التبرير
النصوص الكتابية:
"بهذا "الإنسان" يتبرر كل من يؤمن من كل ما لم تقدروا أن تتبروا منه بناموس موسى" (أع13: 39).
وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهوداً له من (كتب) الناموس و(كتب) الأنبياء. بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون". (رو3: 21، 22).
معنى التبرير: هو التبرئة من كل تهمة يمكن أن تقوم ضد المبرر. وكلمات بولس تؤيد هذا المعنى في مجمع أنطاكية بيسيدية "بهذا ينادى لكم بغفران الخطايا وبهذا يتبرر كل من يؤمن من كل مالم تقدروا أن تتبروا منه بناموس موسى" (أع12: 39) (بهذا أي بهذا الشخص).
فناموس موسى أقام الاتهام ضدنا. اتهمنا بأننا خطاة وأعلن ضدنا دينونة عادلة. لكن بالمسيح فقط يمكن لكل من يؤمن به أن يُبّرأ بالعدل من كل اتهام ويمكن بناءً على ذلك سقوط حكم الدينونة ضده (حكم الإدانة). إذن الدينونة (الإدانة) هي حالة ومركز نخرج منهما عندما نتبرر. وواضح أن الإدانة هي عكس التبرير تماماً كما أن المذنوبية هي عكس الغفران.
على أن التبرير كما هو أمامنا في الكتاب يتضمن ما هو أكثر من مجرد البركة السلبية وهي إعفاؤنا بالتمام وبالعدل من الإدانة (الدينونة) التي كنا نرزح تحتها بل يَشمل أيضاً مركزنا أمام الله في المسيح في بر إيجابي وإلهي. لنرجع أيضاً إلى رسالة رومية. في ص3: 19 نجد أنه بسبب الخطية استد كل فم وصار "كل العالم تحت قصاص من الله" وفي العدد التالي نجد أن الناموس يتهم ويثبت الاتهام لأن "بالناموس معرفة الخطية". وليس لنا أي تبرير في الناموس. لكن في العدد 21 يبدأ الرسول في توضيح طريق الله لتبرير الفاجر. فإنه نظراً لأن "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" فليس نظراً بمستغرب إذا كان الله "يُظهر بره". إذا كان الإنسان أظهر كل شره ونقصه في كل سواده، تعيَّن أن يُظهر الله كل بره بكل لمعانه بإدانة الخاطئ وبعدم التغاضي عن أقل شبه شر فيه. لكن الغريب أن الله الآن يُظهر بره بطريقة تجعل هذا البر "مُقدماً إلي" ويستقر "على كل" من يؤمن بعمل المسيح.
إن "بر الله" يبدو كما لو كان يبسط يديه نحو كل الناس مرحباً بدلاً من أن يزمجر غاضباً ضدهم وكل من يؤمن منهم يستقر عليه هذا البر كثوب يكتس به ويظهر فيه في حضرة الله. وكل ذلك يتم دون أن يفقد هذا البر ذرة من خصائصه، ولأول وهلة عندما نسمع هذا الخبر نندهش قائلين "هذا غير ممكن"- بل "وغير المستحيل أن يحصل شيء من ذلك" ربما نقول أننا قد نفهم أن الرحمة تفعل هذا وتفعله على حساب العدل (أو البر) أما أن يفعل العدل الإلهي هذا فشيء غير ممكن على الإطلاق.
ومع هذا فإن البر يفعل هذا ما دام قد أُظهر الآن في المسيح الذي قدمه الله كفارة (أو غطاء) إنه عندما سُفِكَ دم المسيح على الصليب، تم المرموز إليه برش الدم قديماً على غطاء التابوت الذي كان في خيمة الاجتماع وتم صنع الفداء "في المسيح يسوع" كما استُعلن البر الإلهي الذي سوف يشهد له العالم كله، فإنه في زمان مستقبل سوف يظهر بر الله في سحق الخطاة والفجار وإدانتهم دينونة أبدية. في ذلك اليوم سوف يشهد العالم استعلاناً عظيماً لبر الله لكنه ليس أكثر عظمة وليس أكثر عجباً من ذلك اليوم الذي فيه أوقع الله الدينونة وسحق بالحزن ابنه الكامل الصفات لأجلنا. نعم فإن صليب المسيح سوف يظل أبداً الاستعلان الأعظم لبر الله. وبالطبع أعلن على نفس القياس محبة الله كما نقرأ في (رو5: 8) ولو لم يظهر صليب المسيح بر الله ما أظهر قط محبة الله.
لقد بيّن صليب المسيح بر الله بطريقة مزدوجة أولاً- بالنظر لمعاملات الله في خصوص خطايا المؤمنين في التدبير السالف (عدد25) (تدبير الناموس وما قبله). وثانياً- في خصوص خطايا المؤمنين في التدبير الحاضر (العدد26) فإنه قبل مجيء المسيح تغاضى الله عن خطايا شعبه مع أنه لم تكن قد قُدِمَت له بعد ترضية كاملة عنها. وفي هذا الزمان الحاضر هو يبرر الخاطئ الذي يؤمن بالمسيح. فهل كل معاملات الله هذه كانت تجري من جانب الله بمنتهى البر؟ نعم وموت المسيح يعلن ذلك مبيناً أنه لما صفح الله عن الخطايا السالفة في التدبير السابق كان باراً بالتمام في ذلك كما هو الآن بار عندما يُبَرر المؤمن في التدبير الحاضر.
كان موت المسيح أولاً هو تقديم نفسه لله ذبيحة ذات قيمة وذات رائحة طيبة غير محدودة بهذه الذبيحة صُنعت الكفارة وتمت الترضية حتى أن كل مطاليب البر (العدل) الإلهي قوبلت وعوَّضت من جهة قضية سقوط الإنسان بالخطية.
وثانياً كانت ذبيحة المسيح لأجلنا أي لأجل جميع المؤمنين. هؤلاء المؤمنون لهم كل الحق لأن يعتبروا المسيح المخلص بديلهم، ولكل منهم أن يقول ما جاء في (رو4: 25) لصيغة المفرد "الذي أسلم من أجل خطاياي وأقيم لأجل تبريري". إنه أُسلم للموت والدينونة بالنظر إلى خطايانا وأُقيم ثانية من الأموات بالنظر إلى تبريرنا.
وكثيرون عند هذه النقطة يبترون الإنجيل ويتجاهلون الشق الثاني من هذه البشارة لخسارة نفوسهم. لأنه لا يمكن التمتع باليقين الكامل من الخلاص إذا نسينا أو تجاهلنا معنى قيامة المسيح. صحيح وبكل تأكيد قد تم حمل خطايانا وتحمل عقوبتها في موت المسيح لكن الدليل على إعفائنا والصفح عنا والتصريح العلني عن ذلك كان في القيامة. وبدون هذا الشق الأخير لا يمكن التمتع بسلام ثابت وراسخ.
نُصور ذلك بمثال: لنفرض أن شخصاً حُكم عليه بالحبس ستة شهور لجريمة ما وسُمح لشخص آخر أن يكون بديله في قضاء العقوبة، فعندما تنفتح أبواب السجن ليدخل إليه ذلك البديل وليخرج منه ذلك المجرم، فإن هذا الأخير يمكنه أن يشير إلى بديله قائلاً "هذا أُسلم للسجن من أجل جريمتي" لكنه لا يستطيع أن يستمر في كلامه قائلاً "ولذلك لا يمكن أن أرى أبداً جدران السجن من الداخل كعقوبة على ما فعلته "كلا. لأن هناك احتمال عدم وفاء العقوبة وإلا فماذا يكون الحال إذا لفظ هذا البديل أنفاسه الأخيرة بعد قضاء شهرين فقط من مدة العقوبة؟ تاركاً أربعة أشهر لم تستوفها العدالة؟ إن من حق السلطة في هذه الحالة إعادة القبض على المجرم الأصيل ليستوفي بنفسه مدة العقوبة. لكن لنفترض أنه قبل انقضاء الستة شهور بأسبوعين أو ثلاثة وجد بديله يمشي في الشارع حراً وعلم أنه بسبب حسن سيره وسلوكه حصل على عفو وأُسقطت عنه المدة الباقية من العقوبة وخرج حراً. فحينئذ يكون من حقه أن يقول في الحال: إنك أُطلقت من السجن لأجل تبرئتي "نعم له أن يُحَدَّث نفسه قائلاً "إن كان بديلي قد سقطت عنه قوة الحكم وأخلي سبيله فيما يختص بجريمتي فأنا فعلاً قد بُرئت وأنا فعلاً حر وقد أُخليَّ سبيلي".
وعلى ضوء هذا المثل تعتبر قيامة المسيح بمثابة الإعلان الإلهي للعفو الشامل عن كل من يؤمن بموت المسيح.
ثم لنلاحظ أن الله نفسه هو الذي يبررنا وليس فقط هو مصدر تبريرنا. "الله هو الذي يبرر" (رو8: 33). هو الذي نطق بالحكم علينا كخطاة وبالمثل هو الذي ينطق بتبريرنا كمؤمنين بالمسيح. وإذن تبريرنا كامل وموثوق به. لا يستطيع أحد أن يلصق بنا إدانة بالمرة. (لا يستطيع أحد أن يديننا) لكن من جانبنا نحن يلزم أن نؤمن. لأن المؤمنين فقط هم الذين يتبرون. بهذا المعنى نحن نقول أننا "تبررنا بالإيمان" (رو5: 1). إننا فقط عندما نخضع "طاعة الإيمان" لربنا يسوع المسيح، ندخل دائرة الانتفاع بعمله. إنه سبب خلاص أبدي لجميع الذين يطيعونه (عب5: 9). والإيمان هو الحلقة التي تربطنا به وباستحقاقات دمه للتبرير.
بقيت كلمة أخيرة عن التبرير نجدها في (رو5: 18) "فإذا كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة" ففي كل المواضع التي يذكر فيها التبرير نجده يُذكر مقترناً بالخطايا (أي من جهة صلته بالخطايا) لكن في هذا العدد نجد الصلة تغيرت فليست هي صلة التبرير من الخطايا بل ذكرت "الخطية" التي هي "الأصل" وليست "الخطايا" التي هي الثمر. فالبر الواحد بالصليب (بموت المسيح) صار هبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة.
ولكي نفهم مضمون العبارة يجب أن نقرأ كل الجزء من العدد الثاني عشر إلى نهاية الإصحاح. فإن الناس- جميع الناس- ينتسبون بالطبيعة إلى آدم كرأس وأصل جنسهم، لكن بالنعمة وبواسطة موت وقيامة المسيح ينتسب جميع المؤمنين إلى المسيح كرأس وأصل جنسهم الروحي الجديد. وإن جاز التعبير نقول أنهم طُعموا في المسيح وتشاركوا في حياته وطبيعته وبما أنهم أخذوا حياة المسيح فقد عُفي عنهم أو تبرروا قضائياً من كل ما لصق بهم قبل الإيمان من حياة آدم. وهذا هو العجيب في الأمر وكثيراً ما يغفل عن إدراكه الكثيرون.
إذن التبرير كما توضحه رسالة رومية ليس هو فقط العفو الشامل والإبراء التام من كل الآثام وكل الدينونة التي لصقت بطبيعتنا الآدمية الساقطة بل الآن بعمل الله نحن نقف في المسيح المقام من الأموات. وتبارك اسم الله من أجل هذا التبرير.
ملاحظات:
س: هل بر المسيح يحسب لنا ولماذا لا يحسب؟
ج: لم يذكر الكتاب شيئاً من هذا. وحياة المسيح قطعاً حياة بارة وكاملة كمالاً مطلقاً ولأنه "بلا عيب" تعين بهذه الأهلية لأن يكون "الحمل" الذي يقدم ذبيحة لأجلنا لكننا نتبرر بالإيمان بدمه (بموته) وليس بحياته الكاملة، لقد مات لأجلنا، لكن لا نقرأ في أي موضع أنه حفظ الناموس لأجلنا ولو أنه فعل ذلك لكنا أمام الله في بر ناموسي ومعنى هذا أن برنا لا يتعدى إلى أكثر من حفظ ناموس موسى ويكون برنا قدام الله هو "البر الذي بالناموس" الذي يتكلم عنه موسى (رو10: 5) ولو أننا نحن لم نعمله وإنما عمله المسيح لحسابنا.
س: لكن الواقع أن البر "يحسب" لأننا نقرأ أن الله يحسب للإنسان البر بدون أعمال الناموس وحسب لإبراهيم الإيمان براً "فما معنى هذه العبارات في (رو4: 3، 5، 6، 8، 11)؟
ج: هذه العبارات الواردة في الإصحاح الرابع تعني أن الإيمان "يعتبر" براً أو أن المؤمن "يعتبر" باراً بسبب إيمانه. فسواء كان إبراهيم في العهد القديم أو المؤمنون بالمسيح في الزمان الحاضر لا توجد سوى طريقة واحدة بها "يعتبرون" قدام الله (أي) "يحسبون" أبراراً وهذه الطريقة هي الإيمان بدون أعمال ولاحظوا القول "بدون أعمال"- حتى أعمال المسيح التي عُملت في بر كامل لا علاقة لها بتبرير من يؤمن وهذا أيضاً دليل آخر إذا كانت هناك حاجة إلى دليل على أننا لا نصير أبراراً بمقدار معين من حفظ الناموس يُحسب لنا. لكن النقطة الجوهرية في هذا الإصحاح هي موت المسيح وقيامته- "الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" (العدد 25).
س: لكن هذه العبارة التي وردت في ختام الإصحاح الرابع من رومية كثيراً ما تُفسر هكذا: بما أن المسيح مات لأننا كنا خطاة هكذا هو أقيم لأننا "تبررنا بموته" فهل هذا صحيح؟
ج: لا. هذا غير صحيح. وما عليك إلا أن نتتابع قراءة الإصحاح الرابع حتى ختام العدد الأول من الإصحاح الخامس "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله". إن التفسير الذي يرد في نص السؤال يعني أن تبريرنا شيء تم وكمل لما مات المسيح ونتيجة للتبرير تكون قيامة المسيح لكنه تفسير يلغي مبدأ الإيمان بالكلية وطبعاً لا يمكن إلغاء الإيمان هكذا لأن العدد الأول من الإصحاح الخامس يثبت ويؤكد أن تبريرنا بالإيمان لكن التفسير الصحيح أن موت المسيح كان بسبب أو بالنظر إلى خطايانا وموته هو أساس تبريرنا. وهذا شيء آخر بالمرة.
لقد كانت قيامة المسيح في المقام الأول إعلاناً للحقيقة المباركة وهي أن ذاك الذي انحنى تحت ثقل دينونة الله ضد الخطية قد أنهاها تماماً وأطلق من حكمها. وفي المقام الثاني لأجل (أو بالنظر إلى) تبرير كل من يؤمن به.
ولقد شرحنا هذا الفكر فالمسيح مات لأجل النظر إلى خطايانا وأُقيم ثانية لأجل النظر إلى تبريرنا. لكن تبرير أي إنسان إنما يصبح واقعاً فعلاً عندما يؤمن.
- عدد الزيارات: 12689