادة متعلقة بالبر والقداسة, ومن الناحية السلبية نرى أن الخطية تجلب التعاسة والآلام. وإذا نظرنا إلى المحبة بصورة مجردة أي في ذاتها فلا بد لنا من القول بأنها غير عاقلة ومتقلبة إلا إذا تسلطت عليها القداسة. ومن الناحية المنطقية وبناءً على تعاليم الكتاب علينا بأن نسلّم أن القداسة هي سابقة للمحبة أي أن القداسة لها الأولية في صفات الله. فمن المستحيل إذن أن يُعفى عن الخطية إن لم يُكفّر عنها. بالطبع نعلم من دراساتنا للتاريخ القديم أن أهل الإغريق (اليونانيون) مثلاً كانوا يعتقدون بوجود آلهة متعددة وكانت (أي آلهة الإغريق) منحطّة الأخلاق لدرجة كبيرة كما ورد في أساطير اليونان. ولكن الله وهو الإله الواحد الحقيقي السرمدي فإنه إله قدوس, إله كامل في صفاته الأخلاقية فهو لا يتساهل مع الخطية.

ونحن لا نضع حدوداً لسلطان الله المطلق عندما نقول إنه لا يمكن للخطية بأن تُغفر بدون كفّارة. نعم إن الله قادر على كل شيء ولكن قدرة الله المطلقة والتي ليس لها حدوداً لا تُلغي قداسته ولا عدله, ولذلك فإنه تعالى يعاقب الخطية. وإذ شاء وقرر بأن يُنقذ الإنسان من وهدة الشر والهلاك فإنه تعالى لجأ إلى طريقة فعّالة للخلاص ألا وهي الكفّارة بواسطة دم يسوع المسيح المسفوك على الصليب.

ومن المهم جداً أن لا ننقاد في تيارات التعاليم المعاصرة التي تميل إلى التقليل من شأن قداسة الله تعالى وتعلّم بأن الله يغفر الخطية بدون كفّارة. هكذا تعاليم لا تعرف مضمون قداسة الله, طبعاً إننا لا نود مطلقاً التقليل من أهمية التعليم الكتابي بأن الله محبة. لولا محبة الله لكنا هالكين إلى الأبد. هذه هي ذروة الوحي الإلهي. لكن الوحي لا يعلمنا بأن المحبة هي كل شيء من جهة الله. الله محبة, نعم والله قدوس والله عادل أيضاً. وما ذكره كاتب الرسالة إلى العبرانيين بوحي إلهي يجب أن يكون نصب أعيننا دوماً, أي أن موقف الله من فعلة الإثم هو موقف "نار آكلة". (12: 29), لنحذر إذن من الآراء العديدة الشائعة في هذا العصر والتي لا تتفق مطلقاً مع تعاليم الوحي الإلهي والتي تطلي لنا صورة عن محبة الله غير المميزة وكأن الله لم يعد يحاسب الإنسان عن شره وإثمه. نحن لا نكون فاهمين لمعنى محبة الله إن لم نأخذ في نفس الوقت تعاليم الكتاب الأخرى عن الله تعالى والتي تُعلّمنا بأنه أيضاً إله قدوس وعادل وبار. وبينما يزعم البعض أن الله هو محبة ومن ثم لا حاجة إلى أي نوع من التكفير, فإننا نقول مع الكتاب المقدس المُوحى به من الله: إن الله محبة ولذلك فإنه أعدّ كفّارة عن خطايانا.

ما هي المحبة الحقيقية؟ نقول يحب الإنسان غيره بالحقيقة عندما يُفضّل بأن يتألم هو نفسه بدلاً عن قريبه الإنسان. هناك مبدآن أخلاقيان يتحكمان بتصرفات كل بشري:

1- المبدأ الأول هو دافع المصلحة الشخصية أو النفع الذاتي, أي عندما تدور الحياة على محور الذاتية.

2- والمبدأ الثاني والذي هو دافع مصلحة الآخر أو التضحية في سبيل الآخر. وهذا المبدأ هو مبدأ المحبة حسب تعريفها الكتابي الموحى به من الله. ولذلك فإن رسالة الكتاب المقدس العظمى كانت ولا تزال: "الله محبة" (رسالة يوحنا الأولى 4: 16). نرى محبة الله هذه بشكل سامي على أكمة الجلجثة (أي الجمجمة) حيث صُلب المسيح يسوع. "في هذا هي المحبة, ليس أننا نحن أحببنا الله, بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا". (رسالة يوحنا الأولى 4: 10) كانت هذه خلاصة تعاليم الرسول قرب نهاية القرن الأول من الميلاد. أما الرسول بولس فكان قد كتب قبل ذلك بسنين قائلاً بوحي روح الله: "ولكن الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا". (الرسالة إلى رومية 5: 8). ليست الكفّارة المحبة, بل هي نتيجة محبة الله لشعبه. وهكذا نقول بما أن الله أحبّ المفدِيين فإنه افتداهم من حياة الموت والخطية والشر.

  • عدد الزيارات: 5358